قلت: افرض ...
وسكت؛ إذ كنت أريد أن أسأله عما يجب أن أفعله لو حاولوا الاعتداء علي أو قاموا بعمل عنيف، ولكني لم أشأ أن يسمع العامل والعمال شيئا كهذا. - افرض إيه يا دكتور؟ - افرض أني حاولت أن أكشف عليهم وخد كل واحد منهم ثلاث دقائق كشف ، يبقوا عايزين 150 ساعة يعني عايزين أسبوع، فأعمل إيه؟ - اكشف على اللي تقدر عليه والباقي أجله.
وأدركت ألا فائدة ترجى من مناقشته، فانتهت المكالمة وقد وصلت إلى قرار؛ فلا أحد يريد أن يواجه المشكلة ويحلها، ولا أحد يريد أن يتحمل مسئوليتها، وقد كان من الممكن أن أتهرب أنا الآخر من حلها، فأنسل من المكتب بأية حجة وأذهب إلى القسم وآخذ إجازة وأفعل مثلما فعل المدير وزميله الآخر.
ولكن كيف أصنع مثلهما وأنا ناقم أشد النقمة على موقفهما ومحتقره؟ وكيف يمكن أن أفر من مواجهة موقف لا بد أن يواجهه واحد، سواء أنا أو غيري، فلماذا لا أواجهه أنا؟ هناك أناس وسيلتهم في الحياة أن يتفادوا الاصطدام، ويبدو أني كنت من صنف يرحب به.
قلت لنفسي: إن شوقي على حق. هؤلاء العمال الواقفون في الخارج يتلمظون ويضعونني بين موقفين: إما أن أوافقهم على كذبهم وادعائهم فيتركونني بسلام، وإما أن أرفض فيعتبرونني عدوهم الأول، هم في الواقع يحجمون عن مواجهة عدوهم الأول، لا يستطيعون الاصطدام به فيتشطرون علي، فكيف أسهل لهم عملية خداع أنفسهم؟ ألكيلا أواجههم؟ ألخوفي من مواجهتهم؟! أأعيب عليهم أنهم يخدعون أنفسهم وأخدع أنا نفسي وأكتب ألف «إسهال» وألف «نزلة»، بينما لا إسهال هناك ولا مغص ولا نزلة؟
قلت لعم مرسي في هدوء: دخلهم.
ودب النشاط في جسده المستقيم العجوز في الحال، واستعاد صوته وجعجعته، وتخبطت ضلف الباب مدوية في الحائط تحت الطابور الهائل. وعلى حافة المكتب وقف عامل يرتدي بدلة وفانلة برقبة ينظر لي باتهام ووقاحة وشرر الرذالة يقدح من وجهه الشرس وشعره الأكرت المستفز، وهدير المحيط في الخارج كان قد اندفع إلى الحجرة في سيل مكتسح يجمع الصفافير والزعيق وسب الدين، وبهمسة خفية من همسات عم مرسي التي لا ترى ولا تضبط أفهمني أن هذا الذي يتقدم الطابور هو سكرتير النقابة.
وتكون للمشهد الدائر أمام بصري عمق آخر لم يكن موجودا؛ أخيرا ظهر سكرتير النقابة وأطل يتقدم طابور العمال «الناخبين» في هجوم ساحق على طبيب الورش يريه العين الحمراء ، أو يلقي الرعب في قلبه وينتزع منه الإجازات بالقوة ويوزعها على العمال في حركة جماهيرية مسرحية يذكرها له العمال أياما وشهورا وربما سنوات.
وكنا في زمن تصنع فيه النقابات وتفرض ويتاجر بسكرتيريتها وأمانة صناديقها، وكنت قد جئت بعد أجيال من الأطباء الذين عودهم العمال وعودوا العمال أن تؤخذ الإجازات بالتسعيرة، اليومين بريال والثلاثة بخمسين قرشا والأسبوع بجنيه.
وكان كل شيء بيسر وسهولة، كل ما في الأمر أن الطبيب تحول في نظرهم من معالج وإنسان حكيم إلى قابض إجباري للريالات ومانح للإجازات ومخلص من الزنقات. فإذا جاء على آخر الزمن طبيب يريد أن يقوم بمهمة الطبيب فمعناها أنه مجنون، وإذا استمر جنونه هذا فمعناه أنه في حاجة إلى درس يلقى عليه ويعيده إلى الصواب ويفهمه مركزه. ومن أولى بإلقاء الدرس من سكرتير النقابة؟ هذا الرجل الشرس الواقف أمامي الذي يرتعد رعبا أمام المدير ويشرب السجائر «الكرافن»، وتسهل له الإدارة مهمة انتخابه كل عام في مقابل أن يسهل للإدارة مهمتها، ما أحوجه الآن إلى حائط منخفض يقفز عليه ويري العمال براعته في الدفاع عنهم واقتحام المخاطر من أجلهم، ويغطي بهذا العمل «البطولي» كل مخازيه وراء الستار.
अज्ञात पृष्ठ