فجاءه صوت يعرفه حق المعرفة، وهو يقول في نبرات نحاسية: أنا نور يا سيدي.
تذكر من توه أن نور جارية زوجه تأوي ليلا إلى حجرة خشبية لصق خص الدجاج تحوي بعض الكراكيب، نظر صوب السطح حتى ميز شبحها القائم على بعد خطوة منه كأنه قطعة من الليل تكاثفت وتجمدت، ثم تراءى له بياض عينيها الناصع كدائرتين مرسومتين بالطباشير على صورة حالكة السواد، واصل سيره دون أن ينبس وصورتها ترتسم في مخيلته بطريقة تلقائية، سوداء في الأربعين متينة البنيان، غليظة الأطراف، ناهضة الصدر، عبلة الأرداف، ذات وجه لامع، وعينين براقتين، وشفتين ممتلئتين. فيها قوة وخشونة وغرابة، أو هكذا بدت له مذ طرأت على بيته. وفجأة، وعلى حين غرة، تفجرت في صدره نية الاعتداء كما تنفجر بعض المفرقعات بلا سابق إنذار، ولكن قوية مسيطرة كأنما تركز فيها هدف حياته، فملكته كما ملكته على عتبة باب الفناء حيال أم حنفي ليلة زفاف عائشة، انبعثت في وجدانه الخامد حياة فوارة، وانتشر القلق في دمه حتى تكهرب، وحل محل الملل والسأم اهتمام حار ثائر جنوني، كل أولئك في لمح البصر، ودب النشاط في مشيته وفكره وخياله، وكف وهو لا يدري عن قطع السطح من أوله إلى آخره مقصرا خط ذهابه وإيابه إلى الثلثين، ثم إلى النصف، وكلما مر بها اضطرب جسمه برغبة عارمة. جارية سوداء؟ ... خادم؟ ... وإن كانت، له سوابق غير منكورة، ليس حتما أن تقع بغيته على طراز زنوبة، ميزة حسن واحدة تغني كما أغنت عينا بائعة الدوم المكحولتان بحارة الوطاويط اللتان شفعتا لنتن إبطيها وتلبد الطين على ساقيها. بل الدمامة نفسها - ما دامت قد ركبت على امرأة - اعتذار مقبول عند شهوته العمياء، كما تطلع إليها عند أم حنفي أو عند ضاربة رمل عوراء خلا بها وراء بوابة النصر، نور على أية حال ذات جسم مكتنز صلب، يوحى - لا شك - ملمسه بالفتوة والصراع، إلى أنها جارية سوداء تعد بطرافة في الوصال، وجدة في التجربة، وتحقيق للمأثور عن بنات جنسها من بعث الحرارة والدفء. وبدا الجو من حوله مهيئا آمنا مظلما، فاستحرت رغبته، وتوثبت أعصابه، واسترسل قلبه في دقات متتابعة، فرمى بنظرة ثاقبة موضعها، ومال في سيره إليها بحيث «يتفق» له أن يحتك بها على نحو ما حين مروره بها مؤجلا الجهر برغبته، حتى يتاح له جس النبض في جو من الحذر أن تكون - كأم حنفي - بلهاء، فتتجاوب أركان البيت بفضيحة جديدة، تقدم في خطوات وئيدة محملقا صوبها، يود بكل ما اضطرم في صدره من شهوة لو تنفذ كلمات عينيه - رغم الظلمة الفاشية - إلى نفسها، حتى اقترب منها فاختلطت دقات قلبه، ثم حاذاها فمس كوعه أعلى جسمها، ولكنه واصل سيره كأن ما وقع كان عفوا، غير أن رعدة سرت في بدنه عند لمس الموضع الذي لم يتحقق من هويته في الغيبوبة التي تاه فيها عالمه، فلم يبق منه عند الإفاقة النسبية في نهاية السطح إلا مس طري غزير الحنان، وما ند عن صاحبته من تراجع بريء أيد ما رجحه من عدم ارتيابها في أمره، فاستدار مصمما على إعادة الكرة. أعاد نحوها ثانية ذراعه، حتى مس كوعه إحدى ثدييها - لم يخطئه إحساسه هذه المرة - ثم لم يسحبه كما كان ينتظر من شخص يدعي أنه ضل السبيل، بل تركه يصافح الثدي الأخرى مصافحة رقيقة لا تبالي دفع الريب، ومضى وهو يقول لنفسه ستدرك غايتي بلا شك، بل لعلها أدركتها فند عنها ما يوحي بأنها أرادت أن تنتحي جانبا ولكنها أبطأت، أو بوغتت فذهلت، على أي حال لم تتقيني باليد، ولم تحرك ساكنا. فلن تصرخ فجأة كما فعلت بنت المركوب، لنجرب مرة ثالثة. عاد هذه المرة متعجلا جزعا، فتثاقل حيالها، ثم مد كوعه إلى الصدر الناهد كقربة صغيرة منتفخة، ثم حرك ذراعه حركة ناطقة بالتردد والريبة معا، وهم بمواصلة السير مدفوعا برغبة في الفرار، لولا أن وجد منها استسلاما أو بلادة أغرقت ثمالة وعيه في تيار من الجنون، فتوقف متسائلا بصوت خرج من بخار الشهوة منصهرا متهدجا: أهذه أنت يا نور؟!
فقالت الجارية وهي تتقهقر وهو يتبعها كي لا تفلت منه، حتى التصق ظهرها بالحائط وأوشك هو أن يلتصق بها: نعم يا سيدي.
أراد أن يقول أي كلام يعن له، حتى يتمكن من الجهر بما يضطرب في أعماقه كالملاكم الذي يلوح بقبضته في الهواء متحينا الفرصة ليضرب ضربته القاضية، فسألها وأنفاسه تترامى على جبينها: لم لم تذهبي إلى حجرتك؟
فقالت الجارية التي تعثرت في نطاق حصاره: كنت أشم الهواء قليلا.
وكأنما غلب النهم تردده، فمد راحته إلى خاصرتها، ثم جذبها برفق إلى صدره وهي تبدي ممانعة تحول بينه وبين ما يريد، ثم همس في أذنها وهو يلصق خده بخدها: هلمي إلى الحجرة.
فتمتمت في ارتباك: عيب يا سيدي.
رنت نبراتها النحاسية في الصمت رنينا أزعجه، لم تكن تعمدت أن ترفع صوتها، ولكنها - فيما بدا - لا يتأتى لها الهمس أو أن من طبع همسها الرنين، ولو في أخفض درجاته، على أنه سرعان ما زايله الانزعاج لتوقد شهوته من ناحية، ولخلو لهجتها من الاحتجاج الذي يستوحيه مدلول عبارتها، فجذبها بيده وهو يغمغم: تعالي يا حلوة.
فسلست ليده، ربما عن رضا وربما عن طاعة، وهو يغمر خدها وصفحة عنقها بقبلاته مترنحا من شدة الانفعال، وفي نشوة السرور جعل يقول: ماذا غيبك عني طول هذه الأشهر!
فأجابته بلهجتها العادية الخالية من أي احتجاج: عيب يا سيدي.
अज्ञात पृष्ठ