تدخل الشقيق قائلا: سأوصله أنا.
نهضت واقفا فوقف الجميع. واقتربت زوجة صفوان من شقيقه وألقت بيدها على كتفه قائلة: بكير، نم عندنا.
قلت: بوسعي أن آخذ سيارة أجرة.
قال الشقيق: في هذا الوقت؟ أنا مضطر للانصراف الآن لأني سأسافر في الصباح الباكر إلى دمشق، شرف يا أستاذ.
تقدمته إلى باب المسكن. وتبعنا صفوان وزوجته في صمت.
7
لزمت البيت في اليومين التاليين، انقطعت خلالهما للكتب والوثائق التي زودتني بها أنطوانيت. ولأول وهلة وجدت أني ضائع بين مغزى الأحداث، ومدلولات الأسماء والأماكن. وضاعف من حيرتي تعدد وجهات النظر، وتعارضها، فيما قرأته. كما أن كلا منها كان مسلحا بترسانة من الحجج والبراهين القاطعة. لكني لم ألبث أن تبينت فائدة ذلك؛ إذ أتاح لي أن اتخذ منهج المقارنة بين الآراء المختلفة. وساعدني وديع بذاكرته ومشاهداته. وسرعان ما كنت أشق طريقي في شيء غير يسير من الجهد.
كان لدي تصور ضبابي في السابق عن الحرب الأهلية اللبنانية، مؤداه أنها حرب بين التقدميين والرجعيين يحركها الاستعمار، وأن غالبية التقدميين من المسلمين، كما أن غالبية الرجعيين من المسيحيين. لكني أدركت الآن أن الأمر أعمق من ذلك بكثير. وبدت المشكلة اللبنانية مثل لفافة ضخمة من شرائط متعددة الألوان، اشتبك بعضها ببعض حتى صار فصل إحداها عن الأخرى ضربا من المستحيل.
على أني كلما تتبعت أحد الخيوط، انتهى بي إلى الانقسام الطائفي الشامل، الذي ينفرد به لبنان بين البلاد العربية؛ فاللبنانيون، الذين لم يزد عددهم في يوم من الأيام عن ثلاثة ملايين نسمة، تتوزعهم قرابة العشرين طائفة، على رأسها الشيعة والسنة والدروز، ثم الموارنة والكاثوليك والروم الأرثوذوكس، والأرمن والسريان (كاثوليك وأرثوذوكس)، ثم البروتستانت والأشوريون واليهود. وتسيطر على هذه الطوائف مجموعة محدودة من العشائر والعائلات، تتوارث نفوذها جيلا بعد جيل. وكأنما لبنان بلد «تجمد» عند لحظة من لحظات العصور الوسطى.
وفي ضوء التاريخ، بدت الحرب الأهلية التي اشتعلت في أبريل (نيسان) 1975، وسقط فيها 75 ألف قتيل و140 ألف جريح (ليس بينهم واحد يحمل اسم إحدى العائلات التي تؤجج القتال وتجني ثمن الضحايا)، حلقة في سلسلة طويلة من الفتن والحروب. أما البداية فهي موزعة بين اللحظة التي اكتشفت فيها العشائر المتنازعة بالمنطقة مأوى مثاليا في جبل لبنان يحميها من أعدائها، وتلك التي رست فيها سفن الغزاة الصليبيين تحت أقدام الجبل العتيد.
अज्ञात पृष्ठ