154

बेन क़सरैन

بين القصرين

शैलियों

وغلبه الانفعال فلم يعد يستطيع مواجهة أبيه، ففر من الحجرة هاربا. كاد يصطدم وراء الباب بياسين وكمال اللذين وقفا ينصتان، وقد ارتسم على وجهيهما الارتياع.

63

كان ياسين ماضيا إلى قهوة أحمد عبده حينما التقى في بيت القاضي بأحد أقرباء أمه، فأقبل الرجل نحوه باهتمام، ثم صافحه وهو يقول: كنت ذاهبا إلى البيت لمقابلتك .. حدس ياسين وراء كلامه أنباء عن أمه التي أورثته الهموم، فأحس ضيقا وتساءل بفتور: خير إن شاء الله؟

فقال الرجل باهتمام غير عادي: والدتك مريضة، مريضة جدا في الواقع، أصابها المرض منذ شهر أو أكثر، ولكني لم أعلم به إلا في هذا الأسبوع، وقد ظنوه بادئ الأمر حالة عصبية، فسكتوا عنه حتى استفحل، ثم تبين بعد فحص الأطباء أنه ملاريا شديدة.

دهش ياسين للخبر الذي لم يكن يتوقعه، كأنه يتوقع حديثا عن طلاق أو زواج أو شجار وما شاكل ذلك، أما المرض فلم يقع له في حسبان، تساءل وهو لا يكاد يتبين مشاعره من شدة اعتلاجها: وكيف حالها الآن؟

قال الرجل بصراحة لم يخف مغزاها على ياسين: حالها خطيرة! ... امتد العلاج دون أن يبشر بأدنى تقدم، وبالأحرى ازدادت الحال سوءا، وقد أرسلتني إليك كي أصارحك بأنها تشعر بدنو أجلها، وأنها ترجو أن تراك دون تأخير.

ثم بلهجة ذات معنى: يجب أن تذهب إليها بلا تردد، هذه نصيحة ورجاء، والله غفور رحيم.

لعل كلام الرجل لم يخل من مبالغة أراد بها دفعه إلى الذهاب، ولكنه ليس اختلاقا كله، فليذهب ولو بدافع الواجب وحده، ها هو يخترق مرة جديدة منحنى الطريق المفضي إلى الجمالية بين بيت المال وحارة الوطاويط، إلى يمينه عطفة التيه حيث تلبد بائعة الدوم في ذكريات الظلام المرتعشة وإلى الأمام طريق الآلام، سيرى عما قليل دكان الفاكهة، فيغض البصر ويتسلل كاللص الهارب، كلما ظن أنه لن يعود إليه عادت به تعاسته، ما من قوة كانت تستطيع أن تعيده إليها ... إلا الموت! ... الموت! ... ترى هل حمت النهاية حقا؟! ... قلبي يخفق، ألما؟ ... حزنا؟ ... لا أدري إلا أني خائف، إذا ذهبت فلن أعود إلى هذا المكان مرة أخرى ... سيغشى النسيان سالف الذكريات ... ثم ترد إلي البقية الباقية من أملاكي، ولكني خائف ... وحانق على هذه الأفكار الخبيثة، اللهم احفظنا.

حتى إذا حظيت بعيشة أرغد وبال أصفى، فلن ينجو قلبي من الآلام، حين الموت سأودع أما بقلب ابن ... أم وابن أليس كذلك؟ ... لست إلا معذبا، لا وحشا ولا حجرا، بيد أن الموت زائر جديد علي لم أشهد محضره من قبل، وددت لو كانت النهاية بغيره، سنموت جميعا ... حقا؟! يجب ألا أستسلم للخوف، إن أنباء الموت لا تنقطع عنا ليل نهار في هذه الأيام، في شارع الدواوين والمدارس والأزهر، وهنالك في أسيوط كل يوم ضحايا، حتى المسكين الفولي اللبان فقد ابنه أمس، ما عسى أن يصنع أهل الشهداء؟ ... أيقضون العمر بكاء؟ ... إنهم يبكون ثم ينسون وهذا هو الموت، أف ... يخيل إلي أنه ليس ثمة مفر من المتاعب الآن، ورائي في البيت فهمي وعناده وأمامي أمي فما أبغض الحياة! وإذا كان الأمر مكيدة ووجدتها في خير وعافية؟! ... ستدفع الثمن غاليا ... يقينا لتدفعن الثمن ... لست لعبة أو أضحوكة، لن تجد «الابن» إلا حين الموت، ترى ماذا بقي لي من ثروة؟ ... وإذا دخلت البيت ألتقي بذلك «الرجل» هنالك؟ ... لا أدري كيف أقابله ... ستلتقي عينانا في لحظة رهيبة، الويل له، أتجاهله أو أطرده هذا هو الحل، هنالك ألوان من العنف لا تخطر له ببال، ولكن ستجمعنا الجنازة حتما ... وهذا مضحك، تصور أن يسير وراء النعش أقدم الأزواج وأحدثهم وبينهما الابن دامع العينين ... حتم وقتذاك أن تدمع عيناي ... أليس كذلك؟ ... لن يكون في وسعي أن أطرده من الجنازة، فتلاحقني الفضيحة حتى اللحظة الأخيرة ... ثم تدفن، أجل تدفن وينتهي كل شيء، ولكني خائف ومتألم ومحزون، إن الله وملائكته يصلون على ... هذه هي الدكان المجرمة ... وهذا هو ... لن يعرفني، هيهات، إننا نتنكر بالعمر، يا عم ... أمي تقول لك ...

فتحت له الخادم الباب - نفس الخادم التي استقبلته منذ عام فأنكرته - فتطلعت إليه كالمتسائلة لحظة، وسرعان ما غلبت نظرة التساؤل وراء لمعة كأنما تقول له: «آه ... أنت الذي تنتظر»، ثم أفسحت له وهي تومئ إلى حجرة على يمين الداخل قائلة: تفضل يا سيدي ... لا يوجد أحد.

अज्ञात पृष्ठ