وخلي في الهوى رماني
ووجد السيد نفسه في موقف عجيب، تهفو إليه أنفاس السلطانة بين اللفتة واللفتة فتلتقي بإشعاعات الخمر المتطايرة من يافوخه بين الحسوة والحسوة، فما أسرع أن غابت عن وعيه أصداء الحامولي وعثمان والمنيلاوي، وعاش في لحظته الراهنة قانعا سعيدا، ثم سرى إليه من نبرات صوتها ما حرك أوتار قلبه، فاستعر نشاطه ولعب بالدف لعبا لا يدانيه المحترفون، وما بلغت المرأة في الغناء قولها: «أمانة يا رايح يمه تبوس لي الحلو من فمه.» حتى كان من النشوة في سكرة عاتية ملهمة مدغدغة محرقة، ولحق به الرفاق أو سبقوه إذ بلغت الخمر بالضرب نهايته ونثرت الشهوات نثرا، فتركتهم كأدواح راقصة في حومة عاصفة هوجاء.
ورويدا رويدا شارف الدور الختام، وراحت زبيدة تختمه مرددة نفس المطلع الذي افتتحت به وهو: «على روحي أنا الجاني.» ولكن بروح يوحي بالدعة والتذكير والوداع ثم النهاية، وغابت الأنغام كما تغيب طيارة بحبيب وراء الأفق. ومع أن الختام قوبل بعاصفة من التهليل والتصفيق إلا أنه سرعان ما ساد القاعة صمت دل على همود أنفس أعياها الجهد والانفعال، ومضت فترة لم يسمع فيها إلا سعلة أو نحنحة أو حكة عود ثقاب أو كلمة لا تستحق المراجعة، وقال لسان الحال للمدعوين: «تفضلوا بسلام.» فلاحت من بعضهم نظرات إلى قطع الثياب التي تخففوا منها في فورة الطرب فوضعوها وراءهم على مساند، ولكن البعض الآخر ممن تعلقت نفوسهم بحلاوة السهرة أبوا أن يغادروها حتى يرشفوا آخر قطرة متاحة من الرحيق، فصاح أحدهم: لا نبرح حتى نزف السلطانة إلى السيد أحمد.
وقوبل الاقتراح بترحاب وتأييد، على حين أغرق السيد والعالمة في الضحك غير مصدقين، وما يدريان إلا ونفر من الصحاب يحيطون بهما وينهضونهما ثم يشيرون إلى الجوقة لتشرع في النشيد السعيد.
وقفا جنبا لجنب، هي كالمحمل وهو كالجمل، عملاقين ملطفين بالحسن، ثم تأبطت في دلال ذراعه وأشارت إلى المحدقين بهما ليفسحوا الطريق. ونقرت الدفافة على الدف فانطلقت الجوقة وكثرة من المدعوين يرددون نشيد الزفة «انظر بعينك يا جميل.» ومضى العروسان في خطو وئيد يتبختران طربا وسكرا، فلم تتمالك زنوبة مع هذا المنظر إلا أن تمسك عن اللعب بأوتار العود ريثما تطلق زغرودة مجلجلة طويلة النفس لو تجسمت لبدت لسانا متعرجا من لهب يشق الفضاء كالشهاب. وتسابق الأصدقاء يزجون التهاني تباعا: بالرفاء والبنين. - ذرية صالحة من الراقصات والمغنيات.
وصاح به أحدهم محذرا: لا تؤجل عمل اليوم إلى غد.
ولم تزل الجوقة تواصل الإنشاد، والأصدقاء يلوحون بأيديهم مودعين، حتى توارى السيد والمرأة وراء الباب المفضي إلى داخل الدار.
17
كان السيد أحمد جالسا إلى مكتبه بالدكان، حين دخل ياسين على غير انتظار، ولم تكن زيارة غير منتظرة فحسب، ولكنها كانت قبل كل شيء غير مألوفة؛ إذ لم يكن من الطبيعي أن يزور الفتى أباه في دكانه على حين يتحاشاه على قدر استطاعته في بيته، وإلى هذا بدا شارد اللب ساهم النظرة ... وأقبل على أبيه مكتفيا برفع يده إلى رأسه بطريقة آلية دون أن يلتزم ما يلتزم عادة بمحضره من أدب بالغ وخضوع كأنما نسي نفسه، ثم قال بلهجة نمت عن شديد تأثره: السلام عليكم يا أبي، جئت لأحدثك في أمر هام.
ورفع السيد إليه عينيه متسائلا وقد ساوره قلق استعان على إخفائه بقوة إرادته، ثم قال بهدوء: خير إن شاء الله!
अज्ञात पृष्ठ