وتنحنح ضاحكا وقال: والا أنت أناني؟
الكلام كله طيب ولطيف، ومعقول حتى ولو لم أكن أتوقعه من سيف النصر، ولكن كلام سيف النصر ليس ككلام الناس، قد يشبه إلى حد كبير ما يقوله كل الناس ولكن الفرق أنه يؤمن به، وتحس أنت هذا، تحس ولو لم تستطع كلماته نفسها أن تعبر عنه.
وفي الحقيقة لم أكن أتوقع أن ألقي بالا كثيرا إلى «نصيحة» أحمد سيف النصر هذه، بل كان يخيل إلي أنه هو نفسه يعرف أنني لن ألقي إليها بالا.
وفعلا لم يستمر نقاشنا في الموضوع طويلا، أخذنا نتحدث كعادتنا في الأحوال والسياسة والأدب والطب والنساء عامة ثم افترقنا. ومن الجائز جدا أن يكون سيف النصر قد نسي كل شيء عن الموضوع بعدما غادرني، ومن الجائز جدا أنه لم يكن يؤمن إيمانا كاملا بما قاله، ولكني حين أصبحت وحدي في الفراش بدأت أفكر. وكل ليلة كنت أفكر، بل لم يكن لي عمل طوال الوقت إلا التفكير في سانتي. ولكني هذه المرة كنت أفكر فيها من زاوية أخرى؛ فقد تصورت أن ما يحدث بيننا سرا قد عرفه كل الناس بطريقة ما، ترى هل أستطيع حينئذ مواجهتهم بشجاعة؟ تصورت أن هذا الغرام المستعر قد عرفه أحمد شوقي وفتحي وكل الأصدقاء والزملاء، ترى بأي عين ينظرون إلي؟ ألن يقولوا عني إني إنسان فاسد منحل استغل فرص العمل لتحقيق مآربه الشخصية، وجر معه في فضائحه فتاة لم يدفعها للانضمام إلى كفاحنا إلا حماسها لقضيتنا وشعبنا؟ ثم ماذا يكون موقفها هي؟ وكيف أواجههم حينئذ وأواجهها؟
الأهم من هذا كله كان العمل الثوري المشترك، كان إحساسي المستمر المتوقد الذي لا ينطفئ بضرورة أن أصنع دائما عملا من أجل المبادئ التي أومن بها. قال لي صديق صاحب عزبة ذات يوم: أنت تحيرني، شاب مثلك يحتل مركزا اجتماعيا يحسده عليه الآخرون، لماذا يهب نفسه لهذا النوع من العمل ويعرض نفسه للسجن والتشريد؟
وفي تلك الليلة قبل أن أنام طرحت أنا على نفسي هذا السؤال، وقلت: الشعب، القضية، المبادئ والمثل، وعشرات الشعارات التي كنا نتداولها بكثرة وحماس، وضعتها للإجابة على السؤال، ولكن هذا كله لم يشف غليلي. كنت أحس على الدوام أنها إجابات ناقصة؛ إذ إنها لا يمكن أن تعبر أبدا عن السبب الذي من أجله أضحي راضيا. كنت أحس على الدوام بشيء عميق جدا في نفسي، شيء لا أستطيع إدراك كنهه. المبادئ أومن بها بعقلي، الوطنية تعلمتها، الشعب عرفته حين قرأت المقالات والكتب التي تتحدث عن قداسة قضيته، ولكن الدافع الذي يدفعني لبذل نفسي من أجل الآخرين دافع يكاد يكون غريزيا كغريزة الدفاع عن النفس مثلا أو الابن أو العائلة. كنت إذا قرأت تصريحا لأحد رؤساء الوزارات وأدركت أنه يضلل أو يكذب أستشيط غضبا، غضبا حقيقيا، وكأنه أهانني شخصيا، بل لو أنه كان أهانني شخصيا لما أحسست بغضب كهذا. فلماذا كنت أغضب؟ وما هو ذلك الشيء الكامن في نفسي والذي كان يهيب بي دائما أنني قصرت اليوم وأنني لم أؤد واجبي؟ واجب أحسه من تلقاء نفسي، لا أحد يفرضه علي، ولا أحد يحاسبني عليه، هل كان أصدقائي وزملائي في المجلة يحسون بمثل ما أحس به؟ والحب الذي أحببته لسانتي؟ ألم يكن من وراء نفسي، ومن وراء الإحساس المتقد بالواجب؟ كلما أردت أن أخطو تجاهها خطوة كنت أحس أني ارتكبت خطأ ما، وكنت أصهين معتقدا أني أنا وحدي الذي أحس بهذا الخطأ، وبهذا فيمكنني أن أتجاوز عنه؛ لأن القوة التي تدفعني تجاه سانتي أكبر من القوة التي تدفعني تجاه الواجب الشخصي.
ولكن سيف النصر بكلامه اللطيف الطيب العادي قد كشف لي أن خطئي الشخصي أصبح خطأ عاما، اتفق الناس على أنه خطأ. بكلامه وضح لي أن المسألة لم تعد بيني وبين نفسي، ولكنها أصبحت ظاهرة وواضحة بحيث يراها الجميع. وبهذا يجعلني أفيق قليلا ويجعل ذلك الجزء الذي كان يؤنبني دائما يسقط ويكبر ويصبح على قدم المساواة مع جزئي الآخر الذي يندفع تجاه سانتي.
وما أسهل القرارات في أمثال هذه الأحوال! ما كدت أكتشف أني تراخيت في أداء الواجب، وأنني تركت لأهوائي الشخصية العنان، حتى قلت لنفسي: أجل، لا بد أن أقطع علاقتي بها.
وليتني أيضا لم أتخذ هذا القرار. كانت علاقتنا تنمو نموا متوازيا متطورا تزدهر بلا كلام أو سلام أو تلميح، وفجأة قررت أن أصارحها بحبي فكانت تلك العاصفة. وما كادت العاصفة تهدأ وتعود علاقتنا تنمو نموها الطبيعي حتى ها أنا ذا أقرر أني لا بد أن أقطع علاقتي بها.
وغمغمت وأنا أستعد للنوم والساعة جاوزت الرابعة: أجل، لا بد! أما كيف ومتى؟ فقد تركت التفكير في كل هذا للصباح.
अज्ञात पृष्ठ