ورمقتني السيدة لحظتها بنظرة ما زلت أذكرها، نظرة أنستني ابتسامتي المعوجة وملامحي غير المنسجمة، تلك النظرة التي تقولها المرأة بعد ما تكون قد تخطت السن وتقول بها للشباب: ليتني أصغر أو ليتك أكبر.
وحين انتهت الرواية هبطنا السلم معا، وعند نهايته ودعتني سانتي. ورحت أحتج أنا وأطلب منها أن أوصلها ولكنها أخبرتني أنها ذاهبة مع زوجها الذي يعزف مع الفرقة الإيطالية كلما حضرت إلى القاهرة. ودهشت قليلا ولكن نظرتها وهي تودعني سلبتني دهشتي وملأتني بالسعادة. كانت نظرات من تودع إنسانا حبيبا لتأخذ طريقها إلى حياتها الخالية من الأشياء الحبيبة.
أقول: دهشت قليلا لأني اعتقدت ربما أول مرة قابلتها فيها، أن من غير المعقول أن تكون علاقتي بسانتي علاقة بسيطة من تلك التي تنشأ بين أي شاب وأية فتاة، والظروف التي أحاطت بتعارفنا لم تكن تكفي لإعطاء صيغة خاصة لتلك العلاقة. كان شعوري الداخلي يؤكد باستمرار أن هناك شيئا ما لا أعرفه عن سانتي، ولكنه مهم جدا بالنسبة لعلاقتنا، وكنت أتوقع باستمرار أن يكون شيئا خارقا للعادة، ولم أتوقع، بل لم يطرأ موضوع كهذا على أحاديثنا، لم أسألها إن كانت متزوجة ولم تسألني. كنت أستنكر هذا السؤال عليها ولها كل مؤهلات الصغيرات وقلبهن الخالي.
دهشت قليلا لأني أخيرا عرفت بشكل قاطع ذلك الشيء الذي توقعته دائما، وعرفته بطريقة بسيطة حتى كدت لا أتبينه. سانتي إذن متزوجة، ولها زوج يعمل عازفا في الفرقة الموسيقية ويوصلها في ذهابها إلى الأوبرا وعودتها. لماذا لم تخبرني قبلا؟ ولماذا فاجأتني الليلة؟ أسئلة لم تدر في عقلي إلا متأخرا جدا، بعد ما عدت من الأوبرا واستهلكت تأملي لكل ما أحسسته من متع وبدأت أتهيأ للنوم، أسئلة لم آخذها أبدا مأخذا جديا ولا ناقشتها على اعتبار أنها مشكلة بالغة الخطورة قد تلغي علاقتنا مثلا أو تحيلها إلى علاقة من نوع آخر. فلتكن متزوجة أو أرملة؛ فقد عرفت هذا بعد فوات الأوان، وحتى حين عرفته ماذا بيدي أصنعه؟ أنا لا أريد منها شيئا لا ترضاه هي. أنا لا أريد اختلاس حق زوجها، وأنا لا أريد منها أي شيء بالذات. حتى هي نفسها كان واضحا أنها لا تفعل شيئا من وراء ضميرها أو خلقها، فلماذا أجعلها أنا محط الانتظار؟
ونمت.
وثاني يوم جاءت سانتي.
كانت الساعة قد تعدت الثالثة والنصف، وكانت أم عمر في المطبخ تعد الغداء وتغني بصوت أجش نائح أغنية صعيدية حزينة، وكنت جالسا في حجرة المكتب وحيدا أتثاءب وأسترخي بعد ساعات العمل الشاقة وأستعد لتناول الطعام أو لمجيء سانتي. كفت أم عمر عن الغناء ووضعت كمية من «السبانخ» التي كانت قد انتهت من إعدادها في طبق، وكمية من الأرز في طبق آخر، وأعدت المائدة الصغيرة التي في الصالة، وأخيرا نادت علي وقالت: كل يا بوي بالهنا والشفا، والله طبيخي يا سي يحيى ما يطلع من تحت إيد الخواجات.
وقمت وأنا لا أزال أتثاءب وأعرض على أم عمر أن تتزوجني بالمرة ما دامت تجيد الطهي، وقالت أم عمر: يه يا بوي! يا عيب الشوم! دا أنت اسم الله على مقامك من ولادي.
والغريب أنها كانت تأخذ دائما عروضي للزواج منها مأخذا جادا، حتى لو قلتها وأنا أخرج لساني وأضحك.
وما كدت أبدأ تناول الطعام حتى دق جرس الباب، وفتحت أم عمر وشهقت وقالت: المزمازيه يا بوي.
अज्ञात पृष्ठ