وأدركت المرأة أنها لم تدع لتقديم خدمة عابرة، وإلا ما كان هذا الاهتمام وهذه الخلوة، فانتقل الاهتمام بسرعة إلى نفسها المطواعة للإيحاء، وقالت تجيبه: ذهبت خديجة وعائشة إلى حجرتهما في ميعاد كل ليلة، أما كمال فقد تركته الآن في فراشه.
كان فهمي يترقب هذه اللحظة منذ آوى إلى حجرة المذاكرة عند أول المساء، فلم يستطع كعادته تركيز انتباهه في الكتاب الذي بين يديه، وجعل يتابع بين آونة وأخرى، أحاديث أمه وشقيقتيه في جزع لا يدري متى ينتهين، ثم إلى أمه وكمال وهما يحفظان معا جملة من سورة عم. حتى ساد الصمت ثم جاءت أمه لتحييه تحية المساء، فدعاها إليه وقد تناهى به توتر الانتظار. ومع أن أمه بدت كالحمامة الوديعة، ومع أنه لم يشعر حيالها قط بتحفظ أو خوف، إلا أنه وجد عسرا في التعبير عما يريد الإفصاح عنه، فعلاه ارتباك الحياء، ومضت فترة صمت ليست بالقصيرة قبل أن يقول مختلج الجفنين: دعوتك يا نينة لأشاورك في أمر يهمني جدا.
واشتد الاهتمام بالمرأة حتى تمثله قلبها الرقيق خوفا أو شبيها بالخوف وقالت: إني مصغية إليك يا بني.
فتنفس تنفسا عميقا ليخفف عن أعصابه وقال: ما رأيك فيما لو ... أعني أليس من الممكن أن ...
وتوقف مترددا، ثم غير لهجته قائلا برقة وتردد وارتباك: ليس لي من أفضي إليه بدخيلة نفسي إلا أنت. - طبعا طبعا يا بني.
فقال متشجعا عما قبل: ما رأيك إذا اقترحت عليك أن تخطبي لي مريم بنت جارنا السيد محمد رضوان؟
وتلقت أمينة كلماته بدهشة أولا، فأجابته أول ما أجابت بابتسامة تدل على الحيرة أكثر من الفرح، ثم انقشع الخوف الذي قبص صدرها حينا وهي تترقب إفصاحه عما يريد، ثم اتسعت ابتسامتها وأشرقت معلنة عن سرور صاف، وترددت لحظات لا تدري ماذا تقول، ثم اندفعت قائلة: أهذه رغبتك حقا؟ ... سأقول لك رأيي صراحة ... إن يوما أمضي فيه لأخطب لك بنت الحلال لهو أسعد أيام حياتي.
فتورد وجه الشاب وقال بامتنان: شكرا لك يا أماه.
ورنت الأم إليه ببسمة لطيفة، وقالت برجاء: يا له من يوم سعيد! لقد تعبت كثيرا وصبرت كثيرا، وليس بالكثير على الله أن يجزيني على تعبي وصبري بمثل هذا اليوم المرجى، بل بأيام مثله كثيرة ليقر عيني بك وبأختيك خديجة وعائشة ...
وغابت عيناها في رؤى الأحلام السعيدة، حتى بدا لها ما أيقظها فجأة فتراجع رأسها في قلق كقطة أقبل نحوها كلب، وتمتمت في إشفاق: ولكن ... أبوك؟!
अज्ञात पृष्ठ