جلس السيد أحمد عبد الجواد وراء مكتبه بالدكان تعبث أنامل يسراه بشاربه الأنيق كشأنه كلما جرفه تيار خواطره، ويرنو إلى لا شيء بوجه تنم معالمه عن ارتياح ورضا. إنه يرضيه بلا ريب أن يشعر بما يكنه له الناس من حب ومودة، ولو عرض له من حبهم دليل كل يوم لأوجد له كل يوم سرورا مشرقا لا يبليه التكرار، وقد أتاه اليوم دليل جديد بسبب اضطراره إلى التخلف ليلة الأمس عن شهود حفلة أنس دعاه إليها أحد الأصدقاء، فما استقر به مجلسه بالدكان هذا الصباح، حتى وافاه الداعي وبعض الإخوان من المدعوين، وأوسعوه عتابا لتخلفه وحملوه تبعة ما ضاع عليهم من بهجة وطرب، ثم قالوا - فيما قالوا - إنهم لم يضحكوا من قلوبهم كما تعودوا أن يضحكوا معه، ولم يجدوا للشراب لذته التي يجدون في منادمته، وأن مجلسهم خلا - على حد تعبيرهم - من روحه. وها هو يستعيد أقوالهم في سرور وزهو لطفا كثيرا مما لاقى من حدة الملام من ناحيتهم وحرارة الاعتذار من ناحيته، بيد أنه لم يخل من تأنيب ضمير حريص بطبعه على إرضاء الخلان، بدار إلى النهل من موارد الصداقة والمودة في إخلاص وإيثار، فكاد يكدر صفوه لولا ما أشاعت ثورة الأحباب الناطقة بحبهم في نفسه من أريحية الرضا والعجب، أجل طالما كان الحب الذي يجذبه إلى الناس ويجذبهم إليه معينا لقلبه يغدق عليه ما يشاء من فرح بهيج وزهو بريء وكأنه خلق للصداقة قبل كل شيء. وثمة آية أخرى على هذا الحب - والأصدق أن يقال إنه حب من نوع آخر - تجلت له ضحى اليوم حين ألمت به أم علي الخاطبة، وقالت له بعد حديث دارت فيه حول غرضها ما شاء لها الدوران: «ألا تعلم أن ست نفوسة أرملة الحاج علي الدسوقي تملك سبعة دكاكين في المغربلين؟» وابتسم السيد، وفطن بالغريزة إلى ما تومئ إليه المرأة، وحدثه قلبه بأنها ليست خاطبة فحسب هذه المرة، ولكنها رسول موصى بالكتمان، ألم يخيل إليه في أكثر من مناسبة أن الست نفوسة تكاد تعلن عن ودها أثناء ترددها على دكانه لابتياع حوائجها؟ ... بيد أنه أراد استدراج المرأة ولو على سبيل التفكه فقال باهتمام ظاهري: «عليك باختيار زوج صالح لها، فما أعز المطلوب!» وظنت أم علي أنها بلغت الغاية فقالت: «قد اخترتك من دون الرجال. فما قولك؟» وضحك السيد ضحكة مجلجلة وشت بسروره وثقته بنفسه، ولكنه قال بلهجة قاطعة: «لقد تزوجت مرتين، أخفقت في الأولى ووفقني الله في الأخرى ، ولن أبطر بنعمة الله.» والحق أنه طالما تغلب على مغريات الزواج على كثرة ما تهيأ له من فرص مواتية، بقوة إرادة لا تنثني، وكأنه لم ينس مثل أبيه الذي انزلق إلى زيجات متلاحقة بلا وعي، بددت ثروته وجرت عليه المتاعب، ولم تبق له هو - عقبه الوحيد - إلا على شيء من المال لا يغني، ثم إنه من ربحه ودخله في بسطة من العيش هيأت لأسرته هناء ورغدا، وأتاحت له ما يشاء للإنفاق في مسراته وملاهيه فكيف يقدم على ما يخل بهذا الوضع البديع المتناسق الذي يكفل له الكرامة والحرية؟! أجل لم يجمع السيد ثروة، لا لقصور في وسائلها عن تجميعها ولكن لما طبع عليه من جود جعل إنفاقها والاستمتاع بآثارها المعنى الوحيد لها الذي يؤمن به، إلى إيمان عميق بالله، وفضائله ملأ نفسه طمأنينة وثقة، وآمنه من الخوف الذي يساور كثيرين عن أرزاقهم ومستقبلهم. على أن صده عن مغريات الزواج لم يمنعه من السرور والزهو كلما رامته فرصة طيبة، وبالتالي لم يستطع أن يتناسى أن سيدة جميلة كالست نفوسة توده بعلا لها. وغلبت هذه الذكرى على خواطره فراح يراقب وكيله والزبائن بعينين غائبتين وأسارير حالمة باسمة، وذكر - باسما أيضا - ما قال له صاحب من صحبه صباح اليوم وهو يعابثه معرضا بأناقته وتعطره: «حسبك. حسبك يا عجوز! ...» عجوز؟! ... إنه في الخامسة والأربعين حقا، ولكن ما قول العاذل في هذه القوة العارمة والصحة الدافقة والشعر السبط اللامع السواد! لم يهن إحساسه بالشباب ولا تراخى، وكأن فتوته ما تزداد مع الأيام إلا قوة، إلى أن مزاياه لم تكن لتغيب عنه، بل كان على تواضعه وسماحة نفسه شديد الشعور بها، منطويا في أعماقه على زهو وعجب، يحب الثناء حبا جما، وكأنه بتواضعه ولطفه يستزيد منه ويحث الرفاق بمكر حسن عليه، ولكن مع أن ثقته بنفسه بلغت حد الاعتقاد بأنه خير الرجال قوة وبهاء وظرفا وكياسة، إلا أنه لم يثقل أبدا على أحد من الناس؛ لأن تواضعه كان طبعا وسجية كذلك، ولأنه نبع من فطرة تسيل بشاشة وإخلاصا وحبا. والحق أنه كان ينزع بفطرته إلى أن يحب كما يحب، ولا يمسك عن نشدان المزيد من الحب، فاتجهت طبيعته بوحي من غريزته الظامئة للحب إلى الإخلاص والوفاء والصفاء والتواضع، تلك السجايا التي تجذب الحب والرضا كما تجذب الزهور الفراش، ومن هنا استوى أن يقال إن تواضعه كياسة أو طبيعة، والأصح أن يقال إنه طبيعة تستمد كياستها من وحي الغريزة، لا تدبير الإرادة فتجلت طبعا بسيطا لا تكلف فيه ولا تعمل؛ ولذلك كان السكوت عن فضائله ومواراة مزاياه بل والتندر بعيوبه وهناته التماسا للعطف والحب أحب إليه من نشرها والمباهاة بها اللذين يجران عادة إلى الاستفزاز والحسد، وهي كياسة سديدة دفعت المحبين إلى التنويه بما يغضي عنه حكمة وحياء، وأذاعت سجاياه على نحو لم يكن ليقدر عليه بنفسه دون التضحية بأجمل جوانب شخصيته، وبما يحظى من جاذبية وحب لا تشوبهما شائبة. وبهذا الوحي الغريزي نفسه استهدى حتى في جانب حياته الماجن، في مجالس أنسه وطربه، فلم يتخل فيها - مهما لعب الشراب برأسه - عن لباقته وكياسته، ولو شاء بما أوتي من خفة الروح وحضور البديهة، وحلاوة الفكاهة وحدة السخرية، لاكتسح السمار بلا عناء، ولكنه كان يدير مجلس الأنس بمهارة وأريحية تفسح المجال لكل سامر، ويشجع أهل الدعابة وإن خالفهم التوفيق بضحكاته المجلجلة، إلى حرصه الشديد على ألا يخلف مزاحه في نفس جرحا، فإن اضطره الموقف إلى الحملة على قرين داوى عواقب حملته بتشجيعه والتودد إليه، ولو بالسخرية من نفسه. فلا ينفض المجلس إلا وقد حظي كل سامر من أطايب ذكرياته بما يشرح الصدر ويستأثر الفؤاد. على أن كياسته الفطرية أو فطرته الكيسة لم تقتصر آثارها الطيبة على حياته الضاحكة فحسب، ولكنها امتدت إلى جوانب هامة من حياته الاجتماعية، فأعلنت عن نفسها أروع إعلان في كرمه المأثور - سواء ما يتجلى منه في الولائم التي يدعو إليها من حين لآخر في البيت الكبير، أو في الهبات التي ينفح بها المحتاجين ممن يتصلون بعمله أو بشخصه - وفي شهامته ومروءته ونجدته التي فرضت له على أصدقائه ومعارفه نوعا من الوصاية المشربة بالحب والوفاء يفيئون إليها إذا دعت الضرورة إلى المشورة أو الشفاعة أو الخدمة فيما يعرض لهم من هموم العمل والمال، أو شئون المسائل الشخصية والعائلية كالخطبة والزواج والطلاق، أجل ارتضى لنفسه وظائف يؤديها بلا أجر - غير الحب - فكان سمسارا ومأذونا ومحكما، ثم وجد دائما في أدائها - على مشقته - حياة مليئة بالبهجة والغبطة. مثل هذا الرجل الذي تجود نفسه بفضائل اجتماعية كثيرة، ثم يطويها كأن في نشرها أذى وأي أذى، مثل هذا الرجل يكون خليقا - إذا خلا إلى خواطره وانقشع عنه الحياء الذي يتولاه حيال الناس - بأن يتملى مزاياه طويلا ويستسلم لزهوه وعجبه. لذلك راح يستعيد عتاب أصدقائه المحبين ودعوة أم علي الخاطبة بلذة وسرور وانشراح تعانقت في قلبه عن نشوة خالصة، حتى تطفلت على خلوته لذعة أسف فمضى يحدث نفسه ... «نفوسة هانم سيدة ذات مزايا لا يستهان بها ... يتمناها كثيرون ولكنها رغبت في أنا ... بيد أنني لن أتزوج، هذا أمر مفروغ منه، وليست هي بالمرأة التي تقبل أن تعاشر رجلا بغير زواج ... هذا أنا وهذه هي فكيف يمكن أن نلتقي! ... ولو صادفتني في غير هذه الأيام التي سد فيها الأستراليون علينا المنافذ لهان الأمر، ولكنها تصدت لنا ونحن في حاجة إليها فوا أسفاه.»
وقطع عليه أفكاره وقوف حنطور أمام مدخل الدكان فمد بصره مستطلعا، فرأى العربة وهي تميل ناحية الدكان تحت ضغط امرأة هائلة مضت تغادرها في بطء شديد على قدر ما تسمح طيات لحمها وشحمها، وقد سبقتها إلى الأرض جارية سوداء فمدت لها يدها لتعتمد عليها في أثناء نزولها. وكالمحمل وقفت مليا وهي تتنهد كأنها تستجم من عناء النزول، وكالمحمل راحت تتمايل وتخطر إلى ناحية الدكان، بينما علا صوت الجارية في لهجة شبه خطابية لتعلن عن مولاتها: وسع يا جدع أنت وهو للست زبيدة ملكة العوالم.
وندت عن الست زبيدة ضحكة مسجوعة وقالت تخاطب الجارية بلهجة تنم عن زجر كاذب: الله يسامحك يا جلجل ... ملكة العوالم مرة واحدة! ... هلا عرفت فضيلة التواضع!
وهرع إليها جميل الحمزاوي مفتر الثغر عن ابتسامة عريضة وهو يقول: أهلا وسهلا، كان حقا علينا أن نفرش الأرض بالرمل.
ونهض السيد وهو يتفحصها بنظرة تنم عن دهشة وتفكير، ثم قال متمما تحية وكيله: بل بالحناء والورد، ولكن ما حيلتنا والحظ يقبل إذا أقبل غير مسبوق ببشير؟
ورأى السيد وكيله وهو يتجه إلى كرسي ليأتي به، فسبقه إليه بخطوة واسعة بدت كالوثبة، فتنحى الرجل جانبا وهو يداري ابتسامة، وقدم السيد لها الكرسي بنفسه وهو يومئ براحته مرحبا، كأنه يقول لها: «تفضلي» بيد أن راحته انبسطت - ربما بلا شعور منه - لآخر طاقتها وانفرج ما بين أصابعه حتى صارت يده كالمروحة، ولعله تأثر في بسطها بما تركه في خياله منظر العجيزة الهائلة التي ستملأ مقعد الكرسي، وتفيض عن جوانبه حتما. وشكرته المرأة بابتسامة من وجهها الذي أسفر حسنه بغير حجاب، وجلست وهي تشع بزواقها وحليها نورا، ثم التفتت إلى جاريتها وخاطبتها قائلة وهي تعني بالخطاب غيرها: ألم أقل لك يا جلجل إنه ليس ثمة ما يدعونا للتخبط هنا وهناك لابتياع حوائجنا وعندنا هذا الدكان الفاخر؟
فأمنت الجارية على قول سيدتها قائلة: صدقت كعادتك يا سلطانة، لماذا نذهب بعيدا وعندنا السيد الكريم أحمد عبد الجواد!
فتراجع رأس الست كأنما هالها ما صرحت به جلجل، وألقت عليها نظرة استنكار ثم رددت عينيها بين السيد والجارية لتشهده على استنكارها، وقالت وهي تداري ابتسامة: وا خجلتاه! ... حدثتك عن الدكان يا جلجل لا عن السيد أحمد!
وشعر فؤاد السيد الذكي بالجو الودي الذي ينفثه حديث المرأة، فاندمج فيه بغريزته المتوثبة وتمتم باسما: الدكان والسيد أحمد شيء واحد يا سلطانة.
فرفعت حاجبيها في دلال وقالت بعناد لطيف: ولكنا نريد الدكان لا السيد أحمد.
अज्ञात पृष्ठ