فضرب السيد كفا بكف وهو يقول: أي رجل في الرجال أنت؟ ... كان الجواب الخليق بها لطمة! ... إنه لا يفسد النساء إلا الرجال، وليس كل الرجال جديرا بالقيام على النساء ... ثم محتدا: وتذهب بها إلى مكان ترقص فيه النساء نصف عرايا؟
تخايلت لعينيه الصور التي أفسدها تعرض أبيه له على رأس السلم، وعادت الأنغام تتجاوب في رأسه «أبيع هدومي ...» ولكن ما يدري إلا والرجل يقول متوعدا: لهذا البيت قانون أنت تعرفه فوطن نفسك على احترامه ما رغبت في البقاء فيه.
47
قامت عائشة بتزيين خديجة خير قيام بهمة لا تجارى، ومهارة فائقة كأن التزيين خير مهمة تؤديها في الحياة على أكمل الوجوه، فبدت خديجة عروسا حقا تأخذ أهبتها للانتقال إلى بيت العريس، وإن ادعت - جريا على عادتها في التقليل من شأن الخدمات التي يؤديها لها الغير - أن أكبر الفضل في إظهارها بالمظهر اللائق إنما يعود إلى سمانتها هي قبل كل شيء! على أن «جمالها» لم يعد مثار وساوسها مذ طلب يدها رجل اتفق له أن رآها بعينيه، بيد أن جميع مظاهر السعادة التي أحاطت بها لم تستطع أن تمحو من نفسها خفقات الحنين الذي دب في أعماقها لوشك البين، حنين خليق بفتاة مثلها لم يخفق قلبها بحب شيء في الوجود كحبها لآلها وبيتها جميعا من الوالدين المعبودين إلى الدجاج واللبلاب والياسمين، حتى الزواج نفسه الذي طالما تحرقت في انتظاره بجزع الملهوف، لم يكن ليهون عليها مرارة الفراق، من قبل أن تطلب يدها بدت كاللاهية عن حب البيت وإعزازه، وربما غلب عليها الضجر في مضطرب الحياة فوارى عواطفها العميقة الصادقة؛ لأن الحب كالصحة، يهون في الوصال ويعز عند الفراق، فلما أن اطمأنت على مستقبلها أبى قلبها أن ينتقل من حياة إلى حياة دون جزع شديد، كأنما يكفر عن إثم أو يضن بغال، تطلع كمال إليها صامتا، لم يعد يتساءل هل تعودين، بعد أن عرف أن التي تتزوج لا تعود إلا أنه خاطب شقيقتيه مغمغما: «سوف أزوركما كثيرا عقب الخروج من المدرسة.» فرحبتا به معا، بيد أنه لم تعد تغرر به الآمال الكاذبة، كثيرا ما زار عائشة فلم يظفر بعائشته القديمة. يجد مكانها أخرى متبرجة تلقاه بتودد بالغ يشعره بالغربة، ثم لا يكاد يخلو إليها حتى يدركهما زوجها الذي لا يغادر البيت قانعا من ألوان التسلية بسجائره وغليونه وعود يعبث بأوتاره بين حين وآخر، لن تكون خديجة خيرا من عائشة، فليس من رفيق في البيت إلا زينب، وهي لا تتودد إليه كما يجب إلا بمشهد من أمه، كأنما تتودد إليها هي، فإذا غابت الأم تجاهلته كأنه لا يكون! ومع أن زينب لم تشعر بأنها ستفقد عزيزا بذهاب خديجة، إلا أنها استنكرت الجو الرزين الصامت الذي يغشى يوم الزفاف، فتعللت بذلك لتفصح عما تكنه لروح السيد المسيطرة من حنق وغيظ، فراحت تقول متهكمة: «ما رأينا بيتا يحرم فيه الحلال كبيتكم هذا ... حكم!» غير أنها لم تشأ أن تودع خديجة من غير كلمة مجاملة، فنوهت كثيرا بمقدرتها، وأنها «ست بيت» خليقة بأن يهنأ عليها بعلها، فأمنت عائشة على قولها وأردفت قائلة: لا عيب فيها إلا لسانها! ... ألم تجربيه يا زينب؟
فما تمالكت أن ضحكت قائلة: لم أجربه والحمد لله، ولكني سمعته وغيري يجربه.
وتعالى الضحك، وخديجة أولى الضاحكات، حتى رأين الأم ترهف السمع بغتة، هاتفة: «هس» فأمسكن مرة واحدة، فترامى إليهن صوات من الخارج، فصاحت خديجة من فورها منزعجة: مات السيد رضوان!
كانت مريم وأمها قد اعتذرتا من عدم شهود الزفاف؛ لاشتداد المرض على السيد محمد رضوان، فلم يكن غريبا أن تستدل خديجة بالصوات على موت الرجل، وغادرت الأم الحجرة مهرولة فغابت دقائق، ثم عادت وهي تقول بأسف شديد: مات الشيخ محمد رضوان حقا ... يا له من موقف حرج!
فقالت زينب: عذرنا واضح كالشمس، لم يعد في وسعنا تأجيل الزفاف أو منع العريس من الاحتفال بليلته في بيته وهو بحمد الله بعيد، أما أنتم فهل تطالبون بأعمق من هذا الصمت البليغ؟!
لكن خديجة شردت في خواطر أخرى انقبض لها قلبها خوفا، فتطيرت من النبأ المحزن، وغمغمت كأنها تخاطب نفسها: يا لطيف يا رب.
فقرأت الأم أفكارها فانقبض صدرها بدورها، ولكنها أبت أن تستكين لهذا الشعور الطارئ أو أن تترك ابنتها تستكين له، فقالت باستهانة متصنعة: لا شأن لنا بقضاء الله؛ فالحياة والموت بيده، والتشاؤم من عند الشيطان.
अज्ञात पृष्ठ