ونظر إلى فهمي كالمستغيث، وتمتم في خوف: سيقتلوننا؟ - لن يقتلوا أحدا، جاءوا لمطاردة المتظاهرين.
ومضت فترة صمت قصيرة، وإذا بالغلام يقول وكأنه يخاطب نفسه: ما أجمل وجوههم!
فسأله فهمي ساخرا: هل أعجبوك حقا؟
فقال كمال بسذاجة: جدا، كنت أتخيلهم كالشياطين.
فقال فهمي بمرارة: من يدري، لعلك لو رأيت الشياطين أعجبك منظرهم!
لم يرفع مزلاج الباب في ذلك اليوم، ولم تفتح نافذة من النوافذ المطلة على الطريق، ولو لتغيير الهواء وإدخال الشمس، ولأول مرة تبسط السيد أحمد في الحديث على مائدة الإفطار، فقال بلهجة العليم الخبير إن الإنجليز يتشددون في منع المظاهرات، وإنهم لهذا احتلوا الأحياء التي تكثر بها المظاهرات، وإنه رأى أن يمكثوا يومهم في البيت حتى تتضح الأمور. استطاع الرجل أن يتكلم بثقة وأن يحافظ على مظهره المعهود من الجلال، وألا يدع منفذا لأحد يتسرب منه إلى القلق الذي تفشى في باطنه مذ هب من فراشه على نقر ياسين، ولأول مرة كذلك جسر فهمي على مناقشة رأي أبيه، فقال بأدب: ولكن يا والدي قد تظنني المدرسة إذا مكثت في البيت من المضربين!
لم يكن السيد يعلم شيئا طبعا عن اشتراك ابنه في المظاهرات فقال: للضرورة أحكام، أخوك موظف وموقفه أدق من موقفك، ولكن العذر واضح.
لم تواته شجاعته على مراجعة أبيه خشية أن يغضبه من ناحية، ولأنه - من ناحية أخرى - وجد في أمره بمنع مغادرة البيت عذرا يبرر به أمام ضميره امتناعه عن الخروج إلى الطريق المحتل بالجنود المتعطشين إلى دماء أمثاله من الطلبة. انفضت المائدة فأوى السيد إلى حجرته، وما لبثت الأم وزينب أن اشتغلتا بواجباتهما اليومية، ولما كان اليوم مشمسا، وهو يوم من أيام مارس الأخيرة التي تكتنز في أعطافها نسائم دافئة من أنفاس الربيع، فقد صعد الإخوة الثلاثة إلى السطح، وجلسوا تحت عرش اللبلاب والياسمين. ووجد كمال في خص الدجاج تسلية وأي تسلية، فانتقل إليها، وراح يبذر للدجاج الحب، ويطاردها مسرورا بدجدجتها، ويلتقط ما يعثر عليه من البيض في حين راح الأخوان يتحدثان بالأنباء المثيرة التي تناقلتها الألسنة عن الثورة المستعرة في جنبات الوادي من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه. تكلم فهمي عما يعلم من قطع السكك الحديد والتلغرافات والتليفونات، وقيام المظاهرات في شتى المديريات والمعارك التي تنشب بين الإنجليز والثوار والمذابح والشهداء والجنازات الوطنية التي تشيع فيها النعوش بالعشرات، والعاصمة المضربة طلبتها وعمالها ومحاموها، والتي لم يعد بها من وسيلة للمواصلات إلا العربات الكارو، ثم قال الشاب بحرارة: هذه الثورة حقا ... فليقتلوا ما شاءت لهم وحشيتهم فلن يزيدنا الموت إلا حياة.
فقال ياسين وهو يهز رأسه عجبا: ما كنت أتصور أن في شعبنا هذه الروح المكافحة.
فقال فهمي وكأنه نسي كيف أشفى على اليأس قبيل نشوب الثورة، حتى فاجأته بزلزالها وبهرته بنورها: بل إنه ممتلئ بروح الكفاح الخالد التي تشتعل في جسده الممتد من أسوان إلى البحر الأبيض، استثارها الإنجليز حتى ثارت، ولن تخمد إلى الأبد.
अज्ञात पृष्ठ