فهمس السيد باسما: أرجو أن يعطونا أجرا مناسبا! - أين قبض عليك؟ - أمام البيت. - طبعا! - وأنت؟ - كنت بالعا منزولة، ولكني أفقت تماما، الإنجليز أقوى من الكوكايين! - أقوى من القيء نفسه!
مضى الرجال يذهبون ويجيئون عجلين ما بين طوار الأتربة والحفرة على ضوء المشاعل، أثاروا التراب، حتى انتشر في فراغ القبة خالقا جوا خانقا، فعلاهم البهر، وتصبب العرق من جبهاتهم، واغبرت وجوههم وتتابع من انتشاق الغبار سعالهم، فكأنهم أشباح انشقت عنهم الحفرة. على أي حال لم يعد وحده، هذا الصديق وهؤلاء الرجال من حيه، جنود البوليس المصريون معهم بقلوبهم، آي ذلك أنهم جردوا من سلاحهم ... لم يعد السيف ذو الغمد المعدني يتدلدل من أحزمتهم، اصبر ... اصبر لعل هذه الغمة أن تنكشف، هل كنت تتصور أنك ستعمل حتى مطلع الصبح وربما حتى الضحى، شد حيلك، ليس ثمة أنك ستحمل التراب، وتسخر في سد الحفرة؟ لا تريد الحفرة أن تمتلئ، لا فائدة ترجى من الشكوى، ولمن تشكو؟ جسمك قوي صلب العود يستطيع أن يتحمل رغم سكرة الليلة وعبثها، كم الساعة الآن؟ ليس من الحيطة أن تنظر فيها، لو لم يقع لي هذا لكنت الآن مستلقيا على الفراش منعما بلذيذ المنام، كنت أستطيع أن أغسل رأسي ووجهي، وأشرب شربة روية من القلة المعطرة بالزهر، هنيئا لنا هذه المشاركة في جحيم الثورة، لم لا؟ البلد ثائر ... كل يوم ... كل ساعة ضحايا وشهداء، بيد أن قراءة الصحف وتناقل الأخبار شيء أما حمل التراب تحت تهديد البنادق فشيء آخر، هنيئا لكم أيها النائمون في أسرتكم، اللهم احفظنا، لست لها ... لست لها، اللهم اهزم المشركين بقوتك، نحن ضعفاء .. لست لها، هل يتصور فهمي أي خطر يتهدده؟ إنه يستذكر دروسه الآن غير عالم بما يحيق بأبيه، قال لي: «لا » لأول مرة في حياته، قالها بدموعه ولكن سيان عندي. المعنى واحد، لم أقل لأمه، لن أقول لها، أأكشف لها عن عجزي؟ أأستعين بضعفها بعد أن أخفقت بقوتي؟ كلا .. لتبق جاهلة بكل شيء، يقول إنه لا يعرض نفسه للخطر، حقا؟ اللهم استجب، لولا هذا ما رحمته أبدا، اللهم احفظه، اللهم احفظنا جميعا من شر هذه الأيام، كم الساعة الآن؟ إن طلع علينا الصباح أمنا القتل، لن يقتلونا أمام الخلق. الصباح؟ - بصقت على الأرض كي أتخلص من الغبار اللازق بسقف حلقي، فرماني أحد الأبالسة بنظرة وقف لها شعر رأسي! - لا تبصق، تشبه بي، لقد بلعت من التراب قدرا يكفي لسد هذه الحفرة! - لعل زبيدة دعت عليك! - لعلها ... - ألم يكن سد حفرتها أطيب من سد هذه الحفرة؟ - بل أشق!
تبادلا ابتسامة سريعة، ثم قال غنيم متنهدا: انقصم ظهري يا هوه! - مثلك، عزاؤنا أننا نشارك المجاهدين بعض آلامهم. - ما رأيك أن أرمي بالمقطف في وجه الجنود وأهتف بأعلى صوتي «يحيا سعد»؟! - اشتغلت المنزولة من جديد؟ - يا للخسارة! .. كانت قطعة «قد فص العين» حركتها بالشاي مرة ومرتين وثلاثا، ثم ذهبت إلى الطمبكشية أسمع الشيخ علي محمود في بيت الحمزاوي، وعدت قبيل منتصف الليل، وأنا أقول لنفسي «الولية الآن تنتظرك لا أفلح من خيب لها رجاء» حين طلع ابن القرد وساقني من قفاي. - ربنا يعوض عليك. - آمين.
جاء الجنود برجال آخرين بعضهم من ناحية الحسينية، والبعض الآخر من ناحية النحاسين، وسرعان ما انضموا إلى «العمال». ألقى على المكان نظرة فوجده ازدحم بالجمهور أو كاد، وقد انتشروا حول الحفرة في جميع الجهات، يذهبون إلى الطوار ويرجعون إليها في حركة لا تنقطع، وأنوار المشاعل تضيء منهم وجوها لاهثة نال منها الإعياء والذل والخوف كل منال. الكثرة بركة وأمان، لن يذبحوا هذا الجمع الغفير من الناس، لن يأخذوا البريء بالمذنب، ترى أين المذنبون؟ أين هؤلاء الفتوات؟ هل يعلمون الآن أن إخوانا لهم وقعوا في الحفرة التي حفروا؟! قاتلهم الله، هل حسبوا أن حفر حفرة سيعيد سعدا، أو يخرج الإنجليز من مصر! لأنقطعن عن السهر إن كتب الله لي عمرا جديدا، أنقطع عن السهر؟ لم يعد السهر بمأمون، كيف يكون طعم الحياة، لا طعم للحياة في ظل الثورة، الثورة .. أي جندي يقبض عليك .. تحمل التراب بكفيك، فهمي يقول لك لا! متى تعود الدنيا إلى أصلها؟ صداع؟ .. بل صداع وغثيان، دقائق من الراحة .. لا أطمع في مزيد! بهيجة في سابع نومة، أمينة تنتظر كما تنتظر «ولية» غنيم، هيهات أن يخطر لكم ما حاق بأبيكم، رباه إن التراب يملأ أنفي وعيني، يا سيدنا الحسين، امتلئي .. امتلئي .. أما كفاك هذا التراب كله؟! يا بن بنت رسول الله، غزوة الخندق .. هكذا دعاها سيدنا الواعظ، كان عليه الصلاة والسلام يعمل مع العاملين، ويرفع التراب بيديه .. كافرون وكافرون لماذا ينتصر كافرو اليوم! فساد الزمن .. فساد الزمن ... فسادي أنا، هل يعسكرون أمام البيت حتى تنتهي الثورة؟ - ألم تسمع الديكة؟
أرهف السيد أذنيه ثم غمغم: الديكة تصيح! الفجر؟ - نعم .. ولكنها لن تمتلئ قبل الصباح. - الصباح! - المهم أني محصور، محصور جدا.
اتجه ذهن السيد إلى أسفل، فشعر بأنه محصور أيضا، وبأن جانبا من آلامه يعود بلا شك إلى ذلك، وسرعان ما اشتد ضغط المثانة عليه كأنما هيجها تفكيره فيها، قال: وأنا كذلك. - والعمل؟ - ما باليد حيلة! - انظر هناك إلى ابن القرد الذي وقف يبول أمام دكان على الزجاج! - آه! - إخراج شوية بول أهم الآن عندي من إخراج الإنجليز من مصر كلها. - إخراج الإنجليز من مصر كلها؟! ليخرجوا أولا من النحاسين. - رباه .. انظر .. لا يزال الجنود يأتون بالناس!
رأى السيد جماعة جديدة تشق طريقها صوب الحفرة.
66
استيقظ السيد أحمد من نومه حوالي العصر، وكان نبأ واقعته قد ذاع في الأهل والأصدقاء، فوفدوا على البيت واجتمعوا به مهنئين بالسلامة، فراح يقص القصة ويعيدها بأسلوب لم يخل - رغم جدية الأمر - من فكاهة وتهويل حتى أثار شتى التعليقات. كانت أمينة أول من سمع القصة، ألقاها عليها وهو مشتت النفس خائر القوى، لا يكاد يصدق حقا أنه نجا، فتلقت وحدها الجانب المفجع خالصا، وما كادت تغادره نائما حتى استرسلت في البكاء، وجعلت تدعو الله أن يرعى أسرتها بعنايته ورحمته، ودعت الله طويلا حتى كل لسانها، ولكنه حينما وجد نفسه محوطا بأصدقائه، خاصة المقربين منهم أمثال إبراهيم الفار وعلي عبد الرحيم ومحمد عفت، استرد الكثير من روحه المعنوية، فتعذر عليه أن يغفل الجانب الفكاهي من الحادث، حتى غلب على ما عداه، فانتهى الحديث إلى نوع من المزاح، كأنما كان يقص عليهم مغامرة من مغامراته. وبينما حفل الدور الأعلى بالزائرين، اجتمع شمل الأسرة بالدور التحتاني فيما عدا الأم التي شغلت مع أم حنفي بتهيئة القهوة والأشربة، شهدت الصالة من جديد اجتماع ياسين وفهمي وكمال وخديجة وعائشة في مجلس الأم التقليدي، وقد انضم إليهم خليل شوكت وإبراهيم شوكت سحابة النهار، ولكنهما صعدا إلى حجرة الأب عقب استيقاظه بقليل فخلا الجو للإخوة، وكان الحزن الذي غشيهم طوال النهار على ما أصاب والدهم قد زايلهم بعودة الطمأنينة إلى نفوسهم، فنبضت قلوبهم بالعواطف الأخوية، وتوثبوا للسمر والمرح كعهدهم في الأيام الخوالي. على أن الطمأنينة لم تستقر بنفوسهم حتى رأوا والدهم بأعينهم، أقبلوا عليه واحدا في إثر واحد، فقبلوا يده ودعوا له بطول العمر والسلامة، ثم غادروا الحجرة في نظام وأدب عسكريين. ومع أن السيد اكتفى بمد يده لياسين وفهمي وكمال بالتتابع دون أن ينبس بكلمة، إلا أنه ابتسم إلى خديجة وعائشة، وسألهما في رقة عن الحال والصحة، رقة لم تحظيا بها إلا بعد زواجهما، وكان كمال يلاحظها بدهشة مقرونة بسرور كأنما هو الذي يحظى بها. والحق أن كمال كان أسعد الجميع بزيارات شقيقتيه كلما هلت .. كان ينعم في أثنائها بسعادة عميقة لا يعكر عليه صفوها إلا التفكير في النهاية المتوقعة، ودائما كان يجيء النذير بهذه النهاية من أحد الرجلين - إبراهيم أو خليل - إذا تمطى أو تثاءب، ثم قال: «آن لنا أن نذهب» أمر مطاع لا يرد، لم تتكرم إحدى شقيقتيه - ولو مرة واحدة - بأن تجيبه قائلة مثلا: «اذهب أنت وسألحق بك غدا!» بيد أنه بمرور الزمن اعتاد الصلة العجيبة التي تربط بين شقيقتيه وزوجيهما، وسلم بحكمها وقنع بالزيارة القصيرة تجيء بين الحين والحين، فيسعد بها دون طمع في مزيد. وبالرغم من هذا فلم يكن يتمالك أحيانا إذا رآهما مقبلتين من أن يقول متمنيا: «لو تعودان إلى البيت، فتقيما فيه كما كنتما!» فتبادره أمه قائلة: «ربنا يكفيهما شر تمنياتك الطيبة!» بيد أن أعجب ما صادفه في حياتهما الزوجية كان ذلك التغير الذي طرأ على البطن .. وما صاحبه من أعراض بدت تارة مرعبة كالمرض، وطورا غريبة كالأساطير، وفدت على حافظته ألفاظ جديدة كالحبل والوحم، وما اكتنف الأخير من قيء وتوعك والتهام لحبات الطين الجافة .. ثم ما شأن بطن عائشة؟ .. متى يقف عن النمو الذي جعله كالقربة المنفوخة؟ وهذا بطن خديجة بدا - فيما يبدو - يخطو نفس الخطوات، وإذا كانت عائشة ذات البشرة العاجية والشعر الذهبي قد وحمت على الطين، فعلى أي شيء توحم خديجة؟! غير أن خديجة لم تحقق مخاوفه، فتوحمت على المخلل، حتى استثارت منه أسئلة لا حصر لها لم يظفر أحدها بجواب مقنع! .. وتقول أمه إن بطن عائشة - وبطن خديجة بالتالي - سيتمخض عن طفل صغير سوف يكون قرة عينه .. ولكن أين يقيم هذا الطفل، وكيف يعيش، وهل يسمع ويرى، وماذا يسمع وماذا يرى، وكيف وجد، ومن أين جاء؟! .. على أن هذه الأسئلة لم تهمل، ظفر عنها بأجوبة جديرة حقا بأن تلحق بمعارفه عن الأولياء والعفاريت والرقى والتعاويذ، وغير ذلك من المواد التي تزخر بها دائرة معارف أمه .. لذلك سأل عائشة مستطلعا باهتمام: متى يخرج الطفل؟
فأجابته ضاحكة: اصبر لم يبق إلا قليل.
अज्ञात पृष्ठ