مقدمة
البيضاء
خاتمة
مقدمة
البيضاء
خاتمة
البيضاء
البيضاء
تأليف
يوسف إدريس
حيرتني هذه القصة.
كتبتها في صيف عام 1955م.
ونشرت بعضها تباعا في جريدة الجمهورية عام 1960م.
وأخيرا قررت نشرها هذا العام، فوإن كان بطلها هو «يحيى» إلا أنها وثيقة حية لفترة خطيرة من فترات الحياة في بلادنا، فترة لا أعتقد أن أحدا تناولها.
إن كانت تقليدية الشكل والطريقة، فالشكل مهما كان لا يتعدى دوره كشكل، والحقيقة تبقى حقيقة رغم أية طريقة تروى بها.
وإني لشديد الاعتزاز بهذا الجزء من عمري وعمر بلادي.
يوسف إدريس
مقدمة
لقد ظلمت هذه القصة (البيضاء) ظلما كبيرا، وللأسف فإن السبب في ظلمها هو أنها كانت فعلا متقدمة على التفكير السائد بين المثقفين اليساريين آنذاك، وبين تفكيرهم عالميا ومحليا اليوم؛ فقد كتبت في عام 56-58 ونشرت بضع طبعات، وها أنا ذا أعيد نشرها في طبعة خاصة لروايات الهلال الآن، الفرق إذن هو أربعة وثلاثون عاما.
اليوم لم تعد البيضاء اكتشافا مبكرا جدا لأحداث ومفهومات أصبحت هي القاعدة، ولكنها إذا وضعت في منظورها الزمني ممكن أن يعود لها بعض الإنصاف.
هي قصة حب، ليس أي حب، وقصة عصر ليس أي عصر، وقصة سياسة ليست أي سياسة، وقصة أطول عمل أفخر به كتبته، هي درة ثمينة بين إنتاجي أعتز بها.
إني أهدي هذه القصة للماركسيين في العالم العربي اليوم؛ فضربهم باستمرار من قوى الحكم الغاشم حال بيني وبين أن أهتم اهتماما خاصا بنشرها وإذاعتها مخافة أن تكون ضربة أخرى للماركسيين المصلوبين دوما.
وأعتقد أن نشرها الآن ليس أمرا واجبا فقط، ولكن التذكير بأن ثمة أناسا كانوا منذ زمن بعيد يفكرون أسبق من زمنهم قبل خروشوف وقبل البريسترويكا، بالضبط من أيام كان ستالين حيا ويحكم بضراوة، هذا التذكير أصبح الاعتراف به - أخيرا - أمرا واجبا.
وأملي أن يستمتع القارئ بعمل أصبح الآن معتقا كالنبيذ المعتق، أي أصبح أكثر قيمة وأغلى ثمنا؛ فقد دفعت فيه - أنا الكاتب - ثمنا هو أجمل سني عمري، وإلى الآن لم أندم.
يوسف إدريس
البيضاء
1
لماذا نكذب على أنفسنا ؟
إن لكل منا قصة حب دفينة وضعها في أغوار نفسه، وكلما مضى عليها الزمن دفعها أكثر وأكثر إلى أعماقه وكأنما يخاف عليها من الظهور.
وسوف أقول لكم كل شيء عن قصة حبي.
ماذا أقول لكم؟
يخيل لي أن ما من امرأة قابلت رجلا وما من رجل قابل امرأة إلا وسأل كل منهما نفسه: ترى هل يصلح الآخر لي؟ ما من امرأة وما من رجل، وفي كل مراحل العمر، قبل الزواج وبعده، في عنفوان الصبا وذبول الشيخوخة. سؤال يدور في عقول الآباء في نفس الوقت الذي يدور فيه في عقول الأبناء! عملية بحث دائبة مستمرة عن الطرف الآخر في تلك اللعبة الخطرة التي يسمونها الحب.
لست أبالغ ولا أتجنى؛ إذ في أغلب الأحوال يأتي الجواب رفضا ونفيا، وفي أحيان قليلة يظل يتأرجح بين النفي والإثبات، وفي أحيان نادرة - نادرة جدا - يأتي الجواب أن نعم، هذا هو أو تلك هي من أريد.
أنا أيضا حين قابلت «سانتي» قلت هذا، كان ذلك في مطعم «الباريزيانا» الذي لم يغيره الزمن، وكان سبب اللقاء عاديا جدا في نظري، أزاول مثله كل يوم من أيامي عشرات المرات. كان لي، ولا يزال، صديق اسمه صبحي يعمل مندوب دعاية، أو كما تعودنا أن نسميه «بروبا جاندست» لإحدى شركات الأدوية، وكانت له اتصالات واسعة بالأجانب والمصريين، لا بحكم عمله ولكن لأنه هو شخصيا من ذلك الصنف من الناس الذي لا يحيا ولا يتنفس ولا يتحرك إلا إذا تعرف كل يوم بأناس جدد، وعرف أناسا بأناس. قال لي ذات مرة إن هناك فتاتين: إحداهما يونانية والأخرى فرنسية أو من أصل فرنسي، وإنهما تريدان العمل معنا في المجلة وتقديم أية مساعدة يمكنهما تقديمها. ولا أعرف لماذا لم ألق للأمر اهتماما كبيرا أول ما قال لي، ربما لأني لم آخذ كلامه مأخذا جادا، وربما لأنه كان كلما قابلني حدثني عن أشياء يريد تقديمها للمجلة ولا يقدم شيئا بالمرة، ولكني قابلته بعد هذا مرة أو مرتين، وفي كل مرة يسألني متى يمكن أن يعرفني بالفتاتين، وأدركت حينئذ أن كلامه قد يكون صحيحا على عكس ما تعودنا من كلامه، وربما لو كان قد قال إن الفتاتين «بنات عرب» لما احتفلت بالأمر ذلك الاحتفال؛ إذ لست أدري سر ذلك الضعف الذي نكنه، نحن أولاد العرب، للخواجات، وللنساء منهن بالذات. المهم رحبت بالمهمة وسألته بضعة أسئلة لأتأكد أن ما يقوله حقيقي، ولأحاول أن أكون عنهما فكرة قبل أن ألقاهما، وحددت معه موعدا في «الباريزيانا» يعرفني بالفتاتين فيه، وأظنه كان الثالثة بعد ظهر يوم من أيام الشتاء.
ما زلت أذكر ذلك اليوم كأنه اليوم، كنت أرتدي معطفا رماديا اشتريته - أول معطف في حياتي ارتديته - وكنت مسرعا؛ إذ كان الميعاد قد أزف ومضت بعده دقائق. ومع هذا ورغم نسمات العصر الشتوية والوقت الضيق فقد رحت أسأل نفسي ذلك السؤال: ترى هل تصلح واحدة منهما أو الاثنتان لأحبهما؟ وهل تقع إحداهما في غرامي؟ وهل يكون لي معها قصة؟ وكنت أسأل نفسي تلك الأسئلة مع علمي التام أنها أسئلة لا يصح إلقاؤها أو التفكير فيها؛ فالعمل الذي نقوم به جاد وخطير وليس فيه أي مكان أو فسحة للحب وللغرام. كنا في عنفوان معركة الاستقلال، ومجلتنا تخوض حربا لا هوادة فيها لإعداد الشعب للمعركة، ولا مجال للعاملين فيها للتفكير في غير العمل والكفاح. كل شيء يجري وكأنها الخطة لجيش محكمة، وكل شيء ينفذ وكأننا في خط النار، والمعركة ضد الاستعمار قائمة في كل مكان، في السودان ومصر وسوريا والبلاد العربية وشمال أفريقيا وقبرص وفي كل مكان. ولجماعتنا أنصار وأعضاء في كل قطر من هذه الأقطار، والمجلة تصدر في القاهرة ويتردد صداها في كل عاصمة من عواصم الشرق الأوسط. كنت أعرف هذا كله، ولكني هنا أقول الحقيقة؛ فالحقيقة يصح قولها دائما، بل دائما لا بد من قولها. والحقيقة أننا حين نفكر بيننا وبين أنفسنا لا نفكر فيما يصح وما لا يصح، إننا نفكر فقط فيما نريده، نفكر بكل جرأة، بل أحيانا بوقاحة ولا يهمنا شيء. إننا فقط حين يأتي دور التنفيذ نبصر العقبات الاجتماعية القائمة، وحينئذ نبدأ نتراجع أو نبدأ نلف وندور حول العقبات كوسيلة للتغلب عليها. بيننا وبين أنفسنا لا نعد العقبات الاجتماعية مقدسات، إننا نعدها عقبات فقط، ولعل هذا هو سر تقديسنا لها أمام الناس. وليس معنى أنني كنت أفكر في كل هذا وأنا في طريقي إلى الموعد أني كنت أفاقا أو وغدا، لأني كنت أفكر في مطامحي الخاصة؛ فالواقع أني كنت أفعل هذا بجزء صغير من نفسي، أما أجزاؤها الأخرى الكبرى فكانت مشغولة تماما بالمجلة وبالواجبات وبالعمل الذي كنت أقوم به في منتهى الجد والنشاط، هذا شيء وذلك شيء آخر مختلف، والإنسان يفعل الشيئين، وربما يفعل الشيئين لأنه إنسان.
دخلت المطعم وأنا أبحث بعيني عن صبحي لأطمئن أولا إلى وجوده (فقد كنت لا أزال معتقدا أن كلامه قد لا يصفى على الربع)، وبالتالي لأطمئن على وجود الفتاتين، وأخيرا لآخذ فكرة عن شكلهما من بعيد؛ إذ كان السؤال لا يزال قلقا في جوفي يريد جوابا: ترى هل تصلح إحداهما لي؟
ووجدت صبحي فعلا، ولدهشتي وجدت أنه، حقيقة، صادق هذه المرة؛ فقد كانت تجلس إلى جواره فتاتان، إحداهما ضخمة كبيرة، والأخرى صغيرة بيضاء مشرب بياضها بحمرة، واتجهت إلى المنضدة التي يجلسون عليها وسلمت، وتلعثمت وأنا أفعل هذا وصبحي يقدمني إليهما وكأني خجلت مما كنت تركت لنفسي حرية التفكير فيه. وجلست وطلبت قهوة، وفعلت هذا كله دون أن أجرؤ على رفع عيني أو إلقاء نظرة قريبة على الفتاتين.
وبعد أقل من دقيقة قامت الضخمة مستأذنة تاركة أمر تحديد كل شيء لزميلتها التي كانت جالسة تبتسم باستمرار ولا تتكلم. وجلس معنا صبحي هنيهة ثم لم يلبث هو الآخر أن سلم وانصرف.
وبقيت معها.
وأقول بقيت معها لأنني منذ الوهلة الأولى كنت قد تأكدت أنها هي؛ هي التي أردتها دائما دون أن أعثر عليها، هي التي بحثت عنها في كل فتاة أو امرأة قابلتها ولم أجدها، بالضبط هي بكل ما أحب في النساء فيها، وكيف أقول هذا وأفسره؟ أأقول إن من نظراتي الأولى لها كنت قد قررت أنها لي طال الزمن أو قصر، شاءت الظروف أم لم تشأ، ماذا أقول؟ هل أقول إنني منذ الوهلة الأولى كدت أخمن قصتنا معا، كأن أنوارا كاشفة قد أضاءت كل ما سوف يقبل من أحداث لجزء من الثانية، ثم انطفأت الأنوار؟
وتحدثنا في العمل، قالت لي إنها هي اليونانية وزميلتها أبوها فرنسي وأمها يونانية، وإنها سمعت عنا من تنظيمها الذي يحارب في قبرص، وتريد أن تفعل شيئا لنصرة القضية التي نحارب من أجلها، والتي هي شخصيا مؤمنة بعدالتها، ولم تجد أنسب من أن تضع نفسها في خدمة مجلتنا. وحيرني حديثها؛ فالواقع أن المجلة لم تكن تشكو من قلة الأيدي العاملة فيها، ثم ماذا تستطيع فتاة يونانية أن تفعل لمجلة تصدر في القاهرة باللغة العربية؟ حيرني حديثها لأنه لم يكن من المعقول أن أقول لها: أنا في غاية الأسف يا سيدتي العزيزة؛ فلا مكان لك في مجلتنا، وعليك أن تذهبي في طريقك ونذهب نحن في طريقنا. ومن غير المعقول أيضا أن أؤكد لها أنها ستعمل معنا لمجرد أنني أصبحت أريد أن تعمل معنا؛ فأنا لم أكن أملك سلطة هذا التأكيد، وإذا أخذت المهمة على عاتقي فقد يضر عملها معنا بصالح المجلة، فأكون بهذا قد ألحقت بمجلتنا خسارة لمجرد نزوة شخصية عنت لي.
حيرني حديثها، وأخيرا قررت أن أحصل منها على ما أستطيع الحصول عليه من معلومات، ثم أناقش الوضع كله مع أحمد شوقي رئيس التحرير. وحتى حديث العمل بحيرته ومشكلته لم يكن له الأهمية الأولى في تلك الجلسة؛ فجزء كبير من اهتمامي كنت أوجهه إليها هي، وكنت أتأملها بطريقة لا تسترعي انتباهها؛ إذ كنت أنظر في وجهها ونحن نتحدث عن ضرورة تنسيق الكفاح بيننا وبين إخواننا اليونانيين، وأرسم على وجهي كل علامات الاهتمام بذلك الحديث والتركيز فيه، وأحتم على ملامحي أن تمثل هذا، ولكني في واقع الأمر أتأملها وأحاول أن أمد عيوني الخاصة إلى نفسها الخاصة؛ لأتأمل تلك التي كنت قد قررت أنها لي.
ومع هذا فلو طلب أحدهم مني بعد مقابلتي لها أن أصفها لما استطعت، فما جدوى الوصف؟ إنه لشيء مضحك أن نقرأ في قصص الحب أن البطل غرق إلى آذانه في حب البطلة لشعرها الأسود المتهدل، أو عيونها العسلية ذات الرموش الطويلة. هراء وتخريفات؛ فنحن لا نفضل إنسانا على آخر لأن ملامح هذا أجمل من ملامح ذاك، أو نحب فتاة لعيونها الجريئة أو لالتفاتاتها الرشيقة. يخيل إلي أننا نحب الإنسان لشيء لا نستطيع تحديده في الإنسان، واسألوا كل من أحب ماذا أحببت في رفيقك؟ ودعوه يجيب، وحققوا له كل ما يقوله في رفيق آخر، فسوف يظل يقول هناك شيء ناقص لو سألناه عن كنهه لما استطاع الإجابة. وفي كل منا شيء لا نستطيع تحديده هو روحه، هو مجموع أجزائه الظاهرة وأجزائه التي لا تظهر، دمه، شخصيته، ظله، شيء نطلق عليه أسماء كثيرة لنحدده فلا تفعل الأسماء أكثر من أن تؤدي بنا إلى مجهولات أخرى في حاجة إلى تحديد، شيء هو المسيطر الأعلى علينا، هو الذي يحدد إرادتنا وماذا نكره وماذا نحب، وهو أيضا الشيء الذي يحب وكأنه أصلنا، وما أجسادنا وأشكالنا وأنوفنا وعيوننا إلا أعراضه وتجسيداته.
حتى بعد تأملي الذي طال لها لم أكن أستطيع وصفها، ويكفي أن أقول إن كل ما فيها أعجبني، طريقتها في الحديث، ابتسامتها، أسنانها الأمامية حين ينفرج عنها فمها الصغير، لونها، وملامحها الصغيرة الدقيقة، عيناها حين تضحكان، إحساسي بأني موجود داخل عينيها وأنها تراني وتتذكر أشياء من أجلي أنا. ذلك هو أهم ما خرجت به من تلك المقابلة الأولى، أحسست أننا انسجمنا وأننا سنصبح سعداء لو عملنا معا، وأننا قد تقاربنا بطريقة أسرع مما تصورنا، ولكن إحساسي هذا كان مجرد إحساس داخلي لم تظهر منه بادرة واحدة، أو ينبئ عن وجوده بتصرف واحد؛ فقد كان سلوكي الاجتماعي إزاءها لم يتعد أبدا حدود المعرفة البسيطة التي حدثت، لا يتعدى حدود زميلين، واحد من مصر والآخر من اليونان التقيا في معركة مشتركة، وأنهما سيلتقيان مرة أخرى، وأنهما لا يكرهان أن يلتقيا مرة أخرى .
وخرجت من المطعم وأنا منتش تلك النشوة التي تفجر السعادة في قلوبنا وتجعلنا نحس بها في كل شيء نراه، في عازف الكمان العجوز المتجول، في ضوضاء الشارع الصاخبة، في الوجوه الخارجة لتوها من ازدحام السينما، في أمس وكل ما دار فيه، وفي الغد بكل ما يأتي به، إنسانة حلوة رقيقة وضعتها الظروف أمامي في وسط المعركة الجافة الجادة التي كنا نخوضها، إنسانة أعجبتني ويبدو أنني أعجبتها، فتاة صغيرة في السن لم تتعد العشرين بالغة الحماس والذكاء واسعة الثقافة، إنسانة ممكن أن أحبها أو أتزوجها أو أتجاوب معها ذلك التجاوب الذي نفتقده كثيرا ونحن إليه دائما، ما الضرر أن أحس بكل هذا بيني وبين نفسي، ما دمت أؤدي دوري على أكمل وجه في المجلة وفي الكفاح وفي الحياة؟
خرجت من المطعم متجدد الحماس، وقضيت بقية النهار راضيا عن نفسي والدنيا وحركة الزمن؛ فقد قضيته سعيدا!
2
وكان مفروضا ألا ألتقي بها إلا تلك المرة القادمة التي أقدمها فيها لأحمد شوقي رئيس التحرير؛ حيث تعمل معه أو حيث يوصلها إلى تنظيم السيدات وحيث تنتهي علاقتها المباشرة بي، ولكني لم أجد أبدا ثمة داع قوي يدعوني للعجلة، فلماذا لا يتم هذا في اللقاء الثالث مثلا؟ ولماذا لا أؤجل حديثي عنها مع شوقي بضعة أيام أراها فيها على انفراد مرة أخرى؟ في لحظة قررت أن أبيح لنفسي تلك الخطيئة البريئة على أن تكون الخطيئة الأخيرة.
وفي الميعاد وجدتها جالسة تنتظرني وتبتسم، وجلست ونادت الجرسون وأصرت على أن تعزمني، وضحكنا طويلا ونحن نتجادل حول الموضوع وأنا أقول إنها ما دامت في بلادنا الشرقية فلا بد أن تخضع لتقاليدنا، فترد هي بقولها إن التقاليد تتطور وبعزومتها لي تبدأ عملية التطور.
وطوال الوقت كنت أيضا لا أزال أحيا في تلك النشوة التي تجعل الإنسان لا يرى إلا ما في الأشياء من جمال، أو تجعله يرى كل الأشياء جميلة، وكل ما يفعله حلال، ولا شيء هناك يستحق أن يؤنبه عليه ضميره.
ولكني لست أذكر بالضبط متى أو لماذا بدأ ينتابني ذلك الشعور، ولكني وأنا في قمة سعادتي معها بدأت أحس وكأني أفقت لثوان قليلة من حلم، فوجدتها زميلة معركة ووجدت أني أرتكب حماقة، لا لأني كنت أخطئ أو لأن ما أفعله أشياء تتنافى مع الزمالة أو المعركة، ولكن لأن الطريق التي كنت أسمح لنفسي بالسير فيه كان طريقا ممكن أن يؤدي إلى الانحراف والضلال، وإن بدا أوله بريئا ليس فيه ما يخجل، وأظنني وجمت أو كنت أضحك وآبت ضحكتي إلى سكوت مفاجئ؛ فقد نظرت إلي بعينيها الواسعتين السوداوين وفيهما حيرة وقلق وقالت: ما بك؟
قلت: لا شيء.
وأكملت الضحكة.
وحين كنت أغادرها في ذلك اليوم كانت نقط سوداء دقيقة كرءوس الدبابيس تغزو إحساسي الواسع بالنشوة والسعادة. •••
وكان اللقاء الثالث مهما؛ فقد كان اللقاء الذي يجب علينا أن نفترق فيه؛ إذ كنت قد ناقشت موضوعها مع شوقي رئيس التحرير، واقترحت عليه أن باستطاعتنا أن نجعلها تعمل في الترجمة وتشارك في الإشراف على قسم المرأة والطفل، وهز شوقي رأسه بطريقة أدركت معها أنه لا يقيم وزنا كبيرا لاقتراحاتي وإن بدا موافقا عليها كل الموافقة، وأدركت أيضا أنه قد يكون لديه خططه الخاصة للاستفادة بمجهودها ومجهود زميلتها، كل ما قاله لي أن طلب مني أن أحدد لهما موعدا يلتقيان فيه به، وأترك التصرف له.
ولأمر ما لم أكن أعتقد - حتى قبل أن ألقاها - أن لقاءنا هذا سيكون اللقاء الأخير. لماذا؟ لأني كنت متأكدا من هذا، هي التي أكدته لي، لم تؤكد لي بكلامها؛ فكلامنا - كما قلت - لم يكن قد تعدى حدود المعرفة التي تزداد متانتها يوما بعد يوم، ولكنها قطعا لن تتعدى الحدود، معرفة كانت تضطرني لأن أناديها بلقبها وتناديني بلقبي، وأسلم عليها وأمشي بجوارها أو أجلس معها وأنا مؤدب جدا، أعاملها وكأني في حضرة مجتمع كامل يحصي علي حركاتي وسكناتي.
ولكن تلك كانت معاملتنا الظاهرة وحديثنا الظاهر، وأهم من ذلك الحديث وأوقع، أهم من اللسان كان الإحساس، الترمومتر الدقيق الذي لا يخطئ أبدا؛ فقد تقول لك المرأة نعم، وتحس أنها تقول لا، وحينئذ لا تعاملها أنت على أنها تقول نعم. إنك هكذا وبطريقة تلقائية محضة تعاملها بهذا الإحساس الذي يخامرك تجاهها.
كنت قد أحسست أنها تقترب مني مثلما أقترب منها، وأنها معجبة بي مثلما أنا معجب بها، ولم يكن إحساسي يستند على غير أساس، ولكنه أساس لا يمكن قوله أو حكايته أو التعبير عنه، التصرفات والكلمات الكبيرة الواضحة المحددة المعالم هي فقط التي يمكن أن تحكيها أو تقولها، ولكن كيف تستطيع أن تحكي ما يصاحب تلك التصرفات والكلمات، الأشياء الدقيقة التي لا تظهر إلا لتتلاشى، وإذا تلاشت فلا تستطيع مهما حاولت أن تعيدها إلى الوجود بمسميات أو ألفاظ؟ كلمة أشكرك مثلا كلمة محددة تعبر عن تصرف محدد ممكن التعبير عنه وتصوره، ولكن الطريقة التي تقال بها ... لمعة العين التي قالتها ومقدارها ووجهتها. مكان خروجها وهل جاءت من طرف اللسان أم صدرت عن الأعماق، نوع الصوت الذي تقال به ورنينه ومداه، السرعة التي قيلت بها والوقفات التي جاءت أثناء حروفها، وتسبيلة الجفن التي نتبعها أو قد تسبقها أو قد لا تحدث أبدا، تلك الأشياء الدقيقة التي لا تكفي كل الحواس لاستقبالها، وليس الذكاء وحده هو الذي يترقبها ويدركها.
تلك الأشياء كانت قد أكدت لي أنها هي الأخرى لن تقبل أن تنقطع علاقتنا.
ولهذا كان اللقاء الثالث مهما.
كان مفروضا أن نلتقي في محطة باب اللوق ويقطع كل منا تذكرة مستقلة، ثم نجلس متجاورين في القطار «صدفة»، ونتحدث وكأننا تعرفنا توا ودون أي تدبير.
وحيث لمحتها قادمة في عصر ذلك اليوم أحسست بأن قلبي دق دقة غير عادية، وأن سخونة قصيرة مفاجئة اجتاحتني وكدت أرتجف لما حدث لي، ولكني تحركت إلى شباك التذاكر وفي جسدي نشوة، وأخذت التذكرة وتلكأت حتى رأتني، ثم انتظرت حتى أصبحت على بعد أمتار مني، ثم ركبت القطار، ووجدت أول عربة مزدحمة فغادرتها إلى ثاني عربة وإلى الثالثة والرابعة، عساي أعثر على مقعدين خاليين متجاورين، بلا فائدة. ووقفت في آخر العربة الأخيرة وأدرت وجهي. كانت قادمة! ومرة أخرى وجدت قلبي يدق والسخونة تغمرني وتتركز في باطن يدي، وسمح لنا ازدحام القطار أن نقف متقابلين ونتحادث، وسمح لنا بأكثر مما كنت أطمع فيه؛ فقد ظللت أتأمل وجهها طوال ساعة لم أرفع عيني عنها، وأدركت كم هو جميل! ولكن جماله لم يكن يعني في انجذابي لها شيئا كثيرا أو قليلا؛ فحتى لو كان أقل جمالا لما اهتزت سرعة انجذابي لها، ولكنه حقيقة كان جميلا جدا، ومعظم اليونانيات - على الأقل معظم اليونانيات المقيمات في مصر - لا يتمتعن بجمال وافر، وما عليك إلا أن تستعرض تلميذات المدرسة اليونانية وهن خارجات، معظمهن عاديات أو كالعاديات، ولكنك حتما ستعثر على واحدة من كل مائة أو ألف، واحدة وكأنها احتكرت جمال المائة أو الألف. كان وجهها صغيرا مستطيلا ليس أكبر من وجه أية تلميذة من تلميذات المدارس ولكنه أبدا ليس وجه تلميذات؛ ففيه جمال السيدات، الجمال الناضج الدقيق الطازج. لون وجهها نفسه يحير العقول؛ فالحمرة فيه حين تختلط بالبياض تصنع لونا مختلفا تماما وكأنه لون جديد لا هو الأحمر أو الأبيض، ولا هو الوردي أو القمحي، لون غريب ممكن أن نسميه لون الحياة لو أمكن أن يكون للحياة لون. وجه حي متفاعل، وعينان سوداوان ذكيتان تريان كل شيء ولا تغفلان عن البادرة حتى لو خطرت البادرة في عقل، عينان لا تكتفيان باستقبال المرئيات ولكنهما دائمتا البحث عن كل ما يرى أو يلمح. وشعر أسود، والشعر الأسود نادر في الأوروبيات، ولكنه كان غزيرا فيها، يجعل وجهها أكثر حمرة وبياضا وحياة، ويجعل عينيها أكثر تأثيرا وأعمق نفاذا.
واعذروني إذا توقفت عند وجهها؛ فمن منا إذا تذكر الوجه الذي لوعه وغير مجرى حياته وأذاقه أحلى ألوان السعادة وأمر الألم، من منا إذا تذكر ذلك الوجه لا يتوقف عنده؟ ومن غيرنا أقدر على تذكره ووصفه وتحديد كل دقيقة من دقائقه؟ وجوه من الجائز جدا أن تكون قد تغيرت وتغضنت أو ملأتها التجاعيد، أو حتى انتهت وصارت ترابا، بل وجوه من المؤكد أنها تغيرت وانطمست معالمها القديمة، ولكن خيالنا وذاكرتنا هي المكان الوحيد الذي لا تزال فيه تلك الوجوه ثابتة على حالها محتفظة بكل ما كان لجمالها من جمال ولأصحابها من إشراق، من غيرنا أقدر على أن يتذكر تلك الوجوه؟
وقفنا في القطار متقابلين وتحادثنا، وكنا نتحادث بهمس خافت لا أدري لماذا؟ بل حتى الاحتياطات المبالغ فيها التي اتخذناها لنلتقي لم أكن أعرف لماذا اتخذناها؟
وكان مفروضا أن ينتهي الحديث قبل المعادي مثلا، فأهبط أنا أو تهبط هي لآخذ أو تأخذ القطار العائد، ولكن المعادي جاءت ولم نكن قد تحدثنا في أي شيء جدي. وحتى بعد المعادي لم نتحدث ذلك الحديث الجدي الذي كان لا يتعدى أن أحدد معها موعدها مع شوقي وينتهي كل شيء، هي أيضا كانت تعلم أن لقائي بها لم يكن له هدف آخر سوى تحديد ذلك الموعد، ولكنها هي أيضا التي مضت تتحدث عن نفسها وعن حبها للموسيقى، وعن أمها المريضة بالأورام الليفية، وكيف يجب أن تجرى لها عملية، وصحتها الضعيفة التي لا تحتمل العملية، حديث غريب لإنسان مفروض أنها لآخر مرة.
وقلت لها: أتعلمين أن هذا هو لقاؤنا الأخير، ومن العجيب أني ما زلت لا أعرف اسمك؟
والواقع أني لم أرد أن أسألها ذلك السؤال لمجرد رغبتي في معرفة اسمها؛ فالاسم مهم لتعرف صاحبه، فإذا عرفت صاحبه لم تعد للاسم تلك الدرجة القصوى من الأهمية. كنت أسألها ذلك السؤال وأنا أعلم تماما أن من الممنوع منعا باتا أن تقول اسمها الحقيقي؛ فالمجلة وجماعة تحرير المستعمرات نفسها كانت تطارد وتقاوم في كل مكان، وأجهزة البوليس السياسي في ذلك الوقت معبأة لتعقب أفرادها ومعرفتهم والنفاذ إلى داخل الجماعة لتحطيمها وتخريب عملها، وأن يتبادل كل منا اسمه الحقيقي مع كل من هب ودب خطأ قد يصل إلى مرتبة الجريمة.
ولكن لا أدري أي هاتف حدا بي أن أتخذ ذلك السؤال مقياسا أعرف به مدى قربها مني ومدى حرصها على إرضائي، ومعرفة ذلك المدى كان شيئا مهما؛ فمع أن إحساسي وشعوري الداخلي كان يؤكد لي أنها لن تمانع في لقائي بعد هذه المرة لو طلبت منها أنا ذلك اللقاء، إلا أنني كنت مثل كل الناس لا أثق تماما في مداركي الغريزية تلك ولا أطمئن إليها. وليتنا نثق فيها دائما ونطمئن إليها.
أحببت أن أختبرها وأعرف مدى استعدادها فسألتها، وحين انتهيت من سؤالي وجدتها تبتسم، والابتسامات ليس لها كلها معنى واحد، يخيل إلي أن كل ابتسامة يبتسمها الإنسان في أية لحظة من حياته تختلف دائما عن أية ابتسامة أخرى. وكل ابتسامة لها معنى، وما أكثر المعاني التي أحببتها في ابتسامتها في تلك المرة! كان فيها خليط ناعم جدا من الدلال والتبغدد، وفرحة الأنثى حين تلمح اهتمام الذكر، وثقة المرأة حين تحس أنها عوملت كامرأة، وأخيرا قشرة سطحية من التردد سببها لا بد هو ذلك العرف المتواضع عليه ألا يذكر أحد اسمه الحقيقي لأي إنسان آخر.
ابتسمت تلك الابتسامة الجامعة وقالت: ولكنك تعرف أن هذا ممنوع.
قلت: أعرف؛ ولهذا أترك الأمر لك، أنت حرة وفي استطاعتك ألا تخبريني.
واتسعت ابتسامتها دون أن تبهت معانيها وقالت: هناك حل وسط.
قلت مبتسما أنا الآخر: وما هو يا سيدتي؟ - لا أخبرك أنا به، تخبرني أنت. - كيف؟ - ألا تستطيع أن تخمنه؟
قلت بفرحة: جدا، لا بد أنه ... انتظري، لا بد أنه لورا.
وبوجه مبتسم وملامح هادئة تحاول إخفاء سرورها حركت رأسها يمينا ويسارا في بطء علامة أني فشلت، وخمنت مرة أخرى وظللت أخمن، كل الأسماء الأجنبية التي أعرفها قلتها، وكلما رأتني أكدح ذهني وأبالغ في تمثيل أني أكدح تزداد ابتسامتها اتساعا وتزداد المعاني التي تحملها وضوحا.
وطال تخميني وأدركت هي أني حائر فعلا وسعيد بحيرتي؛ إذ كنت قد وثقت أنها نجحت في الاختبار، وأن شعوري الداخلي لم يخطئ، وأنها تريدني فعلا أن أعرف اسمها الحقيقي وأن ألقاها، واعترتني قشعريرة فرحة لذيذة، فرحة يقيننا من ثقتنا وفراستنا، خاصة إذا صدقنا في أحب وأهم موضوع يشغلنا. ومضيت أجهد نفسي أكثر وأستعذب ذلك الإجهاد الذي كنت متأكدا أنه لن يطول، وأنها إن عاجلا أم آجلا ستخف لمساعدتي ؛ فالمرأة حين تريدك وتشير إليك من طرف خفي أن تتبعها، وتتوانى أنت وتحتار وترتبك، لا تستطيع أن تصبر طويلا، ولا بد بطريقة أو بأخرى أن تريك الطريق، ولكنها تفعل هذا من طرف خفي أيضا.
وقالت ردا على عديد الأسماء التي ذكرتها: لا لا، إنه مكون من مقطعين مثل اسمك.
ورنت إجابتها في نفسي رنينا حلوا، هي إذن مهتمة باسمي وتعرف أنه من مقطعين، بل حتى لم أقف مرة لأتأمل اسمي، والمرات القليلة التي فعلت فيها هذا كنت أضيق به وأتمنى لو كان لي غيره، ما أكثر ما تمنيت لو كنت قد سميت باسم جميل جذاب مثل أسماء أبناء كبار الموظفين الذين كانوا معنا في ابتدائي وثانوي، الأسماء الجميلة التي كانت شائعة في ذلك الوقت: مجدي وعفت وفاخر وماجد، بل جاء علي وقت كانت منتهى أحلامي في السعادة فيه أن أملك اسما كاملا موسيقيا مثل «رائف شيرين» مثلا أو «جمال كامل». وكم يضايقني من أبي أنه سماني يحيى على اسم ذلك المرشح الوفدي في الانتخابات التي ولدت أيامها، وكانوا يهتفون له ويقولون: «عاش الدكتور يحيى»، وكان حكيمباشي سابقا في عاصمة المديرية، وسماني أبي باسمه عساي أن أصبح مثله. ولم تنسجم يحيى أبدا مع بقية اسمي، وظللت كلما نودي علي وقال أحدهم «يحيى مصطفى طه» أحس بالخجل وكأن ثلاث طوبات قد خرجت من فم الناطق وجرحت آذان المستمعين.
وربما كانت تلك أول مرة أحس بالسعادة لأن اسمي يحيى، ولأنه مكون من مقطعين: «يح ... يى»، ومن قائلة هذا؟ هي. واسمها هو الآخر مكون من مقطعين. يا لها من قرابة! على الأقل خمسمائة مليون من سكان العالم أسماؤهم مكونة من مقطعين، ومع هذا فلمجرد إحساسي أن اسمينا ينتميان إلى هذا الرقم الهائل جعلني أحس بنشوة، وخيط يصلني بها، أي خيط ولو اشترك معنا في القربى خمسمائة مليون، ولم أكن أنا وحدي المنتشي، كنت أنا وهي في لحظة من تلك اللحظات التي يفنى فيها الإنسان في الآخر، وفي تقاطيعه وفي حديثه وابتساماته ودلاله، في لحظة من اللحظات التي تنسى الدنيا كلها وما فيها، وتنسى من أنت وابن من أنت، وماذا كنت في الماضي وماذا ستصنع للمستقبل، في لحظة من تلك اللحظات التي تخدر فيها جسدك كله بالنشوة ولا يبقى واعيا فيها إلا حواسك التي تستقبل وذلك الجزء الصغير من عقلك الذي يعمل، ونشوان وهو يعمل، يرتب إجابات جميلة وأسئلة أجمل، في اللحظة التي لا يمكنك أن تكذب فيها أو تمكر، والتي لا تفعل فيها إلا أن تتجاوب، تحس ما يريده الطرف الآخر ويحس الطرف الآخر بما تريد، وتجيبه إلى طلبه ويجيبك إلى طلبك، وكل همك أن تطيل ما أمكنك، وأن تجمل كل شيء حولك، وأن تمتص حواسك كل ما يقع أمامها ولها وتختزنه كالكنز النادر في أعماقها، وكأنك تعلم سلفا أن تلك اللحظات لا تدوم، ولا بد أن يأتي وقت يصبح كل ما في استطاعتك أن تفعله فيه أن تقلب أعماق نفسك بين الحين والحين، وتدفئ وحدتك وسنينك والعالم الذي تغير من حولك على لحظات مثلها عشتها يوما ما.
ولم نحس إلا بالكمساري وهو يزاحم الوافدين ويدق على الأرائك ويقول: حلوان.
وفي اللحظة التالية كنا نضحك، وكنا قد اتخذنا قرارا، أن نظل في العربة لا نغادرها حتى يعود القطار نفسه إلى القاهرة.
وبعد دقائق كانت العربة قد خلت تماما من كل ركابها، ولم يبق سوانا، وجاء عامل التنظيف وتمحك، ولكنه كان بعد قليل يحضر لنا مشروبا مثلجا من البوفيه وعلى فمه ابتسامة الموافقة والترحيب.
وحين أصبحنا وحدنا تماما قلت: بطل حزري.
قلتها بالعامية، فاندهشت وسألت بالإنجليزية: يعني ماذا؟ - يعني انتهت كل مقدرتي على التخمين.
ولكني لم ألبث أن هتفت: أتعلمين شيئا؟ - ماذا؟ - لا بد أن اسمك فينوس.
فقالت وهي تعرف إجابتي سلفا: لماذا؟ - لأن لا بد أن اسمك على اسم جدتك، فقطعا أنت من أحفادها، لا بد أن يكون اسمك فينوس، وإذا لم يكن كذلك فلا بد أن يغيروا اسم فينوس ويطلقون عليها اسمك. - مجاملة، المصريون كلهم يجاملون.
قلت: لا بد أنه أفروديت إذن، ولو أني لا أفضله.
قالت: ولا هذا أيضا. اسمع!
وقالت اسما لم أسمعه، وربما فعلت هذا لتنقذني من حيرتي التي كنت لا أود أن أنقذ منها. وسألتها مرة ومرتين وثلاثا حتى استطعت أن أسمعه منها جيدا وأحفظه، وقلت أخيرا: إكسانتي؟ أو زانتي؟ - إكسانتي، وللسهولة يسمونني سانتي، ألا ترى أنه مكون من مقطعين كاسمك؟
وسألتها إن كان اسمها يعني شيئا باليونانية؛ ففكرت هنيهة وضمت فمها تلك الضمة التي أحبها منها، الضمة التي تذكرك أن لها فما صغيرا دقيقا كنت قد نسيته لفرط دقته وصغره، الضمة التي تبرز شفتيها وتكرز حمرتها وتصنع لهما عشرات التجعيدات الدقيقة المتقاربة المحتقنة ذات المعنى الجسدي الذي ينسيك حتما ما كنت تريد قوله، ويجفف حلقك ويلهب أنفاسك. وقالت: صعب ترجمته، ولكنه شيء يعني الفتاة ذات اللون الأبيض، أو الفتاة الشقراء، أو على وجه الدقة، الفاتحة.
قلت وأنا أسترد نظراتي: يعني البيضاء؟ - شيء كهذا. - اسم جميل. - وكيف عرفت أنه جميل؟ - لا بد أنه كذلك. - مرة أخرى، الطريقة المصرية للمجاملة.
ضحكت وقلت: تقصدين مجاملة سخيفة.
قالت على الفور: أبدا، مجاملة لذيذة جدا.
قلت: شكرا على الطريقة اليونانية للمجاملة.
وضحكنا وتلفتنا. كان القطار قد غادر حلوان إلى المعادي، غادرها ولم يبق إلا الجبل ومحاجره لنصبح في القاهرة، ودق منبه غريزي في صدري دقات قلق، ولكني تصنعت الهدوء وسكت، وسكتت هي الأخرى ذلك السكوت الذي ينتظر كل طرف فيه أن ينبئ الآخر ويستعد لما يقوله، سكوت أحسست أن كلا منا يجهز فيه كلاما متعمدا يقربه من الآخر.
وقلت لها: إذن، لن نتقابل بعد الآن؟ - أجل، مفروض هذا. - شيء مؤسف. - مؤسف.
ثم برقت عيناها وقالت فجأة كأن وحيا هبط عليها: اسمع. وقالتها بالعربية، و«اسمع» حين ننطقها نحن شيء، وحين نطقتها كانت شيئا آخر، أعذب «اسمع» سمعتها في حياتي. - اسمع، من شهرين كنت قد بدأت أدرس اللغة العربية، وقد انقطعت الدروس الآن، هل ... هل ممكن؟
وقلت أستحثها دون أن أعرف ما هو ذلك الممكن: ممكن جدا ماذا؟ - هل ممكن أن أعتمد عليك في إكمالها؟
وطبعا كانت تعرف أنها تستطيع أن تعتمد علي.
والمشكلة التالية كانت مشكلة عملية محضة، مشكلة المكان؛ فقلت وأنا أحمل كلامي معنى التردد وشكله، الاقتراح الذي لا أحرج كثيرا إذا رفض: هل ممكن أن تأخذي الدروس عندي؟ هل ... هل ممكن؟ - عندك؟ - أجل. - ولكنك مع عائلتك. - أنا أسكن وحدي. - في بنسيون؟ - في شقة.
وانقطعت حلقة أسئلتها وسكنت قليلا، فسألتها: هل يمكنك؟
وكنت أسألها وقلبي يخفق خوفا من أن ترفض أو تتحجج أو تنتحل أعذارا، ولكن كان شيء ما يؤكد لي أنها لن ترفض، شيء يستحق ثانية تأمل؛ فالإنسان منا ما يكاد يسأل نفسه: ترى هل هذه بغيتي؟ ويراها فعلا بغيته، حتى يبدأ في الاقتراب منها مادا ثقته بنفسه كقرون الاستشعار أمامه، وهي قرون حساسة جدا، إنها لا تمتد أنملة واحدة إلا إذا أحست برضى من الطرف الآخر، وليس للرضى شكل معين، ولا يستطيع الإنسان أن يلمسه متبلورا في شيء محدد، هو ليس حالة تصاحب حركات الطرف الآخر مصاحبة خفيفة.
الطريق دقيق جدا، ذلك الطريق الذي يفصل بين الرجل والمرأة ويصلهما، وكل منهما يسلكه باحتراس شديد. إن الرجل وهو يطلب المرأة كالصبي حين يحاول الإمساك بفراشة، إنه يقترب منها في حذر مبالغ فيه مخافة أن يأتي بحركة غير مقدرة ومحسوبة تجعلها ترف بجناحيها وتطير.
وهكذا كنت وأنا أقترب من سانتي؛ فنحن حين نعثر على بغيتنا يتعاظم خوفنا أن نفقدها، نحن لا نتعلم الحب في المدارس، وكل منا يطلب بغيته وهو جاهل بالطريق إليها، وكل جنس له طبعه وغرائبه، وكل جنس يجهل طبائع الجنس الآخر، وكلنا نفعل هذا بلا خبرة ولا معلم أو مرشد؛ فكل تجربة قائمة بذاتها لا يصلح لها ما يصلح لأخرى.
3
وجاءت سانتي إلى الشقة أول يوم.
ولست أعرف إلى الآن كيف استطاعت الوصول إليها؛ فالطريق إلى بيتي في القسم البولاقي من شارع فؤاد كان صعبا، ولكنها جاءت، وقابلتها بترحاب غامر، وكان مجيئها يعني أن علاقتنا تنمو نموا طبيعيا جدا، وكان هذا يطمئنني تماما كالصبي حين يقترب من الفراشة وهو ضامن أنها باقية على وضعها إلى أن يطبق عليها بأصابعه، ذلك الضمان الذي يجعله ثابت الخطوات ثابت الأعصاب واثقا من نفسه، بحيث تدفعه تلك الثقة إلى نوع من الهدوء لا يجعله يأتي بحركات هيستيرية تطير منه الفراشة.
وتعودت سانتي أن تأتي، وفي كل مرة يزداد اقترابنا، كانت غبطتي لمجيئها تزداد، وغبطتها تزداد أيضا، وبنفس الأهداف، فلا أعرف أنا سر انجذابي نحوها أو هدفه، ولا أعرف أيضا سر موافقتها على هذا، بل وانجذابها هي الأخرى، لم يكن يبدو عليها أنها من ذلك النوع المغامر أو المتساهل! العكس كان صحيحا، كانت تبدو دينامو عمل هائل وطاقة حماس لا تفرغ. ولكنني لا أعرف ما حدث في تلك اللحظة الغريبة التي التقينا فيها أول مرة فأخرجتنا عن مدارينا المفروضين وجعلنا نلتقي بلا عمل، ثم نبدأ نختلق الحجج للالتقاء ولتعدده أبدأ متشحبا أضع هدفا لنفسي وأحيطه بضباب كثير؛ فالخجل جزء من طبيعتنا ونحن لا نستطيع أن نواجه حتى أنفسنا بأهدافنا الحقيقية.
وعلى الرغم من غموضه، فقد كنت أمضي ثابت الخطى في الطريق إليه، وهدفي لم يكن أبدا ذلك الطوفان من العواطف الذي انتهت إليه علاقتنا، كان هدفي واضحا وصريحا، مجرد مغامرة حب سريعة خاطفة. والرجل حين يحدد هدفه من المرأة يدفعها إليه واحدة فواحدة، بنظرة مرة، بضغطة على اليد مرة، باصطناع غضبة، باختلاق غيرة، بلوم، بإهمال أحيانا، وتوريط أحيانا أخرى. وهو لا يفعل هذا بوعي؛ فالإنسان منا آلة معقدة غريبة! ضع لها الهدف واتركها تتصرف، وثق أن كل حركة من حركاتها سيكون مقصودا بها الاقتراب من ذلك الهدف.
وحتى بعد أن تحدد الهدف ظللنا نتحرك تجاه بعضنا البعض بانجذاب متساو. ولكن الأوضاع لا تدوم هكذا أبدا؛ فلا بد في آخر كل أمر أن يقوى أحد الطرفين ويصبح هو القطب الغالب فيقف في مكانه ثابتا واثقا من نفسه، متأكدا أن الآخر سائر نحوه، وأنه قد أصبح في تلك العلاقة المسيطر صاحب اليد العليا والكلمة المسموعة.
كانت سانتي تأتي من أجل أن تتقوى في العربي كما اتفقنا . وفي أول يوم لمجيئها أحضرت معها كراسة وكتاب مطالعة من كتب الأطفال. وتحدثنا قليلا، وشربنا قهوة، ثم أخذت في إعطائها الدرس، واستمر الدرس حوالي ساعة وتسلينا به كثيرا، أضحكها من نفسي على دوري كمدرس، وتضحكني من نفسها على دورها كتلميذة، وأحاول أن أوضح ما أريد بالكتابة فلا تستطيع قراءة خطي، وتطلب مني أن آخذ أنا درسا في اللغة العربية، إلى أن انتهى الدرس.
وكنا قد اتفقنا على أن أعطيها الدرس مرتين في الأسبوع، السبت والثلاثاء. وسانتي كانت تعمل، لم أكن أعرف ماذا تعمل بالضبط، ولكنها على أية حال كانت تخرج من عملها في الثانية، فاتفقنا على أن يكون لقاؤنا في الثالثة والنصف. كان ميعادا غير مناسب، ولكنه على ما بدا كان الوحيد الذي يهيئ لنا فرصة أكبر لمده وإطالته.
وكنا أيامها في فبراير، في تلك الفترة التي يتقلب فيها الجو بين الدفء والبرودة، وتتقلب فيها الأمزجة كذلك.
وحين جاءت لتأخذ «الدرس» الثاني جاءت ومعها «الواجب» الذي كنت قد أعطيته لها، ولم تنس أيضا الكراسة وكتاب المطالعة.
ولم يستغرق الدرس هذه المرة إلا الوقت الذي «صححت» فيه الواجب، وأعطيتها «عشرة على عشرة» رغم أنف كل ما كان هناك من أخطاء، وكنا نتحدث قليلا ثم نبدأ الدرس، ولكنا تحدثنا كثيرا ولم يبدأ الدرس في ذلك اليوم أبدا. وفي حديثنا لا أذكر أن جدلا نشب بيننا حول أي شيء، كانت أحاديثنا تجاوبا لا غير، نتحدث في السياسة فإذا برأيها هو نفس رأيي، وحتى ما يعن لي من نقد هو نفس ما يعن لها، ونتحدث في الموسيقى فتقول: إنها تحب موزار، ولا أكون قد سمعت من موزار إلا قطعة أو قطعتين فأؤكد لها أني أحبه أنا الآخر ومتعصب له.
ومع أن الدروس انقطعت بعد هذا الدرس الثاني الذي لم يبدأ، إلا أننا اقترحنا أن نزيد عدد الحصص إلى ثلاث مرات في الأسبوع «لنسرع» في البرامج أكثر. ولا أذكر من منا هو الذي اقترح هذا، ولكن الأكيد أن كلينا تحمس للاقتراح ووافق عليه في الحال .
كنا نقترب كما قلت بانجذاب رائع متساو.
إلى أن كان يوم!
كانت سانتي تأتي في العادة حوالي الثالثة والنصف، وكنت أيامها قد افتتحت عيادة صغيرة، وكان وقتي موزعا توزيعا يكاد يكون كاملا بين العمل كطبيب لورش السكك الحديدية في الصباح والعمل في العيادة ابتداء من السادسة مساء، ثم العمل في المجلة إلى ساعة متأخرة من الليل. ودونا عن بقية ساعات الأيام كلها كانت الساعة الثالثة والنصف من أيام السبت والثلاثاء والخميس (وهي الأيام التي اتفقنا أن تأتي فيها)، قد أصبحت لدي شيئا حبيبا. أصبحت تلك اللقاءات وما نتبادله فيها من حديث واحة جميلة أحن إليها هربا من جفاف حياتي. وأنى لي أن أعرف أني بتلك الواحة كنت أجتاز أسعد أيام العمر؟! فنحن لا نسعد إذا استرحنا دائما، نحن نسعد بساعة الراحة إذا جاءت في وسط يوم كامل أو ربما حياة كاملة من الشقاء، نسعد بها سعادة مبالغا فيها كتلك التي يحسها الضارب في الضارب في الصحراء حين ينتهي إلى واحة يرى في نخيلها القليل وبئر مائها المهدم جنة تضارع جنان الخلد.
وذات يوم دق لي شوقي تليفونا في مكتبي بالورش وقال لي إن البوليس قد صادر المجلة، وإن علي أن أحضر في الحال. وذهبت وكنت متأكدا أني حتما سأستطيع الرجوع إلى البيت قبل حلول موعدي مع سانتي بوقت طويل، ولكن الموضوع تطور، وعرضت المجلة على النيابة وطال التحقيق، وجاءت الثالثة والنصف والرابعة والخامسة دون أن ينتهي وأنا رائح غاد لا أستطيع حتى الاعتذار، والنيران تأكل قلبي وأنا أتخيلها تنتظر على مضض هي الأخرى، ثم وأنا أتخيلها تنصرف ضيقة بي وبقلة ذوقي.
وعدت إلى البيت في التاسعة مساء متعبا منهكا حزينا، غير أني فوجئت بأعجب شيء؛ فقد وجدت النور مضاء في شقتي، والشقة كنت أقطنها وحدي ولها مفتاحان: واحد معي والآخر مع أم الطلبة، وأم الطلبة تعبير لا أدري من أطلقه على أم عمر، فذهب مثلا. والواقع أنه كان لا يخلو من حق؛ فأم عمر أرملة صعيدية خشنة المظهر والصوت والسواعد ، عمرها تاه فيه الحاسبون، ولكنه لا يمكن أن يقل عن الخمسين، ومع هذا فقد كان لها عنفوان رجال الصعيد وأمانتهم. كان أكبر غسيل لا يأخذ من يديها القويتين أكثر من ربع ساعة، وأضخم شقة تنظفها وتمسحها إذا احتاج الأمر تلحسها في دقائق؛ ولهذا فقد كان من الطبيعي جدا أن توزع طاقتها الجهنمية؛ فكانت تعمل في وقت واحد عند أكثر من عشرة من الطلبة الأغراب الذين يسكنون بمفردهم، كل واحد منهم أو كل اثنين في حجرة، بل قيل إن عدد من تعمل لديهم غير معروف؛ فهي تحتفظ به سرا حتى لا يطلع أحد على إيرادها، ذلك الإيراد الذي زعم البعض أنه يكفي لشراء عمارة أو عدة فدادين، وبعد أن تخرجت وسكنت في تلك الشقة في بولاق، وتخيلت أني انتهيت من أم الطلبة وحياتهم وشظفها، فوجئت بها ذات يوم تطرق على الباب كالقدر المحتوم وتعاتبني بشدة على أني هربت منها، وهكذا وضعتني أمام الأمر الواقع، واضطررت أن أعود لاستخدامها.
عدت كما قلت فوجدت الشقة مضاءة، وفتحت باحتراس فوجدت أم الطلبة جالسة على كرسي في الصالة جلسة كادت تميتني من الضحك - فتلك أول مرة كنت أراها فيها جالسة على كرسي - وكانت جلسة غريبة ما في ذلك شك؛ فقد كانت جالسة وكأنها غير مطمئنة أبدا إلى هذا الشيء ذي الأرجل الأربع الذي من المحتمل جدا أن يسقط قاعه، جالسة وكأنها تعاني من أزمة أو من إمساك. وقبل أن أفتح فمي وجدتها تنتصب واقفة وتقول بصراخها الطبيعي: تعملها فينا يا بوي وتسيب المزمازيه إكديه!
ولم تكن «المزمازيه» غير سانتي التي ما كادت تراني حتى هبت واقفة منزعجة تسألني عما حدث، وعن سبب غيابي الطويل.
وردت إلي الروح.
وبينما كنت أحكي لها بكلمات مشتتة مختصرة كل ما حدث، كانت فرحة غامرة تجتاحني؛ إذ أدركت لحظتها أني أستطيع أن أقف في مكاني ثابتا ممتلئا بالاطمئنان والثقة، وأنها سائرة بخطى واسعة في طريقها إلي، ويوم وصولها قريب.
وقد تبدو حادثة بسيطة كهذه شيئا تافها، ولكن معناها ظل يضطرم في نفسي طوال ليلتها، وأنا راقد في الفراش محموم تلك الحمى النفسية التي لا تعتري الإنسان إلا في لحظات خاطفة من حياته، اللحظات التي يحس فيها بالسعادة شيئا ماديا ملموسا يمور في جسده ويؤججه ويتقلب على دفئه.
وكان اليوم التالي يوما من الأيام التي لا تأتي سانتي فيها، ولكني لم أفاجأ كثيرا حين وجدت الباب يدق في الثالثة والنصف، ووجدتها هي الطارقة، بل لم أفاجأ أيضا حين أصبحت تأتي كل يوم تقريبا، لم أعد أفاجأ أو أضطرب أو أتكلف، بل أصبحت مستمتعا غاية المتعة بذلك الموقف الذي كنت أقفه، الموقف الذي لم يكن علي فيه إلا أن أثبت في مكاني ولا أتحرك، وأنتظر تاركا نفسي على سجيتها وأنا ضامن أن كل تصرف من تصرفاتي حيالها سيكون مقبولا ومحبوبا ومرادا، وأني قد أصبحت السيد.
غير أنه يبدو أن مفاجآت من نوع آخر هي التي كانت تنتظرني؛ إذ بدأت ممرضة المستوصف المجاور لشقتي تغير من كثرة تردد سانتي، قالت لي وأنا صاعد في السلم ذات يوم وهي هابطة عندما حاولت مداعبتها: اوعى كده.
ولم أتراجع، ووقفنا نتحدث وأنا أتحين الفرصة المناسبة وأعود لمداعبتها، ولكنها في النهاية قالت وفي ملامحها اشمئزاز مصطنع: ما تروح أحسن لحتة الخوجاية بتاعتك اللي بتجيلك كل يوم، أنا عارفة بتحبوهم على إيه؟ دي مشيتها حتى زي مشية شيتا.
وأكملت صعود السلم وأنا في كلام البنت التي لا أذكر اسمها، والذي كل ما أذكره عنها أنني ما كدت أعرف أن مستوصفا سيفتح في الشقة التي خلت بجوار شقتي حتى بدأت أفكر في التعزيل فورا، ولكن كسلي ومشقة التعزيل حالتا دون تنفيذ رغبتي، وأصبح كل همي أن أتحايل على نفسي لإقناعها بفوائد وجود مستوصف بجواري، فوائد ليس أقلها وجود ممرضة جميلة فيه، ولكني حين رأيتها خاب أملي؛ فلم تكن أكثر أو أقل من مصرية قصيرة القامة، قمحية، وجهها مشرب بحمرة وبحب شباب، وكانت أحيانا تأتي إلى المستوصف مرتدية ملاءة لف وحينئذ كانت تبدو أحلى وأجمل، وفي أحيان أخرى كانت تأتي وهي مرتدية «جونلة وجيب» لم يكن من المستبعد أبدا أن تكون هي التي صنعتهما لنفسها.
ولم يكن صعبا أن أعرفها وتعرفني؛ فالطبيب الذي يعمل بالمستوصف كان زميلي، وكنت أحيانا أزوره وأراها في أثناء الزيارات، والأطباء الشبان لهم طريقة خاصة مجربة في التفاهم مع الممرضات والحكيمات، ولهم خبرة في بدء الحديث بالكلام عن السينما والأفلام وإنهائه بقرصة في الخد أو زغدة في الكتف. ودائما ليس لدى الممرضات مانع طالما هن بنات لم يتزوجن بعد، وما دام الطبيب المعاكس شابا لم يتزوج هو الآخر؛ فحلم الواحدة منهن الدائم أن تتزوج من طبيب.
ولا أعرف لماذا كنت أداعبها كلما قابلتها على السلم، كل ما أذكره عنها هو وجهها المنتفخ الأحمر وعيناها الصغيرتان السوداوان، وحب الشباب بالذات في وجهها. حب الشباب كان يقف حائلا بيني وبين استلطافها كلية، والمشغوليات الكثيرة ودوامة العمل كانت تمتص كل طاقاتي بما فيها تلك الطاقة الكامنة فينا التي تدفعنا لمناوشة الجنس الآخر أنى وجدناه.
وإذا كانت مشغولياتي قد حالت بيني وبينها، فيبدو أنها هي التي تفرغت لي وعرفت عني كل ما تريد معرفته من أم الطلبة أم عمر، بل لا بد أنها كانت تراقب زواري مراقبة دقيقة.
يومها أكملت صعود السلم وكلامها عن سانتي يرن في أذني رغما عني ويدفعني إلى التفكير فيه، صحيح كنت قد لاحظت أن سانتي تمشي مسرعة وليس لخطواتها ذات الإيقاع الذي تحرص السيدات والفتيات على تعلمه زيادة في تأنيث أنفسهن؛ ولهذا تبدو مشيتها سريعة متوثبة كمشية الصبي المعفرت، صحيح كنت قد لاحظت هذا، ولكن ما فائدة ملاحظته وإعجابي بها يملأ علي كل نفسي ويلغي من عقلي وجود أية فتاة أو امرأة أخرى مهما بدت أروع وأجمل وأكثر أنوثة؟ كل ما فعله كلام الممرضة أنه جعلني أضع في احتمالي أن سانتي، وإن كنت أراها كاملة، إلا أنه من المحتمل جدا أن تكون لها عيوب.
ليس هذا فقط، بل بدأت أفكر في أمور كنت أتجاهل التفكير فيها إلى تلك اللحظة، منها أشياء قد يخجل الإنسان عن ذكرها. صدرها مثلا لم يكن بارزا ذلك البروز الذي ينبئ عن أنوثة مكتملة، وطريقة سلامها مثلا، كانت تقبض على اليد بقوة وحماس وليس في تسليمها رقة المرأة.
أقول: بدأت «أفكر» في هذه الأمور مجرد تفكير، تفكير كل ما كان يفعله أن يزيدني ربما إعجابا بها، وربما لهذه الأشياء بالذات تلك التي يخالها الناس العاديون عيوبا، فحتى تلك اللحظة لم أكن قد سمحت لنفسي أن أتوقف وأتساءل عن كنه علاقتي بها، وهل أنا معجب بها؟ وبأي شيء أنا معجب؟ ماذا أريد منها وماذا تريد هي مني؟ كل ما كان يشغلني في تلك الأيام هو انجذابي التلقائي إليها وحرصي على القرب منها والبقاء أطول مدة معها، وكأنها قطعة موسيقية أو أغنية أحبها وأفضل سماعها دون أن أتلمس لهذا التفضيل أسبابا.
ولم لا أقول الحقيقة كلها وأذكر أن كلام الممرضة قد استغرق جزءا أكبر من تفكيري، وأنني في النهاية آثرت، بل وتمنيت، أن يكون صحيحا، وأن تكون لسانتي عيوب ليزداد أملي فيها؟ فمشكلتي الكبرى كانت أنني لم أكن من ذلك الصنف من الشبان الذين في استطاعتهم أن يتيهوا بوسامتهم على الفتيات، كنت أنظر في المرآة وأجعل عيني رغما عني لا ترى الأشياء التي لا أريدها أن تراها في وجهي وملامحي، الأشياء التي لم أكن أحتاج لرؤيتها لأدرك أنها هناك؛ فقد كنت لفرط إدراكي لها أحفظها عن ظهر القلب.
لم أكن وسيما ولا جميلا ولا يعد وجهي حتى من الوجوه المقبولة الشكل. لم يكن به عيب جوهري، كل ما في الأمر أن ملامحي لم تكن منسجمة، لأمر ما كان فمي يبدو للناظر واسعا كفم البحر إذا انفتح، مائلا إلى الناحية اليسرى إذا انغلق. أجل، كنت حقيقة أراه وكأنه ليس فمي وكأنه عاهة مستديمة أصبت بها منذ الصغر، وكأنه جرح عريض ملتئم يقطع وجهي ويميل إلى اليسار، وملامحي الأخرى لم يكن بها عيب، ولكن هذا الفم بوجوده الدائم بينها لا أدري لماذا كان يشوهها.
وأفظع ما في الأمر كان ابتسامتي، وعشرات الآلاف من المرات وقفت أمام المرآة أبتسم وأحاول أن أصلح الابتسامة وأجملها؛ إذ كنت قد قرأت أن ملامح الإنسان ممكن تغييرها بالتمرين الشاق الطويل. عشرات الآلاف من المرات ابتسمت فيها محاولا أن أجعلها ابتسامة مستقيمة كابتسامات كل الناس، محاولا أن أرفع قليلا ذلك الجزء الساقط منها إلى اليسار بلا فائدة حتى يئست، وتحول يأسي إلى عادة وتحولت العادة إلى نسيان مستمر مستديم لا ينتهي إلا في فترات محددة نادرة. وفي مثل تلك الساعة أو الساعات التي رحت أفكر فيها في كلمات قالتها الممرضة، وربما كانت صادرة عن حقد وموجدة، ساعتها عاد شكل ابتسامتي إلى ذاكرتي، ساعتها تمنيت لو كانت سانتي تمشي حقيقة كشيتا، تمنيت لو نبتت لها فجأة آلاف العيوب.
وبمثل الومضة التي تذكرت بها ملامحي اختفت الذكرى، وبدأت فجأة أنظر للأمور وكأني أصبحت على قدم المساواة مع سانتي، وكأن مشيتها تلغي بشاعة ابتسامتي، وكأننا أصبحنا أندادا، أو على الأقل يجب أن نصبح أندادا. ولكي يحدث هذا، ولكي يثبت هذا، كان علي أن أتوج أهدافي من سانتي بإيقاعها.
وقد يحاول البعض أن يفسر هذا على ضوء علم النفس المضحك ويقول إني كنت معقدا، وإني كنت أعاني من عقدة القبيح الذي يحاول أن يثبت لنفسه أنه وسيم بإيقاع أكبر عدد من النساء، وأي تفسيرات أخرى تقال - وقد تكون صحيحة - ولكن هل تلغي تفسيرات كهذه الحقيقة البسيطة التي تقول إن الرجل بعد أن يقول لنفسه: هذه هي فعلا من أريد، لا بد أن يعود ويقول لنفسه: ما دام الأمر كذلك فعليك بها، أوقعها؟
4
ولم يكن إيقاع سانتي بالأمر السهل.
لم يكن سهلا أبدا أن أتخطى بقفزة واحدة حواجز منيعة تكاد تعادل تلك التي تقوم بين الإنسان وأخته، حواجز الزمالة والعمل المشترك. ولكني كنت أعتمد على الزمن ونمو العلاقة والتأكد بشكل قاطع أنها على الأقل راضية؛ ولهذا حين وجدتها تنتظرني تلك الساعات الطوال وتتلهف على قدومي اعتبرت ذلك الانتظار برهانا أكيدا على اهتمامها الشديد بي وقربها مني. وما يكاد الإنسان يعثر على برهان أكيد أو أرض صلبة مثل تلك حتى تتوالى الشواهد. وهكذا وجدت في مجيئها كل يوم رغبة، وفي قطعها كل تلك المسافات بين بيتها وبيتي واقتحامها ذلك الحي الشعبي الذي أقطن فيه، واحتمالها لنظرات الممرضة وأصحاب الدكاكين المتراصة على الناصيتين، رأيت في هذه كلها شواهد جديدة تثبت لي على الأقل أن رغبتها في لا تقل عن رغبتي فيها.
وزادني هذا ثقة بنفسي، وبالأرض التي أقف عليها.
ثم إن كلام الممرضة كان قد جعلني أبدأ أتأمل سانتي، وأجد أنها كفتاة وكأنثى تكاد، لولا مبالغتي في تقديرها، أن تكون عادية لا يحق لي أن أستكثرها على نفسي، بل حتى من الممكن أن أعتبر أن لي أنا الآخر مزايا يمكن أن تكون غير عادية، وتضاعف رصيد الثقة في نفسي.
وكان هذا مهما؛ فمجرد سؤالنا لأنفسنا: ترى هل نستطيع؟ مجرد السؤال بداية شك في قدرتنا وثقتنا بأنفسنا، وما لم تتدعم تلك الثقة فلن نستطيع الاقتراب خطوة. وهكذا أصبحت سانتي بكل أحاديثها ووجهها المعبر المسمسم وروحها شيئا آخر ما لم تعد ندا أخافه وأخشاه وأعمل حسابا كبيرا لكل خطوة أخطوها ناحيته. أصبحت فريسة جمدتها في مكاني وما علي سوى أن أمد يدي وأتناولها.
وأنا لا أزعم أني كنت أفكر في هذا وأحلله وأتصرف على أساسه. إننا في أمثال تلك المواقف نسمع ونرى ونحس ونقدر، ثم يهدينا تفكيرنا إلى أنسب التصرفات دون تحليل أو تمحيص.
وقالت لي سانتي يوما في أواخر جلسة لنا: رأيت فرقة الأوبرا الإيطالية؟ ولم أكن قد رأيتها أبدا. وحدثتني كثيرا عنها، وأخبرتني أنها تذهب مساء كل يوم لرؤيتها، وأن لديها «أبونيه» لمؤخر الصالة، ورقم كرسيها الدائم 71. وطبعا أبديت حماسا كبيرا لأن أذهب معها في مساء نفس اليوم، واتفقنا على أن نلتقي هناك، وأن علي أن أحاول العثور على كرسي بجوارها.
وأغرب شيء أني بذلت جهود المستميت للحصول على التذكرة، وحصلت عليها ودخلت وأنا لا أعرف «الأوبرا» التي كانت ستعرض في مساء ذلك اليوم، ولا أدري إن كانت «ريجوليتو» أم «عايدة». ودخلت، ومن بين مئات الوجوه المزدحمة في مؤخر الصالة لمحت وجهها الأبيض المحمر النحيف الدقيق الملامح، وأهم من هذا لمحتها تبحث بعينيها في لهفة، وكان من المؤكد أنها تبحث عني وقد قرب موعد رفع الستار. وحين رأتني احتلت وجهها كله ابتسامة رضا وفرح، كادت تكون أعذب وأمتع ابتسامة رضاء لمحتها في حياتي.
ولست أدري ما حدث ليلتها.
كانت الأوبرا تموج بالناس والأضواء؛ ومعظم المتفرجين من الإيطاليين المقيمين في مصر؛ واليونانيين والفرنسيين والأجانب بشكل عام. ومعظمهم سيدات، شابات وعجائز، الشابات جميلات وأنيقات، والعجائز يظهرن وكأنهن شابات، وكلهن يبتسمن ويضحكن، ورواد الصالة والبناور يسخرون بنظراتهم من رواد البلكون وأعلى التياترو، فيقابل هؤلاء سخريتهم بسخرية أشد. والجو يملؤه ذلك الأزيز الأنثوي الذي يصدر عن الجماعة إذا كان معظمها من النساء، والرواد جميعا واضح أنهم في ساعة مرح وتفرغ كامل للاستماع والاستمتاع، لا مشاغل لا تفكير في مشاكل. الابتسامات كثيرة تملأ الأركان، والضحكات أسهل من الكلمات، والأرواح شفافة خفيفة يلونها المرح الدافق بألوان زاهية ساحرة.
وقالت لي سانتي همسا: خفت ألا تأتي.
وقلت وأنا مبهور بالجو الذي حولي، قلت شيئا ما، كلاما من الكلام الذي نسد به خانات الحديث؛ إذ كان تفكيري الأكبر موزعا بين تأمل كل تلك الوجوه الشابة الجميلة، وبين الاستعداد لسماع الأوبرا نفسها وهي تجربة جديدة، وبين استعادة لهفة سانتي على مجيئي وإبقائها حاضرة في ذهني لا تغيب.
وحين أقول اللهفة فإني أعنيها؛ إذ يبدو أن من كثرة استعمالنا لبعض الكلمات فقدت تلك الكلمات وقعها ومعناها. اللهفة التي لمحتها ناطقة بها ملامحها، اللهفة النابعة من الأعماق المتجسدة كيانها كله حتى أصابع القدمين، هذه اللهفة ...
ليلة الأوبرا ...
ما فائدة أن أتكلم عنها؟ إن كل ما حدث ليلتها أشياء لو قلتها لبدت عادية جدا، ولكن الأشياء العادية تصبح في أحيان ذات معان غير عادية بالمرة. اللهفة التي قابلتني بها ممكن أن تكون لهفة الصديقة التي دعت صديقا إلى الأوبرا ثم مضى وقت طويل ولم يظهر له أثر، ولكنها لم تكن كذلك، وقد أطيل ويبدو حديثي مملا، ولكني أود أن أوحي بالفرق، الفرق الدقيق الذي يحس ولا يوصف. إنك تستطيع أن تصافحني عشر مرات، بنفس القوة، بنفس القبضة والضغطة ونفس الترحيب، ولكني أستطيع أن أقول دائما أي تلك المرات كانت أدفأ وأكثر مودة.
ولو كنت قد رأيت أعز الناس لدي يحتل مقعدا في مؤخر الصالة أو في أي مكان من المسرح، لما كنت قد تذكرت الآن أني رأيته؛ فعقلي لم يدر فيه أي شيء خارج سانتي، الفتاة الصغيرة النحيلة التي كانت تجلس على بعد قليل (إذ لم يأت مقعدي بجوارها تماما)، الفتاة التي تعجبني جدا والتي دعتني إلى الأوبرا وتلهفت على قدومي.
في تلك الليلة بدأ إحساسي بملكيتها.
بدأت أحس أن هذه المرأة لي، أو إن لم تكن كذلك فيجب أن تصبح لي وحدي.
وفرق كبير بين أن تكون منجذبا إلى إنسانة أو أن إنسانة معجبة بك، وبين أن تبدأ تفكر فيها على أنها فتاتك وأنثاك.
هو نفس الفرق الذي لم أحس معه بالستار حين ارتفع، ولا الموسيقى حين بدأت تتصاعد وتنتشر في أرجاء الأوبرا كالعطر الصوتي الثمين الذي ينتزع الآهات والأشجان. كل همي كان أن تأتي الاستراحة. كنت أريد أن أحدثها. كنت أريد أن أقول لها رأيي في الليلة والناس والحفلة وفيها. وكنت أريد أن أسمع تعليقاتها على رأيي. وكنت أعرف أنها ستوافقني على كل ما أقول. ولكني كنت متلهفا على سماع تلك الموافقة وهي تخرج من بين شفتيها.
وذهبنا إلى البوفيه وهي تسبقني، وكلانا يحاول أن يجد له طريقا بين الأجساد المتلاطمة المزدحمة. وكنت وأنا أستسمح هذا أن يدعني أمر، وأعتذر لذاك وأبتسم. أحس بنفسي رقيقا دقيقا كوتر الكمان، كلامي موسيقى، وحركاتي أريد أن أحيلها إلى رقصات باليه. إن السعادة أحيانا تخلق من الإنسان شاعرا. ووصلنا إلى البوفيه ووقفنا نرشف أقداح القهوة ونتكلم وأقول لها آرائي وتقول آراءها، وتبتسم كثيرا ونتجاوب بشدة. كان يخيل إلي وهي واقفة أمامي ولا يفصلنا سوى ابتساماتنا والبريق الصادر عنها، ووجهها حلو قد أضفى عليه الليل والأنوار بياضا وحمرة ووسامة، والروج في شفتيها أنيق رقيق كشفتيها . هي تتحدث، وتقول «نعم» أحيانا، وأحيانا تضم شفتيها تلك الضمة التي تبرزها إلى الأمام وتجعدها تلك التجاعيد التي يجف لها الحلق قائلة «لا». كان يخيل لي كلما أفقت أننا أخيرا التقينا. أجل، أحسست تلك الليلة أنها قد أصبحت فتاتي وأنثاي. نظرات عينيها، البريق المشع المتلهف الذي كان يملأ حدقتيها، النشوة وهي ترجف رموشها، الحياة التي تتذبذب وتتلوى في قسماتها. هي بكل ما فيها، بكل خلاياها وانفعالاتها، بردائها الأسود الأنيق، بغطاء رأسها، بتلك «الطاقية» السوداء الجميلة ذات «الطرة» المدلاة إلى ناحية تلامس أذنها ورقبتها وتداعبها، وهي بكل الهالة الحيوية الساحرة التي تحيطها، هذا كله لا يمكن أن يبدو من امرأة إلا لرجل قد وقع عليه اختيارها.
والمهم أني لم أرها على حالة واحدة أبدا. كان شكلها يتغير على الدوام في نظري، ويبدو لي وجهها في كل دقيقة وجها آخر أجمل وأحلى. حتى بريق عينيها كان يتغير في كل ومضة أو نظرة، وكنت مذهولا أحاول عبثا أن أحتفظ لها بصورة واحدة. ولكن ألوانها تختلط بألوان، وبياضا في احمرار دائم متغير، وسواد ثيابها يشع غموضا حبيبا يلفها ويلف الوقفة واللحظة، ووجهها مرة أراه وجها أعرفه وأحفظه، ومرة أراه وجه ملكة من ملكات التاريخ، وجه إلهة من آلهة اليونان، أو جنية من جنيات الأساطير، وأحيانا وجها جديدا تماما أراه لأول مرة في حياتي.
كان الثابت الدائم هو إحساسي أن تلك الإنسانة التي لا تستقر صورتها في خاطري لحظة، لي، ملك خواطري، أنثاي، كل هذا التغير والتبدل من أجلي أنا.
وكانت تتحدث والضوضاء كثيرة، وكانت ترفع فمها إذا تكلمت ليكون قريبا من أذني ومني، وكنت أسمعها وألتهم كلماتها، وألتهم معها إحساسي بأنها لا تتحدث لي ولكنها تناجيني، إحساسي أنها أصبحت جد قريبة وأصبحت راضية وما علي سوى أن أمد يدي وأقطفها، فأحدثها أنا الآخر وأعصابي قد وترتها إشعاعات جسدية صادرة عن قربها مني، ولولا الناس والمكان لما استطعت المقاومة.
وحين كنا نتجول خلال الاستراحة، قابلت سانتي زوجين يبدو أنهما كانا على صلة ما بها. لم يكونا عجوزين ولم يكونا شابين، وعرفتني بهما. وقالت الزوجة بعدما تعارفنا بانبهار: أنت طبيب حقيقي؟
قلت: طبعا.
قالت: لا تؤاخذني، ولكنك تبدو صغير السن جدا على طبيب.
فقلت وقد ملأني كلامها نشوة، أو بالدقة ملأني ذلك الكلام على مسمع من سانتي نشوة حبيبة، قلت: وماذا تقولين لو عرفت أني تخرجت من سنوات ثلاث أيضا؟
ورمقتني السيدة لحظتها بنظرة ما زلت أذكرها، نظرة أنستني ابتسامتي المعوجة وملامحي غير المنسجمة، تلك النظرة التي تقولها المرأة بعد ما تكون قد تخطت السن وتقول بها للشباب: ليتني أصغر أو ليتك أكبر.
وحين انتهت الرواية هبطنا السلم معا، وعند نهايته ودعتني سانتي. ورحت أحتج أنا وأطلب منها أن أوصلها ولكنها أخبرتني أنها ذاهبة مع زوجها الذي يعزف مع الفرقة الإيطالية كلما حضرت إلى القاهرة. ودهشت قليلا ولكن نظرتها وهي تودعني سلبتني دهشتي وملأتني بالسعادة. كانت نظرات من تودع إنسانا حبيبا لتأخذ طريقها إلى حياتها الخالية من الأشياء الحبيبة.
أقول: دهشت قليلا لأني اعتقدت ربما أول مرة قابلتها فيها، أن من غير المعقول أن تكون علاقتي بسانتي علاقة بسيطة من تلك التي تنشأ بين أي شاب وأية فتاة، والظروف التي أحاطت بتعارفنا لم تكن تكفي لإعطاء صيغة خاصة لتلك العلاقة. كان شعوري الداخلي يؤكد باستمرار أن هناك شيئا ما لا أعرفه عن سانتي، ولكنه مهم جدا بالنسبة لعلاقتنا، وكنت أتوقع باستمرار أن يكون شيئا خارقا للعادة، ولم أتوقع، بل لم يطرأ موضوع كهذا على أحاديثنا، لم أسألها إن كانت متزوجة ولم تسألني. كنت أستنكر هذا السؤال عليها ولها كل مؤهلات الصغيرات وقلبهن الخالي.
دهشت قليلا لأني أخيرا عرفت بشكل قاطع ذلك الشيء الذي توقعته دائما، وعرفته بطريقة بسيطة حتى كدت لا أتبينه. سانتي إذن متزوجة، ولها زوج يعمل عازفا في الفرقة الموسيقية ويوصلها في ذهابها إلى الأوبرا وعودتها. لماذا لم تخبرني قبلا؟ ولماذا فاجأتني الليلة؟ أسئلة لم تدر في عقلي إلا متأخرا جدا، بعد ما عدت من الأوبرا واستهلكت تأملي لكل ما أحسسته من متع وبدأت أتهيأ للنوم، أسئلة لم آخذها أبدا مأخذا جديا ولا ناقشتها على اعتبار أنها مشكلة بالغة الخطورة قد تلغي علاقتنا مثلا أو تحيلها إلى علاقة من نوع آخر. فلتكن متزوجة أو أرملة؛ فقد عرفت هذا بعد فوات الأوان، وحتى حين عرفته ماذا بيدي أصنعه؟ أنا لا أريد منها شيئا لا ترضاه هي. أنا لا أريد اختلاس حق زوجها، وأنا لا أريد منها أي شيء بالذات. حتى هي نفسها كان واضحا أنها لا تفعل شيئا من وراء ضميرها أو خلقها، فلماذا أجعلها أنا محط الانتظار؟
ونمت.
وثاني يوم جاءت سانتي.
كانت الساعة قد تعدت الثالثة والنصف، وكانت أم عمر في المطبخ تعد الغداء وتغني بصوت أجش نائح أغنية صعيدية حزينة، وكنت جالسا في حجرة المكتب وحيدا أتثاءب وأسترخي بعد ساعات العمل الشاقة وأستعد لتناول الطعام أو لمجيء سانتي. كفت أم عمر عن الغناء ووضعت كمية من «السبانخ» التي كانت قد انتهت من إعدادها في طبق، وكمية من الأرز في طبق آخر، وأعدت المائدة الصغيرة التي في الصالة، وأخيرا نادت علي وقالت: كل يا بوي بالهنا والشفا، والله طبيخي يا سي يحيى ما يطلع من تحت إيد الخواجات.
وقمت وأنا لا أزال أتثاءب وأعرض على أم عمر أن تتزوجني بالمرة ما دامت تجيد الطهي، وقالت أم عمر: يه يا بوي! يا عيب الشوم! دا أنت اسم الله على مقامك من ولادي.
والغريب أنها كانت تأخذ دائما عروضي للزواج منها مأخذا جادا، حتى لو قلتها وأنا أخرج لساني وأضحك.
وما كدت أبدأ تناول الطعام حتى دق جرس الباب، وفتحت أم عمر وشهقت وقالت: المزمازيه يا بوي.
ودخلت سانتي ضاحكة، ووقفت وقابلتها ضاحكا أنا الآخر، عازما عليها بالغداء، وفوجئت بها تقبل وتوقعني في حيرة عظمى، فلم تكن شقتي مجهزة بأدوات طعام تليق بها أو بأي إنسان آخر سواي. ثم إن الطعام نفسه لم يكن يصلح ليقدم للضيف؛ فهو طعام شاب أعزب يتناول مرتبا لا يزيد على العشرين جنيها إلا بضعة قروش. قبلت سانتي وجلست تأكل معي وأنا خجل أردد تلك الكلمات التي نقولها لنعتذر بها في لهجة مهذبة عن فقرنا وحاجتنا، اعتذارات هدفها أن نبدد عن أنفسنا فكرة الحاجة والفقر، ولكنها مضت غير عابئة بكلامي تأكل بشهية متفتحة وتثني على طهي أم عمر، الواقفة قريبا منا كالديدبان الحارس، المتلهفة على رأي الخوجاية في طهيها، القائلة بعدما ترجمت لها ذلك الرأي: بالهنا والشفا يا بوي، والله يا سي يحيى البنت دي طيبة وباين عليها العز، إنما مش عارفة خايفة عليك منها ليه يا بوي، ما تزعلشي أهو كلام من كلام خالتك أم عمر الفارغ، بالهنا والشفا يا بوي.
وفي الواقع لم يكن هذا أنسب وقت لكلامها الفارغ؛ فقد كنت غارقا فيما أنا فيه من حرج، وفي عشرات الأسئلة التي مضت تحوم في عقلي عن سانتي وكنهها ومن هي وماذا تعمل وما هي حكاية زواجها ذلك.
وانتهى الطعام.
وجلسنا ندخن السجائر ونحتسي القهوة، وهمي كله أن أراقب سانتي وهي تدخن السيجارة وتأخذ الرشفات، ولا أعرف لماذا ننظر إلى المرأة وهي تدخن تلك النظرة الغريبة التي يختلط فيها الإعجاب والدهشة والاستحسان ببعض الاستنكار أيضا. ما أعرفه أني كنت أتلهى بمراقبتها عن الأسئلة الكثيرة التي تتزاحم على لساني لتنطلق وتجد إجابات شافية مقنعة لها. كانت متناقضات كثيرة غامضة تكتنف سانتي. كانت أحيانا تبدو كأنها غنية غنى فاحشا، وأحيانا تبدو في زي الكادحات. كانت تتحدث بالعربية في انطلاق من يعرفها أحيانا، وأحيانا لا تعرف معنى أبسط الكلمات. كانت تقول إنها تعمل، ولا يبدو عليها أنها تعمل أو أن هناك حاجة تدفعها للعمل. وبالأمس عرفت بشكل قاطع أن لها على الأقل زوجا، ومع هذا فلم تذكره مرة واحدة في حديثها معي ويكاد لا يبدو عليها الزواج، وها أنا ذا أتأكد الآن أن هناك دبلة في يدها اليسرى كأن ما رأيتها قبلا.
أسئلة كنت أمنع انطلاقها، وأمنع حديثنا أن يقترب منها مخافة أن تأتي الإجابة عليها أو على أحد منها بعقبة ضخمة تقف بيننا وأوجدها أنا بحب استطلاعي الغبي. لماذا أسألها؟ ولماذا أحاول معرفة أي شيء أكثر من أنها هنا معي، جاءت من أجلي وجالسة تتحدث إلي؟
ولكن الأسئلة التي منعت لساني أن ينطلق بها لم أستطع أن أمنع سانتي من أن تقرأها مرتسمة بكل تفاصيلها فوق ملامحي. لا بد أن هذا ما حدث، ولا بد أنه السبب في ذلك السكوت الذي وجدناه قد خيم على جلستنا، وفي الخجل القليل الذي اعترى سانتي وهي تقطع السكوت وتقول: لعلك لم تدهش حين عرفت أني ...
وتوقفت عن الكلام، ورسمت تساؤلا ضخما على ملامحي، فمضت تقول: إني متزوجة.
قلت وأنا أضحك وكأني أتحدث عن شيء آخر: أبدا! لم أدهش.
ولكن بعد قليل وجدت نفسي أعود للضحك فجأة وأقول: الحقيقة أني دهشت؛ فلم يكن يبدو عليك، إنه شيء لا يستطيع الإنسان تصديقه بسهولة.
قالت: ومع هذا فأنا حقيقة متزوجة.
ولم أجد في نفسي أية رغبة لمواصلة الحديث، ولكني خفت أن يحل الصمت بعد كلامها السابق مباشرة؛ فتخجل ويصيبها الحرج، فمضيت أسألها بلا اهتمام كبير عن زوجها وعمله. وقالت لي أشياء كالتي نقرأ عنها في القصص. قالت إن عائلتيهما موزعتان على مصر وقبرص واليونان، وإنها هي شخصيا ولدت وعاشت في مصر ولم تذهب إلى الوطن الأم إلا مرات قليلة ولفترات لم تتعد الشهور، وإن أباها كان متجنسا بالجنسية المصرية، ولكنه فضل أن تنشأ هي على الجنسية اليونانية، وإنه كان يملك أطيانا كثيرة في الفيوم باعوا معظمها بعد وفاته واشتروا بها مكتبة كبيرة وسط البلد، وزوجها كان معها في المدرسة، وتزوجته رغم معارضة أمها، وإنه تخصص في الهندسة البحرية وقضيا عاما متزوجين، ثم في أثناء احتفالهما بعيد الزواج الأول صارحها بأنه يريد الانضمام إلى حركة التحرير القبرصية، ولكن مشاكل حزبية وتنظيمية حالت بينه وبين الانضمام، وهكذا قنع بالبقاء في مصر على أن يقوم بجمع أكبر كمية من التبرعات ويرسل بها إلى «أيوكا»، ولكنها تخالفه بشدة في الرأي، وترى أن اليونانيين المقيمين في مصر عليهم إذا أرادوا الكفاح أن يساعدوا المصريين؛ فهم الأولى بالمساعدة والأجدر.
قصة غريبة بدأت أسمعها وأنا غير مصدق، وحين انتهت منها كنت لا أزال غير مصدق أيضا. أكثر من هذا كنت لا أريد أن أشغل نفسي بفحصها وتمحيصها والتأكد منها، ومن يدري قد أصدقها حينئذ، ومن يدري أيضا أي موقف حرج أجد نفسي فيه بعد تصديقها؟
أخذتها إذن مأخذ الحديث العابر الذي لا يحتاج لأي تعليق، الحديث الذي يقال بغير اهتمام ونسمعه بلا اهتمام أيضا. وحاولت جادا أن أغير من نظرتي لسانتي بعد سماعي ما قالته، حاولت أن أنظر إليها من خلال تلك المعلومات الجديدة منها ففشلت. ظلت في نظري هي هي لم تتغير، الفتاة النحيلة الجميلة التي أجد نفسي منجذبا إليها بقوى أكبر مني ولا أملك إلا طاعتها.
وأحببت أن أغير حينئذ مجرى الحديث، فبدأنا نتكلم عن الأفلام المعروضة، وقالت سانتي إن في سينما ميامي فيلما فرنسيا رائعا.
وكنت أغير مجرى الحديث وكلي خوف أن يكون ما قالته - وإن لم يؤثر في أنا - قد أثر فيها هي وغير من نظرتها لي ومن انجذابها نحوي، فقلت وأنا أضع الخاطر موضع الاختبار وأضع يدي على قلبي مخافة النتيجة: هل تقبلين دعوتي لرؤيته؟
وفي الحال وبلا أي تردد وجدتها تهز رأسها علامة القبول، وشككت في تلك الموافقة السريعة وعدت أكرر الدعوة وعادت تقبل. واتفقنا، واعتذرت عن عدم إمكانها أن تذهب في حفلات الليل، ولم أسألها لم، واتفقنا على أن يكون الموعد يوم الأحد في الساعة الثالثة أمام سينما ميامي.
وكان بيننا وبين الأحد عدد من الأيام.
وكان ثمة عيد قد أقبل، وكان علي أن أسافر إلى بلدتنا. شيء مقدس أن يعود أبناء القرى الذين استوطنوا المدن إلى قراهم في الأعياد. إنه الشيء التقليدي الخافت الذي ترعرعوا ونشئوا في كنفه.
والواقع أني قد بدأت أشتاق للبلدة ولعائلتي ولآلاف الأشياء التي غادرتها هناك من صغري، ذلك الشوق الذي أعرف أن ساعة واحدة أقضيها في القرية تكفي تماما لإطفائه؛ إذ ما أكاد أهبط من القطار وتطالعني الأشجار التي أعرفها، والنخيل الذي كان قبل أن أوجد ولا يزال في مكانه من يوم وجدت، والبيوت الرمادية الداكنة التي أعرف عن قاطنيها كل شيء. ما أكاد أعود مرة أخرى إلى ذلك الهدوء الممدود الذي يرقد ريفنا في قاعه، وما تكاد آذاني تستريح من الطنين الذي لا ينقطع في المدينة وأهبط إلى المكان الذي لا ضجة فيه ولا طنين، بل الهدوء الحافل الكبير، هدوء يغري بالهدوء ويثبط الهمم. ما أكاد أطالع كل هذا حتى أبدأ أتناقض مع نفسي؛ فنحن نسير في المدينة بسرعتها القاهرة المجنونة، ولكنا هناك في تلك الأرض الواسعة غير المحدودة نحدو بل نقف في أماكننا لا نسير. وما نكاد ندرك أننا وقفنا وأن سرعتنا هبطت إلى العدم حتى نبدأ نحن إلى الطنين والجري والحركة الهائلة الدائمة التي لا تكف ولا تسكت.
سافرت إلى البلدة إذن، وطالعني كل ما أعرف سلفا أنه سوف يطالعني، ومع هذا فللقائنا بالقرية فرحة كفرحة رؤيتنا لصورنا ونحن أطفال، ولخطنا أيام أن كنا تلامذة في ابتدائي وثانوي. وقوبلت بما تعودت أن أقابل به، جرى أخي الصغير حين رآني من المحطة وعانقني والتف حول ساقي، ثم انفلت وانطلق يعلن الخبر لأبي وأمي وبقية إخوتي، وقبل أن أصل إلى الباب كان يزدحم بمظاهرتهم الحافلة الفرحة الصغيرة، وأنا حائر أعانق من وأسلم على من؟ أكاد أبكي من فرط انفعالي وخجلي وتأثري! ودائما أفتقد أمي في تلك المظاهرة، وأعرف أنها كالعادة غاضبة علي لأي سبب أو للا سبب، وأنها جالسة متناومة أو متمارضة ولا بد لي أن أذهب وأقبل رأسها فتنفر مني، وأعود أقبل يدها فتسحبها بوجه صارم تحاول صاحبته أن تمنع أي بادرة انفعال أن ترتسم عليه. وأفعل هذا كله بحكم الواجب والعرف والتقاليد وبلا أية رغبة حقيقية في فعله؛ فأنا لم أكن حريصا على إرضائها مثلما كانت هي الأخرى غير حريصة على إرضائي. علاقتنا كانت غريبة في بابها منذ صغري ودونا عن بقية إخوتي؛ فلا هي علاقة حب ولا علاقة كره. كنت ابنها الثالث، خلفتني وقد بدأت تضيق بزواجها بأبي، وجئت شبهه، وبكل عنفوان الفلاحة الفتية ذات الخمسة والعشرين عاما عاملتني وربتني، بكل الخشونة والغلظة والجفاف، وكنت طفلا ساكنا حساسا سرحان، روعتني معاملتها لي إلى حد أنها أربكتني وجعلتني أخاف أخطائي إلى الدرجة التي أتردى دائما فيها. وبالعصا والأقلام والشلاليت كانت تواجه أخطائي، وبالرعب كنت أواجهها، رعبا ملك علي كل طفولتي فلم أجد معه وقتا أو جرأة أسأل فيها نفسي: ترى هل أحبها؟ أسأل نفسي فلم أكن في حاجة لسؤالها عن كنه عواطفها نحوي؛ فعواطف الآخرين نقيسها ونحن أطفال من زاوية واحدة فقط، زاوية حنانهم. الحنان عندنا يعني كل شيء، يعني الحب والخير والطيبة. والغلظة تعني كل شيء، تعني الكره والشر والتوحش. وأنى لي وأنا في تلك السن الصغيرة البعيدة أن أدرك أن حنانها هو الذي كان يدفعها لإمساك العصا وتوجيه الصفعات.
كل الذي حدث أنني نشأت أخاف منها ونشأت تخوفني، وبيننا كل ما بين الخائف والمخوف من توتر وحرج وحساب عسير. وانتقل الوضع نفسه إلى علاقاتي بكل من عرفت غيرها من النساء. أكره الضعيفة وأشمت في القوية حين تضعف، وبيني وبين الضعيفة والقوية والجنس كله صراع لا أعرف متى ينتهي ولماذا أنا سائر فيه؟ ولماذا أنا حائر مشتت بين رغبتي الشديدة فيهن وخوفي الطاغي منهن وعدم اطمئناني إلى أية علاقة قد تنشب بيني وبينهن؟ عدم اطمئنان مرجعه لا بد إلى أني كنت أشك في أحيان كثيرة بعلاقتي بأمي، أشك إن كانت أمي حقيقة؛ فلم أكن أبدا أحس أنها أمي، حتى وأنا أميل عليها لأقبلها حين كبرت وأرى التجاعيد في وجهها والشيب في شعرها كنت أكاد أفيق لنفسي وأقول: ترى أهذه حقيقة أمي؟
ومن يشك في أول علاقاته بالناس وأقربها - العلاقة الغريزية التي لا تقبل أي تساؤل أو عدم تسليم - له العذر لو تشكك في أية علاقة تنشأ بينه وبين أي إنسان. فإذا كانت الظروف قد دفعته لأن يتساءل: أهذه أمي؟ فمن باب أولى أن يظل يتساءل: أهذا صديقي، أتلك حبيبتي، أهذه زوجتي؟ وقد يقضي حياته كلها يسأل ويمضي عمره دون أن يجد الجواب، ولكن النتيجة أنه حتما سيظل وحيدا محاطا بالشك في نفسه والشك في الآخرين، بالخوف منهم وتخويفهم، بسور من جهنم الدنيا المريع.
كنت دائما أفتقد أمي في مظاهر الترحيب بي، ودائما أذهب وأصالحها، ودائما تقبل صلحي على مضض، وكنت ما أكاد أصبح في قلب بيتنا، البيت المهدم ذي الطلاء الأبيض المصفر المتهالك، والكلب العجوز والحوش المهمل، ما أكاد أصبح وحولي كل هذا حتى أفيق، وكأننا نحيا في المدينة في حلم طويل لا نفيق منه إلا حين نعود إلى قرانا. وهناك نجد الحقيقة، هناك ندرك أننا فقراء مطحونون نتستر بالحيل لنعيش. إننا في المدينة نحاول أن نبدو كأهل المدينة، ولأننا لسنا منهم لأننا فلاحون، نحاول أن نبزهم ونتفوق عليهم في ملبسهم ومعيشتهم وكأنما لندفع تهمة الفلاحين عنا، حتى إذا عدنا وجدنا حقيقتنا الجرداء. وجدنا أصلنا وأقاربنا وجلابيبهم الرثة المرقعة، وإخوتنا الحفاة، وأمهاتنا وهن يدارين البيضة ويبعنها للصرف على بيوتنا. حين نعود نجد هذا، ونجد نفس المشاكل التي غادرناها لا تزال قائمة ولا تزال بغير حل، ونفس الكلمات والمجاملات التي من كثرة ألفتنا لها مججناها وأدركنا من زمن بعيد أنها لا تعني شيئا على الإطلاق. حين نعود ونجد هذا كله نحس أننا هبطنا من سموات أحلامنا إلى الأرض العارية، الأرض التي تبدو لنا المدينة منها كعالم جميل مفقود أفقنا منه لنبدأ نؤنب أنفسنا ونعجب من تصرفاتنا. كيف كنا نجرؤ على صرف الجنيه بكل تلك البساطة، والجنيه هنا شيء ضخم كبير ممتنع كنجوم السماء. الجنيه هنا حياة كاملة، ثروة وضياعه مصيبة وحادثة قد يظل صاحبها يذكرها حتى الممات.
ما أكاد أصبح في قلب بيتنا حتى أفيق وأحس أنني مجرد آثم يلهو في المدينة وأهله هنا حفاة عراة غلابة طيبون، ينظرون له وكأنه إله، وكأن قوة خفية قد رفعته عنهم وفضلته عليهم، يرون أنه لم يعد منهم، أصبح أفنديا يحجبون عنه - وهم أهله - أسرارهم، ويحاولون إخفاء ما بهم من عيوب، يعاملونه وكأنه لم يعد ابنهم، أخذته المدينة منهم وأصبح ابنها هي.
وحتى حين أفيق وأندم وأحس بجرمي لا أستطيع أيضا أن أفعل شيئا، وكأنما لعنة حلت بي وغيرتني إلى الأبد. كل ما أحسه أني بين قوم غرباء أتفرج عليهم ويتفتت قلبي من أجلهم، ولكني أدرك أن قد أصبح بيني وبينهم شيء، أصبحت أمت إلى عالم آخر مختلف تماما عن عالمهم ودنيا غير دنياهم، دنيا أحس خجلا شديدا منها وأنا في دنياهم، أحس بالمدينة والحياة فيها كأنهما معصية كبرى ارتكبتها ومواظب على ارتكابها ويبدو أنني لن أتوب، ارتكبتها حين انسقت وراء أهلها أتطبع بطبائعهم وآكل مثلهم وأحيا حياتهم.
ما من مرة كنت أعود فيها إلى بلدتنا إلا وتنتابني أحاسيس كتلك، أحاسيس تخف وطأتها وأتعود عليها عاما بعد عام. وفي تلك المرة أيضا كانت تحفل بها نفسي وأنا جالس وحولي عائلتنا، أستقبل أقربائي وأصدقائي الذين جاءوا يهنئونني بالقدوم، وأنا أعيد على الناس والناس تعيد علي، وحتى وأنا أحاول المحاولات اليائسة الأخيرة للفوز برضاء أمي ودعواتها، ووجهها جامد لا ينفك، أحاول أن أقرأ فيه بادرة حنان واحدة تعزيني عن الحنان الذي افتقدته وأنا صغير فلا أجد، تماما كما ظللت أفعل من سنين وأفشل، ويدفعني الفشل إلى البحث عبثا عن الحنان في إخوتي وأبي، فأجد بعض العزاء ولكنني لا أجد الحنان كله؛ فحنان الأم يبدو أنه كلبنها لا يقوم مقامه بديل، ومن لم يذقه من المؤكد أنه سوف يظل يبحث عن طعمه لدى الناس أجمعين، ومن المؤكد أيضا أنه لن يعثر له على أثر أو بديل.
لم تتعد الأيام التي قضيتها في البلدة يومين أو ثلاثة، وطوال تلك الأيام كانت سانتي تحيا معي باستمرار. كنت أنظر إلى أبي الطيب وإخوتي وأمي والفلاحين أبناء البلدة، وأرى التراب والمرض والفاقة والخراب وأقول لنفسي هناك، في مكان ما من هذه الدنيا جنة صغيرة مخبأة لي، هناك تلك الفتاة الحلوة ذات الإشعاعات، هناك سانتي.
كنت أقارن بين ما أراه حولي وبين تلك الصورة السرية التي خبأتها في نفسي لا يعرفها أحد ولا تصل إليها عين إنسان، فأحس بالدفء، وكأنني أحتفظ برغم كل ما كنت أراه بكنز خاص بي لا تفتحه إلا كلماتي أنا، كنز ساحر براق يملؤني بالغنى والسعادة ويرسل أنوار أمل في كل ما كنت أراه، وكل ما كنت أراه كان يبدو لي خاليا تماما من الأمل. وكل يوم يمضي وكل ساعة تمر تركز صورتها المخفاة وتلهبها وأحس بها أكثر، وأرى فيها شيئا غامضا رائعا جذابا يهيب بي أن أحيا، ويجعلني أجد للحياة مذاقا وطعما، أجمل طعم ومذاق.
وكان يوم الأحد ثاني أيام العيد.
وثاني أيام العيد في الأرياف شيء مقدس كأول يوم فيه.
وكنت قد قررت وأنا في القطار وذكرياتي عن بلدتنا تحضرني وأشواقي إليها هائجة أن أضرب صفحا عن ذلك الموعد مع سانتي لدخول السينما؛ إذ كان لدي إجازة طويلة، ولم يكن هناك ما أفعله إذا قطعت الإجازة يوم الأحد وعدت إلى القاهرة إلا ذلك الموعد.
كنت قد قررت هذا لأن ليلة الأوبرا كانت قد أضفت علي الطمأنينة ودفعتني لأن أثق بنفسي وأومن أنها تمت لي وأنها آجلا أم عاجلا في طريقها إلي، وأن من الممكن جدا أن أقف في مكاني ولا أتحرك، أو حتى أخلف موعدا وأنا ضامن مائة في المائة أن هذا لن يؤثر في علاقتنا، بل قد يزيد من استمساكها بي.
وكنت قد قررت هذا وأنا في طريقي إلى البلدة، غير أن الأيام التي قضيتها هناك غيرت كل شيء.
كنت كلما رأيت الموت يغمر كل شيء من حولي، وكلما فزعت إلى صورة سانتي في خاطري وتلمستها في خيالي، أزداد إعزازا لها ومبالغة في الحرص عليها، وخوف بارد مجهول أن أفقدها، أودعتها كل بريق الأضواء في المدينة، وكل الحياة الملتهبة العنيفة التي يحياها الناس هناك، كل آيات النشاط البشري والذكاء والجمال أودعتها سانتي، وتبلورت فيها - في تلك المدة القصيرة - كل أماني في حياة عريضة حافلة. وكلما رأيت الموت من حولي فزعت إليها، إلى الحياة كما أتصورها، إلى روح الحياة. وما كدت أطفئ شوقي إلى أهلي وذكرياتي وأصحو على واقع ريفنا العادي الرتيب حتى كنت أحن شوقا إلى حركة المدينة، وحياتها وأضوائها وأحلامي فيها ، والفتاة الجميلة الرائعة التي كانت تقف معي في الأوبرا بغطاء رأسها الإغريقي ذي «الطرة» وبريق سنيها، وشغفي بها وشغفها بي.
وما كادت تأتي ليلة السبت حتى كنت على أحر من الجمر قد قررت أن أسافر صباح الأحد لأوافي سانتي في الميعاد.
ولم يكن سهلا أن أنهي القرار إلى العائلة، وأصعب منه كان أن أواجه رفضهم البات وأن أكذب كذبا واضحا مفضوحا وأختلق الحجج والمعاذير.
وتحول الرفض تحت وطأة حججي إلى إلحاح، ثم تطرقت بهم طيبتهم الحبيبة إلى رجاء أن أقضي يوما آخر، مجرد يوم آخر.
وأخيرا سمحوا؛ فقد كانوا يعلمون أن رضاءهم أو عدم رضائهم لم تعد تسري على ابن المدينة، وكل يوم يزدادون اقتناعا أنه لم يعد يمت إلى دنياهم.
وكم زحفت ساعات الليل - ليل السبت - بطيئة كئيبة.
وكم كان الشروق رائعا جميلا.
وتحرك القطار.
واعترتني نفس الغصة التي تعتريني كلما غادرت البلدة ... غصة لكل ما اختلقت من أكاذيب، وخجل لأنهم صدقوا أكاذيبي، وشيء كقبضة تجثم على قلبي وتعتصره لإحساسي أني مدين بالكثير لهذه الأرض التي أغادرها ولهؤلاء الناس الذين أفر منهم، ولم أفعل لأجلهم إلا أقل القليل.
وكلما كان القطار يتقدم صوب القاهرة كانت غصتي تهدأ؛ فلم يكن القطار يقطع بي المسافة فقط، كان يقطع بي أيضا مسافة نفسية، ويبعدني بسرعة عن ابن القرية المدين لها، إلى ابن المدينة المذهول بأضوائها الضائع فيها الطامح يوما أن يخضعها ويتحكم فيها.
غير أن القطار كان كلما اقترب من القاهرة ازداد خوفي.
خوفي على سانتي.
ولست أعرف كيف أقول هذا، ولكن الأيام التي قضيتها في بلدتنا أثبتت لي أن سانتي هي الشيء الوحيد غير الحقيقي في حياتي، هي الحلم الوحيد في حياة أحسن، الأمل وسط واقع جاف لا أمل فيه.
وقد كنت على استعداد لأن أبذر واقعي، ولكني لم أكن أبدا على استعداد لأن أفرط في أحلامي، بل في حلمي الوحيد، وجعلتني تلك الأيام التي عدت فيها إلى واقعي البشع أتشبث بسانتي تشبث الغريق. وهكذا لم أعد ذلك الواثق الثابت المطمئن الذي وضع سانتي في جيبه ولم يعد عليه إلا أن يمد يده ويأخذها. خيل لي أنها - لسبب ما - قد ضاعت هي الأخرى كما ضاعت المدينة الوهم في قرية الواقع الرهيب.
وبدأت أخاف.
أخاف أن تكون قد ذهبت إلى الأبد وألا تأتي في الميعاد.
بدأ هذا كشكوك ليس إلا.
وإدمان التفكير في الشكوك يحيلها إلى حقائق.
وبدأت أوقن أنها لن تأتي.
ويئست.
وهبطت من القطار.
كانت الثالثة إلا ربعا.
وركبت «تاكسي» إلى سينما ميامي.
ووقفت هناك.
وقفة اليائس.
لم يعد لدي أقل أمل في قدومها.
ومضت الدقائق وأنا غير حزين ذلك الحزن الذي تصورت حدوثه، أكاد لا أحفل بمضيها، أكاد أتمنى ألا تأتي لأشقى وأتعذب وأشمت في الجزء الآخر من نفسي، ذلك الجزء المتفائل الذي كان يؤكد لي باستمرار أنها لا بد قادمة ويسخر من مخاوفي وشكوكي.
وأصبحت الساعة الثالثة.
ونشب في نفسي جدل عنيف. آلاف الأشياء تؤكد أنها قادمة.
وآلاف الأشياء تؤكد لي أنها ذهبت من حياتي إلى الأبد ولن تعود.
وأنا فرح لأني سأشقى وأحزن، وحزين لأني قد أفرح، ساخط على نفسي أشد السخط لأني تركت أبي العجوز وإخوتي وكل الناس الذين يحبونني وجئت لمقابلتها، راض عن نفسي لأني نبذت الواجبات الجوفاء وخرقتها وأقدمت على عمل أحقق به رغبة هي من حقي أنا وبجماع نفسي أريدها.
ومضت الدقائق، أتمنى أن تمضي سريعة لتوصلني إلى اليأس وتريحني، ولكن أعود وأرجو أن تبطئ علي قدر ما تستطيع حتى لا ينقطع خيط الأمل.
كان أمام السينما منتظرون آخرون. كان اليأس يخطفهم واحدا إثر الآخر حتى لم يبق سواي. واضطررت لأتلافى الأنظار أن أغدو وأروح أمام باب السينما وعيناي تفتشان شارع سليمان كله بحثا عن فتاة صغيرة سريعة الخطوات وجهها حلو صغير فيه بسمة لا تنطفئ.
أروح وأجيء في خطوات كلها قلق وترقب، وكأني طالب ينتظر نتيجة امتحانه الأخير، تبلغ به ثقته بنفسه أشدها أحيانا، وأحيانا تضعف وتتلاشى إلى الدرجة التي يكاد يمد يده فيها إلى المارة يستجدي منهم بعض الثقة في نفسه . تلك اللحظات التي تضع فيها آراءك وأحلامك لأيام طويلة موضع الامتحان وتتساءل: ترى هل كنت محقا أم كان ما أحيا فيه وهما كبيرا؟
واقتربت الساعة من الثالثة والنصف.
وظهرت سانتي.
كانت ترتدي جيب أسود وجاكيت من نفس اللون.
وأروع ما في الأمر كان غطاء الرأس الإغريقي.
نفس الغطاء الذي قلت لها إني أحبه، كانت ترتديه.
5
عدت ذلك اليوم إلى بيتي وأنا سعيد، سعيد لا أريد أن أبحث أسباب سعادتي، أريد أن أبقي ما بنفسي مقفلا ومختوما كالخطاب الآتي من حبيب لا أتفحصه أو أستعجل معرفة ما فيه.
وبدأت أفكر.
وكم كنت غبيا أحمق.
لماذا لم أدع الأمور تجري كما تجري؟
لماذا بدأت أدبر وأرسم الخطط؟
كان كل شيء يمشي على ما أهواه له، وكنت سعيدا بتلك الأحاسيس التي اجتاحتني كلما قابلتها، وإذا وضعت يدها في يدي أحسست أنها تذوب في يدي، وإذا حدثتني أحسست أنها تعطيني نفسها، بلا أدنى تردد، وبكل إرادتها واختيارها، ذلك البريق الذي كان يشع من عينيها كلما تلاقت عيوننا كان أروع من كلام، بل حتى ما كان يدور بيننا من أحاديث لم تكن مهمة؛ فأحاديثنا في الواقع كانت تتحول إلى موسيقى لا تهم مفرداتها كثيرا، فيتكلم الواحد منا ليخرج أصواتا حنونة منغمة يرد بها على أصوات أخرى صاعدة من حنجرة عزيزة ثانية.
ولكني على أية حال بدأت أفكر، خيل لي أن كلماتي وموسيقاي وضغطاتي لم تعد تكفي.
أحسست أن هناك ما يثقل صدري ولا بد من البوح به.
وليس معنى هذا أن قوى قاهرة تدفعني رغما عني إلى هذا العمل، بل الواقع بدأت أفكر معتقدا أن المسألة أصبحت في يدي، وأن عواطف سانتي تجاهي قد نضجت وأصبحت مستعدة هي الأخرى لتقبل حركتي تلك.
عدت إلى البيت، وأمسكت القلم وبدأت أفكر في خطة صغيرة غير بارعة لأنفذ بها ما أريد، ووجدتني أكتب مشروع قصيدة منثورة بالإنجليزية.
لم أكن أعرف ماذا أريد أن أقول فيها، وهل أكذب وأبالغ أم أتحفظ وألجأ إلى الإشارة والرمز؟ لم أكن أعتقد أنني أحبها فعلا، وكنت أريد أن أتلافى ذكر أية أحاسيس متبلورة تجاهها. وكتبت بضع شطرات فوجدت أنها فاترة وأني غير متحمس إلى الكتابة واستحضرتها في خيالي لتلهب حماسي أو على وجه الدقة عدت مرة أخرى أحيا في تلك اللحظات التي كنا فيها في السينما.
دخلنا في الظلام وجلسنا، وحين أضاء النور في الاستراحة وجدت سانتي تحاول إخفاء رأسها في ياقة معطفها فقلت: أهناك شيء؟
فقالت همسا: أخشى أن يرانا أحد.
وتدفقت فرحة مفاجئة في صدري؛ فمعنى كلامها أنها تدرك أنها تفعل شيئا لا يقرها الآخرون عليه، وهذا عين ما أريد؛ فقد كنت أحيانا أسأل نفسي: ألست مغفلا؟ ألا تكون قد قبلت دعوتك للسينما كما يقبلها الصديق من صديقه؟ كلماتها تلك وهمسها وياقة معطفها حين ارتفعت وضعت حدا فاصلا بين الصداقة ودعواتها وبين ما كنا فيه.
وطوال الاستراحة كان كل منا يحاول بشكل تلقائي إخفاء نفسه عن الناس وعن الآخرين، وإذا التقت أعيننا صدفة نخجل ونشيح بأنظارنا، ويعود إلينا القلق والفرح الممزوج بالخوف الذي لا يدعنا نطمئن ولا يدع قلوبنا عن دقها العالي المتواصل.
وأنهيت القصيدة.
لم تكن صدقا كلها ولا كلها محض خيال. في الواقع كانت تعبر بتردد عن إنسان يتردد في التعبير عن نفسه، وكانت مكتوبة على ورقة عادية جدا ومملوءة بالشطب والتعديل.
وجاءت سانتي ثاني يوم، ولا أدري كيف دخلت في الموضوع، وأظنني قلت لها في أواخر الجلسة إن أحد أصدقائي قد كلفني بكتابة قصيدة ليرسلها لفتاة أجنبية يعرفها، وحائر كيف يكشف لها عن ذات نفسه.
وحين قلت هذا ابتسمت ابتسامة بدت عادية، ومع هذا كنت متأكدا أن ابتسامتها تعني أنها تعرف من الذي كتب القصيدة ولمن كتبت.
قلت: أقرؤها عليك؟
قالت بلهجة لا انفعال فيها: اقرأها.
واستمعت إليها منكسة الرأس مصغية، وحين انتهيت نظرت إليها لأرى وقع القصيدة عليها، ولكن وجهها بقي لا ينفعل، فقلت أستحثها: ما رأيك فيها؟
قالت: كويسة.
لم تقلها بالعربية، ولكنها قالتها بكلمة إنجليزية لا تعبر عن استحسان أو عدم استحسان ولا أي إحساس خاص بالمرة.
وقضينا ما تبقى من وقت في حركات لا تستقر، أقف أنا وأتمشى، وتقف هي وتبتسم، وتأخذ كتابا من المكتبة تقرأ عنوانه ثم تضعه وتعود للجلوس، ونبدأ نقاشا حول موضوع ثم ينتهي منا ونقول أشياء كثيرة لا معنى لها، وأحيانا يفلت الزمام ويلمح الواحد منا نظرة ذات معنى في عين الآخر، فلا يجرؤ على مواجهتها. كان واضحا أننا نريد أن نحافظ على وقارنا الاجتماعي. وكنت من ناحيتي أريد أن أثبت لها أن القصيدة فعلا ليست لي، وكانت هي الأخرى تريد أن تؤكد لي أن كلامي صحيح وأني حقيقة لا أعنيها.
ودخنا يومها كثيرا.
وكانت لسانتي طريقة في التدخين تعجبني، كنت أشعل لها الكبريت فتمد فمها الدقيق وفيه السيجارة وتجذب نفسا، ثم تلتفت إلى الناحية الأخرى وتنفثه بينما وجهها يحفل باحتقان وردي مفاجئ يزغلل العينين. ونظل نطفئ السجائر ونشعل غيرها إلى أن تستأذن سانتي وتعلق حقيبتها في كتفها وتمضي.
وأعود إلى أفكار قلقة لا تستقر، وأسئلة كثيرة تريد إجابات أكثر، وكل إجابة تثير أكثر من سؤال، وحقائق تختلط بأوهام، وأوهام تتجسد على هيئة حقائق، وأنا مضطرب سعيد، كل مرادي أن يتوقف العالم عن المسير، وأن أقضي ساعات وساعات أحيا في تلك الدوامة الهادئة التي تدغدغ وعيي وأعصابي.
وكنت أعرف أنها لا بد قادمة في اليوم التالي، وكنت قد اتخذت قرارا أن أمضي خطوة أخرى؛ فقد لاحظتها جيدا وأنا أقرأ القصيدة، ولاحظتها أيضا بعد قراءتها، وممكن أن أقول إني شاهدت ما عدا الاستنكار فلم ألمحه أبدا، وما دام تصرفي ذلك لم يلق استنكارا أو إعراضا فماذا يمنعني أن أخطو خطوة أخرى وأقول لها كل شيء بصراحة؟
وكانت الساعة العاشرة، وجلست إلى المكتب وبدأت أكتب. ولا أذكر على وجه التحديد ماذا قلت في ذلك الخطاب، ولكني أذكر أني كنت محموما منفعلا، وكأني أقوم بأهم وأخطر عمل في حياتي. كانت الفكرة التي أريد قولها مبهمة غير واضحة المعالم في خيالي. والكلمات أمامي كثيرة لا رابط بينها ولا ضابط، وتركز همي أول الأمر في الدقة التي يجب علي أن أختار بها الكلمات، وفي جوب اختيار الأساليب الموحية ذات المعنى الظاهر المباشر والمعنى الذي قد يخفى، وكنت أفعل هذا بتعقل وبلا أية عاطفة، غير أن عملية الكتابة نفسها جعلتني أفكر فيها، وبدأ سيال خفي دافئ ينبع من مكان ما من نفسي ويأخذ طريقه إلى قلمي، سيال بدأ هو الذي يختار الكلمات وينظمها، كلمات لدهشتي كانت تخرج دافئة حنونة فيها كل ما أصبح لنفسي من دفء ورقة وحنان، وما لبث السيال الدافئ أن تحول إلى فيضان عارم. ووجدتني أنفجر وأقول كل ما أحسه دون مواربة أو تدخل أو خجل.
سردت عليها تاريخ علاقتنا القصيرة، وقلت لها إني أعرف العقبات كلها والمحرجات، ولكني أصبحت في حيرة بين ما أحسه ناحيتها وما أخفيه عنها. وهي وحدها القادرة على إنقاذي من حيرتي.
وكنت أكتب بالإنجليزية، وحتى في حديثي العادي لم أكن ذا باع طويل فيها، ولكني أعجبت فعلا بالخطاب بعد قراءته، وتخيلتها وهي تسمعه، ورحت أحلم، فمن يدري ربما دوخها الخطاب وأثر فيها إلى درجة تنسى معها كل شيء فتبكي وتصارحني بحبها؟ من يدري ربما سلبها الخطاب إرادتها تماما ونومها ذلك التنويم المغناطيسي الذي أريد، لتصبح طوع يدي أصنع بها ما أشاء؟ أصبح الخطاب هو المعجزة التي ظللت أحلم بمفعولها السحري طوال نوم قصير مضطرب، وفي الصباح وأنا خارج - وقد تجاوزت الساعة التاسعة والنصف - إلى عملي مسرعا خائفا قلقا، ألقي نظرات ضيقة موتورة على أصحاب الدكاكين المتراصة في مدخل المنزل. كنت أؤكد لنفسي مرة أخرى أن حياتي تلك لم تعد تصلح لأحلامي، حياتي بادئة بهذا البيت الذي أسكنه والذي لم أرتح إليه مطلقا من يوم أن انتقلت إليه، كان صاحبه تاجر أخشاب أو سمك لا أعرف، وكان قصيرا له كرش واضحة المعالم كمن ابتلع بطيخة واستقرت إلى الأبد في جوفه، وله عين حولاء صغيرة وعين أخرى أصغر منها بطريقة تدرك معها أن إحداهما لا بد صناعية، ولكنك لا تستطيع أن تحدد أيهما، والظاهر أن تلك كانت أول مرة يبني فيها بيتا ويدخل طبقة أصحاب العمارات؛ إذ كان قد طبع عقود إيجار خاصة به، وكتب فوق العقد بخط عريض: «عمارات وعقارات فلان»، وكلها عمارة واحدة هي تلك التي ساقني الحظ لسكناها. وفي عقد الإيجار أكثر من مائة شرط لم يرد ذكرها في أي عقد من قبل أو من بعد، وكلها حقوق للطرف الأول صاحب البيت لدى الطرف الثاني أنا، وملحق بها قائمة بالممنوعات، منها مثلا: ممنوع نشر الغسيل إلا بين الساعة الخامسة والسابعة مساء، وخلال المرات القليلة التي قابلتها فيها كان يبدو مسرورا من سكني عنده أنا الطبيب، وكان يحدثني باستمرار عن ابن ضابط له، ويقول عنه الكابتن سعيد، وكيف قد حدد له هو ماهيته الشهرية فوق ماهية الحكومة، وحين تمت العمارة وانتهت وبدت جديدة أنيقة بالقياس إلى عمارات الشارع القديمة المتآكلة كان لا يحضر إليها إلا وقد ارتدى بدلته الكاملة وطربوشه، يحيي أصحاب الدكاكين بترفع، ويحييني باحترام زائد، ويقف معظم الوقت يتفرج على العمارة، وأحيانا ينتقل إلى الرصيف المقابل أو النواحي المجاورة ليتأملها من مختلف الزوايا والأبعاد.
وكان واضحا أن بدلته جديدة أيضا، بل أكثر من هذا أنها أول بدلة يرتديها في حياته؛ فقد كان يحاسب عليها أكثر من اللازم، ويعني بارتدائها وبأكمامها وبخطواته فيها أكثر من اللازم أيضا! وفي تلك الأيام كان يبدو سعيدا جدا كمن حل جميع مشاكله، أغلق «الدكان» الذي كان يخجل منه ابنه الضابط ويمنع العرسان عن بناته، وبنى العمارة، وارتدى البدلة، وأصبح كأي مالك محترم بلا عمل إلا أن يأتي كل شهر ويحصل الإيجار من السكان.
ولكنه لم يستطع أن يمثل دوره الجديد طويلا؛ فبعد فترة بدأ يغير البدلة ويرتدي الملابس التي قضى عمره يرتاح فيها، الجلباب الأبيض والبالطو الأسود، ويجلس على كرسي عند واحد من أصحاب دكاكينه يعنف البواب، ويشكو للجالسين معه من ضيقه بهذا التعطيل الإجباري الذي فرضه عليه أولاده، وحنينه إلى وقفته في الدكان ولذة كسب القرش، تلك اللذة التي لا تعادلها أي ألقاب أو بدل أو عقود إيجار مطبوعة.
وفي تلك الفترة تصادقنا، وقد لا يصدق أحد هذا، ولكن خجلي منه هو السبب الوحيد الذي كان يدفعني للإقامة في تلك الشقة التي لا تحتمل؛ فالشارع أمامها حافل بالضجة التي تحرق الأعصاب، ضجة عشرات من خطوط الترام والأتوبيس وآلاف عربات الكارو وزعيق الباعة والمارة والكلاكسيات وميكروفونات المآتم وأفراح التي تحدث بالتبادل وعلى الأقل مرة كل يوم، ضجة تبدأ في الرابعة صباحا ولا تنتهي قبل الثالثة من صباح اليوم التالي. ثم إن المالك - سامحه الله - لكي يستفيد أكبر فائدة من المساحة، لم يجعل مدخل البيت على الشارع، ولكنه صنع له ممرا بنى على جانبه دكاكين وقهاوي يحملق فيك أصحابها وروادها ويتفحصونك، ولا عمل لهم إلا النظر إلى سكان البيت «إذ الممر لا يعبره إلا السكان» وإحصاء حركاتهم وسكناتهم، وسلم البيت أدهى من مدخله، حافل بزبائن المستوصف وأقاربهم ومرافقيهم، وحتى الشقة نفسها مع أنها جديدة ولكنها لا تعطي أي إحساس بالسكن أو الاستقرار، شقة لا تصلح إلا لمكتب سمسار أو لمقر نقابة. وإذا كنت فيها وجرؤت على فتح نافذة دخلت لك منها زوبعة ضجة تكاد تقتلعك من مكانك، ودخلت أيضا رائحة الكبدة؛ فالشقة تقع مباشرة فوق محل متخصص في قلي الكبدة والمخ وله مخزن بجوار السلم تماما، مخزن مظلم تلمح من خلال ظلامه كتلا هائلة من الكبدة لا تعرف لضخامتها إلى أي الحيوانات تمت، كتل تلمع في الظلام وتملأ رائحة «زفارتها» البيت كله من الداخل، وتهب رائحة قليها على النوافذ من الخارج، وأفظع ما في الأمر أن المطعم نفسه كانت له يافطة من النيون الأحمر والأخضر والأصفر، وكان صاحب المطعم السني السمين يصر على تركها مضيئة طول الليل، وليتها تضيء فقط، إنها تنطفئ وتضيء أوتوماتيكيا، والنيون له أزيز مزعج، فضلا عن أنواره البشعة الفجة التي تظل تتوالى وتنير الحجرة وتظلمها حتى الفجر.
ومن يوم أن سكنت وأنا أحيا في تلك الدوامة من العيون المستطلعة، والزفارة النيئة والمقلية التي تتتابع رائحتها تتابع أضواء النيون المضيئة، ويلفها جميعا ذلك البركان من الضجة الذي يهدر في الشارع طوال ثلاث وعشرين ساعة، يتلوها ويسبقها أذان الفجر الذي يذاع بالميكروفون من مسجد سيدي أبي العلا ويحتل الساعة الرابعة والعشرين.
ورغم كل ذلك فقد كنت أحتمل حياتي في ذلك المنزل ولا أفكر تفكيرا جديا في تغييره. شيء ما كان يجذبني إلى هذا كله ويجعل ضيقي به لا يعادله إلا حبي له. لأمر ما كنت أحس أني في هذا البيت أحيا وسط شعبنا بكل عيوبه ومزاياه إلى درجة أني كنت أخجل أحيانا من نفسي لهذا الكره الذي أكنه لأصحاب الدكاكين والقهوة والمطعم وهم يحبونني بحب ويتمنون محادثتي ويبدون استعدادهم لأي خدمة، ولم لا أعترف أني كنت أحيانا أسعد بإقامتي هناك وأستمتع؟ كان منظر الناس المزدحمين طوال النهار في الشارع، المتراكمين أمام الدكاكين وعلى كراسي القهوة والخارجين من جامع أبي العلا والداخلين إليه والمقيمين حلقات الذكر حوله، والسكرانين آخر الليل في الخمارات الكثيرة القريبة وفي «بوظة» بولاق الواقعة غير بعيد من الجامع، كان منظرهم يأسرني ويملؤني بإحساس غامر عجيب. وجوه مصرية رغم شحوبها وفقرها وقبحها لا بد تجدها حافلة بكثير من خفة الدم وسماحة الطبع، وكلامهم مهما بدا مليئا بالمبالغة والمغالطة والجليطة إلا أنك تحس به صادرا عن روح حلوة كالعجمية، لا تشبع منها أبدا مهما خيل إليك أنك شبعت منها.
وعلى أية حال فلم يكن مسكني هو كل المشكلة؛ فقد كنت أنتهي من عملي كطبيب لورش السكك الحديدية في الثانية، وأتغدى، وما أكاد أطبق جفوني حتى أقوم مهرولا إلى العيادة وأظل أعمل فيها إلى التاسعة، ثم أجري إلى المجلة حيث أظل أعمل إلى منتصف الليل، وفي ليال كثيرة يمتد السهر إلى الثانية وربما أكثر، ثم أعود إلى البيت لا لآوي إلى الفراش وأنام، ولكن لأكتب أو لأعيد كتابة موضوعات ومقالات وتحقيقات للمجلة، وهناك قرب الفجر أنام على أن أستيقظ كل يوم في السابعة وإلا حدثت كوارث وأهوال! وكم كنت - ولا أزال - أضيق باليقظة المبكرة، خاصة بعد سهر حافل ممتد، إنها عندي تعادل المرض أو الموت، وطبعا لم أكن أستيقظ من تلقاء نفسي؛ إذ لولا صوت أم عمر الخشن الآمر، ولولا سواعدها القوية أحيانا، لما صحوت من النوم في أي يوم من الأيام. وإذا صحوت - والمصيبة أني كنت دائما أصحو - يكون أول شيء أفكر فيه أن أبتكر عذرا يعفيني من الذهاب إلى العمل في ذلك اليوم، ويتيح لي نوما هنيئا إلى الظهر وربما إلى العصر، وكنت في الغالب لا أجد عذرا وجيها؛ فإجازاتي العرضية والمرضية والاعتيادية كنت أستهلكها أولا بأول، والأعذار التي قد تخطر وقد لا تخطر على عقل بشر أستنفدها كلها ولا يبقى أمامي إلا أن أسلم أمري إلى الله وأقوم. أقوم إلى عمل كنت أبغضه أشد البغض؛ فلم يكن عملا، كان عملية تعذيب مؤلمة علي أن أتحملها كل يوم. كان عملي الكشف على العمال المرضى ومنحهم الإجازات، ولكن تسعة وتسعين في المائة من العمال الذين كنت أكشف عليهم كانوا أصحاء! والإجازات التي لم أكن أمنحها كانت تؤخذ مني رضيت أم لم أرض. وليتهم عامل أو عشرة أو مائة، مئات العمال يبلغون كل يوم أنهم مرضى ويحولون للكشف، وهم لا يبلغون لأنهم يتمارضون أو لا يريدون العمل، ولكن لسبب آخر مضحك؛ فالعمل كان يبدأ في السابعة تماما، فإذا تأخر العامل ربع ساعة يخصم منه ربع يوم كامل، وإذا تأخر ساعة يخصم منه يوم كامل، ومعظم العمال كانوا يسكنون في أطراف القاهرة حيث المساكن رخيصة، والظاهر أن معظمهم أيضا كانوا كطبيبهم لا يحبون اليقظة المبكرة؛ فكان عدد كبير منهم يصل متأخرا، وحينئذ يجد الواحد منهم نفسه مضطرا لأن يبلغ أنه مريض، فإذا ثبت هذا لا يخصم منه اليوم بسبب التأخير، ولكنه يعتبر إجازة مرضية بأجر. وعلى هذا كان معظم العمال يستهلكون العشرين يوما حقهم في الإجازة المرضية طوال العام، يستهلكونها في التأخير، فإذا مرضوا وانقطعوا عن العمل فعلا خصمت أيام المرض الحقيقي من يوميتهم؛ ولهذا السبب كان المريض منهم يظل يعمل ولا يبلغ عن نفسه، مخافة أن يمنح إجازة مرضية إجبارية تخصم منه.
كنت أذهب إلى المكتب الطبي كل يوم فأجد أمامه وعلى سلمه ما لا يقل عن الأربعمائة عامل يترقبون ظهوري ترقب الملهوف من اليقظة، وأحيانا يستغيبونني فتخرج منهم كشافة تنتظرني على الناصية وتعرفني بمجرد أن أطل من أول الشارع، فيتسابق أفرادها إلى المكتب الطبي يبشرون الواقفين بقدومي ويخترقون الأجسام المتراصة بالعافية ليصبحوا قريبا من الباب، ويعم الجماعة كلها موجة اضطراب وزق وزعيق وسباب لا تسكت إلا حين أقترب، فترتفع موجة من الترحيب المتحمس لي: وسع يا جدع لسعادة البيه، اتفضل يا بيه، ميت فل.
صباح نادي والنبي.
وأسمع همسات: دا مزاجه باين عليه رايق النهاردة.
ويعقب واحد: بيقولوا عليه صعب قوي، أما نشوف.
وينتهز الفرصة آخر فيقول بصوت عال يصلني: صعب إيه يا أخينا؟ والنبي دكتورنا ده أطيب واحد خلقه ربنا.
ومهما كان الازدحام فلا بد أن يصنع لي أخدود كأخدود موسى في وسط ذلك البحر المتلاطم من العمال، أخدود يكشف لي السلم ويكشف لي الباشتمرجي واقفا ينتظرني عند أوله. والباشتمرجي كان رجلا ضخما له شعر أبيض كله ومسبسب ووجه أحمر يصلح وجه باشا، وكان أصله عاملا من عمال الورشة ثم أصبح تمرجيا لا يدري كيف، ثم باشتمرجي لا يجيد ضرب الحقن بقدر ما يجيد التحدث عن الأصول والميل علي والهمس في أذني، وموضوعه المفضل هو سيرة الدكتور قيصر حكيمباشي السكة الحديد السابق الذي كان يعمل مكاني من عشرين سنة خلت، والذي كان بيك رسمي (العهدة على عم مرسي)، والذي كان يشخط في العامل فينطره خارج الحجرة، والذي كان، زيادة في الهيبة، يجلس إلى مكتبه وعلى يساره سماعة الكشف وعلى يمينه مسدس لا يتردد في رفعه على العامل لو لمح منه زمزقة أو اعتراضا.
ولكن عم مرسي الباشتمرجي كان يعود ويقول لي: والله غلابة يا سعادة البيه، ح يعملوا إيه؟ وراهم بيوت، والنبي وشرف سعادتك ما تكسفني، إديله أسبوع.
يظهر عم مرسي واقفا على السلم عند نهاية الأخدود وهو يتمتم في صوت أجش وقور: وسع يا جدع اتلم كده يا أخينا.
ثم يبتسم قبل أن أصل إليه ابتسامة واسعة كبيرة تريني طقم أسنانه كاملا، وتريني اللثة الصناعية الشديدة الحمرة، وقبل أن أصل إليه يخف ويمد يده ويقول: صباح الخير يا سعادة البيه.
وأمد يدي فيمسكها بحذر وأدب ويكاد - لولا الخجل - أن يقبلها، والكلمة الثانية يلتفت ويقول للعمال: طابور.
فإذا حدثت حركة كان بها، وإلا أعقبها بقوله: البيه مش ح يشتغل إلا بطابور.
وتدور حركة زق ودفع وتسلل واسعة النطاق. وأخيرا جدا يتكون طابور، طابور غريب يبدأ داخل حجرة الكشف ويخرج من الباب ويتلوى مع الصالة ويهبط السلم الخشبي العتيق وينحرف إلى يمين ثم إلى يسار ويمتد إلى البوفيه، وأحيانا يصل إلى عنبر البرادة ويدخله ويعطل العمل فيه.
وأدخل أنا الحجرة، فيخرج النفر القليل الذي كان قد تسرب إليها محاولا أن يجد له مكانا عند الباب في أول الطابور، ولكن عشرات الأذرع تمتد وتجذبهم ولا تتركهم إلا حين تتسلمهم أذرع خلفية أخرى، وتظل الأذرع تتبادلهم حتى توصلهم إلى السلم ثم إلى الأرض ثم إلى مؤخرة الطابور.
ويوارب عم مرسي الباب بعدما يعجز عن إغلاقه، وأجلس إلى المكتب، مكتب ضخم كبير واسع عمره لا يقل عن الخمسين عاما. وحجرة الكشف نفسها واسعة جدا يبدو المكتب فيها صغيرا قليل القيمة، وفي ركنها لوحة الكشف على النظر، وقد تكفل الزمن بمحو كل علاماتها، وعلى اليمين كنبة جلد قد بقرت الأيام مسندها وأظهرت أحشاءه.
وفي أدب جم يقول لي عم مرسي: قهوة يا بيه، مش كده؟
ولا ينتظر إجابتي، فيزعق على مرءوسه عم حسين - وهو تومرجي أكبر منه في السن، عجوز جدا نحيف جدا، المفروض أن يقف بجوار الباب ولا يسمح بالدخول إلا لواحد واحد - يزعق ليقول: قهوة ع الريحة للبيه يا حسين.
ويحاول عم حسين أن يهرول لتنفيذ الأمر، ولكن أين يذهب عم حسين وهو لا يكاد يستطيع الوقوف في مكانه؟ قبل أن يتحرك تتحرك ألسنة الواقفين في الطابور، فيقول أقربهم إلى الباب: قهوة ع الريحة للبيه يا جدع.
فيتلقفها الواقف في الصالة، وتسري القهوة في الطابور حتى تصل إلى القهوجي في البوفيه دون أن يتحرك أحد من مكانه، وفي ثانية تكون القهوة قد أعدت وتظل أيدي الطابور تتناولها محافظة عليها حتى تستقر أمامي، دون أن يتحرك أحد من مكانه أيضا.
وكنت أضيق بانتباه هذه الجماهير الغفيرة من العمال وقد تركز علي وأصبحت محوره؛ فمن طباعي أني لا أطيق مواجهة الجماعة الصغيرة إذا وفدت عليها وقامت لتسلم علي، فما بالك ومئات العيون ترقبني وترقب كل حركة من حركاتي، وكل بادرة تدل على أي تغيير في طبعي ومزاجي؟ والمشكلة أنها عيون غير محايدة، عيون لها مطلب عندي، عيون لكثرتها ولإحساسي أني لست بالنسبة إليها سوى بصمجي في يده أن يحتسب يوما أو يخصمه، كانت تجعلني أحس بالمهانة والاحتقار لها ولنفسي، ولظروف الحياة التي تدفعني إلى هذا الموقف السخيف المحرج.
وتبدأ التمثيلية.
يدخل العامل ويرفع يده بسلام عظيم وتحية زائفة لا يكلف نفسه عناء إخفاء ما فيها من ملق. عندك إيه؟ عندي إسهال. وبعده عندك إيه؟ مغص.
إسهال، مغص، مشوار، ح أطلق مراتي، ابني ضايع وعايز أدور عليه والنبي، خربتي مقسومة نصين من امبارح، أبويا توفى تعيش انت.
وأول ما عينت في تلك الوظيفة وكنت لا أزال حديث التخرج، ولا تزال لجنة الطلبة والعمال التي كانت تقود الكفاح ضد المفاوضات ماثلة في ذهني، والعمال الذين كانوا يأتون إلى الجامعة بعفاريتهم الزرقاء والصفراء ونعقد معهم المؤتمرات ونتفق على الإضرابات، حماسي لهم لا يزال على أشده. لم أكن أتردد، كنت أمنحهم كل ما يريدون من إجازات، وكنت أعتقد أني استوليت على قلوبهم بذلك العمل البطولي. ولكن أبدا، كل ما حدث أنهم كفوا عن رجواتهم وملقهم السافر الساخر، وأصبح الواحد منهم يدخل ويقول: أنا عايز يومين، أنا عايز ثلاثة، دون أن يكلف نفسه عناء الشكوى من مرض، ويطلب هذا وكأنه حقه. فإذا أعطيته ابتسم لي ابتسامة لا تخلو من سخرية، وإذا لم أعطه تلحم وكشر وأقسم ألا يغادر مكانه إلا بالإجازة. ولكن تلك التصرفات لم تفت في عضدي وظللت أمنحهم كل ما يريدون، إلى أن حدث يوم وكان يوما ممطرا وتأخر أكثر من نصف عمال الورشة، وأبلغوا أنهم مرضى، وكالعادة منحتهم إجازات، وكانت النتيجة أن توقف العمل في الورشة وأبلغت الجهات المسئولة، وجاء مدير القسم الطبي وراجع دفتر الإجازات وروع حين وجد أن أكثر من خمسمائة عامل لديهم إسهال، و200 أنفلونزا، وظل يقلب الدفتر ويقول بصوته الأخنف: إيه ده يا دكتور؟ دا انت عندك كوليرا في الورشة! لما 500 يبقى عندهم إسهال لازم البلد تنقلب.
وخصم مني ثلاثة أيام وأنذرت بالفصل، ولم يتحرك أحد لا من النقابة ولا من العمال لما حدث، وكأن الأمر لم يكن بسببهم.
وهكذا وجدت نفسي مضطرا أن أدقق وأوازن وأمنح البعض وأعيد البعض، وأضيق بالعمل كله، وبنفسي حين أمنح وبها حين أرفض، وبالعمال إذا رضوا وإذا سخطوا، أو على حد تعبير العمال أصبحت المسألة مسألة مزاج.
والأربعة أو الخمسة الذين يدخلون حجرة الكشف في أول الطابور كان يقع عليهم عبء تحديد مزاجي، إذا منحتهم إجازات سرت في الطابور الضخم الملتوي كحيوان من حيوانات ما قبل التاريخ، سرت فيه موجة تفاؤل وفرح، وإذا لم أعطهم سرت همهمة غضب مكتوم وأفلتت الألسن شتائم.
وجربت كل الطرق ولكني انتهيت إلى نتيجة واحدة؛ أن هؤلاء العمال لا يمكن إذا أرادوا شيئا إلا أن ينالوه، سواء كنت راغبا في إعطائه أو مصمما على منعه. كان عنادهم وتصميمهم يغل عنادي وتصميمي، وقراري الحاسم يبريه إلحاحهم القوي المتواصل. كنت لا أكاد أميزهم من بعضهم البعض، نفس الوجوه ونفس النظرات ونفس المنطق، ولم أكن أستطيع أن آخذهم فرادى، إذا عجز منطق الواحد تصدى له آخر، وإذا ما شخطت في واحد دمدم له الآخرون، وأحس دائما أن تفاهما خفيا يسري بينهم كالأسلاك غير المرئية، ويربط أجزاء ذلك الطابور الطويل المتحرك صوبي، الكلمة أقولها في المكتب فإذا بها بعد ثانية قد أصبحت في حوش الورشة وفي العنابر، وأناقش الواحد فيتدخل الآخرون كالعصابة المتفاهمة قبلا والتي وزعت على نفسها الأدوار: واحد يناقش، والثاني يهدد، والثالث يصرخ، والرابع يستصرخ الحكومة، والخامس يتشنج، والسادس يشتم ، والسابع يرجو، والثامن يبتسم في هدوء وبراءة وكأنه تأكد أنك اهتززت بكل ما سمعته وأنك على أهبة القبول، فيقول لك ليكفيك مئونة الحرج: على العموم أنت صاحب الأمر والنهي، اللي تعمله ماشي.
وبتلك الطريقة انتهى عملي كطبيب إلى أن أصبحت مساوما من الدرجة الأولى، العامل يريد خمسة أيام فأساومه لأمنحه ثلاثة، وبعد أن تطلع روحي ويضيق خلقي وأنفاسي لا يقبل الأربعة إلا وهو يشعرني أني ظلمته وجرت عليه، بل أحيانا كانت المساومات والرجوات تظل تلاحقني في الشارع حتى إلى باب شقتي.
وكنت أغادر العمل في الثانية بعد الظهر ورأسي قد أصبح عنابر وشوارع وحارات، وأيدي تلوح وزعيقا ومناكفات وتهديدات ورجوات ومغصا كلويا أيمن وآلاما روماتيزمية بالمفاصل وضعفا عاما، وعفاريت ملطخة بالدوكو والزيت وخبطات كثيرة على المكتب وتشنجات عصبية ورغبة عارمة تراودني أن أنتحر أو أقتل أول إنسان أصادفه.
أعود إلى البيت لأتغدى فأجد ضجة الشارع وغباره وروائح الكبدة المقززة قد سبقتني إليه، وأجد طبيخ أم عمر ينتظرني، خضار ولحمة، ودائما خضار ولحمة والحلو برتقال، وأم عمر كأم قويق واقفة قبالتي تحاسبني على الطعام، وتغالطني علنا في الحساب.
وأتغدى، وتذهب أم عمر، وأقفل النوافذ، وأمنع النور والضجة، ويهدأ البيت قليلا وكذلك الحي، وأبدأ أنا أترقب الأصوات وأتسمعها وأميز، وقلبي يدق دقا خفيفا، ثم أرى شبح خيال يقلل الضوء المنعكس من زجاج الباب، ويدق قلبي دقة واحدة كبيرة ثم يسكت هنيهة، ومع عودة الدق يدق الجرس.
وأسرع ملهوفا وأفتح الباب، وإذا بابتسامة عذبة دائما، حلوة دائما، ووجه نحيف أبيض تحيطه هالة من الشعر الأسود، وكأنه حية دقيقة مرهفة تقول في همس مبتسم جميل: ممكن أدخل؟
6
وفي ذلك اليوم بالذات يدوخني همسها؛ إذ هو اليوم الذي كنت قد قررت أن أكشف لها فيه عن نفسي.
اليوم الذي اضطربت له كما لم أضطرب لأي امتحان دخلته، أو لأي موقف فاصل وقفته في حياتي، الحجرة حجرة المكتب في شقتي ببولاق، والدنيا بين الليل والنهار، والشيش مغلق وكذلك الزجاج، وجهودي كلها قد بذلتها منذ عودتي من عملي لمنع الضجة ورائحة الكبدة، وخلق جو «شاعري» غير مفتعل، الحجرة فيها مكتب وكنبة «ستوديو» وكرسي أسيوطي ذو مساند، ومكتبة صغيرة وجراموفون. الموبيليا الضرورية لحجرة تستعمل للجلوس والكتابة والنوم أحيانا بلا أناقة أو لمسات. وسانتي جالسة فوق الكرسي الأسيوطي وأنا حائر لا أستقر، والخطاب الذي كتبته لها يكاد يحرق بحرارته درج المكتب، ونحن الاثنان وكأننا نترقب شيئا كالجالسين ينتظران طلب قضيتهما أمام محكمة ما.
وكانت سانتي قد خلعت جاكتتها وبقيت ببلوزة لبني كالقميص، وفي خدودها احمرار وشعرها مشعث، وسحب الدخان تهيم وتتكاثر حولها.
وبدأت الكذب الواضح الذي لم أتعمد إخفاءه وقلت: أتعلمين شيئا؟ (وكانت هذه لازمتي معها.)
قالت بغير حب استطلاع: ماذا؟
قلت: صديقي الذي حدثتك عنه بالأمس، صديقي الذي كتبت له القصيدة ليعطيها للفتاة الأجنبية التي ...
وانتظرت عساها تبدي اهتماما أزيد، أو تسأل، ولكنها لم تقل شيئا، فمضيت أقول: مشكلة ذلك الصديق أنه واقع في حب فتاة ولا يعرف كيف يعبر لها عن عواطفه، وقد كلفني أن أكتب له خطابا يشرح لها نفسه فيه، أتريدين قراءته؟ - نعم.
قالت هذا وهي تكمل إجابتها بسرب من الابتسامات البريئة العذبة، ثم قالت بخفة طفولية: أين الخطاب؟ - في درج المكتب ... الأسفل.
وكالطفلة المحبة للاستطلاع قامت وفتحت الدرج وقلبت الأوراق ثم تناولت الخطاب، ونظرت إليها وأنا أتتبع حركاتها باهتمام عظيم وكأني أتوقع أن يحدث انفجار ما لدى أية حركة من حركاتها.
وضعت الخطاب بعناية فوق المكتب، ثم أمالت رأسها عليه وبدا عليها أنها تقرؤه.
ولم أستطع الصبر، شيء ما أرقني فقلت لها: إن خطي فظيع لا يستطيع أحد غيري أن يقرأه، هل تسمحين؟
وببساطة تنازلت عن الخطاب ومقعدها، وعادت تجلس على الكرسي الأسيوطي، وبدأت أقرأ الخطاب بصوت مرتفع، وأسندت رأسها إلى يدها تواجهني وتستمع وعلى فمها ابتسامة لا تغادره، وكأنما توقفت تستمع هي الأخرى.
والواقع لم أكن أقرأ، كنت أحاول أن أخاطبها بالكلمات المكتوبة، وأختلس النظر أحيانا لألمح أثر كلماتي فأجدها لا تزال تصغي ولا تزال تبتسم.
وانتهيت من القراءة، وحل صمت كامل، ورفعت إليها عيني، ولم تكد نظراتنا تلتقي حتى وجدتني أقول في تهور: لقد كذبت عليك. - ماذا؟ - ليس الخطاب لصديقي، إنه خطاب مني إليك.
وتضاءلت ابتسامتها، وقالت وهي تنكس رأسها: كنت أعرف هذا.
وقامت وأشعلت سيجارة لنفسها بنفسها، ونفثت دخانها إلى الناحية الأخرى.
وأرعد هاتف في نفسي يقول: آه ... لقد بدأ الجد.
وقلت بعصبية وقد كاد صبري ينفد فعلا: ما رأيك يا سانتي؟
وخرجت «سانتي» من فمي قلقة متهدجة. كان ثمة خوف كبير قد اعتراني. لسبب لا أعرفه بدأ ينتابني إحساس مفاجئ بالخجل وبخيبة الأمل. طوال اليوم السابق وإلى اللحظة التي انتهيت فيها من قراءة الخطاب كان همي الوحيد أن أفرغ ما بنفسي، وكنت واثقا تماما أنها ستستجيب، ولهذا لم أفكر أبدا فيما يمكن أن يحدث بعد قراءة الخطاب. وإذا بي بعد أن انتهيت جالس أرتعش وأترقب كمن وجد نفسه فجأة يقف على حاجز رفيع بين هاويتين لا قرار لهما، كمن وجد نفسه يجابه مسألة لم يعمل لها حسابا قط.
كنت تماما مثل أي طفل يشعر بهاتف يهيب به أن يقذف عربة مارة من أمامه بطوبة وهو ضامن أن العربة لن تتوقف، وأنها ستمضي مارقة كالريح. ولكنه ما كاد يقذفها حتى حدث ما لم يكن في حسبانه بالمرة؛ أن توقفت العربة وهبط منها أصحابها وأحاطوا به، وأصبح عليه أن يواجههم.
أنا الآخر لم أستطع أن أكبح الهاتف الذي كان يهيب بي أن أصرح لها بكل ما أحسه ناحيتها، ولم أراجع نفسي ولا فكرت، لعلني كنت قد بدأت أدرك أني لا بد أن أخطو خطوة إيجابية وقد خيل إلي أني أصبحت مطالبا باتخاذها.
لعلني أردت أن أقدم لها عواطفي في شكل ملموس لا يحتمل شكا أو تأويلا، أردت أن ألعب لعبة الشبان فاعترفت لها بحبي لأنكشها ويصبح في استطاعتها أن تعترف لي بحبها هي الأخرى؛ إذ شعوري الداخلي كان يؤكد لي أنها تكن لي حبا ولكنها لن تصارحني به إلا إذا تأكدت أني أحبها وكنت البادئ.
لعلني كنت مثل غيري من أبناء جيلنا ظمآن أشد الظمأ إلى الحب الذي أسمع عنه في كل مكان وحياتي خالية تماما منه، وأريد الاستمتاع بنشوة الاعتراف به.
لعل هذا.
ولعلني كنت ضامنا سلفا أن سانتي لن تحاسبني على هذا البوح، ولن يحدث شيء بالمرة، وتمر علاقتنا كالعربة المارقة لا يمكن أن يوقفها أو يخدشها اعتراف كهذا.
ثم إذا بي أواجه ذلك الموقف.
وقد أكون أضعف إنسان جابه امرأة على هذا الوضع.
وقد يكون ما فعلته خطأ وكان الواجب أن أدع العلاقة تنمو حتى يصبح باستطاعتي أن ألمسها ثم أقبلها، فإذا رضيت بقبلتي صارحتها بعواطفي.
ولكن ذلك ما حدث، وكيف كان يمكنني أن أعرف الصواب من الخطأ من غير أن أخوض التجربة؟
لقد حددت ذلك المساء في بولاق خطوط أعنف مأساة عصرت حياتي عصرا.
كانت واقفة في ركن الحجرة تعبث بشيء ما حين سألتها: هيه، لم تقولي لي رأيك؟
فقالت وفي عينيها حيرة من لا يعرف كيف يصوغ إجابته: في ماذا؟ - فيما قلته في الخطاب؟
وحين نسأل سؤالا كهذا نحن لا ننتظر الإجابة. إننا نركز انتباهنا على المسئول لنخمن إجابته قبل أن ينطقها، أو حتى لو نطق غيرها، ولم أستطع التخمين، كل ما استطعت أن أدركه أنها غير مهزوزة أو منفعلة بما حدث. لم يكن مسلكها هو نفس المسلك الذي يتوقع الإنسان حدوثه في حالة كتلك. كانت آخذة الأمر ببساطة تخيب الأمل، وبنفس تلك البساطة قالت: ولكنك تعلم أني متزوجة.
قلت لها في هدوء: أعلم هذا.
فقالت وهي تفتح عينيها في دهشة، وكنت لا تستطيع معرفة دهشتها إلا إذا راقبت عينيها: طيب، وكيف يكون الوضع؟
وكان هذا أكثر من أن أستطيع احتماله. لقد بدأت بقراءة الخطاب موضوعا ضخما، عواطف جامحة متأججة لا ترحم قدمتها، فكيف ينحرف بنا الحديث هذا الانحراف الغريب، ويأتي ردها يثير مشاكل عملية ليس هذا وقت طرقها أو التفكير في التغلب عليها؟ أنا لم أكن أطلب منها أن أتزوجها لترد بقولها إنها متزوجة، أنا كنت أعبر لها عن انفعالات بالرغم من عنفها وقوتها إلا أنها رقيقة جدا لا تحتمل تداولا أو تقليبا، أشياء لا تخرج عن الصدر الحي إلا ليتلقفها صدر حي آخر، أشياء تموت لو خرجت من أحدهما وبقيت معلقة في طريقها إلى الآخر.
وقلت: يعني ماذا؟
فقالت: يعني أنا لا أستطيع أن أبادلك هذا الحب. أنا متزوجة ولا أستطيع أن أحب سوى زوجي.
وأكملت الحديث كلاما فارغا، فقلت وأنا أبتسم ابتسامة صفراء مرتعشة: تزوجيني إذن.
فقالت: ولكني قلت لك إني متزوجة.
فقلت: اتركيه وتزوجيني.
فقالت بعصبية وكأنها مشكلة حقيقية: ولكني أحب زوجي، فكيف أتركه؟
وطبعا لم أعر إجابتها تلك أي التفات، بل لم أعر الحديث كله أي التفات، تلك الجمل المتعثرة المرتبكة، ذلك اللجاج، ما شأني أنا به؟ كنت طوال الوقت أبحث عن خلجة انفعال، عن نظرة، عن لمحة، عن ابتسامة، عن كلمة، عن تحديق يصاحب كلمة، عن شيء دقيق أستطيع أن أعرف به إن كانت قد أحبتني حقيقة أو على استعداد لحبي.
ورغم كل مجهود الغريق الذي بذلته لأتشبث بقشة انفعال واحدة، خرجت من بحثي منقبض الأصابع في يأس.
لمحت أشياء أخرى بعيدة كل البعد عما أريد. لا مانع لديها مثلا أن أحبها أنا ما شئت، ولا مانع لديها أن أعبر لها بكل وسائل التعبير عن هذا الحب، أما من جهتها فإن وضعها لا يسمح؛ إذ هي متزوجة تحب زوجها.
ممكن أن أكون قد اعتبرت هذا كله مجرد تخمين، ولكن الذي لا شك فيه أنها كانت جادة فعلا كمن تجابه موقفا لم تعمل له حسابا قط، مع أنه كان واضحا أنها تعلم أن موقفا كهذا كان سيعقب حتما تلك القصيدة الإنجليزية التي قرأتها عليها.
وكان التوتر قد خفت حدة وقعه الأولى، فجلست هي إلى المكتب وجلست مكانها على الكرسي الأسيوطي وأغمضت عيني، وأنا أتمنى في قرارة نفسي لو تحدث المعجزة وينقلب المشهد الحقيقي الذي أعيش فيه إلى حلم أفرح باليقظة منه بعد قليل، أو تحدث المعجزة الأكبر وأفاجأ بها تغير موقفها وتمد يدها الدقيقة وتمسك بيدي مثلا وتقول: لا تصدقني يا يحيى إذا قلت إني لا أحبك، أنا أكذب عليك، أنا مدلهة بك.
أغمضت عيني وتركت نفسي متمنيا أن ينقلب الواقع إلى حلم، أو تنقلب أحلامي إلى واقع، وفتحتهما مرة فوجدتها تبتسم ابتسامة من يتذكر شيئا مضحكا، ثم قالت: هل تعلم شيئا؟ (وكانت أحيانا تستعمل نفس لازمتي.)
قلت مشحونا ببوادر أمل: ماذا؟
قالت: مرة شاب سوداني كنت أعمل معه قال لي إنه يحبني وأصر على أن يتزوجني.
فقلت بسرعة: متى؟ - قبل أن أتزوج. - وبماذا أجبته؟ - حاولت إفهامه أني لا أحبه، ولكنه لم يقتنع أبدا، وهاج وماج، وقال لي: غير مهم أن تحبيني، نتزوج أولا وبعد هذا يأتي الحب.
وسكت سكوت غير المرتاح لكلامها، ولكنني لم أستطع الصبر على سكوتي. كان من المستحيل أن يمر المشهد الذي دبرت له طويلا هكذا ببساطة وبلا نتيجة، وكأني لم أفتح لها قلبي الذي كنت ضنينا به طوال حياتي أن يفتح. لقد ظللت مرة أحب طالبة زميلتي في الكلية ثلاث سنوات كاملة، وأكلمها وأحادثها وأنا مغلق نفسي على عواطفي بإرادة حديدية. وما أبشع الليالي التي قاسيتها أتلظى وأكاد أجن رغبة في أن أبوح لها بحبي، ولكني كنت أثوب إلى رشدي في الصباح، وتعود الإرادة الحديدية تحبس عواطفي؛ فخوفي الأكبر كان أن أعترف لها بحبي فأجد أنها لا تحبني، وأجد أني قد مرغت كرامتي واعتزازي بنفسي أمام أعين غريبة لا يهمها أمري. وبقيت هكذا إلى أن تخرجنا وتفرقنا ولا يعلم بحبي هذا سواي.
لم أستطع الصبر على سكوتي، فسألتها: يعني ... ألم ... ألم تحبي أبدا؟ أقصد قبل أن تتزوجي.
فقالت: طبعا.
قلت ملهوفا: من؟ - زوجي.
وطمأنتني الإجابة؛ فلم أكن أعتقد أن الزوج ممكن أن يلعب دور الحبيب قبل الزواج أو بعده. لا بد أن تقول هكذا لأنها يجب أن تقول هكذا.
وعدت أسألها: كنت تحبينه فعلا؟
فقالت وهي تكاد تضحك: طبعا، ولا أزال، وإلا لكنت قد تركته. - تحبينه، أقصد ... يعني حب، غرام؟ - طبعا طبعا، أحبه طبعا.
وأخذت إجابتها على محمل القول الواجب، وإن كانت طريقتها الأكيدة الحاسمة في صياغة الإجابات بدأت تقلقني ، وقلت ليهدأ قلقي: وكيف تحاببتما؟
فقالت وهي تغادر الكرسي واقفة: ونحن هكذا (أشارت بيدها كمن يقول ونحن أطفال)، كان أبوه شريك أبي، نلعب سويا. وكنا في المدرسة معا، وتحاببنا من ورائهم، ثم كما ترى تزوجنا.
ومرة أخرى عاودني الاطمئنان؛ فذلك النوع من الحب ممكن أن يعتبر تآلفا أو عشرة أو أي شيء غير الغرام الحاد الذي خفت أن يكون قد حدث بينها وبين زوجها.
قلت وأنا أريد للحديث أن ينقطع: ولماذا رفضت حب الشاب السوداني؟
فقالت: لأني لم أحبه. كنا أصدقاء فقط.
فقلت: هيه.
وسكت قليلا أتأملها ثم سألتها: وما رأيك؟
فوقفت أمامي وارتكزت بيد إلى المكتب وقالت وهي مأخوذة قليلا بما تريد قوله: شوف، أنا أعتبرك صديقي العزيز، ولكني لا أستطيع أن أحبك وأحب زوجي في وقت واحد.
فسألتها سؤالا وكأنما أسأل نفسي: وماذا أصنع أنا؟
قالت: اسمع، أنت وراءك مهام كثيرة، وعملك وبلدك في حاجة إلى جهودك كلها. وأنت تضعني في موقف حرج، إني لا أعرف كيف أتصرف ولا أعرف ماذا يجب علي أن أفعله. أنت تقدر موقفي طبعا.
قلت: المشكلة في الحقيقة ماذا أصنع أنا؟ فأنا الذي يحس.
فابتسمت ابتسامة من يقول لا تسمع كلامي، وقالت: حاول أن تنسى.
وبقدر ما أعجبتني ابتسامتها ضايقني ردها، لا لكلماته وإنما للطريقة التي قالته بها. أيقنت أنها خارج المشكلة تماما، وأنها تنصحني كما تسدي النصح لصديق واقع في مشكلة خاصة به.
واهتزت كرامتي، وقضيت ما تبقى من الوقت في وجوم.
ولم يعد هناك كلام يقال، ظللت طوال الوقت أبتسم لأخفي مشاعري وأطيل التحديق فيها علني ألمح في خواطرها - إن لم يكن في ملامحها - ذلك الشيء الذي أبحث عنه.
لم يعد هناك كلام يقال وظللت صامتا، ومع هذا بقيت سانتي وقتا أطول مما تعودت أن تبقاه. وحين طال صمتي وطالت الجلسة حاولت أن تتذكر نكتا وتحكي مفارقات وتضحك لتبدد الوجوم الذي خيم على الحجرة، غير أن كل هذا لم يحرك في ساكنا.
وحين غادرتني، قالت ويدها على الباب ويدها الأخرى ممدودة إلي: أصدقاء؟
وأحسست أن الكلمة خارجة من فم طفلة.
ولكني خجول، وهكذا تمتمت وأنا أداري وجهي في ابتسامة ما: أصدقاء.
وهبطت درجات السلم في بطء وكسل.
7
ولم يكن هناك ما أفكر فيه ليلتها، لا لقلة ما كان هناك وإنما لكثرته. عشرات الأشياء كان علي أن أفكر فيها، كل شيء صاحب تعارفنا، كل حادثة صغيرة وقعت في أثنائه، كل كلمة قلناها وكل ابتسامة ابتسمناها كانت قد أصبحت شيئا مستقلا بذاته علي أن أفكر فيه وأخرج منه باحتمالات. ومع ذلك ظللت عمليا بلا تفكير؛ فالاحتمالات حين تتقارب ولا يستطيع الإنسان أن يرجع أحدها على الآخر تعفى من التفكير، ويفلس العقل؛ فعقولنا تنشط فقط إذا كان هناك أمل، وتساوي الاحتمالات لا يدعو لليأس، ولكنه أيضا لا يبقي مكانا للأمل.
وعشرات المرات حاولت أن أرغم نفسي على التفكير وعلى استعادة ما حدث، وفي كل مرة لا أجد لدي ذرة رغبة واحدة في استعادة شيء، وقلت لنفسي في النهاية: ليس عليك سوى أن تنتظر وتترقب ما تفعله لتغلب احتمالا على آخر.
وجاءت سانتي في اليوم التالي مباشرة.
وكنت أعرف أنها ستأتي. لم يكن مجيئها في نظري ليغير من الأمر شيئا، لم يعد مجيئها علامة رفض أو قبول، أصبح عادة.
ولكني قابلتها في تلك المرة بشعور مختلف. طوال الأيام الماضيات كنت أكاد آكلها برغبتي فيها، كنت لا أتحدث إليها أو ألمس يدها أو أحدق في عينيها إلا وأنا أتقلب على جمر الرغبة فيها. وفي تلك المرأة أحسست أن حاجزا شفافا قد أصبح يحول بيني وبينها. خجل شديد، أو أي شيء يشبه الخجل الشديد في مفعوله، كنا قد «تحدثنا» في السر الذي أقفلت عليه نفسي، وبهذا انكشف الغطاء وأصبحت كل حركة مني مفضوحة وأنا أول من يفضحها، وبتلك الفضيحة توقف الزحف التلقائي الذي كان يجذبنا ويقربنا دون حاجة إلى كلام أو مصارحة، أو على الأصح في غيبة الكلام والمصارحة. وشيء آخر، سانتي كانت قد قالت لي من زمن إنها متزوجة، ولم أعر الأمر ساعتها اهتماما يذكر لدرجة أني لم أتصورها زوجة أبدا، ولم أجد أهمية لهذا التصور؛ فكل ما كنت أحسه تجاهها كان لا يدور إلا بيني وبين نفسي، ويدور رغما عني، وكان من المستحيل أن يؤثر في أية علاقة أخرى لها. فلتكن متزوجة أو أرملة أو حبيبة، ما الحرام في أن أعجب بها ذلك الإعجاب الصامت الذي لا يستطيع أحد أن يلمحه أو يحاسبني عليه؟ ولكن الإعجاب الصامت تكلم أخيرا ونطق، فاضطرت أن تذكرني هي الأخرى بموقفها وتقول لي إنها متزوجة برجل تحبه ولا تستطيع أن تحب اثنين في وقت واحد. ازداد الأمر تعقيدا، لا لأنني عدت إلى رشدي وأدركت أنها متزوجة وأني لا يصح أن أحس ناحيتها بأي انفعال، ولكن لأني أيضا لم آخذ قولها مأخذ الجد؛ فقد شعرت أنها تضع عقبة شكلية محضة أمام علاقتنا؛ إذ كان بوسعها أن تقول لا يمكن أن تحبني، وكان بوسعها أن تعنفني وتزجرني وتقطع علاقتها بي وينتهي الأمر. أما أن تقول إن الزواج هو فقط الذي يمنعها من حبي؛ فمعنى هذا أن المانع مجرد شكل، والشكل ممكن أن يتغير، ممكن أن تترك زوجها وتتزوجني مثلا، وصحيح أن هذا ليس حلا مثاليا، ولكنه ليس أول حل غير مثالي، أو على الأقل ليس الحل الذي لا يفكر فيه إنسان في موقفي متلهف عليها، غير قادر أن يكبت أو يقتل لهفته عليها. إنسان مستعد أن يفتت صخور اليأس ليعثر على قطرة أمل واحدة، ومستعد أن يفتتها حتى ولو كانت القطرة سرابا غير موجود.
ولكنها حتى بذكرها هذا الاعتراض الشكلي كانت قد أثارت في نفسي قيما عميقة مقدسة لا يمكن أن تمحى أو تزول، قيما ليس أقلها احترام ما يخص الغير؛ فقد أدركت أن سانتي التي اعتبرتها منذ ليلة الأوبرا قد أصبحت لي ليست في الواقع لي، ولكنها زوجة رجل آخر لا أعرفه، ولكنه رجل شريف يحارب من أجل قضية كقضيتي تماما، ويلعب فيها دورا ربما أعجز أنا عن القيام به. وأبالغ حين أقول: إني أدركت؛ فالإدراك لم يكن هو بالضبط ما شعرت به. فلو سألتني رأيي بصراحة لقلت لها إني لا أزال لا أصدق أبدا أنها متزوجة رغم الحقائق والحكايات التي قالتها. ليس إدراكا ولكنه احتمال، مجرد احتمال أن تكون صادقة فعلا، ومجرد الاحتمال له في نفوسنا - نحن الذين تربينا في صرامة الريف وتقاليده - قوة اليقين وحرمته. ذلك الزحف التلقائي الذي كنت أقوم به وأنا أغمض عيني عمدا عن كل حقيقة أخرى خاصة بسانتي سوى أنها معي، تأتي لي، وتبتسم من أجلي، أوقفته هي وتولت بنفسها فتح عيني وتبصيرها بالحقائق.
ولم يفعل هذا أكثر من أن أضاف إلى المشكلة المعقدة أصلا تعقيدات جديدة؛ فقد أصبح واجبا علي أن أعاملها باعتبار أنها زوجة، وأنا مؤمن أنها ليست كذلك، وأنا أشك في إيماني هذا، وأنا حائر في هدفها من تذكيري بوضعها، حائر فيها، وفوق هذا كله وقبل هذا كله مدرك تماما أني لا أستطيع أن أمنع نفسي من طلبها، كما لا أستطيع أن أمنعها من طلب الحياة والوجود. أبدا لم أكن أستطيع حتى ولو تبينت مثل أوديب أنها أمي؛ فشغفي بها كان قد خرج عن إرادتي، أصبح كالنار العنيدة الموقدة في نفسي كلما حاولت أن أخمدها بمانع أو حائل أتت عليه، بل زادتها الحوائل والموانع اشتعالا.
وجاءت سانتي في ذلك اليوم التالي.
ولدهشتي كانت ابتسامة كبيرة تضيء وجهها، وفي حركتها نشاط طازج، وفي ملامحها وكلماتها تعبير غريب لم يكن قد طرق وجهها قبلا، تعبير التي تشجعك على نفسها، وبعد ماذا؟ بعد ليلة واجهتها فيها وانتهت وأنا مكسور الخاطر.
وجلست على الكنبة.
جلست بعد أن خلعت جاكتتها وبقيت ببلوزة بيضاء محبوكة على صدرها وأكتافها، فبدت كالموزة حين تخلع عنها القشرة.
ولفت نظري شيء كان يطل من تحت ذيل «الجيب».
كان ذيل قميص نوم جديد أنيق مشغول!
وما كدت أراه حتى دق قلبي دقا مفاجئا متلاحقا.
إذ في ومضة كنت خمنت شيئا.
أممكن هذا؟
أممكن أنها ترتدي ذلك القميص من أجلي؟
أممكن أنها قد افترضت أنه بعد مصارحتي حتى المكشوفة لها بالحب ، لا بد أن يحدث «شيء ما» وأعدت نفسها لهذا «الشيء»؟
وابتسامتها تلك، أليست ابتسامة الخجل المسبق من ذلك الشيء المقبل؟
ولكن قلبي هذا بعد أجزاء من الثانية كف عن خفقانه؛ فقد خيل إلي أن الاحتمال بعيد، وأنه مستحيل مستحيل، وأن علي ألا أركب رأسي وأن أستقر وأهدأ.
كان قد حدث حادث بعد ليلة الأمس. كانت خيبة أملي فيما كان قد خوفتني من محاولات أخرى للاقتراب. كانت الفراشة قد أحست بالصبي حين أثار الضجة المقصودة ليشعرها بوجوده وبأنه في الطريق إليها؛ ولهذا كان يجب أن أطمئن تماما قبل أن أخطو خطوتي التالية إليها؛ إذ كان يخيل لي أن الفراشة ستطير في أي لحظة مقبلة ولدى أي حركة.
ومن أجل هذا السبب كنت أرفض كل علامات القبول التي قد أراها، وأحاول أن أفسرها تفسيرات أخرى. كنت قد وطنت نفسي على ألا أقدم إلا إذا رأيت بعيني علامة قبول ضخمة تفرض صدقها ولا تدع مجالا للشك فيها.
وكأني كنت أنتظر أن تبدأ بتقبيلي مثلا، أو تقول لي أحبك.
وكان ذلك بالطبع منها صعب الحدوث، بل مستحيل الحدوث.
وجاءت لحظة انفعال أخرى.
كانت واقفة بجوار «البيك آب»، وكان فيه أسطوانة أظنها «شهر زاد»، وانتهت الأسطوانة فذهبت إلى الجراموفون لأضعها على الوجه الآخر. وحين دارت وتصاعدت الموسيقى وأغلقت الجهاز، ارتكزت بكوعي عليه، وكانت هي الأخرى مرتكزة بكوعها عليه وكانت لصقي تماما، وتحدثنا في شيء ما ورفعت وجهها إلي، وفوق ما كان في وجهها من حمرة وفي عيونها من بريق، فقد كان هناك شيء ما يشبه الدعوة، دعوة من فمها الذي كان قريبا جدا من فمي.
وحدثتني نفسي أن أنقض عليها وأحتضنها وأهوي بفمي على فمها، وترددت لبرهة بين أن أنفذ الخاطر أو أهدأ وأسكت.
ورغم أن ترددي لم يأخذ إلا ومضة خاطفة إلا أن وجهها كان قد عاد إلى وضعه الطبيعي، وأصبح تنفيذ العناق أمرا صعبا.
وأراحتني عودة وجهها؛ إذ أعفتني من التفكير والتردد.
وطالت جلستنا أيضا، وطوال الوقت كان يحوم حول حديثنا شيء، ومن كلماتها اللاإرادية المتناثرة استطاع شبح احتمال أن يطرق عقلي. بدا لي أنها، وإن كانت لا تستطيع أن «تحبني» لأنها متزوجة، إلا أننا أعز الأصدقاء. وكانت تنطق الأصدقاء بطريقة يفهم منها مجازا أننا من الممكن أن نخوض مغامرة لا حب فيها، ولا داعي للحب فيها.
ونحن لا نشاهد ما نشاهد لفترة ثم نجلس لنفكر على راحتنا فيما شاهدناه، إن عقولنا تعمل دائما ولا تكف عن العمل، والاحتمالات تتوارد على تفكيرنا بنفس السرعة التي نرى بها ما أمامنا، كافة الاحتمالات، ونصدر الأحكام تلو الأحكام على ما نراه، ونغير تفكيرنا، ونستأنف الأحكام. وأحيانا نعود إلى آرائنا السابقة التي نبذناها، ونخرج لكل شيء أسبابا، ولكل سبب حجة، ويحدث هذا كله في وقت واحد. عيوننا ترى، وعقولنا تفكر فيما تراه وفيما لا تراه، وفي أشياء بعيدة جدا عن متناول عيوننا ووعينا.
وعلى هذا؛ ففي نفس الوقت الذي كنت أفكر في احتمال أنها فعلا تدعوني لمغامرة أو نزوة، وأنني من الممكن أن أستجيب وأنفذ حالا، في نفس ذلك الوقت كنت أستنكر منها هذا الموقف؛ إذ كنت أعتبر أن المغامرة معها أمر مخجل، ومع هذا كنت أحيانا أريده. فكيف بها هي الأخرى تريد نفس الأمر المخجل الذي أريده؟ هي التي أحببتها وقدستها، كيف تريد أن تخطئ؟ شكلية محضة أمام علاقتنا؛ إذ كان بوسعها أن تقول لا يمكن أن تحبني مثلما أريد، وأنا الذي ظننتها فوق مستوى الخطأ؟ خاطر مجنون؛ إذ كيف أحرم عليها ما أطلبه أنا منها؟
ولم تكن هذه هي كل الأشياء التي دارت في عقلي. كنت أنظر لها أحيانا وأقول لنفسي: كيف تجرؤ فتاة كهذه على رفض حبي؟ ماذا تحسب نفسها؟ إنها تمشي كشيتا. ألم أكن مغفلا حين كتبت لها الخطاب وأودعته كل تلك العواطف الجامحة التي لا تستحقها؟ لم أكن أومن بكل ما قلته لها في خطابي. لم أكن أدري هل ما أحسه ناحيتها حب أو رغبة أو نزوة؟ ممكن أن أكون قد كتبت الخطاب لمجرد رغبتي في كتابة عواطف خاصة لقارئة خاصة، أو يمكن لمجرد إظهار قدرتي على صياغة الجمل والكلمات والتعبير عن الحب. ولكن ماذا حدث بعد قراءة الخطاب؟ لقد تبينت كل كلمة فيه وأصبحت أومن بها وأحسها فعلا. ابتساماتها التي ينفرج عنها فمها الآن فيها دعوة. لماذا أتردد في قبولها؟ لماذا أنا خائف منها؟ يقولون إن الخواجات ليس عيبا عندهم أن يمارس الإنسان معهم علاقات جنسية. من قال هذا الكلام ومتى؟ لا بد أنه فتحي سالم الذي يكتب قصصا في المجلة. أصحيح هذا؟ لماذا لا تقوم إليها وتشبعها لثما وتقبيلا؟ لماذا لا تملك التحرك من مكانك؟ أهذا حب ما تحسه؟ لماذا لا ترغب فيها بنفس الشدة التي كانت تجتاحك في الأوبرا؟ إنها ترتدي تلك «البلوزة» المحبوكة، وقد شمرت أكمامها إلى ما فوق ساعديها. ذراعها بيضاء رقيقة فيها شحوب وعليها شعر أصفر باهت. حذاؤها أنيق جديد غال. أتكون غنية؟ أيكون أبوها خواجة صاحب أطيان، مثل الخواجة صاحب البنك الذي كان يعمل عنده أبوك في المنصورة وفصله عن عمله؟ أبوك كان يعمل كاتبا عند الخواجة الغني جدا الذي فصله في لحظة وشرده. لماذا لا تنتقم لكرامة أبيك فيها؟ لماذا لا تغتصبها فورا وتطرحها تحت أقدامك كما طرحوا أباك تحت أقدامهم؟ كل شيء فيها عادي ما عدا وجهها. ووجهها ذلك الأبيض الأملس المشرب بالحمرة، وعيناها الدائمتا الحركة والإرسال والاستقبال ... والانفعال. أحيانا تتدلل فتقبض شفتيها وتفتح فمها مظهرة أسنانها بطريقة تغري بالتهام فمها وأسنانها. ذكية هي وتقرأ أفكاري بسرعة، حتى نفس الأفكار التي تخطر بعقلي الآن. امرأة! لغز من تلك الألغاز التي لم أستطع حلها في طول حياتي وعرضها. زملاؤك الرجال تستطيع أن تقرأ أفكارهم وتعرف ما يريدون حتى دون حاجة للنظر إليهم. أما النساء! أما هذه المرأة بالذات فأدفع من عمري عشر سنوات لأستطيع أن أعرف للحظة واحدة ماذا تريد مني وماذا تفكر فيه؟ وربما نحن لا نعرف ما يردنه منا لأنهن أنفسهن لا يعرفن ماذا يردن. المرأة تنتظر من الرجل أن يكون هو إرادتها، هو الذي يريد وهي ترفض أو تقبل أو لا تعرف حتى كيف ترفض أو تقبل فتتورط. المرأة لا تريد إلا شيئا واحدا، أن تكون امرأة. لماذا لا تصنع لتلك المرأة الصغيرة الجالسة أمامك إرادتها؟ لا تأخذ رأيها! لا تنتظر أن تتحرك هي، تحرك أنت، ولكن لا أريد هذه الحركة التي تأتي لي بمغامرة عابرة حتى لو كان هذا هدفها مني، أنا لا أريد مغامرة عابرة. أنا أريد أن تحبني مثلما أحبها، وحتى إذا كان ما أحسه ناحيتها ليس حبا وإنما مزيج من عواطف مختلفة؛ فأنا أريد منها أن تشعر ناحيتي بمثل ما أشعر به ناحيتها. لن أقبل أقل من هذا. لا، يكفي فقط علامة. علامة واحدة أكيدة. إنني أعرف المرأة حين تحب. إنها لا تتصرف كمن يحب، إنها تتصرف كمن يغامر. ترى كيف كانت تحب زوجها قبل زواجها به؟ هل كانت ترتدي له قميص نوم جديدا؟ غير معقول، ترى كيف كان شكلها أيامها؟ وكيف كانت تنتظر وتبتسم وتتحدث؟ كل ملامحها وحركاتها بعيدة عني إلا حركتها بفمها حين تتدلل. إنها الوحيدة القريبة مني، ولكنها لا تفعلها لأجلي، إنها تفعل ذلك لعلمها أني أحبها وتريد أن تتدلل علي. إننا نتدلل فقط ليس على من نحبهم وإنما على من نؤمن أنهم يحبوننا. إن الصداقة التي قالتها كلمة اعتذار لا أكثر ولا أقل. إنها لا تكن لي شيئا أبدا. لماذا تكثر من التدلل؟ هل لأنها اطمأنت إلى حبي؟ ولكن، أبدا، لا تطمئني يا بلهاء، إنه ليس حبا. لقد قلت لك ذلك في الخطاب؛ لأني لم أجد كلمة غيرها تصلح عنوانا لمزيج الانفعالات التي كنت أحسها ناحيتك. لقد قلتها لأنها أسهل كلمة نعبر بها عن أية أحاسيس غير البنوة والأخوة تجاه امرأة. لا شيء هناك اسمه الحب، وأنا لا أحبك، أنا أود فقط أن أعرف إن كنت تحبينني أو تبادلينني لهفتي عليك. تحركي وانطقي وقولي شيئا! أفصحي! هدئي ذلك البركان الذي في جوفي! أنا لا أحبك، أنا حاقد عليك لأنك خيبت أملي، جرحت كرامتي، علمتني ألا أثق في نفسي ومقدرتي على إيقاع النساء في حبي. أنا كنت دائما أرهب النساء وأبعد عنهن كما أرهب أمي وأبعد عنها، ولكن كنت دائما واثقا أني لو اقتربت من إحداهن لأوقعتها في التو واللحظة برغم شكلي وابتسامتي المعوجة. يا لي الآن من خائب خائب!
وإذا كانت تصرفات الإنسان الخارجة هي انعكاسات متنكرة لخواطره الداخلية الصريحة، فممكن إذن معرفة ما قمت به من تصرفات. كنت حين أرى أنها تود المغامرة أسوق كلمة أو حكاية لأشجعها كي تمضي في الطريق وتطمئن، وكنت حين أتساءل إن كانت تحس ناحيتي مثلما أحس ناحيتها أقول شيئا يستدر العطف علي، وأراقب كلمة العطف التي تقولها وأزنها بدقة لأعرف إن كانت تحوي شيئا آخر غير العطف المجرد. وإذا رأيت انصرافها عن التفكير في، وأنت تستطيع إذا جلست إلى إنسان أن تحدد بالضبط إن كان معك ويفكر فيك أو هو يطرق بخياله ميدانا آخر، كنت إذا رأيت انصرافها عني قلت شيئا شاذا عن نفسي، مثل: أنا أكره الأطفال، ويوما كنت سأخنق ابن جارتنا الطفل؛ لأنه ظل يبكي لفترة طويلة ولم يسكنه زجري. أقول هذا وأرقب تساؤلها وأزنه لكي ألمح فيه شيئا آخر غير مجرد العجب من تصرف شاذ، شيئا آخر يدل على أنها تستعجب؛ لأن ذلك التصرف صدر عني أنا ولم يصدر عن أي إنسان آخر.
وهكذا طيلة الجلسة.
وإذا اتخذنا ما قلته عن التصرفات الخارجية مقياسا، فحين أعود بذاكرتي إلى تصرفاتها هي لا أجد سوى أنها كانت موطنة عزمها على أن الأمر مغامرة لا أكثر ولا أقل، ولكنها كانت لا تريد أن تكون البادئة ولا تريد أن تتحمل مسئولية مفاتحتي، ثم إنها كانت واثقة من «حبي» لها ولكن يبدو أن فكرتها عن الحب كانت مختلفة تماما عن فكرتي عنه، وكانت تعتقد أني أستعمل كلمة الحب لأعني بها رغبة حسية تراودني ناحيتها، ولم تكن تدري في تصورها ذاك أية أشباح مخيفة تقف عقبة في طريق مثل ذلك التفكير لدي. كانت تتصرف وكأني آجلا أم عاجلا سأضمها وأقبلها، ولكنها لا تريد أن تكون البادئة، تريد أن تستمتع بلذة أن تؤخذ ولو عنوة ولا تعلم أني في موقفي ذاك كنت آخر شخص ممكن أن يأخذها باللين أو بالعنوة. كانت تتصرف وكأنها تستعجل اللحظة التي تؤخذ فيها.
أفقت فوجدت نفسي في المجلة، كنت لا أذهب إليها في العادة إلا في التاسعة أو العاشرة بعد انتهاء عملي في العيادة، ولكني أنهيت العمل في تلك الليلة المبكرة جدا - في الثامنة أو ما حولها - وذهبت إلى المجلة. كان الباب مفتوحا ولا أحد في الصالة أو الحجرات القريبة، وأحسست بالمكان صامتا كئيبا كالبيت القديم المهجور، والمجلة لم تكن هكذا أبدا، كانت على الدوام مزدحمة بالناس داخلين وخارجين ووفود، والمناقشات لا تهدأ فيها لحظة. ولكن الظروف كانت قد تغيرت، وبدأ الخوف يمنع الكثيرين من التردد على المجلة. المترددون القليلون كانوا يزورونها خلسة، وتغير طعم المجلة حتى في أفواهنا نحن الذين نصدرها.
دخلت وجلست على مكتبي. كان في حجرة جانبية قريبة من الباب، ووجدت عليه ورقة فيها بقايا طعمية، لا ريب أن عبده اختار مكتبي ليشرفه بتناول العشاء عليه. عبده فراش المجلة وساعيها ومقرض محرريها والمدعي العام بالسياسة وبواطن الأمور ... ما لبث أن ظهر وفوجئ بوجودي حتى لقد وقف مذهولا في مكانه برهة، ثم انفجر يحييني: أهلا وسهلا يا دكتور، أنت فين؟ داحنا فاكرينك عيان. حمد الله على السلامة.
ولحظتها فقط أدركت أني فعلا لم أتردد على المجلة منذ زمن خيل إلي أنه عام، وإن كان لم يتعد أياما ثلاثة أو أربعة. وفي الحال أيضا راودني سبب لهفتي على المجيء في ذلك المساء، النداء الغامض الذي يهيب بي دائما أن أترك أي شيء وأهب نفسي للمجلة، الإحساس الملح بأني مقصر دائما في حقها علي، كالمدين الذي تنهش صدره ذكرى ديون.
وسألت عبده عن الزملاء وأين ذهبوا، فأخبرني أن أحدا لم يحضر ذلك المساء، حتى ولا في أثناء النهار. - الأستاذ أحمد شوقي بس هو اللي جه الصبح شوية وبعدين نزل.
فتحت أدراج المكتب واستخرجت الأوراق والمواد استعدادا لبدء العمل. كان هناك مقال بدأت في كتابته ولم أتمه، ومضيت أقرؤه ، وغريب هذا! خيل إلي أن شخصا غيري هو الذي كتبه؛ فقد أحسست أني غريب على كلمات المقال وموضوعه، وكأني أشترك في مظاهرة صاخبة ثم بعدت عنها فجأة، وأصبح لدوي أصواتها من بعيد وقع غريب على نفسي. شيئا فشيئا بدأ الإحساس بالمسئولية والعمل ينمل في جسدي ويعود للحياة. شيئا فشيئا بدأت أحس أني خلال الأسبوعين الماضيين كنت أحيا في حلم طويل استغرق أياما كثيرة، حلم كنت أعيش فيه مع سانتي بلا عمل ولا مسئولية، أو على وجه أدق أعيش فيه وراء ظهر العمل والمسئولية.
وبدأت أكتب.
وجدت المحاولة صعبة، ووجدتني أسطر كلمات لا حياة فيها. وبدأت أشطب وأعيد الكتابة وأكاد أبكي وأنا أوقن أن علاقتي بسانتي قد استغرقت اهتمامي كله، وأني وهبتها كل نفسي، وأني يجب علي أن أعود مرة أخرى ذلك الشاب المخلص المشتعل حماسة الذي لا يشغل تفكيره إلا الدين الذي في عنقه تجاه شعبه وقضيته.
وبدأت أنفعل وأكتب، وصورة سانتي في نفسي تبتعد وتبتعد. أبعدها بإرادتي وكأني ساخط عليها وعلى نفسي وعلى تلك الأيام الطويلة التي قضيتها عبثا، قضيتها واقفا في طريق جانبي ضيق لا يسع إلا عواطفي وأحلامي.
ولو كان هذا هو الذي حدث بالضبط لسار كل شيء كما أردت، ولكني طوال انفعالي وغضبي وسخطي كان هناك، وفي ركن ما من نفسي، شيء أكاد ألمحه وأراه، عينان صغيرتان متقاربتان لامعتان ساخرتان تؤكدان لي أني أضحك على نفسي وأني أفتعل ثورتي عليها، وأن سانتي لم تبتعد من خيالي ولا حدث لها شيء، إنها موجودة وستظل موجودة، أردت هذا أم أبيت.
هاتان العينان اللامعتان الساخرتان هما اللتان جعلتاني - وقد كنت منهمكا في الكتابة - أبدا أصغي لعبده وحديثه عن الزائرة التي جاءت مع الأستاذ شوقي في الصباح. توقفت عن الكتابة وقد أدركت أنها سانتي، ولم يكن غريبا أن تأتي للمجلة مع شوقي؛ فمفروض أنها تعمل معه، ومع هذا رحت أجهد عقلي لأجد طريقة غير مباشرة أسأل بها عبده عن كل ما أريد دون أن أثير بها حب استطلاعه الذي يثور لأقل هفوة. سألته متى جاءا؟ وأين جلسا؟ وماذا صنع لهما؟ والمدة التي استغرقتها المقابلة؟ وماذا كانت ترتديه؟ ... إلخ، إلخ.
وطبعا لم أكن أشك في شوقي، ولم يكن أحد يستطيع أن يشك فيه؛ فشوقي لم يكن شخصا، كان في الواقع قضية، أو على وجه التحديد كان قضيتنا، لم أحس مرة أن له مزاجا خاصا أو مطلبا خاصا. كان عقله - وبالتالي شخصه - يشبه جهازا دقيقا مضبوطا، عمله أن يفكر في المشاكل ويجد لها حلولا. وعلى ذلك فشوقي هو دائما المشكلة التي يفكر فيها، بطريقة لا بد نعتقد معها أن ليس له وجود خاص أو شخصية مستقلة. كان طويلا أسمر ضخما طيب المظهر، يحمل على الدوام حقيبة تحفل بأوراق وأشياء مختلفة متباينة، بل لا تدهش إذا وجدت فيها بعض ملابسه الداخلية؛ إذ كانت له قدرة عجيبة على العرق، وباستطاعته أن يعرق جردل ماء في الساعة أو حسبما تطلب. كان ذكيا جدا وحساسا وعلميا في إحساسه؛ فلا تستطيع أن تضبطه مرة متلبسا بشطحة من شطحات الفنانين، وكأن مخيلته هي الأخرى تعمل كالجهاز المضبوط الذي لا يخطئ أو يتساهل، وأهم شيء في شوقي أنه يعطيك شعورا بالثقة من أول نظرة. كنت لا أدهش أبدا حين نكون معا في حفلة أو اجتماع أعرفه بشخص ما وأعود بعد دقائق لأجد هذا الشخص قد انتحى به ركنا ومضى يعرض عليه مشكلة خاصة جدا لا يعرضها الإنسان إلا على أخ أو صديق عريق. وشوقي كان متزوجا وله ولدان توأمان، وعمري ما رأيته يتحدث عن مشاكله كزوج أو رب عائلة مع علمي التام بكثرة ما تحفل به حياته مع زوجته من خلافات ومشاكل.
وما كدت أنتهي من أسئلتي حتى سمعت وقع أقدام في الصالة، وغادرني عبده ليرى من القادم. أما أنا فلم أكن في حاجة أبدا لمغادرة مكاني لأعرف من عساه يكون؛ فبمجرد سماعي لتلك الخطوات السريعة المتتالية عرفتها، وتصنعت الانهماك في الكتابة.
ولم أرفع رأسي حتى بعد أن دخلت الحجرة التي كنت فيها، لم أرفعها إلا حين دق قلبي ، وأنا أسمع هتافا حلوا يتصاعد من الباب: هاللو!
كانت سانتي، وغادرت مكاني وسلمت عليها وأجلستها أمام المكتب، وفعلت كل هذا وأنا مرتبك مشتت بين رغبتي في القيام بدوري كمحرر في المجلة يقابل زميلة أجنبية، وبين الجهود الضخمة التي بذلتها لأكبت انفعالاتي الخاصة.
السؤال الذي كان يحيرني في أثناء هذا كله، لماذا جاءت؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟
وكان من الممكن أن أوجه إليها السؤال ببساطة، ولكني لم أشأ هذا، أو في الحقيقة لم أستطعه؛ فمن لحظة أن سمعت وقع أقدامها في الصالة لم أعد نفسي، انتابتني تلك الحمى التي تنتابني كلما وجدت معها أو سمعت مسيرتها أو خطرت لي على بال. حمى سببها عشرات الانفعالات والمتناقضات التي كانت تغمر كياني كله وتبقيني تائها محموما لا أعرف كيف أتصرف، أو ماذا أقول؟ أقهر انفعالات وتقهرني انفعالات، أحاول أن أضبط شعوري فتتبعثر مني أحاسيس وتنفرط وازداد خجلا وارتباكا، ويدفعني الخجل إلى مزيد من الخجل التائه المحموم.
ولم أفق قليلا إلا حين جاء شوقي تسبقه حقيبته التي لا يمشي إلا وهو يطوحها. وسلم علينا، وتكفلت يده الضخمة ذات الأصابع السمينة الطيبة بمحو كل ما خالجني تجاهه. ونظر إلي وإلى سانتي وقال: عارفين بعضكم طبعا؟
وضحكنا كلنا، وأخذنا الكلمة ببساطة. ولكن خاطرا صفر في عقلي فجأة: ترى ماذا يحدث لو عرف شوقي فعلا ما يدور في رأسي، وما حدث بيني وبين سانتي؟
ولم أحتمل مجرد التفكير في الخاطر، طردته من وعيي في الحال، ومضيت أرقب بعين مدققة الطريقة التي تتحدث بها سانتي إليه، لم أجد فيها ما يستوقف البصر، وحتى سانتي لم تتحدث طويلا، ما لبثت أن أخرجت من حقيبتها مجلة وبعض الأوراق ناولتها لشوقي ثم ودعتنا ومضت.
وأحسست بارتياح، وغادرت حجرتي وجلست مع شوقي في حجرته نتحدث في مشاكل المجلة. كانت هناك عقبات تحول دون صدور العدد الثاني أهمها النقود، وكان لا بد من حملة جمع تبرعات واسعة، وكان لا بد أن تبدأ الحملة حالا. وفي حماس أخذت على عاتقي عبء جمع التبرعات عن عشرين شخصا، بعضهم كان يدفع لإيمانه بالمجلة، وبعضهم لخوفه منها، وبعض آخر لمجرد إقناع نفسه أنه يؤدي واجبا ما.
ولم أعد إلى البيت إلا في الرابعة صباحا.
8
ظل «عنتر» البيضاوي الجسم الذي تستقر فوق بيضاويته رأس كروية دسمة الملامح، ظل قرابة شهرين كلما رآني يقول: ما تياالله يا دكتور، الراجل ساب العيادة وح يموت، خدها.
يقولها بصوته الهادئ الهائم كغبار الدقيق الناعم، يقولها بلا حماس وهو يمسحني بعينيه الواسعتين العبيطتين، ثم يسبلهما علامة الولاء والتقدير التام لشخصي ومصلحتي.
كل يوم كنت أراه فيه كان يقول لي هذا، وكثيرا ما كنت أراه؛ فبعدما يخف ازدحام العمال في حجرة الكشف، وتنقضي ساعات الأزمة وتئوب أعصابي التي احترقت إلى رماد خامل، أبدأ أتمطى وأسأل عم مرسي الباشتمرجي إذا كان قد بقي أحد بلا كشف؟ فيقول: مافيش. وأعيد السؤال فيقول: ما فيش إلا عنتر وعبلة، و«عبلة» كان عاملا في قسم النجارة اسمه كيرلس، وربما أطلق عليه اسم عبلة؛ لأن اسمه الحقيقي كان معقدا؛ فهو يكتب كيرلس، وينطق كوروللس، وربما أطلقوه عليه لشدة ملازمته لعنتر. وعلى العموم فلم يكن كيرلس أول عامل يطلق عليه اسم مضحك؛ فقد اكتشفت أن كل عامل من عمال الورشة له اسم كهذا يعرف به في الورشة ولا ينادى بسواه، والتسمية تبدأ حين يدخل العامل صبيا فيرتكب خطأ، أو ينطق اسم قطعة عدة نطقا مضحكا، أو أحيانا بلا سبب، فيخلع عليه الأسطى معلمه اللقب، ويظل لاصقا به بعد أن يكبر ويصير أسطى ورئيس عمال. أسماء غاية في الغرابة لا ضابط بينها أو رابط؛ حنتيتة، وإسطبة، وشادية، وبن جوريون، وأبو ورك، وبقبق، وشالوم، ورجل على رجل، والشيخ الشريب، والسبنسة، وأبو زلومة، وابن زليخة، وكانوا يقولون لي إنه سمي هكذا لأنه في أول يوم لاستلامه العمل في الورش وهو لا يزال صبيا جديدا طلب منه الأسطى أن يحضر له شيئا ما فأحضر غيره، فسأل الأسطى بتريقة: أمك اسمها إيه يا ولد؟ فأجابه بجد: اسمها زليخة ياسطى. وأصبحت نكتة تروى وتضحك عليها الورشة، وتضاف إلى تراث ضخم من المواقف والحوادث والمضحكات التي حدثت من عشرات السنين ووجدت وحورت وأضيف إليها، ولا تزال تكبر وتحيا وترويها الأجيال الماضية للحاضرة والمقبلة.
كان عنتر وعبلة يكونان وحدة غير متناسقة الأوصاف؛ فعنتر كان بيضاويا قصيرا، وعبلة كان عموديا طويلا رفيعا قليل الكلام كثير الابتسام، يكاد لا يفقه من أمور الدنيا إلا أنه صديق عنتر وملازمه الدائم.
ولا أذكر كيف نشأت علاقتي بهما، ولكن يبدو أنهما كانا من ذلك النوع من الناس الذي يحب مجالسة كبار الموظفين ليتحدث لزملائه بعد هذا عن الصداقة الوطيدة التي تربطه بهم، وعن كيف أمضى الليلة الماضية ساهرا مع مهندس الكهرباء، وكيف عزمه دكتور الورش على العشاء. ومع أن عنتر كان عاملا في قسم الخراطة أو الميكانيكا لا أذكر، وكان أبوه أيضا عاملا في نفس الورش، وجده كذلك، إلا أنه كان يمتلك بيتا من بابه. بيت هاكع كئيب من البيوت المكدسة المتزاحمة في المنطقة الكائنة خلف شركة النور، وكان قد أجر الدور الأرضي الذي يتكون من شقة واحدة مظلمة ذات حجرتين إلى طبيب اسمه عطوة كان يعمل في الحكومة ثم أجبر على الاستقالة لسوء أخلاقه، ولم يكن الدكتورة عطوة طبيبا فقط، كان مدمن أفيون أيضا، ومدمن جلسات مع الحانوتية وأصحاب الدكاكين جيرانه في العيادة، وإذا رأيته لا يمكن أن يخطر ببالك أنه طبيب؛ فقد كان نحيفا طويلا ذا قتب، له ملامح تصلح لفتوة من الفتوات الذين يستأجرهم أصحاب السينمات الشعبية لكبح جماح رواد الدرجة الثالثة. وهو دائم الكحة دائم العطس والتمخط والبصق، ولا يحلو له البصق إلا أمامك على الأرض. إذا تكلم خرج صوته متحشرجا مبحوحا، ولا ينطق كلمة إلا ويتبعها بسباب قذر ولو كان يتحدث عن أبيه.
والعيادة على هذه الصورة لم تكن تأتي بإيراد يذكر، وكان طبيعيا أن تتراكم الديون على الدكتور عطوة ويتراكم الإيجار حتى اضطر أخيرا للتنازل لعنتر صاحب البيت عن العيادة مقابل الإيجار المتأخر، وأصبح عنتر بين يوم وليلة مالكا لعيادة لا يدري ماذا يصنع بها. كان أول الأمر يذهب ويجلس فيها ويستقبل أصدقاءه وهو سعيد بالجلوس على مكتب الدكتور عطوة الكالح، وإذا قابله أحد أصدقائه أو معارفه قال له: ما تخلينا نشوفك. - أشوفك ازاي؟ - تعالى لي العيادة يا أخي.
وتندمج بيضاويته بالسعادة حتى يكاد يتحول إلى كرة.
غير أنه بعد وقت تبين أنه الخاسر، وأن عليه أن يبيعها. وهكذا بدأ «يشتغل» علي لأشتريها، ولكنه كان يخاف إن أنا عرفت قصة الإيجار المتأخر والخسارة أن أرفض الشراء، فادعى لي أن الدكتور عطوة فوضه في بيعها، وأنه يريد خدمتي فقط، وكل يوم يراني فيه يقول: ما تياالله يا دكتور، الراجل ساب العيادة وح يموت، خدها بقى.
وفي البداية لم أكن أنصت لكلامه أو أعيره اهتماما؛ فلم يكن في نيتي أبدا أن أفتح عيادة، كنت أريد إكمال دراستي العليا في الكلية، وكل عام كنت أقول لنفسي سألتحق هذه المرة بالدبلوم. ويأتي أول أكتوبر ويذهب تاركني أحلم مرة أخرى بالحصول على الدبلوم، ثم جاء الوقت الذي صرفت النظر فيه عن أي أمجاد طبية وشهادات واستسلمت للأمر الواقع، ولوظيفة طبيب الورش وغمها ونكدها. والحقيقة لم يكن استسلامي استسلاما كاملا، وكانت أحيانا تنتابني لحظات أقرر فيها أن أغير مجرى حياتي تغييرا جذريا وأسلك طريقا آخر.
أحيانا أفكر في العمل كطبيب باخرة، وأحيانا أفكر في السفر إلى السودان أو الكويت، وأحيانا أتمنى لو تركت المهنة نهائيا والتحقت بكلية الآداب. ما من يوم كان يمر علي إلا وتنتابني أفكار كتلك. لا بد أن هناك حياة أخرى أروع من حياتي تلك، لا بد أني لو أخذت قرارا حاسما وغيرت عملي سيحدث لحياتي تغيير ضخم وتتفتح الآفاق أمامي. وأسخف ما فينا أننا دائما نفكر بطريقة ونحيا بطريقة أخرى، ونثور على طريقة حياتنا ومع ذلك نظل نحياها وبنفس الطريقة. أسخف ما فينا هو ركوننا إلى العادة، العادة المملة الرتيبة التي تترسب كبرادة الحديد في مادتنا الحية فتحيل سيولتها المشبعة بالحركة والنشاط إلى جمود وتبلد وسكون. والعادة تلك هي التي كانت تتولى القضاء على خططي ومشاريعي، أصحو من نومي فإذا بي أرتدي ملابسي بسرعة وقلبي يدق خوفا من التأخير، كالمنوم آخذ طريقي الورش وقد نسيت كل شيء عن الأحلام الهائلة التي راودتني جزءا كبيرا من الليل.
وفي لحظة كتلك قررت أن أسمع كلام عنتر وأنا أقنع نفسي بأني بهذا قد أغير حياتي.
وحدث واشتريت العيادة، وكل ما دفعته ثمنا لها وإيجارا لشهر كامل خمسة عشر جنيها، أخذها عنتر وعدها مرارا أمامي وهو «يستشوي» المبلغ علنا أمامي، وإن كان بينه وبين نفسه يعتقد أنه ضحك علي.
وبمساعدة زملاء عنتر من العمال أصلحناها ودهناها بالزيت، واشتريت لها بعض الأثاث، وطمس خطاط الورشة اسم الدكتور «عطوة البرادعي» وكتب اسمي على اليافطة التي كان لا يقل طولها عن سبعة أمتار، وحين ذهبت إلى العيادة ووجدت اليافطة مركونة إلى الحائط والخطاط يضيف إليها لمساته الأخيرة، وبعض الصبية والمارة من الرجال والنساء واقفون غير بعيد يراقبون ويتهامسون، أحسست بخجل شديد، وكنت في أوائل معرفتي بسانتي. ولأمر ما تصورتها وقد جاءت في تلك اللحظة ووقفت تتفرج هي الأخرى على اسمي (يحيى مصطفى طه) وهو يمتد مسافة سبعة أمتار وتحته عشرات الألقاب التي لا معنى لها: طبيب امتياز بقصر العيني، وبين قوسين سابقا. حكيمباشي مستشفى الأمراض المتوطنة بوزارة الصحة، وبين قوسين سابقا. والمضحك في مسألة الحكيمباشي هذه أن الحكاية كلها أني بعد أن قضيت سنة امتياز اشتغلت في مستشفى بلهارسيا وأنكلستوما متنقل، ولأني كنت هناك الطبيب الوحيد فليس هناك مانع أن أعطي نفسي الحق في أن أكون حكيمباشي على نفسي خاصة وكل زملائنا الأطباء كانوا يفعلون هذا. تصورت سانتي ترى هذا وترى الثلاث الطوبات التي تكون اسمي وقد أصبحت ثلاث دبشات كبيرة، وأروح في غيابات خجل لا قرار لها.
وأخيرا بدأت العمل في العيادة، والزيت لا يزال طريا، ورائحته تملأ الحجرتين الضيقتين والصالة الصغيرة، وأنا حائر كيف أعامل الزبائن. أجرب نفسي أمام المرآة التي خلفها الدكتور عطوة وأتحدث وأبتسم. وأفعل هذا وكأني لم أتعود الكشف على أحد أو استقباله، مع أني كنت قد عملت في الحكومة سنوات وقابلت آلاف المرضى. ولكن الزملاء الأطباء كانوا قد علمونا أنه إذا كان المريض في مستشفيات الحكومة عبدا، فهو في العيادة السيد المدلل، وعلى الطبيب الذي يريد أن يكسب الأجر والزبائن ويقتني العربات ويبني العمارات أن يتعلم كيف يعامل المرضى في عيادته معاملة هدفها كسب قلوبهم، كخطوة أولى لكسب ما في جيوبهم. والابتسامة الأولى التي يرتديها الطبيب كما يرتدي معطفه الأبيض، ويعلقها على ملامحه كما يعلق السماعة ليقابل بها الزبائن مهمة؛ فلا بد أن تكون حاوية لأشياء كثيرة؛ الأدب وطيبة القلب وكبرياء المهنة وتواضع العلماء.
أجرب نفسي أمام المرآة وأجدها ابتسامة عسيرة، وألعن نفسي لهذا الزيف. أشك في التومرجي الذي كان يتولى إعطاء الحقن (ومعظم إيراد العيادة كان يأتي من الحقن التي يحضر المرضى لأخذها وقد وصفها لهم الأطباء الكبار والمشهورون). وأفعل هذا كله وفي ظني أن العيادة حين تعمل وأبدأ أشفي المرضى والجرحى وأداويهم سيتغير كل شيء، وستتغير نظرتي إلى العالم، وقطعا سيتغير طعم حياتي في فمي.
وشيئا فشيئا بدأت أعمل، وبدأ الزبائن يقبلون متعثرين، وبعضهم كان يسأل عن الدكتور عطوة، وحين يعرف أنه ترك العيادة يصاب بخيبة أمل شديدة ويلح في طلب عنوانه الجديد. وأعجب أنا كيف استطاع عطوة بكحته وبصقاته وأفيونه أن يحظى بثقة مريض يتكلم عنه كما لو كان يتكلم عن أبو قراط أو جالينوس! ولكني بدأت أعمل، وبدأ الأجزجي صاحب الصيدلية المجاورة يتحدث عني، ويختلف الناس في القهوة القريبة على مدى شطارتي وخفة يدي ووزن دمي وأخلاقي.
ولم يتغير طعم حياتي بالعيادة. كل ما حدث أن أضيف إلى وجوهها المتعدة وجه آخر، وجه جديد له مشاكله وأحزانه وأفراحه ووقته المحدد الذي لا يحتمل أي تأجيل. أعود إلى البيت في الظهر وعقلي صفحة مضطربة مظلمة، وألهف الطعام الماسخ بسرعة خاطفة استعدادا للنوم أو لمجيء سانتي، فإذا نمت استيقظت في الخامسة والنصف محمر العينين، في رأسي نوم كثير لم يشف غليله بعد. وأرتشف الشاي الذي لا بد منه في جرعات كبيرة خاطفة لاسعة، ثم أجري إلى العيادة . كانت في الدور الأرضي، وجدرانها والجدران المؤدية إليها حافلة بالرطوبة والرشح، والمنزل لا يشجع أحدا على الدخول، واليافطة الضخمة كبيرة كيافطة الأوكازيونات، وأناس كثيرون أحييهم وأنا في الطريق، وعنتر لا بد أن ينتظرني كل يوم عند قمة الشارع وبجواره عبلة، طويلا رفيعا غامق السمرة كبندقية ذات ماسورة واحدة معلقة في كتف عنتر، وبكل هليهليته يجري عنتر بجواري وأنا مندفع في طريقي إلى العيادة، ويقرصني في يدي وهو يشير إلى الناس: ده فلان، وكأني أعرفه، وده قريب شيخ الحارة، والرجل ده ينفعنا قوي، وشايف حاطط رجل على رجل ده؟ ده الناس بتسمع كلامه لما يجيلك ابقى اتوصى في الكشف، أيوه اسمع كلامي بس!
وأسمع كلامه وأهز رأسي وأنا لا أدري أهو ينصحني لنفسي أم ليضمن إيجاره.
وندخل العيادة معا، ونادرا ما كنا نجد فيها منتظرين، ويجلس معي في حجرة الكشف، ولا بد أن يجد موضوعا ما يحدثني فيه. وأحب المواضيع إليه كان حديثه عن خلافاته مع أخواته البنات حول الميراث وحول هذا البيت بالذات، ثم يقطع حديثه فجأة ويقول: ما تياالله نزور الأجزجي.
ونزور الأجزجي، ونسلم على الحانوتي، ونشرب قهوة عند المعلم «سمبو» صاحب القهوة المقابلة، وأجد نفسي فجأة قد بدأت أحيا - بفتح العيادة - وسط مجموعة كبيرة حافلة من الناس لا أعرفهم ولا خبرة لي في معاملتهم أو استجلاب رضائهم، وعنتر لا يصلح أبدا كدليل ألجأ إليه عند الحاجة؛ فلم يكن يستطيع أن ينفي شيئا أو يؤكد شيئا له، أقول له: أمين صندوق النقابة حرامي. فيقول: أيوه، ما فيش مانع، دا طول عمره بيسرق، بس ما بيسرقشي كتير، دا حتى باينه ما بيسرقشي خالص.
وكنت أحيانا أضيق بعنتر وملازمته الدائمة لي وملحقه كيرلس أو عبلة هذا. الزبائن كان هو الذي يجلبهم، وهو الذي يقابلهم ويوصي عليهم، والبيت ملكه وصاحب الأجزخانة صديقه، وحتى التومرجي هو الذي أحضره واتفق معه، وهو الذي يتولى محاسبته ومراقبته. كنت أضيق به في تلك اللحظات التي أتلفت فيها فأجد نفسي في عيادتي وأدرك أنها عيادتي، وأنني أعالج فيها وأشفي وأحقق بها حلما قديما صاحبني منذ دخلت كلية الطب، ويملؤني الإدراك بفرحة كفرحة الطفل حين ينفرد أخيرا بلعبة محببة خاصة. ساعتها أبدأ التفكير في المشاريع للعيادة، وأحلم بمستشفى كبير وحجرة عمليات ضخمة، واكتشاف علاج ناجح للسرطان، والحصول على جائزة نوبل.
ولا أستطيع أن أضع حدا فاصلا لما حدث. فجأة بدأت أحس أني لم أعد شديد الحماس للعيادة ومشاكلها ومشاريعي لها، ولم تعد لمواعيدها تلك القدسية التي أخاف أن أخدشها، وليست العيادة فقط، المجلة هي الأخرى ندر ذهابي إليها، حتى إن شوقي اضطر أن يسحب مني باب بريد القراء ويعهد به إلى فتحي سالم، ولم أغضب أو أنفعل، ولو حدث هذا في أي وقت آخر لثرت ثورة عارمة. وعملي في الورشة أصبحت أزاوله بغثيان، والدراسات العليا التي التحقت بها، وهواية الكرة، وزيارات أهلي وأصدقائي بدأت أحس أن كل شيء آخر في حياتي أصبح مجرد مضايقة لا غنى عنها، ومشاكل علي أن أتخلص منها لأتفرغ لسانتي.
لا أستطيع أن أضع حدا فاصلا لما حدث؛ فقد وجدت نفسي ذات يوم أعدي كوبري أبو العلا وأجوب الشوارع الواقعة في الزمالك بحثا عن شقة أو حجرة أو أي مكان في ذلك الحي الهادئ المهيب يصلح سكنا لي.
ولم أختر الزمالك لأسباب تتعلق بالأرستقراطية والرغبة في السكن في حي راق، اخترتها لأني كنت قد وصلت إلى درجة أصبح فيها الهدوء بالنسبة لي هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحول بيني وبين الجنون.
وأقرب مكان هادئ لعملي في بولاق كان الزمالك، وراعيت أن أبحث في الشوارع الضيقة والبيوت المحتملة الإيجار. وعدت من بحثي أول يوم وأنا يائس تماما من العثور على بغيتي؛ فمرتبي كان بالضبط ستة وعشرين جنيها، وأقل شقة رأيتها كانت بمبلغ وقدره.
ولاحظ عنتر وجومي في ذلك اليوم، وحين أخبرته بالمشكلة قال: ولا تزعل، بكرة نسكنك في الزمالك.
وانطلق من فوره يتبعه عبلة.
ولم تكد تمضي بضع ساعات حتى كنت أوقع العقد مع وكيل صاحب البيت، ولولا هذا ما صدقت عنتر أبدا حين جاءني ليلتها وقال: خلاص لقينا الطلب.
وتبدت لي بذلك خاصية أخرى لم أكن أعرفها عن عنتر؛ فقد كان يعرف عددا هائلا من الناس موزعين في جميع أنحاء القاهرة وحتى في الأقاليم، الواحد منهم تجده عاملا في الترسانة مثلا وله ورشة صغيرة يعمل فيها بعد الظهر، أو تجده صاحب محل عجلات ويتاجر في العربات المستعملة، أو «كيسير» في مخزن أدوية وسمسار عقارات. أفراد متناثرون في كل حي وشارع، ولكنهم يكونون مجتمعا متعاونا شعاره: نفعني وأنفعك، ويعرفون بعضهم بالاسم والعنوان. وأطلب من أحدهم أي شيء يحضره لك في الحال، أو إن لم يستطع فعلى الأقل يدلك على من يحضره.
وبتلك الطريقة وجد لي عنتر شقة، شقة كاملة، وفي شارع من شوارع الزمالك المهمة، وبثمانية جنيهات فقط.
وكان لقاء مؤثرا الذي تم بيني وبين صاحب البيت. قلت للبواب العجوز الذي كان يختفي بالأيام ثم يظهر فجأة، قلت له: إني سأعزل. ولم يبد عليه أنه فهم أو اهتم بما قلت، ولكني بعد ساعة وجدت صاحب البيت قد جاء بنفسه معفر الملابس، معطفه الأسود كاد يصبح رمادي اللون، وحتى طربوشه لم يسلم من الغبار، وعاتبني بتأثر شديد قائلا: إنه بذل المستحيل لراحتي، ورفض أن يؤجر دكانا لتاجر سمك مخصوص من أجلي. ودمعت عيناه وكادت عدوى التأثر تنتقل إلي لولا أني غيرت الموضوع وسألت عن أحواله، ولم أتمالك نفسي وأشرفت على الضحك وهو يخبرني بصوت لا يزال يحفل بالتأثر أنه ضرب عرض الحائط برأي أولاده وفتح الدكان مرة أخرى ومشغول فيه إلى شوشته، ولولا معزتي لما غادره في ساعة كتلك.
وانتقلت إلى بيت الزمالك الجديد. كانت الشقة في آخر طابق، والبيت مكون من خمسة أدوار، ورغم زمالكيته فلم يكن فيه مصعد، والسلم طويل ومتعب ولكن الشقة كانت لطيفة خفيفة الدم مكونة من حجرتين وصالة صغيرة وممر طويل لا يعرف سبب طوله، يؤدي إلى مطبخ واسع أهم ما فيه طرابيزة رخامية كبيرة مثبتة في الحائط. والضوء كان يملأ الشقة كلها حتى الحمام، والهدوء جميل تحس به مستتبا حولك في الشقة وفي البيت والحي حتى لتخاف عليه أن ينقطع أو ينتهي.
وكان عيب الشقة الوحيد - وربما كان سبب إيجارها المخفض - أن نوافذها تقع في ناحية خلفية، وتطل على ظهر العمارة المقابلة وسلم خدمها. ومن أول نظرة عرفت أن لا فائدة ترجى من نوافذي؛ فقد رأيت المشهد الذي لن يتغير، الخدم الصاعدين والهابطين، وصبيان البقالين وبائعي اللبن وكل هؤلاء الذين لا تستقبلهم إلا أبواب المطابخ.
وحين وضع العفش في الشقة بدت أنيقة؛ إذ كنت قد استغنيت عن معظم ما كان لي في شقة بولاق، وهبطت إلى أحد المحلات التي تبيع أثاث المزادات، وبالسبعة والأربعين جنيها فرق العلاوة التي ظللت أنتظر صرفها نصف عام وأضع لاستغلالها الخطط، اشتريت حجرة مكتب أنيقة لها كرسيان ضخمان مريحان وسجادة وصورة وفازات وستائر.
وكنت قد خرجت من شقة بولاق في الصباح وعهدت إلى عنتر وعبلة بمهمة التعزيل الذي لا أكره شيئا قدر ما أكرهه، وعهدت إليهما أيضا بمهمة صعبة: محاسبة أم عمر وإبلاغها أسفي لاضطراري للاستغناء عن خدماتها. وعدت من الورش إلى البيت الجديد مباشرة، ووجدت كل شيء قد نفذ كما أردت تماما، وأهم شيء أني لم أعثر لأم عمر على أثر، وكان خوفي الأكبر أن أذهب إلى الشقة الجديدة فيطالعني وجهها أو يلسع أذني نباحها.
وقضيت وقتا طويلا أجمل الصالة وحجرة المكتب، وأختار أنسب الأمكنة لقطع الأثاث القليلة، وأخرج من الشقة وأغلق الباب ثم أعود وأفتحها وأدخل لأرى وقعها على العين الغريبة، وأجرب الجلوس على الكرسيين وأسدل الستار الرقيق على النافذة ليختفي المشهد الخلفي، وأمتحن كل شيء بنفسي لكي أطمئن، وكنت وأنا أفعل هذا كله لا أنظر بعيني ولكن أنظر بعينها هي، وأرتب كل شيء لكي يبدو لها هي أجمل ما يكون؛ إذ كان الأوان قد آن لأعترف بالسبب الحقيقي في انتقالي من بولاق إلى الزمالك، والهدوء حجة قلتها لنفسي أول الأمر، ولكن وراء هذا كانت تكمن رغبتي في إعفاء سانتي من مشقة اقتحام المظاهرة البولاقية الدائمة للمجيء إلي، وأهم من هذا رغبتي في أن أجمل المكان الذي نلتقي فيه، وإن استطعت أجمل حياتي كلها من أجلها. ولم أكن أفعل هذا بهدف أن أظهر لها في مظهر غني أو لائق، ولم أكن أفعله للضحك عليها أو تجميل صورتي في خاطرها، بل لم أكن أفعله بإرادة مني أو من أجل سبب محدد واضح، وكنت أفعله بلا وعي ودون أن أحس أني أفعله.
ماذا أقول؟
يخيل إلي أننا حين نتحرك وحين نعمل وحين نعمل وحين نأكل وحين نصر على أخذ إجازتنا السنوية، وحين نقرأ كتابا أو نشاهد فيلما أو نسترخي ونحلم، يخيل إلي أننا نفعل هذا كله لكي نبحث عن شيء وراء هذا كله، شيء لا نجده في الطعام فنبحث عنه في الكتب، ولا نجده في الكتب فنبحث عنه في الصداقة والعمل، ولا نجده في العمل فنبحث عنه في الأحلام، شيء نؤمن أنه موجود ولكننا لا نعرف ما هو وكيف نجده، ولهذا تستمر عملية بحثنا عن هذا الشيء المجهول، ويستمر أملنا في العثور عليه، وبالاختصار نستمر نحيا. ويحدث في أحيان قليلة أن يعثر الواحد منا على هواية مثلا، على قضية يؤمن بها، على زوجة، وإذا به يدرك أنها الشيء الذي كان يبحث عنه طوال حياته، وقد يدرك بعد فترة أنه خدع وأنه لا يزال عليه أن يبحث ويكد، ولكنه ما إن يعثر على شيء كهذا حتى يصبح محور حياته وهدفها الأول.
أنا الآخر كنت قد بدأت أدرك أن سانتي قد تبلورت فيها كل أهدافي في الحياة، وقد أسخر الآن من نفسي، ولكني أيامها بدأت أومن حقيقة أن سانتي أكبر حتى من أن تكون عماد حياتي وهدفها الأول. إنها أروع وأسمى وأعظم من أن تصبح فقط مجرد هذا الهدف ولو كان الهدف هدف حياتي كل ما أمتلك.
وأصبح كل شيء معدا لاستقبالها، الحي الهادئ، والشقة، ومكان جلستنا، والبنطلون والقميص اللذين كنت في العادة أقابلها بهما، وفنجالي القهوة الجديدين، وحتى المفرش الصغير المشغول الذي زينت به مائدة الوسط الصغيرة المنخفضة.
وكنت قد أعطيتها العنوان .
وكما توقعت تماما دق جرس الباب في الثالثة، أول جرس باب يدق.
وذهبت وفتحت الباب. كانت تقف بعيدة قليلا عن الفتحة مرتكزة إلى الحائط بطرف كتفها، وفي وجهها شحوب قليل من الإجهاد الذي يصاحب صعود السلم العالي، وعلى شفتها العليا نقاط عرق صغيرة. وكانت تلهث، أول مرة كنت أراها تلهث، وبدا لي لهثها جميلا رشيقا وكأن صدرها «أكورديون» يعزف لحنا رشيقا.
وحين رأتني ابتسمت، وتنحيت عن وقفتي في الباب وأنا أرحب بها، وما لبثت هي أن انسلت وسبقتني إلى حجرة المكتب، وحين كنت أتبعها إلى الحجرة شعرت بقلبي يدق دقة واحدة كطلقة مدفع، ثم يتوقف دقه ليعود متتابعا مضطربا عاليا. كان قلبي يفضح تفكيري، وكان معنى دقه ذاك أني مقبل على أمر خطير.
والواقع أني كنت فعلا مقبلا على أمر خطير.
كنت بعد مناقشات طويلة مع نفسي، وتفكير استغرق مني مئات الساعات، تفكير كان يشغل كل وقتي في العيادة والورش والطريق منهما إلى بيتي، تفكير منعني حتى أن أتبين عملية التعزيل التي قمت بها، تفكير وبخت فيه نفسي كثيرا؛ إذ وجدت أن الإيحاء بالحب عن طريق الخطابات وقصائد الشعر المنثور بالإنجليزية عبث أطفال وأشياء لا يلجأ إليها إلا المراهقون الحمقى، وأنا لم أكن مراهقا. كنت في الخامسة والعشرين، وأتحمل من المسئوليات ما يعجز عنه رجال في الأربعين والخمسين. وكنت قد وضعت نفسي في موقفها ورأيت أني لو كنت مكانها لما فكرت أبدا في حب شاب يلمح لي بعواطفه على تلك الصورة. قلت لنفسي: الحب بالنسبة للمرأة يعد أكبر حدث في حياتها، وحين يحدث يصبح هو كل الحياة، ولا يمكن أن تهب المرأة حياتها صدفة لإنسان ضعيف. ومن يجعل الخطابات وسيلته للاعتراف بالحب إنسان خواف ضعيف لا يمكن أن يملأ عين امرأة يستولي على نفسها أو حتى انتباهها.
كنت قد صممت على نبذ كل تلك الوسائل الملتوية، وعلى أن أعترف لها بصراحة ومواجهتها بكل شيء، وأن أتقبل النتائج بشجاعة مهما كانت. واعترافات كهذه لا تتم إلا في جو معين، وفي حالة معينة، حالة يتقارب فيها الطرفان تقاربا شديدا، حالة تخرج فيها كلمات الحب في جو أليف يلفها ويحتضنها ويعطيها طعم الحب.
ولهذا دق قلبي.
فمثل هذا الجو لا يأتي إلا بعد عناق طويل مثلا، أو قبلة أو تجاوب أكيد مشترك.
وجلست صامتا، صمت من يتحين الفرصة ويعد العدة للانقضاض. وجلست على طرف الكرسي ذي المساند ووجهها قد استرد حمرته، وملامحها قد استردت نشاطها وحيويتها.
وقدمت لها سيجارة، وجلسنا ندخن في صمت، وأمامنا جهاز أوتوماتيكي لصنع القهوة كان أول وآخر هدية أتلقاها من أخي الأكبر، وكان ثالثنا كلما جلست مع سانتي: ندخن، بخار القهوة يتصاعد في أزيز رقيق، وسحب الدخان تتكاثف ثم تنقشع، والضوء في الحجرة قليل، والزمالك من حولنا واحة سكون مستتب، وعلى وجهي ابتسامة معوجة لا تطاوعني كلما حاولت أن أجعلها ابتسامة حبيب اختلت وكادت تصبح ابتسامة أبله.
وبدأت حديثا متعمدا عن الشقة الجديدة، وقالت إنني بانتقالي قد وفرت عليها المسافة والزمن. ولم أحاول أن أسألها لماذا، وكأني كنت قد عاهدت نفسي على ألا أسألها عن شيء لم تتطوع هي بقوله، فلم أحاول أبدا أن أعرف كنه عملها هي الغنية التي كان واضحا أنها ليست في حاجة للعمل ولا أين تسكن ومع من وكيف تحيا؟
وقامت من تلقاء نفسها تتفرج على الشقة، وقمت مضطرا وراءها. كنت طوال الوقت أفكر في الخطوة التالية والطريق إلى الخطوة التالية، وكل ذرة في كياني تتأهب للحظة التي ظللت أتحفز لها طيلة الأيام الماضية.
وعدنا إلى جلستنا، وبدأنا حديثا ما في السياسة، ولاحظت أنها تسرح قليلا، ربما كانت متعبة، ولكني كنت أفسر سرحانها لمصلحتي. قلت لها وأنا أريد فقط أن أواصل الحديث كي لا يحل الصمت، وعدوي المرعب من ذلك اليوم كان هو الصمت، أي صمت. - يحيرني شيء فيك.
فقالت وهي تحاول أن تخمن ما يحيرني: ماذا؟
قلت: فتاة حلوة مثلك، ماذا يدفعها لعمل شاق معنا؟
قالت وهي تضحك: تقصد أن تؤنبني لأني أحشر نفسي في قضيتكم؟
وحاولت أن أحتج، ولكنها مضت تقول: اسمع! إنه شيء من الصعب تفسيره، وأنا شخصيا كثيرا ما أسأل نفسي هذا السؤال ولم أجد له أية إجابة محددة. أنا أجنبية حقيقة، وحتى الفترة التي عشتها هنا كنت فيها أجنبية، أحيا في مجتمع أجنبي كامل. ولكن العطف أبدا لم يكن هو الذي دفعني للاهتمام بشعبكم وقضيته، وربما هي أنانية مني. ولكني أسعد بهذا العمل جدا، ولو حرمت منه أعتقد أني سأحزن كثيرا، بل ربما لا أستطيع البقاء هنا. هنالك أناس هكذا لا يستريحون إلا إذا أتعبوا أنفسهم، يبدو أنني من هذا الصنف.
وشاركتها ضحكتها القصيرة المنخفضة، وفعلت هذا استعدادا لسؤالها ذلك السؤال الذي أردت دائما أن أعرف إجابتها الحقيقية عليه: هل تحبين بلادنا وشعبنا حقيقة يا سانتي كحبك مثلا لليونانيين؟
وصمتت قليلا قبل أن تجيب. وجدت صمتها يقلقني وكأني كنت أسألها عن حبها لي. وبقلق أعظم مضيت أترقب إجابتها. قالت: حتى لو قلت لك إني أحبها أكثر من اليونان فلا تصدقني. - ولكنك ولدت فيها وقضيت عمرك كله هنا. - ولو! اسمع، إني مستعدة أن أموت من أجلكم، ولكن كل عائلة تغادر بلادها وتهاجر تصبح كالمركب الذي يرفع علم بلاده دائما وفي أي مكان. وأنا ولدت من عائلة يونانية، أي عشت طوال عمري على أرض بلادي، ولكن صدقني حين أقول لك إني على استعداد لأن أفعل أي شيء - حتى الموت نفسه - من أجلكم.
وجدتها قد بدأت تنفعل فقلت وأنا أضحك وأنهي الموقف: على العموم يكفينا منك هذا.
وخفضت رأسها في شرود.
وكنت من لحظة أن جاءت أقول لنفسي: هه، الآن.
ثم أعدل في اللحظة التالية.
ووجدت جسدي يقشعر فجأة، واعتقدت أن اللحظة قد حانت فقلت لها: فلنسمع رحمانينوف.
ومضت مستسلمة إلى «البيك آب»، وفتحته وانحنت تضع الأسطوانة، فقمت من جلستي خلف المكتب، وفي خطوات متعثرة مترددة وصلت إلى «البيك آب»، وفي تلك اللحظة كانت قد أغلقته وارتكزت عليه، وتصاعدت أنغام البيانو تعلن بداية الكونشرتو الثاني.
قلت لها: سانتي.
فنظرت إلي باستغراب قليل وقالت في ابتسامة مذهولة أو ذهول مبتسم: ما الأمر يا يحيى ؟ آه، ما الأمر ؟
وارتجفت يدي وأنا أحملها فوق طاقتها لترتفع ثم تستقر فوق كتفها، وظلت ترتجف حتى بعد أن استقرت فوق الكتف النحيف. لم أكن قد رتبت لهذه اللحظة ما أقوله، كنت قد تركت كل شيء للظروف والصدفة، ولهذا قلت بعد تردد: ما رأيك؟
فقالت بنفس الدهشة: في ماذا؟
فقلت وأنا أضحك لأحيل الموضوع إلى نكتة، حتى إذا فشل المشهد لا أصاب بخيبة أمل كبيرة: فيما قلته في ذلك الخطاب، أتذكرينه؟
وكانت تضحك، وقالت وهي تتخلص برشاقة وبلا إحراج من يدي المستقرة فوق كتفها: ألا زلت تذكره؟ لقد نسيت أنا كل شيء.
وكنت أعرف أنها لم تنس أي شيء، ولكن ماذا أقول؟ قلت: ولكني أنا لم أنس شيئا. - يح ... يى.
قالتها وهي تميل برأسها قليلا تستنكر وتلوم.
وتتابعت دقات قلبي عنيفة مدوية، وقلت وأنا أمسكها بكلتا يدي: ولن أنسى شيئا أبدا، أبدا.
وجذبتها ناحيتي.
وارتدت إلى الخلف بلين أول الأمر تريد أن تواصل خطتها في التخلص مني بلا إحراج، ولكني لم أذعن لمقاومتها اللطيفة وجذبتها أكثر، فقاومت أكثر.
وتبخر كل حدس وتخمين.
كنت أظن أني لو استطعت أن أتغلب على خجلي ومقاومتها مرة وعانقتها، فسينتهي كل شيء وستخضع للأمر الواقع.
واندفعت أضمها بشدة، ووجدت مقاومتها تشتد هي الأخرى وتعنف.
وأحسست بالمرارة تملأ نفسي، لا لأنها قاومت بشدة ولكن لأن تلك المقاومة وبتلك الدرجة كانت تعني أنها في واد وأنا في واد آخر مختلف تماما. لو كانت تحس بمثل ما أحس به لما قاومتني هكذا، وأنا كنت أقول لنفسي إن ما ينقصها لإظهار عواطفها هو لحظة مناسبة تحين، وها هي اللحظة تأتي فلا أجد سوى المقاومة.
حدث كل شيء بسرعة، وبسرعة أيضا انتهى المشهد. وكنا لا نزال على وقفتنا بجوار «البيك آب»، وكلانا يواجه الآخر ويتحداه، وشعرها مشعث منكوش، واحمرار وجهها يضج بالانفعال والاستنكار. وأنا أنظر إليها نظرات تحفل بالمقت والكراهية وخيبة الأمل، وأكثر من هذا فيضان عارم من الخجل، خجل منها وخجل من نفسي، خجل كان له وقع كاو مؤلم أكاد أصرخ معه وأستغيث.
وقفنا يواجه كلانا الآخر. في وجهها شيء أشبه بالشر المستطير، وفي وجهي ابتسامة باهتة سخيفة كافحت لكي أحتفظ بها حتى تمنع انبثاق كل ما في جوفي من نوايا مستطيرة هي الأخرى. وكل هذا وأنغام رحمانينوف الرقيقة الحالمة لا تزال تتصاعد من «البيك آب» ولا نزال مضطرين لسماعها، والجو ملبد حافل مشحون لا مكان فيه لرحمانينوف.
ظلت سانتي واقفة جامدة للحظات تحدق في ولا تتكلم، وتحديقها يستفزني لدرجة أفكر معها في معاودة الكرة، وخطر شرير يهيب بي أنها تحدق هكذا من أجل أن أعيد الكرة، وجبن غريب يشلني عن أن أفكر مجرد تفكير في المحاولة.
وتحركت فجأة وبحثت عن حقيبتها بسرعة.
وتابعتها بلا مبالاة أول الأمر، ولكن صمتها الذي طال أقلقني، فقلت لها: تريدين طبعا أن أعتذر لك؟
ولم يهمني ما غمغمت به، ولكن كان يحيرني ويخيفني هذا الاستنكار الضخم الذي كان يشع من ملامحها. وكان عقلي مشحونا بافتراضات كثيرة وارتباك أكثر، وهاتف طاغ يهيب بي أن آخذ مقاومتها تلك على أنها مقاومة الأنثى الطبيعية جدا، ولكني أرى وجهها وفيه ذلك الشر الأصفر المستطير فأتردد، وأحس أني مرة أخرى أمام ذلك اللغز الأبدي، المرأة، ذلك الكائن المجهول العقل الذي لا نعرف مهما خمنا ماذا يدور فيه وماذا يريد وماذا يرضيه وماذا يسخطه! المرأة، الحياة وسرها معا، اللغز الحبيب المقيت.
وكانت حركتها هستيرية عصبية. ورغم كل ما كانت فيه من اضطراب واستنكار فقد وقفت أمام مرآة الصالة وأصلحت شعرها.
ولم أدعها تغادر الشقة وحدها.
هبطت معها.
وركبنا «تاكسيا».
وقالت بعد صمت غامض محير طويل: لن أسكت عما فعلت.
وكانت قد انتابتني حالة رثاء للنفس أكاد أبكي معها، لا لما حدث ولكن لأني برغم ما فعلته لم أجد عندها صدى ولم تستجب.
وقلت لها وموجة اللامبالاة التامة تعود: أنا لا يهمني شيء بالمرة؛ لقد فعلت ما فعلت مدفوعا بعواطفي نحوك، وأنا مستعد أن أتحمل نتيجة اندفاعي.
قالت: لو كنت أتصور أنك قد تفعل شيئا كهذا لاختلف الأمر، ولكني كنت أعاملك على مستوى آخر.
قلت لها بضيق: أرجوك، ليس هناك داع للتأنيب، إذا أردت حتى إقامة دعوى علي أقيميها، لست نادما ولا آسفا.
كنا لا نزال نحيا في اللحظة التي أعقبت محاولتي، ولا يزال جو التوتر والتأثر سائدا.
وحين كان التاكسي يقترب بنا من بيتها في كوبري القبة قلت لها: معنى هذا أني لن أراك.
والتفتت إلي مأخوذة كمن مستها صاعقة وقالت: تراني؟
وأمرت التاكسي بالوقوف قبل منزلها، ودون أن تنظر إلي هبطت بسرعة ثم غادرته ورأسها مرتفع في كبرياء مصنوعة.
وتذكرت وأنا أراها تمضي بسرعة في الطريق الجانبي المظلم الذي اختارته لوقوف التاكسي، تذكرت أنها - كما قالت فتاة المستوصف - تمشي كشيتا.
ولوى السائق رقبته في خيبة أمل وكأنه يشاركني المأساة وقال: هيه يا بيه، نرجع؟
فقلت: أيوه، بآخر سرعة.
ولم يكن ورائي شيء أفعله بالمرة، ولم يكن هناك داع للسرعة، ولكني كنت أحس بجمرة خبيثة تنهش قفص صدري من الداخل وأنا لا أقوى على منعها أو تخفيف حدتها. جمرة نقمة على نفسي، وإحساس صارخ زاعق بالهزيمة، الهزيمة في أصوات قطارات آخر اليوم المبحوحة في الطريق الطويل الخالي، في الضيق المجنون الذي تحفل به روحي والذي يصفر في عقلي ويهيب بي أن أخنق أحدا أو يخنقني أحد أو إن لم أجد أخنق نفسي، أقبض عليها بيدين من حديد وأظل أضغط حتى يحتبس إلى الأبد كل ما في صدري من غيظ، أشد سوادا من الظلام الحالك الهائل الرابض فوق صدر القاهرة.
وصلت إلى البيت، وصعدت في السلالم الطويلة بلا روح، ولم يضايقني أني فتشت في جيبي لأعثر على المفتاح قبل الوصول إلى باب الشقة فلم أجده. فلأكن قد تركت الباب مفتوحا، أو فلتكن قد ضاعت المفاتيح وفقدت، ماذا يمكن أن يحدث أسخف وأسوأ مما حدث؟ ووجدت الشقة مغلقة، ولحظتها فقط بدأت أحس بالضيق، كل همي كان أن أعثر على مكان أستطيع أن أتمدد فيه وأستريح. حاولت فتح الباب بالقوة، ولكن لدهشتي الهائلة وجدت يدا تفتحه من الداخل، ولم يكن هناك وقت لأفترض أو أخمن أو أخاف.
فقد فتح الباب وأطل منه وجه، وجه ويا للغرابة! وازدادت دهشتي اتساعا، وجه أخي الصغير فقد كان في التوجيهية في مدرسة إقليمنا، فماذا جاء به وكيف جاء؟ أسئلة لم تمنعني أن أرد على هتافه الفرح حين رآني بعناق طويل، وللحظة خاطفة أحسست أني لست وحيدا منبوذا في هذا العالم، وعلى الأقل لي أخ كهذا يحبني حبا مطلقا بريئا من كل قيد وبلا مقابل، أخ لي، لا لست وحدي. وكدت - أنا الكبير - أنهار على كتفه الصغيرة باكيا منتحبا وكأني الابن الضال عثر فجأة على عائلته.
وعرفت أنه جاء في رحلة مدرسية، وأنه سأل على العيادة حتى وجدها، وهناك دله عنتر على البيت الجديد. أية جهود شاقة بذلها هذا الفتى الذي لا يعرف إلا شارعا أو شارعين في القاهرة ليصل إلي، إلى أخيه؟! وأية أحلام بناها على ذلك اللقاء؟ وأي قلق عظيم سببته له؟ جاء فوجد الشقة مفتوحة ومظلمة؛ فعداد النور كان لم يركب بعد، وكيف جلس قرابة الساعتين ينتظرني خائفا خوفا مضاعفا أن يتضح آخر الأمر أن الشقة ليست شقتي ويعامل كما يعامل اللصوص؟ وكيف هداه تفكيره لشراء شمع أوقده، وزاده شكا في الشقة إذ كان أثاثها قد تغير معظمه، ولولا السرير السفري ذي القاع الهابط الذي يعرفه جيدا لما استطاع البقاء في الشقة لحظة.
وكم لعنت نفسي وأنبتها للشعور الحقير الذي راودني بعد انتهاء أخي من حكاية ما صادفه لكي يلقاني. لم أكن أريد رؤية أحد في تلك الليلة أو الحديث مع أحد ولو كان أحب الناس لدي. لم يعد في نفسي قريب أو بعيد. سانتي كانت في ناحية والعالم كله في ناحية أخرى، وكل طاقتي على الحب والاهتمام كانت موجهة إليها، وكل الناس غيرها سيان. لم يبق في قلبي أية عواطف قليلة أو كثيرة أحيط بها ذلك الأخ الآتي وفي ذهنه سهرة جميلة لا بد سيهيئها له أخوه الكبير الموظف الطبيب.
كنت مغلقا عيني أحاول أن أطرد أي شيء آخر من رأسي، أفكر فيما يمكنني عمله لإسعاد هذا الضيف الشقيق أو على الأقل إشعاره بحبي له واعتزازي به، وعقلي يتمرد على هذا وذاك فلا يستطيع طرد أي شيء، ولا يستطيع ادعاء حب أحد. كنت هكذا حين تبينت أنه قد وقف أمامي حائرا محرجا تتلعثم الكلمات في فمه وهو يحاول أن يختلق عذرا ليذهب ويبيت مع بقية الطلبة في أحد فنادق وسط البلد، وعرفت أنه فهمني كما تعود أن يفهمني، وأدرك أنه اختار وقتا غير مناسب لمجيئه، وأنه ليس غاضبا مني ولا ثائرا علي، وأن كل ما يريده هو راحتي.
كلمات متلعثمة جعلتني أزداد حقدا على حقدي وأتساءل عن كنه تلك النفس التي تسيرني وتتحكم في، ولماذا هي جاحدة ناكرة للجميل؟ ولماذا لا تقصر حبها على من يحبونها فعلا وبالذات أولئك الذين لا عمل لهم في الحياة إلا حبها؟
واعتبرته كبيرا وفاهما، واعتذرت له ووعدته أن أشرح له كل شيء يوما ما، وطلبت منه أن يحضر في الغد، وأكد لي أنه سيفعل، ولكني عرفت أنه يكذب وأنه لن يأتي.
أحسست بالارتياح فعلا بعد ذهابه، وكأن مشكلتي كلها كانت في وجوده، وبنفس السرعة التي يدور بها ضوء الفنار كنت قد جمعت أحاسيسي التي شتتها وجود أخي، وكنت قد عدت إلى حالتي الأولى التي تركتني عليها سانتي.
وثبت الشمعات الخمس التي تركها أخي في طبق شاي ووضعتها أمامي مشتعلة كلها على الكتب، وثبت رأسي بين كفي وهامت عيناي في ضوئها الموحش المهتز، وفي عقلي ألف خطة.
ولكني آثرت أن أتصرف بحكمة وتعقل وأفكر.
وحاولت التفكير فلم أستطع. وجدت نفسي لا أزال أسير حالة اللامبالاة التامة، حالة أحس معها أنني لا أريد الحياة، وغير مهم أن أحيا، وأي شيء له عندي نفس أهمية أي شيء آخر، حالة تفقد فيها الأشياء أبعادها ومعانيها ولا يصبح فارق ضخم بين أن أكون مسجونا أو طليقا، ولا بين حبي لإنسان أو كرهي له. لم أكن أدري لماذا حدث كل ما حدث؟ ولا ماذا يمكن أن يحدث بعد كل ما حدث؟ أحاول التفكير أحيانا لا لكي أجد حلا، ولكن لمجرد أن أستخرج نفسي من حالة اللامبالاة هذه، فأقول: إن الخطأ كان خطئي؛ فصحيح أنه بالمحاولة التي تمت بعد الظهر قمت بعمل لم أكن أتوقع أن أجرؤ على القيام به، ولكن الخطأ أني كنت حملا أرتدي جلد ذئب. ولو فعلت ما فعلت وكلي ثقة بنفسي ورجولتي لما فشلت، الكارثة أني حاولت وأنا ضعيف، وأنا فاقد الثقة تماما في نفسي، وأنا ضامن أن النهاية ستكون هكذا وأني سأفشل، ومن يحاول فقط ليفشل فلا بد أن يفشل. وأحيانا ألقي اللوم عليها فأقول إنها هي التي خدعتني، وإنها هي التي ألقت لي بألف طعم، فلما ابتلعتها غدرت بي واستنكرت وادعت الذهول، ورغم هذا فقد كنت أحاول أن أبحث في نفسي عن ذرة حقد واحدة عليها فلا أجد. كل ما أجده خواطر تحاول أن تتلمس الأعذار لكل ما فعلته وتحملني أنا الأخطاء بالعشرات.
وكدت أعود لخنق نفسي بالدموع.
لماذا أنا تعس هكذا؟ يقولون إن الحب يسعد الناس، وأنا لم أحب مرة إلا وشقيت، وكأني لا أحب إلا لأشقى، لماذا الحب من أصله؟! أو إذا كان لا بد فلماذا أختار طريق العذاب والألم؟
أية قوة مجنونة داخلي تدفعني دائما لتمزيق نفسي؟!
9
وفي الصباح لم أذهب إلى المكتب. أبلغتهم أني مريض وطلبت إجازة يوما ورقدت في الفراش أدخن وأفكر وأتحسر.
في الحقيقة كنت أحس فعلا بأعراض مرض لا يمت إلى الأمراض الجسمية أو النفسية، مرض ثالث يصيب أفكارنا ونحس معه أن أجسامنا صحيحة حقيقة، وكذلك حالتنا النفسية، ولكن عقولنا لا تعمل كما يجب، بل لا تريد أن تعمل بالمرة، ولا تستطيع حتى أن تنجز الأعمال الروتينية.
كنت ممددا أشعل السيجارة من السيجارة أكاد لا أصدق أن سانتي التي كانت هنا بالأمس أقرب ما تكون إلي، قد أصبحت الآن أبعد ما تكون عني.
ودق الباب.
وقمت وفتحت، كان شوقي.
وقلت لنفسي: لا بد أنها ذهبت وقصت عليه كل شيء.
وحتى هذا الاحتمال الخطير لم يستطع أن يحرك عقلي الهامد الخامد؛ فقد تصورته وأنا فاقد الحماس، ولم أجد لدي الرغبة حتى في إطالة تصوره.
غير أني وإن كنت لم أتحمس للخاطر، إلا أني تحمست لقدوم شوقي؛ فقد سرني أنه ظل يحتفظ بالعنوان الذي أعطيته له، وأنه جاء، وجاء في اللحظة التي كنت قد بدأت أحتاج فيها لصديق لمجرد وجود صديق، وصداقتي لشوقي كانت متينة عميقة الجذور، أعمق من كل رباط فكري أو ثوري جمعنا حتى إنها - أي تلك الصداقة - كانت تعتبر تهمة وانحرافا في نظر جماعة تحرير المستعمرات. أيام الإضرابات التي كنا نقلب فيها الأوتوبيسات وعربات الترام ونحرقها أمام كلية الطب، خطر لي مرة أن أدخن سيجارة تاريخية وذلك بأن أشعلها من أوتوبيس كنا قد انتهينا لتونا من إحراقه، ورغم صراخ الطلبة وتحذيرهم بأن العربة ستنفجر فقد ذهبت وأشعلت السيجارة، وحين عدت وقد حققت أمنيتي وجدت طالبا واقفا عند باب الكلية قد أخرج من جيبه سيجارة «فرط»، وذهب هو الآخر وأشعلها من العربة، وأعجبني منه أن نفس النزوة انتابته ولم يتردد في تنفيذها، وتعارفنا وتحادثنا ووقفنا ندخن.
ومن يومها صرنا أصدقاء برغم أنه كان في كلية الهندسة وكنت أنا في الطب، وصداقة غريبة تلك التي جمعتنا؛ فقد كنا لا نلتقي إلا بمظاهرة أو بإضراب أو في مؤتمر، وما لبثنا أن اكتشفنا ميلنا نحن الاثنين إلى الصحافة، بل دفعنا هذا الميل لأن نشتغل ونحن طلبة في جريدة «النداء» ثم نتركها وقد أدركنا أن المجال الحقيقي لطاقتنا هو الكتابة والأدب والفن، ومنذ أيامها لم نفترق، انضممنا لجماعة تحرير المستعمرات معا، ودخلنا معتقل 48 معا، وعملنا في القنال معا، وتخرجنا في سنوات متقاربة وضمتنا المجلة بعد التخرج.
دخل شوقي من الباب، ولم يكن يبتسم حين يجيء ولا يهش لك إذا قابلك، ولكنك أنت الذي كنت دائما تبتسم له إذا جاء، وتهش له إذا قابلك، ومهما تكن حالتك كنت تحب أن تراه، إذا كنت في مأساة أردته، وإذا كنت في فرح يسعدك أن يشاركك.
وقفت أراقبه وأحصي عليه حركاته لأعرف إن كانت سانتي قد أخبرته.
ولم يفعل شوقي أكثر من أنه تجول في الشقة الجديدة وألقى عليها نظرة ما، ثم قال وهو يهز رأسه: الزمالك؟
وفهمت قصده فقلت: أيوه، بداية التحول إلى الأرستقراطية.
وجلسنا في حجرة الكتب، تمددت على الكرسي ذي المساند وجلس هو على كرسي المكتب، وأخرج من حافظته أوراقا كثيرة ومضى يكتب ويحدثني، كان في استطاعته دائما أن يكتب وهو يتحدث.
وكل كلمة من حديثه وزنتها، محاولا أن أجد لها معنى آخر غير ما يقصده دون جدوى، كان حديثه هو حديثه المعتاد، وطريقته هي هي لم تتغير.
وأدركت حينئذ أن الموضوع لا يزال إلى الآن بعيدا عن متناول تفكيره، ويا لغبائي! كيف كان بإمكانها أن تخبره، ولم تكن هناك فرصة للقائه أو الحديث معه؟
وكأن هذا لم يرضني، فوجدتني أدفعه دفعا رقيقا لينا لأن نخوض في سيرة سانتي، ووجدتني أفعل بطريقة خفية تكاد تخفى علي أنا نفسي.
وقلت له: الظاهر أن سانتي متزوجة.
فقال وهو يكتب، وأطراف شعره الخشن، وذرات الدخان الخارجة من فمه، وأظافره الكبيرة المدببة منهمكة في عملية الكتابة: آه!
وقلت في سري: لا بد أنها حدثته عن نفسها.
وعدت أسأله وأغالط عن عمد: الظاهر أنها غير سعيدة في زواجها.
وتوقف عن الكتابة لحظة ورفع لي منظاره الذي كان لا يضعه إلا وهو يكتب، وقال بعينين متسائلتين: عرفت منين؟
قلت: ساعات بتزورني ونتكلم.
قال وهو يعود للكتابة: أنت دايما كده تتوهم أشياء لا وجود لها، دي لها قصة غرام مشهورة بجوزها.
وأحسست بكلامه يتدبب ويتحول إلى آلات دقيقة باترة تقطع كل ما تبقى من أملي، أتلك هي الإنسانة التي اخترتها لأحبها؟
ولكني لم أكن أفكر في هذا، كل ما كان يشغلني في تلك الحالة هو من أين عرف شوقي هذه المعلومات التي يدلي إلي بها في ثقة المتأكد من كلامه؟ وسألته، فقال إن لها قصة غرام معروفة، وحكايتها وحكاية زوجها الذي تركها ليحارب في قبرص يرددها الناس باعتبارها قصة بطولة غير عادية، ولست أدري لماذا شعرت من الطريقة التي أجابني بها أنه لم يعرف القصة من أفواه الناس، ولكنه عرفها منها هي.
هما إذن لا يتحدثان في العمل فقط.
ورغما عني وجدتني أفكر في الحديث الذي دار بيني وبين فراش المجلة عن مقابلاتها لشوقي، وعن تفاصيل حضورها والملابس التي ترتديها وأوقات الاجتماعات.
ولكني حين رحت أنظر إلى شوقي لم أجد خلجة واحدة من خلجاته تنطق بأن هناك أي شيء غير عادي يدور خلف جبهته ذات العرق النافر.
ومن جديد عدت إلى حالة اللامبالاة التامة، حتى وأنا أودعه وأقول له كالعادة: أشوفك امتى؟ شعرت - ربما للمرة الأولى - أني أقولها له بطريقة روتينية محضة.
وأغلقت الباب، وعدت أسترخي في الفراش وأدخن وأفكر في قصة الغرام التي تزوجت بها سانتي، ألهذا تستنكر حبي؟ ألهذا قاومتني بوحشية؟
ومرة أخرى وجدتني غير مهتم بسانتي نفسها، ماذا يهمني إن كانت تحب ما دامت لا تحبني أنا؟
ولم يعد أمامي إلا أن أقوم بتلك العملية البادية الاستحالة.
أن أنسى سانتي.
وتصور عملية تبدأ تفكر فيها وأنت متأكد تماما أنك لن تستطيعها، وأنك غير قادر عليها، وحتما ستفشل فيها، عملية تبدؤها وأنت يائس من نجاحها، بل حتى وأنت لا تتمنى لها في أعماقك النجاح؛ أن أنسى سانتي.
أجل، يجب أن أدرب نفسي، ومن لحظتي تلك أمتنع عن كل تفكير فيها؛ فأي تفكير فيها يجسدها حية أمامي بدمها ولحمها، وفي كل مرة أراها يشتد تمسكي بها. إني أملك إرادتي ويجب أن أستعمل إرادتي تلك، يجب أن أنهي هذا الاسترخاء الذي طال وأتصرف كرجل وكحازم.
وقمت منتفضا من الفراش وصنعت لنفسي قدحا من الشاي، وجلست على المكتب.
كانت الساعة تقترب من الرابعة، وضجة قليلة تصلني من سلم الخدم، وأبواب المطابخ تفتح وتغلق، ودوي حركة المرور في شارع الزمالك الرئيسي يحوم كوطواط غير محدد الملامح فوق المنازل والبيوت، والشاي أبنوسي اللون وبخاره يتصاعد في أمن وسلام، والسيجارة في فمي والقلم في يدي، وكل شيء معد للكتابة لإنهاء ما تأخر علي من مواضيع مهمة للمجلة.
ولكن الورقة ظلت بيضاء أمامي، أحاول أن أقنع نفسي أنها لن تظل بيضاء ، وأني حتما سأكتب فأملؤها بالرسوم أحيانا، وأحيانا أكتب اسمي واسم سانتي، ثم أعود وأشطبه وأرسم دوائر متداخلة، وفجأة أحس بدفعة حماس قوية فأمسك القلم في وضع أستعد لأكتب، ولكن بعد سطر واحد أدرك أنها دفعة حماس زائف، وأن يدي قد توقفت من تلقاء نفسها، وأنني ضيق إلى درجة البشاعة بما أكتبه؛ فأشطب السطر وأعود أحيط جبهتي بيدي وأكاد أصرخ: حتى الكتابة لا أستطيعها.
وفجأة سمعت جرس الباب يدق.
أرهفت أذني ولكني لم أسمع صوتا، غير أني كنت متأكدا أني سمعت الجرس يدق، فقمت، وقبل أن أصل إلى الباب بأمتار كنت قد لمحت خلف زجاجه شبحا، هي، أقسم كانت هي، رأسها الصغير، خيالها النحيف كان مرتسما على زجاج الباب، حتى ابتسامتها أقسم أني رأيت ظلها على الزجاج.
وفتحت.
كانت واقفة متكئة برأسها على ضلفة الباب وجسدها بارز إلى الأمام، وعيناها غارقتان في رمادية هالات، وابتسامة متعبة ولكنها حقيقة تطل من وجهها في تردد.
وخرج صوتها متعبا هو الآخر، ولكنه صوت الواثقة أن كلامها لن يرد: ممكن أدخل؟
كلماتها الإنجليزية خرجت في تدلل حبيب ممدود، حتى كدت لا أغادر فتحة الباب وأبقيها مستندة إلى ضلفته هكذا، لتقول لي مرة أخرى وبنفس الطريقة: ممكن أدخل؟
وأغرب شيء أنها حين رأتني جامدا أحدق فيها هكذا قالتها، وتنحيت جانبا وقد بدأت أبتسم وأحس أن شيئا خطيرا كان ينقصني وعاد، روحي ربما أو ما هو أكثر من روحي.
ودخلت تمشي بطريقتها المتعبة المتدللة، وأنا واقف أراقبها وهي تأخذ طريقها إلى الحجرة، أراقب ظهرها وهو يتمايل تعبا وتدللا، وأراقب إحساسها بأني أراقبها وبأني أتفرج على مشيتها وأني قادم وراءها حالا ولو كانت سائرة إلى آخر الدنيا.
وجلست هي إلى المكتب هذه المرة بعد أن طوحت حقيبتها وبلوفرها بإهمال على الكرسي، وارتكزت بكوعها إلى سطح المكتب الزجاجي وأضاءت مصباحه، وأضيء وجهها بالنور المنعكس من المصباح، وحفلت ابتسامتها بنشاط وعيناها بلمعة لم تكن موجودة لحظة أن فتحت لها الباب، وقالت وهي تبتسم في مزيج من المودة والاهتمام واللهفة: ازيك ؟ هه. ازيك؟
قالتها بالعربية، وخرجت الكلمات جميلة، أجمل ما فيها لكنتها الأجنبية، وأروع شيء أن السؤال كان موجها لي أنا، أنا الذي ظننت بالأمس أن كل شيء قد انتهى.
وأجبتها مبتسما، وظللنا نتبادل الابتسامات دون حاجة لأي حديث. كان يكفي أن أنظر لها وأبتسم فأجد ابتسامتي قد انتقلت إلى ملامحها، وتبتسم هي لأجدني تلقائيا - وكأن أعصابها صارت عضلات - قد ابتسمت.
قلت لها وأنا لم أفكر بعد في سبب مجيئها، وما زلت لم أهضم بعد فرحتي به: لم تشكني لشوقي إذن؟
وابتسمت، واحمر وجهها، ثم ضحكت فجأة، وضحكت أنا الآخر.
وكان علي في تلك الحالة أن أضرب بأي اعتبار آخر عرض الحائط، وأن أقوم وأجتذبها من مقعدها وأعانقها وأقبلها وأحس بها بين ذراعي وأمرغ أنفي في رائحة شعرها، وأغمغم لها بكلمات غير مفهومة ولكنها أبلغ من أي كلام.
ولكني كنت آخر إنسان في الدنيا باستطاعته أن يقوم بذلك العمل.
كنت لم أفق بعد من اللسعة المفاجئة التي كورت إرادتي وأعصابي، لم أكن أريد أن تتكرر المهزلة، بالاختصار كنت غبيا أو فضلت أن أتصرف بغباء وسلبية، وقد جربت الجرأة والإيجابية، فلم أنل منها سوى الألم المروع، بل بما هو أبشع من الألم، بالخجل المهين.
كنت مدركا تماما أن معنى مجيئها أنها قد أصبحت راضية، وأنها صفحت عن كل ما فات، ومستعدة أن تصفح عن أي شيء آت.
ولكن رأسي كان يدور به مئات الخواطر. كنت بالأمس قد يئست تماما منها! لو كان قد تبقى لي بعض الأمل لتضخم هذا البعض وقادني إليها، ولكني كنت قد يئست تماما، والأهم من هذا كان حديث شوقي عن غرامها بزوجها وقصة ذلك الغرام، بالاختصار كنت قد بدأت أحس أنها قد أصبحت شبه محرمة علي، وإن كان إحساسي هذا لم يرتفع إلى مرتبة الإدراك.
كانت أمامي في استطاعتي أن أمد يدي وأخطفها، ولكن لم أكن أستطيع، وعاجز حتى أن أقنع نفسي بأني أستطيع. كانت الحقيقة المذهلة الغريبة التي لم أكن أتوقعها أبدا قد حدثت ، كانت قد جاءت ، وليس سهلا أن ينزلق الإنسان من أقصى اليأس إلى أقصى الأمل دون أن يتمزق أو على الأقل يصل إلى مرحلة كالتي كنت فيها، مرحلة الشلل التام. أطبقت مرة على الفراشة فانتفضت مذعورة مستنكرة وطارت، وها هي ذي الآن قد عادت وحطت في مكان قريب، أقرب مما أتصور، بيني وبينها سطح المكتب اللامع فقط، فهل أنا مجنون حتى أعاود المحاولة مرة أخرى؟
كان لا بد أن أتصرف بطريقة ما، لا بد أن أفعل شيئا أرد به على مجيئها، ونظرت إليها نظرة تعمدت أن أحملها كل ما استطعته من مكر وقلت: بالأمس قلت لك إني آسف لما فعلته، ولكن أتعلمين شيئا؟
فرمشت بعينيها متسائلة تساؤلا لا معنى له؛ فقد كانت تعلم ما أريد قوله. فاستطردت: لست آسفا لأي شيء حدث.
وقالت وهي تزغر لي بألفة كالأم حين تنهر ابنها: يح ... يى.
زغرة تغري بتكرار المعصية، ونهر يغري بتكرار الخطأ. ومن جديد عاودتني تلك اللحظات القصار التي نادرا ما كانت تعاودني، اللحظات التي أحس فيها بحبي لها دافئا حلوا حنونا غير مختلط بإحساس بالذنب أو بتأنيب الضمير، اللحظات التي أتمنى لو تدوم أبدا، وأبدا لا تدوم. اللحظات التي أحس فيها أيضا أنها متيمة بي، وأن كل ما أقوله أو أفعله محبوب، وكل ما يقال لي أحبه، لحظات السعادة.
وإمعانا قلت: ألم تخافي؟
فقالت: مم؟
قلت: من أن تعودي إلى وكر الذئب بأقدامك.
فقالت بلهجة جادة نوعا: وهل أنت ذئب حقيقة؟
وتمنيت لحظتها أن أتحول فعلا إلى ذئب وأنقض عليها، وآكلها بأسناني حبا كما تفعل الذئاب، ولكني قلت: ألم تقولي أنت هذا؟
فقالت وهي تموء: أوه، لم أكن أعني.
وفي إجابتها لمحت قليلا من خيبة الأمل التي بدأت تأخذ طريقها إلى حديثها ولهجتها. وكم ضج في صدري ألف هاتف قوي يهيب بي أن أنقض، وأن اللحظة التي انتظرتها دهورا قد حانت، ولكن أقسم أني لم أكن أعرف ماذا كان يمنعني، فقط كنت أناضل ما يمنعني، وأقاومه وأفشل في مقاومتي فلا أجد ما أفعله إلا أن ألعن تلك القوى الخفية التي تربطني في مكاني من المقعد وتقيدني بقيود فولاذية لا ترى.
وبينما كانت سانتي تأخذ طريقها خارجة وأنا واقف على الباب أودعها، كنت أعاني من حالة نشوة غريبة، ليست النشوة القصوى، ولكنها حالة ما قبل النشوة القصوى، إحساسك بأنه ربما غدا، ربما بعد غد سيقع الشيء، على الأقل أصبح لدي حد أدنى من الثقة بنفسي، على الأقل ضامن أنها ستأتي غدا، لم تقل هذا صراحة ولكني لمحته، الآن أستطيع أن ألتقط أنفاسي وأفكر وأتريث. والمؤلم أني لم أكن أستطيع أن أصدق أني سأصل إلى حالة النشوة القصوى هذه، لا أعرف لم؟ ربما لأني لم أكن أريد في قرارة نفسي أن أصل إليها أبدا.
كل ما حدث أني بدأت - كما يقولون - أفيق لنفسي قليلا، بدأت أستعيد ذاكرتي ووعيي بعملي وبما علي من واجبات. وجاء شوقي وتحدثنا، والواقع لم يكن حديثا، كان تأنيبا على طريقة شوقي المؤدبة الموجعة الحاسمة. وكان موقفي من المجلة يتدهور من سيئ إلى أسوأ حتى إني لم أكن قد حضرت طبع عددين متتاليين، وكان حضورنا جميعا واجبا مقدسا؛ فقد كنا نكمل تحرير المجلة و«نوضبها» صفحات في يوم واحد، وفي حجرة صغيرة كالزنزانة كانت تجود علينا بها الجريدة الكبيرة التي كنا نطبع المجلة في دارها، ولم نكن كثيرين، وعدد الذين كانوا يفهمون منا في تلك العملية كان محدودا جدا لا يتعدانا أنا وشوقي واثنين آخرين من الزملاء. وأعجب شيء أن الدار التي نطبع فيها كانت خصما لدودا لنا ولاتجاهنا؛ ولهذا كان صاحب الدار لا يسمح بدوران الماكينة وبدء الطبع إلا بعد أن ندفع تكاليف العدد كلها، وتكاليف العدد كانت هي مشكلتنا الرئيسية التي نظل طوال الأسبوع نئن تحت وطأتها ونحاول تدبير أمرها، وغالبا ما كنا نفشل، وتأتي نهاية الأسبوع ويأتي يوم الطبع ونحن ما زلنا لم نجمع ثمن العدد بعد. وصاحب الدار أوامره صريحة ومشددة، والمواد قد انتهى جمعها وتوضيبها، والمسألة كلها متوقفة على جنيه أو اثنين، نجري هنا وهناك كالمسعورين يكاد يذهب بعقولنا إدراكنا أن جهودنا الضخمة الكبيرة التي بذلناها طوال أيام وليال موشكة على الضياع من أجل هذا المبلغ التافه.
ولهذا فيوم الطبع كان هو يومنا الأكبر الذي نحشد له قوانا كلها، ونظل واضعين أيدينا على قلوبنا خوفا من صاحب الدار تارة وخوفا من مصادرة العدد تارة أخرى، حتى تأتي الساعة الثانية أو الثالثة من صباح يوم الصدور، وغالبا ما كانت تأتي ونحن قد توصلنا بوسائل لا يكاد يصدقها العقل لدفع ثمن العدد والحصول على أمر الطبع، حينئذ نخرج ملوثين بحبر «البروفات»، جوعى، كادت تنفد سجائرنا، ولكن الشيء الأهم أننا نخرج وقد تأبطنا الأربع «كرتونات» التي قد تبلورت فيها وتجمعت جهود وكفاح العشرات من الناس لعشرات دستات من الساعات.
وكانت المطبعة تبعد من مكان جمع الحروف مسافة ليست بالقليلة كنا نقطعها سيرا على أقدامنا، نفتح صدورنا لنسمات الفجر، وكل منا تحت إبطه «كرتونة» يضمها إلى صدره ويتحسس حروفها البارزة كما يتحمس الكنز الثمين، ويتخيل أثرها حين تصدر في الغد وقد أصبح الحرف منها ألوفا وتحولت آلاف حروفها إلى ملايين الأصابع والأيدي والقبضات التي تهز الشعب وتوقظه وتدفعه للحركة، نحس بهذا كله ونحن في طريقنا إلى المطبعة كالجيش الصغير الذي برغم كل ما هو فيه من إرهاق وتمزق وإجهاد؛ إلا أنه قد خرج ظافرا من معركته الأسبوعية الفاصلة، ذلك الظفر الذي لم نكن نطمئن إلى أنه قد أصبح حقيقة واقعة إلا حين تدمدم المطبعة وتدور أسطواناتها الضخمة وتقذف بأول دفعة من أعداد المجلة، فنتناولها بشغف جشع، ونلوث بياضها الطازج بما في أيدينا من بقايا الحبر، ونطبع عناوينها الحمراء والسوداء الطازجة اللزجة على أكتافنا وأيدينا، ونقرأ العدد من أوله لآخره وكأنما نرى كلماته ومقالاته لأول مرة بعيون نهمة تكاد من فرط ما قاست لا تصدق أبدا أنها نجحت، وأن كل ما خطر لها من أفكار وآراء قد أصبح كلمات ثابتة خالدة لا تزول.
كان تأنيب شوقي مؤدبا موجعا حاسما، ولم أكن أستطيع الرد عليه، لا لإحساسي بالذنب لأن إهمالي كان بسبب مشغوليتي بسانتي ، ولكن لأسباب أكثر عمقا وتأصلا في نفسي، أسباب كانت لا تزال حتى ذلك الوقت مبهمة غامضة لم تجد لها بعد جسدا من الكلمات أستطيع معه أن أعبر عنها وأقولها. آثرت الصمت إذن، وآثرت أن أسمع وأهز رأسي هزة المعترف بتقصيره، وأن أعد شوقي في النهاية بأن كل شيء سيعود على ما يرام.
غير أن شوقي لم يقتنع بهزات رأسي وأخذ يسألني إن كنت أعاني من مشكلة ما هي السبب فيما أنا فيه، وهكذا كان الحال دائما مع شوقي وأمثاله من المسئولين عن المجلة وعن الجماعة؛ فالإنسان في نظرهم لا يمكن أن يقصر أو يتخاذل إلا إذا كانت في حياته «مشكلة»، وحتى إذا اعترض على رأي أو قرار لا يناقش اعتراضه هذا مناقشة موضوعية، ولكن لا بد أنه يفعل هذا لأنه يعاني من مشكلة ما عائلية أو شخصية. كان لا يمكنهم أبدا أن يتصوروا أن الإنسان قد يعارض الشيء لأنه خطأ لمجرد أنه خطأ.
وأصر شوقي كعادته على أن سبب الارتباك الذي يسود حياتي أني لم أتزوج، وأنني بالزواج سأحل مشاكلي الشخصية كلها.
وكعادتي أيضا هززت أكتافي لرأيه؛ فلم أكن قد فكرت في الزواج كحل للفراغ العميق الذي يملأ نفسي. لم أكن أستطيع أن أتصور أن شيئا ممكن أن يملأ هذا الفراغ إلا إنسانة خارقة للعادة، إنسانة لم أكن قد حددت ملامحها تماما، ولكنني واثق أنها موجودة وأنني حتما سألقاها يوما، حتى سانتي - وهذا هو العجيب - لم أكن أعتقد أنها تلك الإنسانة التي أتصورها، وأبدا لم أفكر فيها كزوجة للحظة واحدة.
ولكن المهم أنها أصبحت عندي أهم من أية إنسانة كنت أحلم بها، بل كان يخيل إلي أنني حتى لو وجدت الإنسانة التي أحلم بها ووضعت سانتي بجوارها فقطعا سأختار سانتي، لا لأن فيها كل ما كنت أحلم به من النساء، ولكن لأنها - وهي الحقيقة المكونة من لحم ودم - أصبحت في نظري أروع من كل من حلمت بهن من النساء، حتى اقترابها مني في الحقيقة والواقع كان لا يفعل شيئا أكثر من أن يغور بها في خيالها ويبعدها ويجعلها أصعب ما تكون منالا.
ونفض شوقي رماد سيجارته بسبابته كثيرا كعادته، وقال بوجه جاد، ووجهه كان دائما جادا، ذلك النوع السمح اللطيف من الجد: يا بني مش ح يحل مشاكلك إلا الجواز.
ولا أعرف لماذا انفجرت ضاحكا وأنا أراه يقول هذا. وحين اكتشفت السبب الذي جعلني أضحك واندفعت إلى مزيد من الضحك الأجوف العالي، أدرك هو الآخر بذكائه السبب، وقال وقد انقلب وجهه الجاد إلى ابتسامة صريحة صافية: صحيح الجواز ما حلش مشاكلي أنا، وإنما ... إنما يمكن يحل مشاكلك أنت.
والحقيقة أن شوقي فوق صداقتنا المتينة كان يعجبني جدا، وكنت شديد الحماس لشخصه وآرائه، وأعتبر كلامه وتصرفاته عيون الحكمة، ولكن الشيء الذي لم أكن أستطيع أن أغفره له هو كيف استطاع رغم كل عبقريته تلك أن يتزوج تلك الزيجة التي كنا نلمس جميعا مبلغ خطئها وبشاعتها.
طالت جلستي مع شوقي وجرنا الحديث إلى موضوع الساعة، موقفنا من عبد المعطي النبوي رئيس تحرير المجلة السابق الذي حل شوقي محله بعد أن حكم عليه بالسجن، وقبل أن نختلف ويرتفع صوتنا ككل مرة نطرق فيها هذا الموضوع، قال شوقي وهو يخبط جبهته بيده: اسمع، أنا نسيت حاجة.
ثم أخذ يكلم نفسه وكأنما ليذكر: أيوه، أنا كنت جاي أقول لك إيه ... إيه؟ آه، افتكرت، أبلغك تكليف من مجلس التحرير، أيوه، اسمع يا سيدي.
قال شوقي: إن المجلة لديها مشروع لترجمة مقتطفات منها إلى اللغة الفرنسية بشكل دوري في باريس وشمال أفريقيا، وإنهم بحثوا فلم يجدوا إلا فتاة من أصل فرنسي هي التي يبلغ إتقانها للفرنسية درجة تؤهلها لهذا العمل، كل ما في الأمر أن لغتها العربية في حاجة لتقويم وتدعيم.
وسكت شوقي فقلت: وما علاقتي أنا بهذا؟
قال: علاقتك أنك مكلف بتقويتها في اللغة العربية.
وكادت ضحكة عريضة تنفجر من صدري، وظللت أخنقها حتى استحالت إلى ابتسامة باهتة صبغت ملامحي، وقلت لأداري انفعالي: ومتى بإذن الله يبدأ هذا التكليف؟ - أنت حر، من الغد يمكنك أن تبدأ ، وعلى العموم أنا أخذت لك موعدا منها الليلة، فروح قابلها واتفق معاها.
قلت: الليلة امتى؟ - الساعة ثمانية.
وهمست لنفسي من وراء إرادتي ووعيي وإدراكي: أتكون هي دوائي؟
وكدت أدعو كالأرامل وأقول: يا رب!
وقبيل الثامنة هبطنا من البيت. وعند باب حديقة الأندلس وجدناها واقفة تنتظرنا. كانت من بعيد تبدو طويلة نوعا ما، تكاد تعادلني طولا، وكان قوامها مفصلا وممتلئا.
وحين اقتربنا خيل إلي أني رأيتها من قبل واحترت أين، وفقط بينما كنت أسلم عليها تذكرت، إنها الفتاة الكبيرة التي كانت مع سانتي في «الباريزيانا» يوم التقيت بهما أول مرة! وسلمت عليها بحرارة طبعا، ومكث معنا شوقي ريثما عرفنا ببعضنا وابتكر لنا من عنده أسماء مستعارة ثم انصرف، وبقينا وحدنا، أو على وجه أصح تمشينا وحدنا بحذاء النيل. ومن الدقيقة الأولى رأيتها تضرب صفحا عن قناع السرية الواجب وضعه، وتسألني عن مهنتي وأين أسكن، وهل أنا أعزب أم متزوج، وتخلط هذا كله بالحديث عن الجو والفرق بين باريس والقاهرة. وبعد خمس دقائق كانت تحدثني بدورها عن حياتها الخاصة وعائلتها، وعن أبيها الشديد القاسي الذي يمنعها من الخروج، وعن أخيها الأصغر المعفرت، وأمها «الرجعية» التي تمزق الكتب الثورية كلما عثرت عليها مخبأة في طيات مخدتها.
كانت طويلة، وجسمها له قوام الرياضيات، وشعرها أصفر، ووجهها أحمر، وتقاطيعها منسجمة، وجريئة تطرق أي موضوع بلا تحفظ، وتعاملك وكأنك صديقها الحميم. ولكنك تحس أن تصرفاتها الجريئة التي توحي بثقتها الكاملة بنفسها، سببها بلا ريب هو ضعف ثقتها بنفسها.
وكنت أنا سائر بجوارها أسترق النظر إليها وأختار أجزاء من حديثها أنصت لها باهتمام وأتأملها، وعقلي يقارن خفية بينها وبين سانتي، وحين لا تجدي المقارنة أروح - بوعي هذه المرة - أفتش فيها وفي قوامها وشخصيتها عن شيء يغنيني عن سانتي.
ولم يكن فشلي في العثور على شيء من هذا هو المشكلة. المشكلة أنني لم أحس لحظة واحدة أنها فتاة، أو أنها حتى تمت إلى جنس المرأة التي جاءت منه سانتي. وحديثها إلي كان كفيلا بصبغها في نظري بصبغة الأنثى ، أو على الأقل كان من الممكن أن ينم عن شخصية متميزة لها مجالها الخاص ودنياها وآراؤها الخاصة، ولكن حديثها لم يفعل شيئا أكثر من أنه زاد تعميم صورتها في خاطري؛ فالمواضيع التي كانت تطرقها كانت إما مواضيع خاصة بها لا أستطيع أن أتحدث فيها، وإما مواضيع عامة تدلي فيها برأي عام مما تعود الناس قوله بحيث لا تجد لديك أي حافز يدفعك لمناقشته أو الاعتراض عليه. الفيلم الذي تعرضه سينما «كايرو» رائع، ماذا تقول؟ تجد نفسك تقول بلا حماس: فعلا، إنه رائع. أو تأتي سيرة الازدحام فتقطع كلامها لتسألني فجأة: أنا أكره الازدحام، ألا تكرهه؟ ومن منا لا يكره الازدحام؟
ورغم هذا فقد كنت في عجب من نفسي؛ فهذه الفتاة كجسم وكقامة وملامح كانت قطعا أجمل من سانتي، وعلى رأي فتاة المستوصف «خوجاية» هي الأخرى ولا تمشي كشيتا، فكيف بي لا أجد في نفسي ذرة واحدة من الإعجاب بها، أو حتى مجرد الاعتراف بوجودها أو بأنوثتها؟
كنا قد قطعنا جسر النيل من كوبري الخديوي إسماعيل حتى كدنا نصل إلى الجيزة، وتحدثنا في كل شيء قد يخطر على البال، ولم يخطر على بالها أبدا أن تبدأ حديث العمل. وكان ممكنا أن نصل إلى أسوان دون أن يبدأ الحديث لولا أني استدرت وعدنا أدراجا ماشيين على شاطئ النيل الآخر، ووجدت نفسي مضطرا لأن أبدأ أنا أحدثها عن مهمتي تجاهها. وتطرق بنا الموضوع إلى الترجمة عامة، وهل الأكثر فائدة أن يكون المترجم متقنا للغة التي يترجم إليها أم اللغة التي يترجم منها. وطبعا أدلت برأيها في الموضوع، وكالعادة جاء رأيها مدعما للاعتقاد الشائع أن المترجم يجب أن يكون على دراية ضخمة باللغة التي يترجم إليها، ولا أعرف لم وجدت نفسي أصر على الرأي المضاد وأتحمس للدفاع عنه. ولدهشتي الشديدة وجدتها بعد قليل تقتنع وتغير رأيها وتوافقني على رأيي.
ولم نكن قد تحدثنا في تنظيم عملي معها أو وصلنا إلى قرار بشأن مواعيد الدروس أو مكانها. وكنا قد وصلنا في سيرنا إلى الزمالك، وكنت قد قدتها بلا وعي حتى أصبحنا قريبين جدا من بيتي، وحين واجهناه وقفت على الرصيف المقابل، وقلت: هنا أقطن.
فقالت: أين؟
قلت: في الدور الخامس.
فقالت: أنت مثلي تحب السكن في الأدوار العليا.
ولم أجد ما أعلق به.
ولكني كنت راغبا في توثيق صلتي بها؛ إذ من يدري ربما إذا تألفت معها تنقطع شيئا فشيئا تلك القيود التي تربطني بسانتي، وأعود مرة أخرى حرا طليقا كما كنت؟ فقلت: ألا تأتين؟
وخفت أن أكون قد قلت شيئا أحرجها، فأضفت: لا بد أن تزوريني يوما، هه؟
فقالت بكل بساطة: طبعا، ألن آخذ الدروس عندك؟
ولمحت في عينيها حماسا لكي نبدأ بسرعة، تكاد تقول: لماذا لا نبدأ الآن؟ مع أن الساعة كانت قد تجاوزت العاشرة مساء.
ولكنها قالت: هل يمكن أن نبدأ غدا، يناسبك غدا؟
قلت: مناسب جدا.
وسلمت عليها، سلمت محاذرا، وسلمت هي بقبضة ضخمة لا تريد صاحبتها أن تظهر ضخامتها فتلامس قبضتي برقة وسرعة.
وشعرت وأنا أصعد السلم برأسي كالمرجيحة الدائرية، تصعد فيها قواديس وتهبط أخرى، وأبتسم وأنا أنظر إلى مصيري مع هذه القادمة الجديدة، وأفكر بعمق حين تهبط القادمة تصعد سانتي موردة الخدين مبتسمة غامضة، لا أدري معها ماذا يكون المصير.
ومرة أخرى وجدت نفسي جالسا إلى المكتب، وعلى الكرسي المقابل فتاة أجنبية، وبيننا كتاب المطالعة الأولية وجريدة يومية.
ومرة أخرى وجدت نفسي أصغي إلى الحلق الذي ركب أجنبيا وهو يجاهد لينطق الحاء والخاء والصاد ويتعذب ليحتوي الضاد.
وكانت المسرحية في نظري غريبة ومريرة في الوقت نفسه.
فلم أكن مع الفتاة الجالسة أمامي تدعي الاهتمام بالدروس، كنت مع سانتي، كل حرف كانت تنطقه كان يذكرني بسانتي وبطريقة نطقها لها وحركة فمها وهي تقوله، كل سيجارة كانت تدخنها كانت تذكرني بدفعات الدخان وهي تخرج من فم سانتي الصغير الدقيق في كرة صغيرة زرقاء لا تلبث أن تتمدد وتكبر وتتبدد في النهاية ببطء وعلى مهل.
ويبدو أن القادمة الجديدة بدأت تحس بما يدور في نفسي؛ فلم يفتني أن ألاحظ إحساسها بأني لست تماما معها، ولم يفتني أن ألاحظ أيضا رغبتها الشديدة أن أكون معها، ومحاولاتها المستمرة لكي يتحقق هذا. وأغرب شيء أني كنت كلما لمحت هذا ازددت بعدا عنها وقربا من سانتي، وكلما أحسست بها أكثر، خفت عليها أكثر وأكثر.
وكان الدرس يقترب من نهايته، وبدأت أدرك أني قد وقعت في مشكلة؛ فعملي ووقتي لا يسمحان لي بمقابلتها ومقابلة سانتي في يوم واحد، والمكان واحد هو بيتي؟
كان لا بد أن أكذب عليها، وقلت لها إن ترددها على البيت خطر، وإننا يجب أن نلتقي بعد اليوم في مكان آخر.
وصعقت الفتاة وراحت تقدح ذهنها لتفكر في حل للمشكلة.
ويبدو أنها يئست من إيجاد حل لها؛ فقد لمحت اليأس مرتسما بوضوح على ملامحها، وملامحها كانت بالمناسبة كالإناء الزجاجي الشفاف، لا تستطيع أبدا أن تحول بين انفعالاتها وبين محدثها.
وإمعانا أعدت عليها الكذبة وطالبتها بأن تحاول العثور على مكان آخر، ولم يكن طلبي هذا يخلو من مكر؛ إذ كنت قد أدركت من خلال ملامحها الشفافة أنها تريد مقابلتي بأي ثمن، وكنت سعيدا طبعا بهذا الحماس، وكنت أريد أن أسعد أكثر وأن أجعلها تفعل المستحيل لتلقاني وتكدح ذهنها من أجل ذلك اللقاء.
وقالت أخيرا: آه! لقد تذكرت الآن، ولكني لست متأكدة. أقابلك في الخارج غدا ثم أقول لك.
وقبل أن تخرج، تنحنحت نحنحة أنثوية بدت فيها كالرجال وقالت: هناك أمر. - أجل. - أعتقد طبعا أنه لا يجب أن أعرف اسمك الحقيقي.
وأشرت بيدي علامة التهوين من شأن هذا الأمر، وقلت لها: لا عليك، اسمي يحيى.
فقالت: الدكتور يحيى! - إذا أردت هذا.
وسكتت وهمت بأن تقضم أظافرها ولكنها عدلت، وتنحنحت مرة أخرى وامتقع وجهها وقالت: ألا تريد أن تعرف اسمي الحقيقي؟ إذا أردت ممكن أقول ...
وخجلت؛ فقد كان من الواجب أن أكون البادئ، وقلت بحماس مصطنع: طبعا طبعا، باردون. - اسمي لورا. - هاللو لورا.
قلتها مازحا لأغطي موقفي وأمد لها يدي، فقالت ووجهها محمر: هاللو يهيا. - إلى الغد إذن.
وهبطت السلالم تكاد تتعثر في خجل لم أكن أعرف مصدره.
وثاني يوم وأنا آخذ طريقي إلى باب حديقة الأندلس لأقابل لورا، كنت أعاني من تناقض داخلي بشع. كان مفروضا أن تأتي سانتي في نفس اليوم ونفس الميعاد وتجدني أنتظرها في البيت، وبشعور الأب العربي أيام الجاهلية وهو حامل ابنته في طريقه لدفنها حية خشية الفقر، أرغمت نفسي على أن أخرج للقاء لورا وأترك سانتي تأتي ولا تجدني.
وفي الساعة السادسة تماما كنت أمام باب الحديقة، وقبل أن أنتظر أو أتلفت أو أحاول التفتيش في عشرات الوجوه القادمة والمقبلة شعرت بيد توضع على كتفي. من ملمس أصابعها عرفت أنها لورا، وأنها حضرت قبل الميعاد، وأنها ظلت تنتظرني حتى جئت.
وكانت أنيقة في ذلك اليوم بهذا الإيشارب الأحمر الذي كانت تلفه حول عنقها.
وعبرنا الكوبري ونحن نتبادل حديثا تافها، وظللنا سائرين في شارع «الخديوي إسماعيل» (وكان اسم التحرير لا يزال جديدا) حتى وصلنا ميدان الأزهر. ومن الميدان بدأت لورا تقودني خلال شوارع جانبية غريبة لم أكن قد رأيتها قبلا؛ فالعمارات التي فيها عمارات مبنية كلها على الطراز الإيطالي أو الفرنسي ومتشابهة، وتحس أن القاطنين فيها كلهم أجانب وكأنها حي كامل من روما أو أثينا نقل بقدرة قادر ووضع في قلب القاهرة.
وقلت لها: وجدت المكان؟
وابتسمت لي ابتسامة من تقول: وهل في هذا شك؟
ونظرت لها وهي تبتسم، ولاحظت - رغم قلة الضوء - أن في وجهها نمشا خفيفا، وأن عينيها عسليتان في لون شعرها تماما.
وأمسكت يدها ووضعتها في ألفة بين جنبي وذراعي، ووضعت يدي الأخرى في جيب بنطلوني، وتركت لي يدها تماما، ومشينا.
وكانت تمشي بسرعة وعجلة وحماس مضطرب كحماس صبيان المدارس الثانوية، ولاحظت فعلا أن في تصرفاتها كلها آثارا من تصرفات صبيان المدارس الثانوية.
والواقع أن إمساكي بذراعها لم يأت صدفة. كنت أريد أن أجهز نفسي وأبدأ أحس أنها امرأة. كنت أريد أن أداوي نفسي لا بالتي كانت هي الداء، ولكن بصورة أخرى شديدة الشبه بالتي كانت هي الداء، بسانتي؛ فسانتي من لحظة أن عرفتها كانت بالنسبة إلي امرأة ومشكلة ؛ ولهذا ظلت علاقتي بها معقدة حافلة بالالتواء والمتناقضات. امرأة وزميلة ومتزوجة وتحب زوجها، ولا أكاد أعرف حتى إن كانت تعيرني اهتماما يذكر أم إن اهتمامها بي ما هو إلا صدى لاهتمامي بها.
ولو لم أكن أومن ببعض المبادئ والأخلاق لهان الأمر، ولاقتحمت سانتي بنفس الجرأة التي يقتحم بها الرجل العادي امرأة عادية. ولو كنت كامل الإيمان كامل الأخلاق لضربت صفحا عن هذه العلاقة من أولها، ولاستطعت الانتصار على «ضعفي»، ولما جاءت المرأة أو المشكلة، كنت أسمح لنفسي إذن بالمضي في الطريق مع سانتي، وأنا لست راضيا عن نفسي ذلك الرضاء الذي يجعلني أنطلق معها كل الانطلاق.
ولست ساخطا على نفسي ذلك السخط الكفيل بأن أقطع معه علاقتي بها، وحلمي في أثناء هذا الطريق كان أن أعثر على بديل لسانتي، على فتاة أخرى أحبها بلا مشكلة، وأسعد معها بلا تأنيب ضمير.
وحين وضعت الظروف لورا في طريقي، لورا الأجنبية هي الأخرى، الخالية من أية ارتباطات، البادية الرغبة في، قلت: هذا هو الحل العبقري لمشكلتي. وكل ما كان ينقص هذا الحل أن أبدأ أنا أحس ناحيتها بإعجاب أو حتى برغبات، وعن وعي كنت أفعل هذا، وعن إدراك كامل لما أريده احتضنت ذراعها محاولا أن أحس بها أكثر وأقترب منها أكثر وأكثر. ولست أدري لم ظللت أحس طوال الوقت أن التي تحضنها ذراعي ذراع، مجرد ذراع، لا أستطيع لو أغمضت عيني أن أحدد جنسها أو أعرف إن كانت ذراع فتى أو فتاة، مجرد ذراع.
ولم أيأس، وحاولت أن ألمح رغبتها في عسى أن تفلح في إثارة رغبتي أنا. ولكني عجبت؛ فلم تكن مضطربة ذلك الاضطراب الذي توقعته، ولم أعرف إلا بعد مدة من علاقتي بها أن اضطرابها لا يظهر إلا على هيئة حماس وتهور وحديث لاهث سريع عن مواضيع طرقتها قبلا، عن أمها الرجعية وأبيها القاسي.
ولم أيأس أيضا. مضيت أتصور المكان الذي نحن في الطريق إليه، محاولا أن أجد في اختياره والعثور عليه آثار رغبتها الخفية في، محاولا أن أخمن كيف لفتاة مثلها أن تجد مكانا يصلح لي ولها فقط، ولجلسة طويلة، ترى هل تكون شقة صاحبة لها؟ وأنى لفتاة يبدو أنها تعمل في إحدى الشركات أن تكون لها صديقة تملك شقة بمفردها؟! بل تصورت أنها ذاهبة إلى بيتهم في غيبة أمها وأبيها.
ولم يتح لي أن أطيل في تخميناتي؛ فقد انحرفت إلى شارع جانبي مسدود، وحيت بوابا أسود كان جالسا مع زميل له، واخترقنا مدخلا طويلا خافت الضوء وكأن النور يأتيه من تحت الأرض، وعند باب شقة في الدور الأول توقفت وأخرجت مفتاحا من حقيبتها فتحت به الشقة ودخلت وراءها.
كان المكان مظلما، وما إن دخلت وخطوت أول خطوتين حتى اصطدمت بها، وهمست متألمة معتذرة، وهمست أنا الآخر بكلام. وكان اضطرابي لمكان أدخله أول مرة واصطدامي بها وبحة همستها، كانت هذه كلها كفيلة بأن تدفعني للتفكير فيها كامرأة، ولكني وجدت أن لهفتي على معرفة المكان واكتشافه كانت أكبر من رغبتي في الاصطدام بها مرة أخرى إذا طال الظلام، ويبدو أنها أحست بهذا هي الأخرى؛ فقد أضاءت النور بسرعة وقالت بعصبية قليلة: هو ناد كما ترى.
وفعلا كانت هناك طرابيزة بنج بنج، وبضعة كراسي، وخيمة رحلات مكومة في ركن، وبيك آب، ولم أجد لدي كمية كافية من حب الاستطلاع تدفعني لسؤالها عن كنه ذلك النادي، واكتفيت بأن أخمن أنه لا بد أحد النوادي الكثيرة التي يقيمها موظفو الشركات الأجنبية من الشباب.
وفي ركن من الصالة الكبيرة معد كصالون جلسنا، وما زلت لسبب لا أعرفه أذكر هذه الجلسة بالذات. أنا على «فوتيل» ضخم غارق فيه، وهي على «فوتيل» ضخم آخر بجواري، وأنا واضع ساقا فوق ساق، وهي جالسة متحفزة كالتلميذات، وكلانا يتحدث. وطبعا لا أذكر ما قلنا بالحرف، ولكني أذكر جيدا أننا لم نتحدث بحرف من اللغة العربية أو الدرس. كان حديثنا من ذلك النوع الذي يتبادله الاثنان ليغطيا حديثا صامتا آخر هربا من ذلك الحديث الصامت.
وأحسست بشفقة عليها. جالسة كالتمثال الضخم الجميل، وقد أعدت للقائنا عدته وحلمت به ، وحين أصبحت أمامي ، ها هي ذي رغبتها يضج بها جسدها كله ولكنها تتجمد حين تصل إلى لسانها وملامحها، شفقة تدفع إلى عقلي في أحيان خاطرا مجنونا، لماذا لا أتصرف معها التصرف الطبيعي جدا في حالة كهذه؟ وعلى الرغم من جرأة الخاطر فقد كان يفد إلى عقلي هادئا بسيطا وكأنه يفد إلى عقل إنسان يتفرج على الموقف وليس صاحبه. وبنفس الهدوء والبساطة كنت أستسخفه وأنبذه بلا تفكير أو تردد، وأتكلم بحكمة وروية. لقد فقدت إيماني لحظتها بالحكمة والحكماء؛ ففي نفس الوقت الذي كنت أتصرف فيه كثوري شريف عاقل متزن، يجد في كل ما تحسه لورا مجرد مشكلة ويحاول أن يناقشها ويجد الحلول المناسبة لها، كنت أدرك أن حكمتي وتعقلي سببهما انعدام رغبتي فيها، سببهما أن غرائزي كلها عقيمة تجاهها، وكنت أقول لنفسي: لا بد أن الحكماء العقلاء أناس بلا غرائز، والناس العاديون بشر لهم غرائز، فلا بد أن الحكماء ليسوا بشرا، وحكمتهم لا فائدة منها؛ فالحكمة موجودة منذ أن وجد الإنسان، ومنذ أن وجد وهو لا يتبعها، ومنذ أن وجد والمسافة بينه وبين المثل العليا يصورها له حكماؤه هي هي لم تتغير، وكيف تتغير والذين يطلقون الحكمة أناس بلا غرائز ولا رغبات ولا نزوات؟ أناس ليسوا بشرا، يطلقونها ليتبعها أناس ذوو غرائز ورغبات ونزوات، بشر عاديون.
وكيف يمكن أن يتبع البشر أي نصيحة غير بشرية؟ ألكي يصبح نبيا وملاكا؟ ألكي يصعد إلى السماء؟ وما العمل إذا كان عمله هو البقاء على الأرض واستثمارها وتلطيخ نفسه بترابها وطينها وزرع ورودها؟
ألسنا في حاجة لأنبياء من البشر يحملون بيمينهم حسنات الإنسان وبيسارهم سيئاته؟ أنبياء غير معصومين، حكماء من المخطئين، لا يقف الواحد منهم فوق ربوة عالية ويرسل لنا حكمته العليا السامية، ولكن يحيا معنا ويعرف قوتنا وضعفنا، وله عيوبنا ونقائصنا، ولا يفخر بكماله وسموه بقدر ما يفخر بما فيه من عيوب وبقدرته على معرفتها. ألسنا في حاجة لحكماء جدد يفهموننا، حكماء لا يأخذون منا موقف القاضي بقدر ما يأخذون موقف المحامي الشريف المدافع عن جنسنا بكل أخطائه وعيوبه ومحاسنه؟
أنا لم أقابل حكماء كثيرين في حياتي، ولكني رأيت بعضهم. وأغرب شيء أنهم كانوا دائما أناسا سذجا لا خبرة لهم بالحياة، ولا يعرفون عن البشر إلا أنهم كائنات عليا سامية، وإن لم تكن كذلك فيجب أن تكون كذلك. وأنا لم أقابل في حياتي مجرمين كثيرين، ولكني قابلت بعضهم، قابلت قتلة ولصوصا وتجار مخدرات ونساء ليل، وكان الواحد منهم أو الواحدة منهن أكثر فهما للحياة والأحياء من كل من قابلت من فلاسفة وحكماء؛ فهؤلاء العصاة يحبون الحياة ويرون الناس رأي العين، ويحتكون بهم احتكاك الرجل بالرجل والإنسان بالإنسان، أما هؤلاء الفلاسفة والحكماء فقد وجدتهم لا يرون إلا ما في رءوسهم، وإذا حدث وقابل أحدهم إنسانا لا يراه، ولكنه يرى ما يتخيله هو عنه.
إنها مشكلة! فإذا كانت البشرية قد عانت الأمرين من العصاة أنبياء الرذيلة، فهي قد عانت - وربما بدرجة أكبر - من أنبياء الفضيلة، وإذا كانت جريمة الأولين أنهم يبشرون بحيوانية الإنسان، فجريمة الآخرين لا تقل عنها بشاعة؛ إذ هم يبشرون بما هو أسخف من الحيوان، بالإنسان السامي الكامل، باللاإنسان. وإذا كانت حكمة الأولين مدمرة؛ لأنها قريبة إلى الغرائز سهلة التنفيذ، فحكمة الآخرين لا تقل عنها دمارا؛ لأنها خيالية مستحيلة التنفيذ، تترك الإنسان حائرا تائها عاجزا ناقما على نفسه، وكلتا الحكمتين مدمر؛ لأنه ما من شيء يغل الإنسان ويوقفه ويجعله يدور حول نفسه قدر إحساسه بالذنب. وكلتا الحكمتين تولدان إحساسا عظيما بالذنب، الأولى لأنه نفذها، والثانية لأنه يفشل في تنفيذها.
وطوال جلستي مع لورا كنت نبيا من أنبياء الفضيلة. أسمعها تتحدث عن مضايقات أبيها وأمها لها، فأقول: يجب عليك أن تفعلي كذا وكيت. وأراها تتحرق رغبة في أن أنهي جلستي المستريحة وأبدأ معها حديثا آخر، فأزجرها بيني وبين نفسي وأؤنبها على تلك الرغبة غير المشروعة بين زميلين، وأزداد تأنيبا لها بأن أحدثها حديثا طويلا عن كفاحنا ونجاحاتنا، ووجوب مضاعفة الجهود وقيادة الشعب في معركة حريته الفاصلة.
وكانت تستمع لكلامي وتهز رأسها علامة الموافقة السريعة المتحمسة على كل كلمة أقولها، وتبتلع ريقها في خجل كالمؤمنة التي انساقت وراء أهوائها حين يذكرها أحدهم بوجود الله.
وفجأة أحس بوضعها ومشكلتها والرغبة التي تؤرقها، ويغلبني شعوري كإنسان فأغافل نفسي وأحاول أن أنظر إليها كفتاة ذات قامة فارعة وسيقان كأنها من صنع مثال، ولحظتها فقط أدرك مدى خطورة حالتي وموقفي، لحظتها أدرك أني أحب سانتي، أحبها حبا هائلا يملأ علي كل نفسي ولا يدع مجالا حتى لنظرة غير محبة للاستطلاع ألقيها على فتاة جميلة كلورا، وأنا معها وحيدا في مكان مغلق خال.
ومضى وقت، وشعرت أن الموقف قد تجمد، ولم يعد هناك جديد يضاف، فقمت وانصرفنا.
وفي اليوم التالي جاءت سانتي، قابلتها بابتسامة اعتذار ضخمة، وسبقتها وقلت إني آسف أنها جاءت بالأمس ولم تجدني.
فقالت: لا يهم.
قالتها وواضح عليها أنها غير مهتمة، ولم أستطع رغم كل محاولاتي أن أعرف إن كان عدم اهتمامها هذا تمثيلا، أم إنه عدم اهتمام حقيقي. وقالت لي إن هناك حفلة موسيقية في قاعة «أيوارت» لعازف البيانو المشهور جورج تملي، وأرتني تذكرتين، وقالت بابتسامة وبلا اهتمام كبير: أتأتي؟
وكأنما خافت أن أرفض، فلم تلبث أن قالت وقد استعادت طريقتها المتحمسة الماكرة المملوءة بالروعة: معي تذكرة زيادة كما ترى.
وقلت وأنا أركز انتباهي كله على فمها حين ضيقته وشكلته ليبدو ماكرا متحمسا: تعلمين طبعا أني لن أرفض.
وفي المساء كنت واقفا أمام أيوارت أنتظرها وأحاول أن ألعب مع نفسي لعبة القط والفأر، أحيانا أقول سأقف في مكان لا تراني فيه حين تجيء لأدعها تنتظرني إذا جاءت، وأحيانا أسحب الفكرة. أحيانا أهيم في الوجوه الداخلة المقبلة في عربات وتاكسيات وأنتقي أجمل قادمة وأقول لنفسي: هيه، لو خيرت بينها وبين سانتي، فمن ذي تختار؟
وأبتسم في سخرية؛ فمجرد المبدأ لا تقره نفسي، والليلة ليلة شتاء، والمعاطف الصوف والقفازات وازدحام المدخل. والناس حين تتفرج على الناس، وأنا واقف بينهم، أسعد منهم جميعا. أستعذب انتظاري وأتطلع بعيون واثقة تجاه الميدان، عيون متأكدة أنه بعد لحظة أو لحظات ستبدو لها تلك الكائنة الحلوة الدقيقة ، وستملأ حدقتيها ولن تعود ترى سواها.
وفجأة وجدت يدا توضع على كتفي، يدا أعرف أصابعها الضخمة تماما، يد لورا، والتفت وتصنعت الدهشة والفرحة؛ «إذ في الحقيقة كان قد ضايقني ظهورها المفاجئ هذا»، وبطريقتها الصارخة المهرجة سألتني: أين كنت؟ ولماذا أنا واقف سارح؟ وهل أنا أنتظر أحدا؟ ولم تنتظر لتسمع إجابتي على أي من أسئلتها، إنما بنفس الاندفاع والحماس قالت: هل ممكن أن أقف معك؟
ورحبت بوقوفها طبعا، وسألتها بدوري أين كانت وحدها؟ وأجابتني بسرب من الإشارات والتحيات تبادلتها مع شلة كبيرة من أصدقائها البنات والشبان، شلة من تلك الشلل التي تذهب إلى الرحلات معا وترقص معا وتقضي السبت والأحد معا، ويقولون لبعضهم البعض: هاي بوي، هاي جيرل.
وفجأة أيضا ظهرت سانتي وأقبلت علينا، وتبادلنا السلام، وقالت لورا باندهاش عظيم: هل تعرف ...؟
وأدركت أنها سترتكب خطأ لو قالت اسمها، فأحرجت وتلجلجت، وقلت لأنقذها: طبعا.
ودخلنا القاعة.
وكما توقعت تماما تركت لورا شلتها وجاءت وجلست معنا.
وجلست أنا وكأني هارون الرشيد عن يميني سانتي وعن يساري لورا، وأصابع جورج تملي المعجزة تشيع في أنحاء الصالة الواسعة أقوى وأرق ألحان جادت بها قريحة بشرية، أنغام كونسرتو البيانو رقم 3 لبيتهوفن.
والحقيقة لم يكن هذا هو السبب في النشوة الغامرة التي أحسست بها تملأ صدري وتشيع وتنفذ إلى كل خلية من خلايا جسدي، والسبب كان أعجب؛ فحين قابلت لورا ورأيت إعجابها بي ورغبتها في واضحة كل الوضوح، تمنيت أن نلتقي معا بسانتي لترى هذا الإعجاب الشديد، ولترى بنفسها أني لست وقفا عليها، وأن مصيري ليس معلقا بكلمة منها، وها نحن قد التقينا، وها هي لورا عن يساري وسانتي عن يميني.
وعن عمد رحت أهتم بلورا وأهمس لها وأداعبها وأوجه معظم حديثي إليها، وأقف قريبا منها في الاستراحة، وأحمل لها بيدي «شوب» البيرة الذي آثرت أن تتناوله، ولكني كنت أفعل هذا وعيوني على سانتي. وخاب أملي؛ فلم ألمح غيرة واحدة على ملامحها، وكأنها واثقة من نفسها، أو على الأقل واثقة مني وتدرك أني إنما أتصنع هذا كله وأدعيه. وضايقني هذا، وأحسست أن بذور الثقة التي كانت قد بدأت تنمو في نفسي بدأت أمام عيني تذبل وتموت.
أملي كله كان أن أراها تغير ولو مرة واحدة، فأثبت وأثق في نفسي وأتصرف بطريقة متزنة وعاقلة، بطريقة تحظى بإعجابها. كنت أحس أني أنا الذي أتحرك إلى ناحيتها باستمرار، وأنها واقفة في مكانها لا تتزحزح. وأملي كان أن تخطو خطوة واحدة فقط لأستطيع أنا أن أقف في مكاني ألتقط أنفاسي وألم شتات نفسي.
ولم يحدث شيء من هذا في الحفلة، ولا حتى حين انتهت، وتعمدت أن أرافق لورا لأوصلها تاركا سانتي لتعود وحدها.
حدث هذا فقط ثاني أو ثالث يوم، كانت سانتي قد عرفت في الحفلة أنني أعطي لورا دروسا في العربي وأننا نتقابل، وتعمدت أنا أن أخبرها أننا نلتقي في البيت، بيتي، وحين قلت هذا لمحت - أو خيل لي أني لمحت - شبح بريق سريع خاطف يعبر عيني سانتي ويكاد لا يرى.
ولا أعرف ماذا كان في ذلك البريق لأستشف منه أنها اهتمت بالخبر اهتماما خاصا، وأنها حتما ستقوم بعمل ما خطر لها لحظتها فقط، وقد تبين بعد هذا أني كنت على حق. لا بد أن الحب شيء عجيب، لكأنه يضع صلة مادية حية بين الاثنين فيجعل كلا منهما يكاد يتبين ما يفكر فيه زميله ويعرفه، ربما قبل أن تصل تلك المعرفة إلى عقل صاحبها.
وقبل أن نقترب على باب القاعة قالت لي سانتي كعادتنا كلما افترقنا: أراك غدا. وكنت باستمرار أرد قائلا: طبعا. ولكني هذه المرة تعمدت أن أتصنع التفكير ثم أقول: آه، هناك شيء، غدا سأكون مع لورا.
فقالت سانتي: آه، لقد نسيت.
وقالتها بلا اهتمام، ولكني كنت قد لمحت هذا البريق الخاطف الذي لا يكاد يرى يعبر عينيها للمرة الثانية، ولم يكن هناك داع لقولي هذا؛ فأنا لم أكن ألتقي بلورا في البيت، كنت أحتفظ به لسانتي، وكنت أتعمد الالتقاء بلورا خارجه حتى لا تتعود عليه ويصبح في استطاعتها أن تطرقه في أي وقت تشاء، وأكون بهذا قد أفسدت أهم متعة من متع حياتي.
قابلت لورا في ثاني يوم كالعادة عند حديقة الأندلس، ولكن بدلا من أن نذهب إلى النادي قلت لها: لماذا لا نذهب إلى البيت؟ وكان باستطاعتها حينئذ أن تذكرني بأنني أنا نفسي الذي رفضت البيت في أول الأمر، ولكن شغفها بما قلت لم يدع مجالا لتذكرني بشيء، أو لعلها خافت إن هي ذكرتني أن أعدل عن الفكرة.
أما لماذا اقترحت أنا أن نذهب إلى البيت، فالسبب في هذا لا يمت إلى العقل بأية صلة؛ فقد كنت أحس بطريقة ما أن سانتي ستحضر إلى البيت متذرعة بأية حجة، وفي هذه الحالة يستحسن أن تأتي لتجدني مع لورا، ولنر ما يحدث لها حينئذ، وهل يا ترى ستظل على ثباتها وبرودها؟
كان شيء كهذا مستحيل الوقوع؛ لأني لم أكن أعتقد أبدا أن سانتي قد اهتمت بحكاية دروس لورا، وحتى لو كانت قد اهتمت، فهل يبلغ بها الاهتمام حد أن تكلف نفسها الحضور في الليل إلى بيتي لتطمئن على أن جلستي مع لورا مجرد جلسة درس عربي؟ خاصة وأني قلت لها إني لن ألقاها لأني سأكون مشغولا مع لورا؟
قطعت مع لورا شارع الجزيرة إلى الزمالك، وأصبحنا قريبين جدا من البيت حتى لم يبق بيننا وبينه إلا بيتان أو ثلاثة.
وفجأة سمعت من يقول: يحيى. وغمرتني فرحة طاغية؛ فليس في العالم كله إلا لسان واحد يستطيع أن ينطق اسمي بكل تلك العذوبة حتى أكاد لا أصدق أنه اسمي. كانت سانتي. والتفت فوجدتها واقفة أمام مدخل البيت المقابل لبيتي ومعها راقية زوجة شوقي، ولم أفهم شيئا بادئ الأمر، ومع هذا كنت فرحا إلى درجة لا أريد معها أن أفهم شيئا.
وتبادل أربعتنا التحية، ووقفت أنظر إلى البيت المقابل وراقية زوجة شوقي ولورا، ومدخل دكان البقالة الوحيد في الشارع وقد ازدحم بعدد من الناس، والعربات المارة، والبلكونات المهيبة الساكنة، ولا أنظر إلى سانتي. ومع هذا فلم أكن أرى شيئا أو كائنا غيرها، ولم أهتم حتى بسماع ما تقول. كنت قد اكتفيت بإحساسي أنها قد جاءت كما توقعت، ورغم أن أول كلمة قالتها كانت: هل رأيت شوقي؟ وحين سألتها: لم؟ قالت بطريقتها المستعجلة المتحمسة إنه لم يعد إلى البيت منذ الصباح، وإن راقية كانت تبحث عنه وقابلتها صدفة، وإنهما رأتا أن تسألاني عنه؛ ولهذا جاءتا وصعدتا إلى الشقة، ولكنها كانت مغلقة ولا أحد بها، فوقفتا في ذلك المكان تنتظران قدومي.
كانت سانتي هي التي تتحدث، وكلامها يغلفه الحماس والرغبة في إخفاء شيء وتبرير موقف، حتى لو كان موقفا من الصعب تبريره. لماذا تنتظراني أمام البيت؟ ومن أدراهما أني قد أجيء؟ مع أن وقوفهما في الشارع ليس بالأمر المستحب؛ فالشارع من الشوارع الصغيرة القليلة الحركة الذي يعتبر وقوف سيدتين أو فتاتين فيه في الليل على هذه الصورة مسألة تدعو إلى النظرات المريبة والتعليقات والمعاكسات، قلت هذا لسانتي فأجابتني: ولكني كنت عارفة أنك ستأتي في الثامنة.
قلت: وكيف عرفت؟
قالت بنفس حماسها: أنت قلت لي، ألم تقل إنك ستقابل لورا في الثامنة؟
ومرة أخرى أحسست بجسدي مقشعر بالنشوة، لا لأنها قالت ما قالته، ولكن لأني أنا نفسي كنت قد نسيت أني أخبرتها بأني سأقابل لورا في الثامنة، ومعنى أن أكون قد نسيت أنا شيئا قلته لها وأنها هي تذكره، أنها مهتمة بكلامي أكثر من اهتمامي أنا به، ثم أن يكون هذا الكلام متعلقا بلورا وتذكره هي وأنساه أنا معناه أن البريق الذي لمحته في عينيها كان بريقا حقيقيا ولم تخدعني عيناي فيه.
ولم أتصرف وكأني صدقت حرفا واحدا مما قالته سانتي؛ فقد كان عملي مثلا أن أتطوع وأنضم إليهما ونبحث جميعا عن شوقي، ولكني اعتقدت أنها إحدى غيبات شوقي الكثيرة، وأن راقية كانت فقط تحاول أن تعرف مكانه، ولولا اهتمام سانتي بالبحث عنده لما كلفت نفسي عناء الحضور. وعلى هذا ابتسمت في خجل ودعوتهما للصعود معي دعوة مجاملة، ولكنهما قالتا إنهما تؤثران معاودة البحث عن شوقي.
في تلك الأثناء كانت لورا قد سبقتني لدخول البيت «وكأنها خافت أن أعدل»، بل كانت قد صعدت السلم ووقفت على رأسه تنتظرني أن أوافيها، وحمدت الله أني كنت قد انتقلت إلى الزمالك؛ فلو حدث هذا المشهد في بولاق لتجمع الشارع علينا. وكيف لا يتجمعون حول شاب أعزب معه ثلاث فتيات: اثنتان أجنبيتان، وواحدة مصرية، وحديث مرتبك مختلف يدور بينهن وبينه؟
ومع هذا فقد تصرفت بخجل شديد وكأني لا أزال في بولاق، وكان كل همي أن أنهي الموقف بسرعة مع أن سانتي كانت قد بدأت تطرق مواضيع أخرى بحديثها، وراقية كانت قد بدأت تبتعد عنا مستعجلة، ولورا واقفة في أعلى السلم تنتظر.
وانتهى المشهد كما أردت.
مضت سانتي وراقية، وبدأت أنا أصعد السلم ككل مرة ثلاث أو أربع درجات في وثبة واحدة، كنت لا أزال خجلا مرتبكا وسعيدا فرحا أفكر باستمتاع كبير فيما حدث، وكيف أنها لم تخط ناحيتي خطوة واحدة فقط، ولكنها مشت شوطا بعيدا، شوطا كلفها مجيئا بالليل وانتظارا أمام البيت واختلاق حجج.
غير أني في منتصف السلم توقفت؛ فقد خطر لي خاطر استبشعته إلى درجة دفعتني للتوقف عن الصعود فعلا، لماذا لا تكون قد جاءت حقيقة للبحث عن شوقي، وأكون أنا قد فهمت الموضوع وفسرته كما حلا لي، وأكون أكبر عبيط على سطح الأرض؟
جفف الخاطر بقدومه الناعق المفاجئ ريقي، وجفف أيضا سعادتي ونشوتي تلك التي كنت قد بدأت أحسها.
ووجمت، وحتى لم أحفل بالاعتذار للورا عن تركي لها واقفة كل تلك المدة على السلم، وفتحت الباب، وتقدمتني لورا بكل ألفة وكأن البيت بيتها، وكأنها دخلته آلاف المرات. تقدمت وأشعلت النور في حجرة المكتب، وخلعت حذاءها وتربعت على الكرسي الأسيوطي واضطجعت بظهرها إلى الوراء لتستريح في جلستها. فعلت هذا كله ببساطة، وقبل أن أجلس أنا أو أفكر حتى في الجلوس. وشغلني التفرج على تصرفات لورا الرياضية هذه عن الخواطر المتداخلة المرتبكة التي كانت قد تجمعت في رأسي وكدت أضحك، بل أغراني تصرفها هذا على أن أفعل أنا الآخر كالرياضيين، فخلعت «الجاكتة» وألقيتها بإهمال الأسبورتسمن جانبا، وتمددت على الكنبة بطولي، وأنا أشكو بأنفاس لاهثة من طول السلم.
وما كاد هذا يحدث حتى وقع شيء لم أتوقع حدوثه أبدا؛ فقد دق جرس الباب، وذهبت لأفتح وإذا بها سانتي، وإذا بها تدخل محرجة مرتبكة قائلة: نسيت أن أخبرك بشيء. وقبل أن تخبرني ما هو ذلك الشيء كانت قد أكملت سيرها إلى حجرة المكتب.
ورفعت لورا رأسها وتلاقت أنظارهما بلا ضجة اصطدام أو استنكار. وكنت قد وصلت إلى الحجرة، ووجدت سانتي واقفة في وسطها، ووجهها شاحب قليلا وعيونها زائغة، تنظر أكثر ما تنظر إلى الأرض، والحرج لا يزال واضحا جدا في ملامحها.
ولم تكن قد قالت بعد ذلك الشيء الذي نسيت أن تخبرني به.
ومرة واحدة اندفعت إلى نفسي تلك النشوة التي كانت خواطري قد حبستها. أبدا، من أجلي أنا جاءت، ومن أجلي ها هي ذي تعرض نفسها للحرج، يا سلام! أجمل من شعور البدو في عام مجدب حين تضن السماء بالمطر، وتتطرف عيونهم وهم يترقبون الغيث ويبتهلون لمجيئه، ويقضون أيامهم ولياليهم وهم يحلمون بذلك الرذاذ الخفيف الذي يسبق هطول المطر. أجمل من هذا كان استقبالي لرذاذ الغيرة وسانتي تجود به في النهاية، غيرتها علي، لأول مرة أحسها، ولأول مرة لا تستطيع إخفاءها، ما أطول ما انتظرت! وما أعذبه من رذاذ!
وكالبدو رحت أفتح فمي وعيني ونفسي وكل مسامي لأتلقاه، وكم استعذبت حرجها، أعذب وأجمل حرج، حرج جعلني أنسى حتى أن أسألها عن ذلك الشيء الذي نسيته. وهي أيضا كان يبدو أن ارتباكها أكبر من أن يسمح لها باختراع كذبة أو أنساها الكذبة التي كانت قد أعدتها. كانت واقفة تنظر في اضطراب تائه إلى كل شيء في الحجرة دون أن يستقر نظرها على شيء بعينه، وقالت فجأة: آه، مبروك! قالتها وهي تشير إلى صورة منقولة عن لوحة لسيزان، وكانت عندي من زمن، وكان كسلي يمنعني من عمل برواز لها وتعليقها، ولكني حين شرعت في تجميل الحجرة التي أقابلها فيها كنت كل يوم أضيف لها جديدا، وهكذا علقت اللوحة المهملة.
وأدركت أن حرجها هو الذي دفعها لتهنئتي على هذا العمل الذي لا يستحق التهنئة، وغمغمت بكلام مدغوم؛ فقد كنت محرجا أنا الآخر. ماذا أقول؟ وماذا يجب علي أن أفعل؟ وهل أحاول إخراجها من حرجها؟ وكيف أصنع هذا وأية محاولة مني لمساعدتها قد تزيدها حرجا؟
والظاهر أنه لم يكن أمامها أي حل آخر؛ فقد وجدتها تستدير خارجة وهي تردد اعتذارات مبتورة لأنها عطلتنا، مع أنه كان واضحا لها ولنا أنها لم تعطلنا في شيء.
وحين أصبحت معها في الصالة شبه المظلمة، قالت بنبرة مغايرة منخفضة، وكأن ما تقوله هو الشيء الذي كانت نسيت أن تقوله: سأراك غدا، هه؟
وكان مفروضا أن أراها في الغد دون أن تنسى، ودون أن تكلف نفسها مشقة صعود خمسة أدوار ومائة درجة، وقلت لها: طبعا. وسلمت علي. ولأول مرة مددت لها يدا ثابتة قوية لا تهتز، ولأول مرة منذ أن عرفتها أسلم عليها وأنا أحس أني أسلم على امرأة، وأني رجل، لا أعرف ماذا تريد؟ وعدت سكران حقيقة بالنشوة إلى لورا.
وظللت معها فترة طويلة تتحدث وأرد عليها، وأنا إطلاقا لست معها إنما في كون أثيري آخر لا أفقه شيئا مما يدور بيني وبينها، إلى أن وعيت مرة، وكأنما قد آن لي أن أعود من ملكوتي فأجدها تسألني: أنت طبيب أليس كذلك؟
وكانت لا تسأل بلهجة السؤال، ولكن بصيغة التقرير، ومن بقايا النشوة فاجأني الغم؛ فحتى لو كنت في حالة عادية فأنا لا أضيق بشيء قدر ضيقي بأن يسألني كائن من كان في وقت غير مناسب عن أحدث علاج للأنفلونزا، أو ما الحكمة في أخذ بعض الأدوية قبل الأكل وبعضها بعده؟
وعلى هذا ظللت ساكنا، وسمعتها تكمل: كنت أريد أن أسألك.
وسكتت سكوت المحرجة، ثم استطردت: أنت تعلم، نحن لا نأخذ تلك الأشياء في المدارس، ولكني كنت أريد أن أعرف حقيقة المسائل الخاصة بالحمل والولادة و...
وفتحت عيني وواجهتها. لم يكن وجهها أحمر من الخجل، ولو كانت قد سألتني في جو مناقشة حامية لكانت قد تكلمت بصراحة أكثر وما همها.
واعتدلت وقلبي يخفق ؛ فمهما بلغ تبلد إحساسي تجاهها فللتبلد حدود. وجرأتها كانت قد استثارتني فعلا؛ فقد فاجأتني بسؤالها ونحن وحدنا، وهي فتاة، وأنثى جميلة على أية حال، ثم إني حين كنت في النادي معها كنت مشغولا عنها بسانتي وتأرجحي بين الشك واليقين في حقيقة شعورها نحوي، أما في لحظتنا تلك، فقد كنت واثقا أني استحوذت على سانتي وأني وصلت معها إلى مرحلة اليقين، أو على الأقل إلى الدرجة التي أستطيع أن أستريح من التفكير فيها قليلا، وتصل بي ثقتي بنفسي ورجولتي إلى درجة أستطيع أن آخذ منها إجازة دقائق أتفرغ فيها لهذه الفتاة لورا التي لم يعد ينقصها إلا أن تنقض علي وتغتصبني.
وقلت لها وأنا لا أكاد أصدق: تريدين أن تعرفي ...
قالت بحماس: أجل، أجل.
قلت بكل استمتاع: كل شيء؟
قالت (ولعلها أرادت أن تستمتع بالسؤال هي الأخرى): ماذا تقصد؟
قلت: أقصد كل شيء عما يحدث قبل الحمل والولادة ...
قالت ببراءة علمية، لم أكن أشك لحظة واحدة في أنها مصطنعة، وإن عجز إدراكي عن تبين هذا: أجل.
قلت: حسن جدا!
وقمت إلى المكتبة وأخرجت كتاب التشريح، وجاءت وجلست بجواري على الكنبة، وبالاستعانة بما في الكتاب من رسوم توضيحية وفوتوغرافية مضيت أشرح لها وهي تهز رأسها علامة الفهم والإدراك، وأحاول أنا أن ألمح أثر كلامي على وجهها فلا أجد له أي أثر، ولكني لاحظت أنها كفت عن هز رأسها، وأن وجهها قرب النهاية قد بدأ يتجمد ويبهت لونه قليلا، وذراعها القريبة من ذراعي أحسست بها قد أصبحت باردة برودة طلب الخطيئة.
وبلغ ضيقي بنفسي حدا أوقف لساني عن الكلام؛ فقد اكتشفت فجأة أني أقف مما يحدث موقف متفرج عابث، وأني قد بعثت الرعب الأبيض الخائف في جسد الفتاة، وأنها تحيا الموقف بكل عصب من أعصابها وخلية من خلاياها، وأنا - باعث هذا وفاعله - لا أحس بأي انفعال.
تضايقت جدا لأني أفقت لنفسي فوجدتني أعبث بلورا مسكينة أوقعها سوء حظها في حجرة محب مشغول بغيرها تماما، لا مكان لها عنده إلا لإجراء تجاربه النفسية المريضة عليها.
وبكلمات قصيرة متلعثمة أنهيت الشرح بسرعة، وأحست هي أني تغيرت، وحاولت أن تتغير هي الأخرى، ولكن ملامحها وانفعالاتها لم تطاوعها، وظلت تعاني من حالة التجمد المضطرب. وتألمت؛ فقد أدركت أني بتغيري السريع آذيت شعورها وجرحتها، فأمسكت بيدها وضغطت عليها مبتسما وكأنما لأسهل عليها الأمر أو أواسيها.
وتضاعف ألمي حين وجدت أنها لم تتقبل ضغطاتي تقبلا عاديا، وأن يدها ذابت تماما في يدي وعينيها ذابتا في عيني، ولعنت نفسي آلاف المرات، وحاولت أن أغير نظرتي وأشيع البرودة والجد في يدي وأصابعي، غير أن الحنان المؤنث لم يكف عن التدفق من عينيها. وقلت لا بد مما ليس منه، وعلي أن أرغم نفسي على مجاراتها، ولكن عبثا ما حاولته. شيء ما داخل نفسي، أهم ما في نفسي، روحها ومركزها ونواتها، البذرة التي يتجمع فيها كل ما هو شخصيتي وعواطفي وأحلامي ورجولتي، هذا الشيء كلما حاولت كان يغوص كحيوان القواقع إلى قاع داخلي ليس له قرار، وكلما استجمعت قواي وركزت جهودي لأمنعه عن الغوص يزداد انكماشا ويغوص أكثر ويبتعد عن متناول يدي بسرعة مذهلة. وهناك دائما عينا سانتي ضاحكتان، ساخرتان بي، غيورتان حبيبتان جدا، تزغللان ولا أرى سواهما، حواسي كلها معها، وروحي في بريق عينيها، ولم يبق لي، لم يبق للورا الجالسة تصطك أسنانها فعلا من البرد الخفي الذي يسبق الدفء الكامل، لم يبق لي معها إلا رأس غائم مضطرب، وأفكار خجلى تحتمي بغيوم رأسي. ورغم هذا ترى لورا وترثي لها وترثي لي، وتكاد تحترق بحثا عن مهرب أو خلاص من ذلك الموقف.
وأحسست أن أفكاري هي الأخرى قد تلاشت وهجرتني، فسكت وظلت أسنان لورا تصطك برهة اصطكاكا خفيفا كالأزير المتصل، ثم توقفت وبدأت تسترد نفسها قليلا. وفجأة وجدتها تتكلم عن الفتى الأول في حياتها، وكيف طلب منها ذات يوم أن تعطيه نفسها. وبحب استطلاع سألتها إن كانت قد فعلت. وبنفس براءتها العلمية أجابتني أنها رضيت بعدما استطاع إقناعها أن لا ضرر هناك من المحاولة، وأصبحت في غاية الحرج! وسألتني إن كانت لي فتاة فقلت لها : طبعا، واحترت بماذا أجيبها لو سألتني أكثر عنها، وهل أحكي لها عن تلك الفتاة التي لم أكن أعرف إلا اسمها الأول، وظللت على علاقة بها لسنوات ثلاث تزورني بانتظام كل يوم ثلاثاء وتأتي دائما في منتصف الليل وتذهب في الفجر، ولا أعرف ماذا تعمل ولا أين تقيم، وهي أيضا لا تعرف غير اسمي الأول، وكيف تقابلنا ذات ليلة في مكان نسيته واستصحبتها في نفس الليلة إلى الشقة، ومن ليلتها ظلت تتردد بانتظام لا يختل، ترفض النقود والهدايا، وكلما حاولت سؤالها عن نفسها ابتسمت لي ابتسامتها ذات اللمعة، ابتسامة مستكينة خاضعة غير طموحة.
وكيف انقطعت فجأة، وكيف حز انقطاعها في نفسي، وكيف لم أنسها تماما حتى عرفت سانتي.
وهمت لورا أن تسألني سؤالا، ولكنها أمسكت سؤالها في آخر لحظة، ومع هذا استطعت أن أتبين السؤال، وكأنها كانت تريدني أن أذكر لها ماذا أفعل مع فتاتي تلك. أمسكت لسانها ونكست رأسها وأحسست أنها تعاني من ذبحة شعورية ذليلة مفاجئة.
ولا أدري لم وجدت نفسي أنفجر في ضحكة لا مناسبة لها بالمرة، وحين رفعت رأسها ووجدتها تبتسم من خلال ذلتها تحولت الضحكة إلى نوبة تشنج ضاحك لم أستطع إيقافها.
وأغرب شيء أني وجدتها هي الأخرى قد تخلت فجأة من كل ما تكظمه وتحس به، ومضت تقهقه، ولاحظت أنها تقهقه كالرجال؛ فدفعني هذا إلى عاصفة ضحك أخرى اقتلعتني من فوق الكنبة ومددتني على الأرض.
10
وحين استيقظت في الصباح، وقبل أن أسترد حواسي وأفتح عيني في تلك اللحظات التي نستعرض فيها بسرعة خاطفة ما حدث لنا في اليوم السابق، قبل أن أفتح عيني كان أول ما خطر لي هذا السؤال: أليس من المحتمل، ورغم كل شيء، أن تكون سانتي قد جاءت بالأمس لتبحث عن شوقي؟
ولكني بعد ثوان من التدبر، كنت أبتسم في هيام مغمض جميل.
وأفطرت جيدا، لأول مرة منذ شهور، ولأول مرة أيضا وجدتني آخذ الطريق إلى عملي في السابعة والنصف مع جيوش الطلبة والموظفين والكادحين. وفي الثامنة تماما كنت جالسا إلى مكتبي في الورش، واكتشفت أشياء غريبة؛ فلم يكن أحد من موظفي المكتب قد حضر بعد، لم يكن هناك إلا التومرجي العجوز، ولم يكن أحد من العمال المرضى أو المتمارضين قد حضر أيضا، كنت قد عودتهم أن آتي متأخرا في التاسعة والنصف أو العاشرة، وما دام الرئيس يحضر هكذا فلماذا يأتون هم مبكرين؟ وبدلا من أن أثور وجدتني أعذرهم وألقي اللوم على نفسي وأعاهدها أن كل شيء سيصير إلى ما يرام، وكل الارتباك الذي ساد حياتي سيزول حالا. كنت كالناقه من مرض، الفرح بشفائه وعودته إلى دنيا الأحياء.
وكل من جاء في ذلك اليوم من العمال منحته ما يريد من إجازات، ودفعت لفراش المكتب شلنا ثمن فنجان القهوة، تقبله الرجل بتجاعيد مندهشة ألغيت من صدغيه وملأت جبهته.
وقابلت عنتر وعبلة بترحاب حين جاءا بعد انتهاء العمل يستخفي كل منهما في الآخر ويقدم رجلا ويؤخر الثانية؛ إذ كنت قد دأبت في الأيام الأخيرة على استقبالهما بلا اهتمام وعلى الضرب بمشوراتهما عن العمل في العيادة عرض الحائط. وانعكست حالتي على وجهيهما فورا، وبدأت ضحكاتنا نحن الثلاثة تجلجل في أنحاء المكتب وكأننا في غرزة، واستمعت لمشاكل عنتر مع أخواته البنات بآذان عاطفة متفتحة. كان لا يكاد يطرق سيرة خلافه مع شقيقاته حتى أسد أذني وأروح أستمع إليه بتوهاني وسرحاني. واكتشفت أعجب وأغرب حقيقة؛ فقد عرفت أنه رغم هذه الخناقة المستعرة بين عنتر وأخواته حول ميراثهم من أبيهم، فأبوهم كان لم يمت بعد، كل ما في الأمر أنه كان شبه مقعد في فراشه وقد بلغ من العمر أرذله، وكان يحب عنتر لأنه ولده الوحيد، ففضله على بناته وكتب له البيت الذي فيه العيادة، وثارت البنات على الوضع وأقمن دعوى، وأقام عنتر أخرى، وطعون وحجوزات ودفوعات فرعية وقصة طويلة ظللت أستمع لها وأنا مشوق لتفاصيلها، وكأنها قضيتي الخاصة، وبلغ بي حب الاستطلاع درجة أن طلبت من عنتر أن يريني أباه هذا، خاصة وقد حكى لي أن أباه كان سائق قاطرة السلطان حسين الخاص، وأن جده كان السائق الخاص للخديو إسماعيل أيضا. - أمال إيه يا بيه؟ وشرفك عندي أنا متربي في قصر القبة، اوعى ألاقي روحي بلعب الحجلة هناك.
وأقول له ساخرا: مع ولاد السلطان يا عنتر؟
فيقول: لا، الكذب على الله حرام. كان فيه ولاد تانيين، إنما ولاد السلطان حد كان يستجري يشوفهم.
والحديث يدور بيننا ونحن في طريقنا إلى حي الفرنساوي القريب من العدوية؛ حيث يقيم عم مبروك والد عنتر، حي مزدحم متلاحم بالبيوت، شوارعه حواري، وحواريه شقوق ضيقة متعرجة، والشوارع والحواري ممتلئة إلى حافتها بمظاهرات دائمة من الخلق الذين لا تعرف من أين يأتون وإلى أين هم ذاهبون. وفي بيت من داخل بيت، ومن سلم مبني بالأحجار إلى كومة تراب عالية يقولون إنها كانت بيتا في يوم من الأيام وحين سقط لم يحفل أحد برفع أنقاضه، إلى شارع مقام فوق دور أول كامل؛ وصلنا حجرة عم مبروك الذي لم يتعظ بقصة الملك لير وكرر مأساته وأورث ابنه وبناته كل عقاره وممتلكاته وهو لا يزال حيا يرزق، فكانت النتيجة أن غضبت عليه بناته؛ لأنه اختص عنتر بنصيب الأسد، وتقززت منه زوجة عنتر حين جاء ليقيم مع ابنه، فاضطر الأخير مرغما لاستئجار هذه الحجرة له، الحجرة التي يقول عنها: والله بدفع فيها خمسين قرش بقطعهم من أكل العيال.
وبطريقة لا رهبة فيها ولا احترام مضى عنتر يزعق في أذن أبيه، ويخبره أنه أحضر له دكتورا ليفحصه، ويعتدل الأب في نومته ويجلس القرفصاء على المرتبة السمراء المتسخة، جلسة قرد عجوز، له نحافة القرد وشكله المضحك، وابتسامته التي لا تنتهي لو كان للقرد ابتسامات.
ومن أول لحظة أدركت أن العجوز دمه خفيف؛ فبرغم تبرم عنتر به كان أول ما قاله إنه ليلة الأمس فقط أحس بدبيب الرجولة يعود إلى جسده وبظهره يسخن، وأن عليه أن يعد العدة لزواجه في القريب العاجل.
وسألته عن ذكرياته مع السلطان، وترجم عنتر سؤالي إلى زعيق راح يصبه في أذنه وهو يغمز لي بعينه ويسخر من ثقل سمع أبيه. وضحك العجوز ضحكته ذات الكحة القصيرة وقال: ما بتدومش، عمره ما ركب القطر إلا برجله اليمين. ومرة نسي وركب برجله الشمال فخلاني وقفت القطر في السكة ونزل وركب برجله اليمين، ودايما كان مكشر ما يكلمشي إلا تركي.
وانخرط في ضحك متقطع قصير.
وقال عنتر وكأنما يعتذر: الراجل ده شاف عز كتير، كان بيلعب بالفلوس لعب، وما كانش يمشي إلا مع لا مؤاخذه ستات خواجات وأروام.
ولا أعرف لماذا ضحكت وقد تذكرت لومضة نفسي، ولماذا تضايقت من الحجرة والزيارة كلها فجأة ولم أهدأ إلا حين وجدت نفسي هناك أعبر كوبري أبو العلا في الطريق إلى بيتي، أرقب حركة المرور فوق الكوبري ويتسع بصري ليشمل النيل كله، وسانتي مطمئنة في صدري كالفرحة الدافئة مصونة والدنيا من حولي كلها ونس وسلام.
وحين جاءت الثالثة والنصف - موعد حضورها - كان وجهي حليقا ناعما، وبخار الحمام لا يزال يضمخ جسدي وملابسي كلها انتقيتها بعناية.
وكنت جالسا أدخن راضي النفس وأنتظر.
ولاح شبحها خلف زجاج الباب. وقبل أن أفتح قلت لنفسي: إنها لا بد قادمة هذه المرة وقد تغير فيها شيء. ولم يخب ظني فقد كانت ترتدي التايير الأنيق الأسود الذي دخلت به السينما معي، وبلوزة بيضاء ناصعة البيضاء، وكانت تضع تواليت كاملا. ومع أني كنت أفضلها بلا مساحيق وأحب فقط «روج» شفتيها، إلا أني أحسست بفرحة مضطربة خفية لرؤيتها كاملة الأناقة.
وفي تلك المرة كنت أنا الضاحك الباسم الطليق، وكانت هي قليلة الحركة كثيرة السرحان وكأن شيئا يحيرها وتريد إخفاء حيرتها. وابتساماتها كانت على الدوام تتتابع مشرقة متحمسة منطلقة تتابع الصواريخ الملونة في ليالي الاحتفالات، في تلك المرة ابتساماتها كانت ممدودة رخوة كابتسامات الأنثى في حضرة رجل.
وكنت كلما رأيتها منكمشة، وكلما وجدت نفسي منطلقا منفوشا مقهقها كالديك الرومي أحس بشفقة حب طاغية عليها، وأكاد آخذها بين ضلوعي وأطبق عليها نفسي وأحميها حتى من ذلك الإحساس الذي يدعوها للانكماش.
وقلت لها وأنا أعني حقيقة ما أقول: أتعلمين شيئا؟
قالت بنبرة حافلة بشحن المغلوب على أمره: ماذا؟
قلت: بودي لو أستطيع فعلا أن أصغرك بطريقة ما وأحملك معي هنا في جيب صدري، وتصبحين معي أنى ذهبت.
وابتسمت في امتداد وقالت: تصغرني أكثر من هذا.
وضحكت فقد لمحت في إجابتها ذلك النوع الذي أعرفه جيدا من اهتزاز الثقة بالنفس، وكأنها خائفة أن أرى في صغر حجمها قبحا تريد أن تتأكد أني لا أراه كذلك، ولم تكن هذه عادتها، كانت دائما تتكلم وتتحدث وكأنها واثقة من نفسها جدا، أو واثقة على الأقل تلك الثقة التي تجعلنا نفقد الإحساس بأنفسنا وبما قد يكون فينا من عيوب.
ولأول مرة أحس أني - وأنا جالس معها - لست على عجل من أمري، ولست قلقا ذلك القلق المدمر الذي أحسب فيه كل حركة من حركاتي، وأعد لكل كلمة ما بعدها من كلام. لأول مرة أحس أني فعلا جالس على كرسي وأنها جالسة أمامي، وأن الوقت أمامنا فسيح ممتد، وأنها أبدا لن تطير، وباستطاعتي أن أقترب منها وأبتعد وأنا واثق تماما أنها طوال الوقت هناك في متناول يدي.
ولأول مرة رحت أمتص وجودها على مهل وأتملى في تقاطيعها التي ما كنت أبدا أستطيع أن أحدق فيها، كنت دائما لا أراها، إذا التقت عيني بعينها خفضت عيني، وإذا واجهتها وحدثتها يتشتت بصري حين يقترب من ملامحها. أعرف أنها موجودة، وأن هذا وجهها، وأعجز عن النظر إليها عجزنا عن رؤية قرص الشمس في منتصف النهار. وكم حاولت مرارا أن أتغلب على خجل نظري، وأرغم عيني على رؤيتها فلا أستطيع ولا تقوى عيناي على الصمود، وكأن كهارب خفية تصدر عن ملامحها وتحيطها بمجال محرم لا تملك عيني اختراقه. كنت أعرفها بإحساسي أكثر مما كنت أعرفها ببصري، حتى صوتها كنت وأنا أسمعه يصيب سمعي نفس الخجل، وأدرك بإحساسي فقط أنه صوتها، لم أكن أراها وأسمعها وأعرفها بعيوني وآذاني وحواسي، كنت أفعل هذا بأجزاء من عقله أكثر بدائية وعمقا، نفس الأجزاء التي كان يستقبل بها الكائن الحي المؤثرات من حوله قبل أن تخلق له العيون والآذان؛ ولهذا كنت أراها وكأنها شيء لا يمكن تحديده، إنسانة لا أراها بقدر ما أرى نفسي وهي تنجذب إليها، إنسانة لا أستطيع بالدقة أن أحدد أين أنتهي أنا وأين تبدأ هي.
هذه المرة رأيتها رأي العين، وتأملت تفاصيلها ببصر لا يشتته الخجل، ورحت أشاهد كل ما فاتني منها، رحت أرى لون عينيها وتسريحة شعرها وأذنها البالغة الصغر، وأفعل هذا وأنا أزداد إحساسا أنها أروع من كل ما خمنته عنها، وأنها وهي أمامي كائنا حيا منفصلا من دم ولحم وجمال وأعصاب، أكثر قربا مني والتصاقا بروحي من تلك الإنسانة التي لم أكن أعرف أين أنتهي أنا وأين تبدأ هي.
وسألت نفسي: هل أحاول الآن؟ وجاءتني الإجابة على غير استعجال: ولم الآن؟ أمامي الليلة كلها وغدا وبعد غد وعشر سنوات مقبلة، فيم العجلة وتلك هي اللحظات التي عملت الكثير من أجلها وترقبتها مئات الأعوام؟ هذا هو النصر، لماذا لا أرشفه ثانية ثانية، وأتلذذ بها قطرة قطرة، ككوب الماء المثلج بعد ظمأ متوحش مغتال؟
وسألتني عن لورا، سألت بطريقة تعمدت أن تكون عادية جدا، ولأول مرة أراها تبذل جهدا غير عادي لتكون عادية في سؤالها عن شيء. وشعرت لتعمدها وسؤالها بفرحة صبيانية رحت أكتمها في نفسي وأمنع انبثاقها، وأحس بها تسري في كياني كله وتسكرني، وأنتشي إلى درجة لا أحاول معها حتى أن أتقن تمثيلي وأن أقول عن لورا أشياء تبعث غيرتها، وحين ضبطتني مرة وأنا أتحدث عنها هكذا، وتلاقت نظراتنا، غمزت لها وضحكت، فضحكت هي الأخرى وتضرج وجهها باحمرار قرمزي كنت أراه لأول مرة، لا شك أنه لون خجلها، خجلها الذي أمضني انتظاره ودوخني التلهف عليه.
ووجدتها تتحدث بلا مناسبة عن شوقي، وعن طرقه الفكهة المرحة في تناول الناس والحوادث، وعن النوادر التي حدثت لها معه.
والعجيب أني تضايقت قليلا، مع أني كنت شبه متأكد أن ما تحكيه إما أنها تقوله ببساطة وببراءة، أو هو مجرد رد مباشر على حديثي عن لورا.
وافترقنا حين هبطت من التاكسي الذي كنت قد أصررت على استصحابها فيه إلى قرب بيتها، وحين سلمت عليها مودعا كانت يدها طرية في يدي، وكنت أنا الذي أشد على قبضتها بقوة، وأنا متأكد أنها قبل أن تختفي عند الناصية ستستدير لتراني.
وعاد بي التاكسي وحدي، وقال لي السائق: هيه، على فين يا أستاذ؟ - والواقع لم أكن أدري إلى أين، تماما مثل ليلة افترقنا ذلك الفراق المؤلم المرير.
11
وفي المساء قررت أن أخرج وأتفسح، وأدخل السينما، وأقص شعري، وأرى القاهرة في الليل، وأقابل أصحابي، وأفعل كل تلك الأشياء التي ما حفلت بالقيام بها طيلة الأسبوعين الماضيين، وكأني كنت غائبا عن الوعي بالدنيا. •••
ولا بد أن حياتنا سلسلة متشابكة من ملايين الصدف الصغيرة التي قد يغير وقوع إحداها قبل الأخرى بثوان أو بعدها بثوان مجرى حياتنا كله.
وإذا لم يكن الأمر كذلك، فأية صدفة تلك التي دفعتني حين عدت إلى البيت بعد توصيل سانتي إلى أن أجلس على المكتب بدلا من أن أستريح فوق كرسي بعيد أو كنبة؟ وأية صدفة دفعتني لأن أخرج القلم من جيبي وأبدأ أعبث به في الورقة الفاضية أمامي وأكتب حرف «ن» دون غيره من الحروف الأبجدية، أكتبه أكثر من مرة ثم أكمله وأجعله «نصر»؟ ثم أضع القلم وأسبح في جلستي الماضية مع سانتي، وتعود عيناي من لا نهائيتهما لأرى الورقة وما عليها، وأرى كلمة نصر وأتذكر كلمة نصر التي كانت تطبعها دعاية الحلفاء أيام الحرب وتلصقها على الجدران وتملأ بها كل مكان، وأتذكر صورة تشرشل وهو يرسم بأصبعه علامة النصر، ثم يخطر لي سيف النصر وله بعض سمنة تشرشل وأتبين أني لم أره من مدة، وأحس بأني مشتاق إليه بالذات، مع أني كنت أيامها زاهدا في مقابلة كل من أعرفهم من أصدقاء؟ ثم أعود إلى هيامي وسرحاني وأنسى كل شيء عن أحمد سيف النصر ورغبتي في رؤيته، ثم أتبين أن السينما قد حان ميعادها وأن علي مغادرة المنزل في الحال.
وأركب أتوبيس 7 (وكان أيامها يمر بالزمالك في طريقه إلى العتبة)، وتأتي وقفتي قريبا من السائق، وتسترعي انتباهي نمرة الأتوبيس وقد انزلق عنها الحاجز الذي يحجبها عن داخل العربة ، وبدت اللمبة الكهربائية الصغيرة التي تضيء الرقم. وأدرك أن شكل رقم 7 لا يتغير إذا نظرنا إليه من الخلف، وتعلق هذه المشكلة بتفكيري، وأتذكر الدرس الإنجليزي الذي أخذناه في رابعة ابتدائي عن أصل الأرقام، وكيف أن الرومان أخذوه عن العرب، وأتذكر أنه في هذا الدرس بالذات قال لنا معوض أفندي مدرس الإنجليزي إن هناك كلمات إنجليزية أصلها عربي وانتقلت إلى أوروبا أثناء الحروب الصليبية، كلمات مثل «درب»
Durb
بمعنى اضرب، التقطتها الآذان الأوروبية من أفواه فرسان العرب وهم يهاجمون ويقولون اضرب. وتنقلني طريقته في الشرح إلى القرون الوسطى والعرب وهم يطردون الغزاة، والناصر صلاح الدين، وبالذات الناصر صلاح الدين، وكيف تصورته لحظتها في ضخامة معوض أفندي، ولكن بلا منظاره الكابي الأسود أو عينيه الضعيفتين. وفجأة وجدتني أترك القرون الوسطى ورابعة ابتدائي وأعود إلى الورقة التي كنت أعبث فيها، وكلمة نصر التي كتبتها، وأحمد سيف النصر.
ويحدث هذا كله وأنا أغادر الأوتوبيس عند شارع سليمان، وأخترق الممر الجانبي في طريقي إلى السينما، وألقي نظرة على دكانة السجائر التي في الممر وألمح التليفون فأجد نفسي بلا تفكير أتوقف وأتناول السماعة وأطلب نمرة أحمد سيف النصر، ولو وجدت الخط مشغولا لمضيت في طريقي إلى السينما ببساطة، ولكني وجدته «بالصدفة» ليس مشغولا، وبالصدفة أيضا كان سيف النصر هناك وهو الذي رد علي، وبصدفة ثالثة كان خاليا ليس وراءه عمل، وهكذا وجدتني أتواعد معه على اللقاء، ونختار أين؛ فقد كنا نفضل إذا التقينا أن نجلس في مكان هادئ يسمح لنا بحديث متصل لا تزعجنا أثناءه ضجة، وأخيرا يقع اختياره على بار سيسيل.
وأعدل عن مشروع السينما وأذهب إلى البار وأجلس أنتظره، ويغيب أحمد وتتجاوز الساعة الميعاد الذي كنا قد اتفقنا عليه بربع ساعة، وأقرر القيام وقد فرغ حماسي للقائه أو انتظاره، ولكني أكتشف أني بالصدفة كنت قد ناديت على ماسح أحذية وأنه لا يزال ينظف الحذاء ولا بد من البقاء في مكاني حتى ينتهي، ولو كان الرجل قد انتهى من الحذاء قبل هذا بثوان أو لو لم أكن قد طلبت منه أن ينظفه أصلا لكنت قد قمت ولما قابلت سيف النصر، ولما ترتبت على مقابلتي له تلك الأحداث الهائلة الخطيرة.
ولكن الذي حدث أنه بعد دقيقة واحدة من قراري أن أغادر البار، كان سيف النصر قد جاء.
دخل ممتلئا، رأسه الدسم محني إلى الأمام، ويده اليمنى مرفوعة قليلا وتتقدمه كالعادة، ونظراته تائهة فيه أمامه مشتتة لا تستقر على شيء بذاته كنظرات المجانين. وكان اللقاء صاخبا ضاحكا عكر هدوء البار الدائم إلى حين.
ثم بدأنا نتحدث ذلك الحديث الذي يعقب اللقاء، آخر الأخبار وما جد على كل منا من جديد، وانتهى ذلك الحديث السريع وكنا قد انتهينا من جرد محتويات البار من رجال وأثاث على حد سواء، وتبادلنا الأحكام الخاطفة التي أصدرناها بشأن كل منهم. وحلت فترة الصمت التي لا بد أن تحل لنهضم فيها ما فات وننتقل منها إلى آفاقنا الأخرى.
في تلك اللحظة فقط أدركت بهدوء وبلا استنكار لماذا طاردتني صورة أحمد سيف النصر في ذلك المساء، ولماذا أردت لقاءه.
كان هو الحكيم المبشر والنبي الإنسان الذي اخترته ليحاكمني، ولأعرف منه أين أقف وإلى أين أسير.
كنت قد وصلت إلى تلك المرحلة من مراحل عواطفنا، المرحلة التي لا بد أن نفضفض فيها ونقص، ولم يكن الأمر بالنسبة إلي سهلا؛ فأنا لا أستطيع أن أقص علاقتي بسانتي على أحد، وكل المحيطين بي من أصدقاء وزملاء لا أستطيع أن أحكي لهم شيئا، أما الناس العاديون فكيف لهم أن يفهموا قصتي ووقائعها، وهي أشياء لا يمكن فهمها إلا لمن احتك بهذا النوع من العمل، وإلا لمن يعرف خطورته ويقدر موقفي؟ وسيف النصر كان الحل، كان جراحا بأحد مستشفيات القاهرة، وكان يسبقني بعدة أعوام في التخرج، وكان قد اشترك في الحركة الثورية التي سرت في بلادنا عقب الحرب العالمية الثانية، ثم ابتعد عنها لأسباب لا أعرفها، وحين جمعتنا ظروف عملنا كأطباء في مستشفى واحد كان هو أحد نجوم الجراحة الشبان فيه، وكنت أنا لا أزال حديث التخرج ، ومع هذا فقد كنت أنظر إلى سيف النصر باحتقار على اعتبار أنه أحد «الفارين» من الحركة الوطنية. وكان هو ينظر إلي بإشفاق كبير على اعتبار أني لا أزال من المتحمسين الذين يحول حماسهم بينهم وبين أن يروا الحقيقة. غير أن علاقة العمل والاحتكاك اليومي أزالا الكثير من شعورينا المتبادلين، وأصبحت شديد الإعجاب بقدرته العلمية الخارقة وبشخصيته وآرائه. كان لطيفا غريبا ينظر إلى الأمور أحيانا من زوايا قل أن تخطر على البال، وينسى نفسه في أحيان كثيرة وهو يحكي أو وهو يلقي درسا عن أحد الأورام فيسكب على نفسه فنجال القهوة، أو يسهو عن إلقاء نهاية سيجارته فتظل تحترق حتى تلسع أصابعه أو تنطفئ من تلقاء نفسها وتظل مطفأة إلى أن ينتبه ويلقيها.
وعلى مر الأيام بدأت علاقة أعمق تنشأ بيننا، وبدأ هو يكتب بعض مقالات للمجلة، وبدأت أنا الآخر أسلم بكثير من آرائه وانتقاداته عن نشاط الجماعة، وبدأنا نشعر أننا متفقان في نقط كثيرة وأننا متجاوبان.
وقلت له: اسمع يا أحمد، أنا عايز أحكي لك مشكلة خاصة بي ودقيقة جدا، فهل أنت مستعد لسماعها؟
قال: وليه لأ؟ قوي.
وحكيت له ما استطعت من القصة؛ فلم يكن في مقدرتي ولا في مقدرة أحد أن يحكي له ما حدث بالضبط. هناك دائما أشياء لا يمكن حكايتها ولا يمكن التعبير عنها، وقد تكون أهم من الوقائع الكثيرة التي تحكى والتي يبنى الحكم على أساسها.
وحين انتهيت قال سيف النصر: طيب وإيه المشكلة؟
وتضايقت وأحسست أني أخرجت جزءا عزيزا من نفسي ووضعته أمام أنظار غريبة حتى لو كانت أنظار صديق. شعرت أني فعلت شيئا ما كان يجب علي أن أفعله، وفي نفس اللحظة أدركت باعثا آخر حدا بي إلى لقاء أحمد سيف النصر وتجهيز هذا المشهد كله، كنت أريد منه أن يفتيني، كنت أريد من شخص محايد مثله أن يعرف من مجرد ذكر الوقائع إن كانت سانتي تحبني أم لا. وإذا كانت تحبني فماذا يجب علي أن أفعل؟ وإذا لم تكن كذلك فكيف أتصرف ؟ وعلى الرغم من صلتي الوثيقة بأحمد، فقد كنت محرجا جدا أن أسأله ذلك السؤال؛ فقد يبدو له سخيفا، بل من المحتم أنه سيبدو في غاية السخف. وتصوروا هذا الشيء الذي كنت أحس أن حياتي كلها معلقة به، كان من الممكن أن يبدو شيئا سخيفا في أعين بعض الناس.
ولكن في ليونة وبلباقة قدت الحديث إلى هذه النقطة، وقلت له في النهاية: هل تعتقد أنها تحبني فعلا؟
كان سيف النصر على وضعه، يمسك بقدح البيرة الفارغ وكأنه يهم بالشرب منه، وابتسامته غير محددة المكان تائهة في وجهه، وعيناه تنظران إلي بطيبة من خلف منظاره الرخيص الذي لم يغيره من أيام التلمذة، حتى بعد أن أصبح جراحا كبيرا بالمستشفى.
وقال: ونعرف ليه؟ فلنفرض أنها تحبك.
قلت: ينحل المشكل، أتزوجها.
قال: ولكنها متزوجة.
قلت: تتطلق.
قال: فلنفرض أنها تحب زوجها.
قلت: إذا كانت تحبني فمعنى هذا أنها لا تحب زوجها. إن الزواج لا يقوم بغير الحب، فإذا انتهى الحب انتهى الزواج.
قال: مش ضروري.
قلت باستنكار: إزاي؟
قال: ده كلام الناس اللي بيكتبوا روايات ويألفوا عن الحب. خلاص مفيش حب مفيش زواج، وكأن الحكاية معادلة جبرية، مين قال كده؟ الحب شيء فعلا والزواج شيء ثان، حتى اللي بيحبوا بعض ومجوزين بيحبوا بعض مش كحبيبين ولكن كزوجين. الحب مسألة عاطفية والزواج مسألة اجتماعية، حاجة بيخش فيها المجتمع طرف ثالث. وما دام دخل المجتمع بيتغير نوع العلاقة، وبيتساوى فيها اللي اجوز عن حب واللي اجوز كده، بتصبح عشرة وعادة ومسئولية وثقة وكله قدام الناس، فين العلاقة دي وفين الحب اللي زي حبك كده؟
وغضبت في سري؛ فقد أحسست أنه يهين أعز ما في نفسي، واستطرد هو يقول: أنت عارفها؟ شفتها وهي صاحية من النوم؟ شفت أخلاقها؟ اتخانقت معاها مرة واصطلحتوا تاني؟ مين دي؟ دي بالنسبة لك وهم.
ولم أستطع صبرا. اندفعت أقول له إن كل ما يتحدث عنه أشياء ثانوية تأتي في المرتبة التالية بعد أن يكون أساس العلاقة قد وجد؛ أي بعد الحب.
وابتسم وقال: وإيش عرفك ؟ دا يمكن الواحد ما بيحبش الثاني إلا بعد ما يشوف منه الحاجات الثانوية دي اللي بتقول عليها ثانوية، دا يمكن هي دي الإنسان، هي دي الشخص نفسه، هي دي اللي بتنحب.
وسكت، وسكت أفكر في كلامه. كنت أحس لسبب ما أنه على خطأ، ولكني لم أعرف كيف أرد عليه، ووجدت ملامحه تتخذ طابعا جادا نوعا، ويضع كوب البيرة الذي كان قد نسيه فارغا معلقا في يده ويقول: اسمع يا يحيى! أنت أناني جدا. تصور! إنسانة كويسة تتمتع بسمعة طيبة جدا في الجو اللي بتعمل فيه، ومتزوجة وتحب زوجها وسعيدة، تيجي أنت وتظل تتحايل حتى تجعلها تحبك وتترك زوجها وتفضح نفسها وتتزوجك. ألا تعرف معنى هذا؟ معناه أنك تقضي عليها، معناه أنك تحطم حياتها ومستقبلها. لا أنت ولا هي عايشين وحدكم في الدنيا، أنتم في مجتمع. وأنت مضطر، سواء أردت أم لم ترد، لمراعاة القيم السائدة فيه. والزواج قيمة كبيرة جدا، والزوجة التي تحطم هذه القيمة من أجل إعجاب عابر بشاب أو برجل مهما كانت صادقة ومهما كانت بتتحب من المجتمع مش ممكن يغفر لها العمل ده، وبيعاقبها عقاب جماعي، وبتمتد ألسنته حتى إلى حياتها الجديدة وتفضل تهدم فيها لغاية ما في يوم تلاقي نفسها في الشارع أو على الرصيف.
وأيضا لم أجد في نفسي أي ميل لمجاوبته ونقاشه؛ فالرأي الذي كان يقوله كنت أعرفه تمام المعرفة؛ إذ هو رأي الناس جميعا في مشكلة كتلك، رأيهم أن ما أفعله خطأ.
وليس هذا بجديد علي؛ فحين أحسست ببوادر الانتصار على سانتي والاستحواذ عليها، بدأت أحس بشيء خفي صغير يهيب بي أن ما أفعله خطأ، وأردت أن يشجعني سيف النصر عليه إذ كنت أعرف عنه أنه يحكم على الأمور حكم عالم لا يهمه إبداء الآراء المتعارف عليها أو التقاليد إذا تعارضت مع منطقه العلمي. ولكن ها هو ذا يبدو من ردوده الأولى أنه يقول كلاما مخالفا تماما لما كنت أعتقد أنه سيقوله.
وقال مواصلا كلامه: لا، لا، لا يا يحيى . ده عيب، خطأ ، سيبك منها.
قلت وأنا غير مهتم اهتماما جديا بمناقشته، ولكني أقول لنفسي لعل وعسى: ده كلام كان ينفع الأول، ولكن أوانه فات.
قال سيف النصر: ما فاتش ولا حاجة. الحكاية في إيدك.
قلت: إزاي؟
قال: اقطع علاقتك بيها نهائيا.
وضحكت في رثاء لسذاجته العلمية.
فقال: لأ، صحيح، بكلمك جد. لازم تقطع علاقتك بيها.
وضحك ضحكة قصيرة من ضحكاته التي تشبه النحنحة وقال: أحسن، مش كده؟ أحسن تقطع علاقتك بيها.
قلت: فلنفرض أني بحبها وما أقدرش؟ - إذا كنت بتحبها، واخد بالك؟ إذا كنت يعني ... اقطع علاقتك بيها عشان خاطرها هي، دي زميلتك وسيدة، وتصور حتى إذا تطلقت واجوزتها الناس ح تفضل زفاكم على طول. يبقى استفدت إيه؟ المجتمع لا يرحم في عقابه أبدا، وما فيش فيه نقض أو إبرام. بكره تحب غيرها، ثم يا أخي اللي بيحب لازم يراعي شعور اللي بيحبها.
وتنحنح ضاحكا وقال: والا أنت أناني؟
الكلام كله طيب ولطيف، ومعقول حتى ولو لم أكن أتوقعه من سيف النصر، ولكن كلام سيف النصر ليس ككلام الناس، قد يشبه إلى حد كبير ما يقوله كل الناس ولكن الفرق أنه يؤمن به، وتحس أنت هذا، تحس ولو لم تستطع كلماته نفسها أن تعبر عنه.
وفي الحقيقة لم أكن أتوقع أن ألقي بالا كثيرا إلى «نصيحة» أحمد سيف النصر هذه، بل كان يخيل إلي أنه هو نفسه يعرف أنني لن ألقي إليها بالا.
وفعلا لم يستمر نقاشنا في الموضوع طويلا، أخذنا نتحدث كعادتنا في الأحوال والسياسة والأدب والطب والنساء عامة ثم افترقنا. ومن الجائز جدا أن يكون سيف النصر قد نسي كل شيء عن الموضوع بعدما غادرني، ومن الجائز جدا أنه لم يكن يؤمن إيمانا كاملا بما قاله، ولكني حين أصبحت وحدي في الفراش بدأت أفكر. وكل ليلة كنت أفكر، بل لم يكن لي عمل طوال الوقت إلا التفكير في سانتي. ولكني هذه المرة كنت أفكر فيها من زاوية أخرى؛ فقد تصورت أن ما يحدث بيننا سرا قد عرفه كل الناس بطريقة ما، ترى هل أستطيع حينئذ مواجهتهم بشجاعة؟ تصورت أن هذا الغرام المستعر قد عرفه أحمد شوقي وفتحي وكل الأصدقاء والزملاء، ترى بأي عين ينظرون إلي؟ ألن يقولوا عني إني إنسان فاسد منحل استغل فرص العمل لتحقيق مآربه الشخصية، وجر معه في فضائحه فتاة لم يدفعها للانضمام إلى كفاحنا إلا حماسها لقضيتنا وشعبنا؟ ثم ماذا يكون موقفها هي؟ وكيف أواجههم حينئذ وأواجهها؟
الأهم من هذا كله كان العمل الثوري المشترك، كان إحساسي المستمر المتوقد الذي لا ينطفئ بضرورة أن أصنع دائما عملا من أجل المبادئ التي أومن بها. قال لي صديق صاحب عزبة ذات يوم: أنت تحيرني، شاب مثلك يحتل مركزا اجتماعيا يحسده عليه الآخرون، لماذا يهب نفسه لهذا النوع من العمل ويعرض نفسه للسجن والتشريد؟
وفي تلك الليلة قبل أن أنام طرحت أنا على نفسي هذا السؤال، وقلت: الشعب، القضية، المبادئ والمثل، وعشرات الشعارات التي كنا نتداولها بكثرة وحماس، وضعتها للإجابة على السؤال، ولكن هذا كله لم يشف غليلي. كنت أحس على الدوام أنها إجابات ناقصة؛ إذ إنها لا يمكن أن تعبر أبدا عن السبب الذي من أجله أضحي راضيا. كنت أحس على الدوام بشيء عميق جدا في نفسي، شيء لا أستطيع إدراك كنهه. المبادئ أومن بها بعقلي، الوطنية تعلمتها، الشعب عرفته حين قرأت المقالات والكتب التي تتحدث عن قداسة قضيته، ولكن الدافع الذي يدفعني لبذل نفسي من أجل الآخرين دافع يكاد يكون غريزيا كغريزة الدفاع عن النفس مثلا أو الابن أو العائلة. كنت إذا قرأت تصريحا لأحد رؤساء الوزارات وأدركت أنه يضلل أو يكذب أستشيط غضبا، غضبا حقيقيا، وكأنه أهانني شخصيا، بل لو أنه كان أهانني شخصيا لما أحسست بغضب كهذا. فلماذا كنت أغضب؟ وما هو ذلك الشيء الكامن في نفسي والذي كان يهيب بي دائما أنني قصرت اليوم وأنني لم أؤد واجبي؟ واجب أحسه من تلقاء نفسي، لا أحد يفرضه علي، ولا أحد يحاسبني عليه، هل كان أصدقائي وزملائي في المجلة يحسون بمثل ما أحس به؟ والحب الذي أحببته لسانتي؟ ألم يكن من وراء نفسي، ومن وراء الإحساس المتقد بالواجب؟ كلما أردت أن أخطو تجاهها خطوة كنت أحس أني ارتكبت خطأ ما، وكنت أصهين معتقدا أني أنا وحدي الذي أحس بهذا الخطأ، وبهذا فيمكنني أن أتجاوز عنه؛ لأن القوة التي تدفعني تجاه سانتي أكبر من القوة التي تدفعني تجاه الواجب الشخصي.
ولكن سيف النصر بكلامه اللطيف الطيب العادي قد كشف لي أن خطئي الشخصي أصبح خطأ عاما، اتفق الناس على أنه خطأ. بكلامه وضح لي أن المسألة لم تعد بيني وبين نفسي، ولكنها أصبحت ظاهرة وواضحة بحيث يراها الجميع. وبهذا يجعلني أفيق قليلا ويجعل ذلك الجزء الذي كان يؤنبني دائما يسقط ويكبر ويصبح على قدم المساواة مع جزئي الآخر الذي يندفع تجاه سانتي.
وما أسهل القرارات في أمثال هذه الأحوال! ما كدت أكتشف أني تراخيت في أداء الواجب، وأنني تركت لأهوائي الشخصية العنان، حتى قلت لنفسي: أجل، لا بد أن أقطع علاقتي بها.
وليتني أيضا لم أتخذ هذا القرار. كانت علاقتنا تنمو نموا متوازيا متطورا تزدهر بلا كلام أو سلام أو تلميح، وفجأة قررت أن أصارحها بحبي فكانت تلك العاصفة. وما كادت العاصفة تهدأ وتعود علاقتنا تنمو نموها الطبيعي حتى ها أنا ذا أقرر أني لا بد أن أقطع علاقتي بها.
وغمغمت وأنا أستعد للنوم والساعة جاوزت الرابعة: أجل، لا بد! أما كيف ومتى؟ فقد تركت التفكير في كل هذا للصباح.
وجاء الصباح، واستيقظت بقلب بارد كأنه بات طول الليل محفوظا في ثلاجة. كنت حزينا قبل أن أنام، ويبدو أن عواطفنا لا تنام معنا، إنها تظل مستيقظة في أعماقنا تجتر آخر إحساس مارسناه وتعمل على مهل وبهدوء فنصحو على طعم الإحساس البائت في فمنا.
ولمجرد أني كنت قد قررت هذا في الليل، كان الصباح لا معنى له بالمرة. بدا لي كل شيء باردا كئيبا، الحجرة والفراش وصوت الخادم الذي كان يعمل في الصباح في البيت وبعد الظهر في العيادة وهو يسألني ماذا أفطر؟ وكنت جوعان ، ولكني حين رحت أستعرض ما يمكنني تناوله وجدت أني لا أريد أي طعام في العالم. كل الأطعمة سواء، وكلها لا أريدها الآن.
وقمت وجلست إلى المكتب وقرأت الجرائد، وبدا لي كل ما فيها من أخبار وكأنه يتحدث عن عالم آخر لا أمت إليه ولا يهمني أمره.
كان مفروضا أن تحضر سانتي بعد ظهر ذلك اليوم كالعادة، وكان مفروضا أن أنهي في تلك المقابلة كل ما بيننا، أو على الأقل إن لم أستطع هذا مباشرة فعلي أن أغادر البيت حتى لا تجدني هناك حين تجيء، وكنا لا نزال في الصباح وباق على مجيئها ساعات وساعات. وكان من الممكن أن يظل الصراع قائما في نفسي إلى ما قبل مجيئها بساعة مثلا أو بساعتين، ولكن الذي حدث أني كنت قد أدركت - منذ ساعات الصباح الأولى - أنني لا يمكنني بأية حال من الأحوال، ليس فقط أن أقطع علاقتي بها، ولكن لا يمكنني حتى أن أتهرب من مقابلتها في ذلك اليوم. بدا لي شيء كهذا مستحيلا كل الاستحالة.
وببساطة خطر لي ذلك الخاطر: ما دمت لا تستطيع قطع علاقتك الحالية، فلماذا لا أفعل معها شيئا يقطع علاقتنا؟ لماذا لا أحاول أن أنالها؟ وأنالها فعلا؛ ففي تلك الحالة سأحس أني انتصرت وأني استحوذت عليها تماما، ويمكنني حينئذ أن أقطع علاقتي بها. أما قبل هذا فمستحيل مستحيل.
حسن إذن! علي أن أهيئ نفسي لكي أنالها. أما ماذا بعد تهيئة نفسي فأمر أتركه للظروف وللمقابلة الهامة التي ستحدث قبل انتهاء اليوم.
وإلى أن تحين المقابلة رحت أتصور نفسي وأنا أحقق حلمي بنوالها. وأغرب شيء أني لم أستطع هذا أبدا. كنت أتصورني جالسا معها مثلا أتحدث إليها، أضحك معها، أقترب منها، أقبلها ... أما أن أتصور نفسي نائما معها في فراش واحد فذلك أمر لم أستطعه. وحين تكرر هذا في خيالي بدأت أفطن إلى الحقيقة الغريبة المذهلة التي لم أكن قد فطنت بعد إليها. حتى في الخيال لا أستطيع أن أتصور نفسي في وضع جسدي معها. كيف هذا؟ كنت أثور على نفسي وأعاندها وأروح مرة أخرى أتصورها وأبدأ بالكلام معها لكي أنتهي بالفراش، ويمضي كل شيء على ما يرام حتى نصل إلى الفراش، وحينئذ يجمح بي عقلي بالقوة ويأبى المضي وكأنني سأتصور نفسي نائما مع إحدى المحرمات علي، مع أمي مثلا أو أختي أو عمتي.
وازداد عجبي، وقلت لعل حالتي النفسية هي السبب. ولكنني حين جربت نساء أخريات، حين جربت الحيلة مع لورا أو جارتنا أو أي إنسانة أخرى كان الخيال يمضي بي إلى حيث أشاء دون تردد أو جموح. بل كنت أجد لذة في تتبع خيالي، لذة غريبة، لذة الخلسة. ولكن حين كنت أقترب من سانتي وأتصورها معي كان كياني كله يتغير، فتختفي الرغبة العارمة من جسدي وتهدأ حواسي الفائرة، وإذا أمعنت في الخيال توقف بي الخيال نفسه وأبى أن يمضي.
والذي روعني أن كل هذا كان حقيقة صماء لا مبالغة فيها ولا تهويل، ولا حيلة لك معها.
وحين أجهدت نفسي مرات ومرات وفشلت، رفضت - حتى بيني وبين نفسي - أن ألقي اهتماما كبيرا للأمر، وقلت لعل هذا يحدث لأنها الوحيدة التي أحبها، ولعلني لهذا لا أجرؤ عليها، أو ربما لأني لم أتعود أن أنظر إلى سانتي نظرة جنسية. كنت دائما مشغولا بإخضاعها هي، بإخضاع روحها، ما هو أقوى من الجسد فيها، شخصيتها، ولم أنظر لها أبدا على أنها امرأة عادية، مجرد امرأة عادية لها جسد وصدر وشفاه.
لم ألق إلى الموضوع أهمية كبيرة حقيقة، ولكني في نفس الوقت كنت قد صممت على أن أعود نفسي على النظر إليها كامرأة عادية، أعود نفسي على أن أنظر إليها كرجل، وأن يبدأ هذا في المقابلة القادمة حالا، ولنر ما يكون.
وجاءت سانتي.
وارتبكت كثيرا وأنا أستقبلها، وأنا حائر بين طريقتي التي اعتدت أن أنظر إليها بها وبين هذا القرار الذي اتخذته. غير أن قراري الجديد لم يدم طويلا، سرعان ما نسيته في غمرة انفعالي بوجودها. وكنت أحيانا أتنبه إليه وأحاول أن أنفذه فيحدث لإرادتي وعقلي ما حدث لخيالي، وأدهش وأعجب وأغضب، ولكني لا أستطيع إزاء الأمر شيئا.
ولاحظت شيئا على سانتي لم يكن موجودا، نوعا من الاستكانة أو شيئا يشبه هذا. كانت فيما مضى تأتي متفتحة نشطة يشع بريق الدنيا كله من جسدها وعينيها، فإذا بها في المرة الماضية وهذه المرة قد انتاب حركاتها بعض الكسل الأنثوي، وحالتها العامة فيها استكانة من نوع وافد غريب.
لاحظت هذا ولكني لم أكن متأكدا منه، ولو كنت متأكدا لتغير الوضع تماما. ولكن أنى لإنسان يحب أن يتأكد؟ إننا نرى الشيء حينئذ ولا نصدقه، أو نصدق أشياء لا نراها أبدا. وما نتخيله قد يكون لدينا أقرب إلى الحقيقة مما نلمسه، وما نلمسه قد نعتبره محض خيال. لم لا تكون هذه الاستكانة التي أحسها فيها مجرد إرهاق، خاصة وقد مضت تحدثني عن أمها المريضة، وكيف أنها لا بد لها من إجراء عملية جراحية في الرحم؟ وسمعت منها الحديث، ولكني للحظة واحدة لم أصدقه. لم أكن أتصور - أو على الأقل لم أكن أريد أن أتصور - أن سانتي إنسانة مثلنا لها أم ولها متاعب وأنها ابنة، وأنها كانت في المدرسة مثلا، وأنها تذهب إلى الحمام مثلما نذهب.
كان من الممكن أن تحدثني عن أشياء كهذه ساعات طويلة وساعات، ولكن كان لا يمكن أن يعلق بذهني شيء منها. وفجأة قلت لسانتي: أتذكرين؟
قالت: ماذا؟
قلت: ذلك اليوم؟
كنت قد فطنت إلى أنني يجب أن أبدأ خطتي، وكان لا بد أن أدور وألف لأصل إلى ما أريد، ولكني كنت أفعل هذا بجبن شديد، خائف خوف الموت أن أخطئ، ولو مجرد خطأ بسيط.
وأشاحت سانتي بوجهها حتى لا تلتقي عينانا، وقالت: أوه، أنت خبيث.
وأغمضت كل عيوني الداخلية وآذاني وكأنني أهم بإلقاء نفسي في بحر غريق.
ووجدتني أقول وأنا واقف مستندا بظهري إلى المكتب وهي أمامي على الكنبة: صحيح يا سانتي، ماذا يمكن أن يحدث لو لم أكن نادما على ما فعلت؟ أنا ... هذا شيء يحدث بالرغم عني، صدقيني إنه يحدث بالرغم عني. أنا لا أعرف ماذا يدفعني إليك؟ قوى أكبر منك يا سانتي، انظري إلي! أنا لا أضحك، أنا أقول الحقيقة، انظري إلي.
كنت قد أمسكتها من كتفيها واقتربت بوجهي من وجهها. وكالأعمى الأصم كنت أريد أن أقبلها.
وأحسست بذراعيها تقاومان يدي، وأحسست بمقاومتها تنتقل إلى جسدها كله، وحاولت دفعي بلا إحراج وهي تردد: يحيى، يحيى، يحيى أنا لن آتي إلى هنا مرة أخرى، هذه آخر مرة.
ولو لم أكن أحبها لأخذت هذا الكلام على أنه شيء ضروري من الواجب أن يقال في أمثال هذه الأحوال، تلك هي عادة المرأة في كل زمان ومكان، أن تقاوم. ولكني كنت أحبها، وكل كلمة منها كانت شيئا مقدسا بالنسبة إلي، وكل كلمة منها كنت آخذها جدا لا هزل فيها.
وتركتها حينئذ وأنا ناقم ساخط يائس، أستدير وأضرب كفي بقبضتي وأعض على شفتي وأتمنى أن أموت.
وكانت هي قد وقفت وأخذت تصلح شعرها بالرغم من أني لم أكن قد مسست شعرها أو غيرت نظامه. ولمحت أنها تستعد لمغادرة الشقة.
وقلت لها وأنا أغمغم: أرجوك، لا تغادريني، أرجوك. وحين رأيت أنها لم تدفعني قلت: فقط دعيني أشم رائحة شعرك، إني أحبها جدا.
وحقيقة إني كنت أحب رائحة شعرها، وأجمل من رائحة شعرها كان إحساسي أني أشمه وأنها تسمح لي بهذا.
ظللت أمرغ أنفي بين خصلات شعرها الأسود اللامع، وأحدق بعيني في رأسها وأنا أعب من رائحته، وأرى جلدة رأسها البيضاء من خلال جذور الشعر الأسود فأقشعر وكأني أراها عارية.
وقالت لي بفمها البعيد عني: أنت تفعل كما يفعل أي ذئب يا يحيى، أنت ذئب.
وانتفض قلبي لدى قولها هذا، وبقوة حاولت أن أديرها ناحيتي لأقبلها، وكأني وجدت في كلامها ما يشجعني، ولكنها قاومتني بعنف وابتعدت. وبسرعة وجدتها قد جمعت أشياءها وأصبحت على باب الشقة، وقد فتحت الباب ووقفت على عتبته تقول: يحيى، أنا ذاهبة.
انطلقت في أثرها قائلا: سانتي.
فمضت إلى السلم بسرعة قائلة: أنا ذاهبة.
وناديت عليها مرة أخرى، ولكنها كانت تهبط الدرجات.
وفي الحقيقة لم أتمن كثيرا أن تعود، فيكفي ما حدث اليوم، وحتى لو عادت فإن اضطرابي سيزيد الأمر تعقيدا.
وجلست على الكنبة في المكان الذي كانت جالسة فيه، وأشعلت سيجارة وابتسمت؛ فلأمر ما لم أحس بالندم هذه المرة ولا بمرارة الفشل.
واعتبرت ما حدث جولة، مجرد جولة في تلك المعركة الرهيبة الدائرة بيني وبين نفسي، وبيني وبين سانتي.
12
كان ميعاد الاجتماع في السابعة والنصف، ولم أكن أول الحاضرين. جئت متأخرا واختلقت عذرا واهيا، وسلمت وأنا منكس الرأس، ثم جلست وأنا لا أزال مرتبكا. وخيل إلي أن زمنا طويلا قد مضى قبل أن أفيق وأحس أني حقيقة في الاجتماع الأسبوعي للمجلة. كان أحمد شوقي يرأس الاجتماع وكان جالسا مستغرقا كالعادة في الأجندة والمواد، وعلبة سجائره الأمريكية بجواره يسحب منها السيجارة بين الحين والحين، وتعجبني جدا أصابعه وهي تتحرك من تلقاء نفسها وتتسلل إلى فتحة العلبة بينما هو مشغول بالنقاش لتسحب السيجارة وتضعها في فمه.
كان هناك فتحي سالم الذي طالما تمنيت أن أكون مثله؛ فقد كان شابا وسيم الملامح ذا عينين خضراوين طويلة الرموش لا تجرؤ على التحديق فيهما طويلا، وكان أصغر مني بعامين، وكان طبيبا أيضا، ولكن أيامها كان لا يزال طبيب امتياز، ومع هذا فقليلون هم الذين كانوا يعرفون أنه طبيب؛ إذ كان يكتب قصصا للمجلة ويوقع باسمه المجرد من اللقب. وقصصه كانت محبوبة ورائجة وينظر إليها النقاد باعتبارها فاتحة مدرسة جديدة، والكل مجمع على أنه فنان. وكان قليل الكلام كثير الابتسام، وكانت تحيرني ابتسامته التي يوجهها لي؛ فقد كنت ألمح فيها تعبيرا ما، لعله الترفع، لعله السخرية مني ومن الباب الأسبوعي الذي كنت أنفرد بكتابته في المجلة، لعله رثاء لابتسامتي المعوجة، لعله مزيج من هذا كله. ولكن الذي لا شك فيه أنني لم أكن أستريح أبدا لابتساماته ولا حتى للحديث معه. ثم كان هناك محمد حلمي عطوة القصير القامة الدسم الملامح، الذي تحس وكأنه قطعة دهن كبيرة تشكلت على هيئة إنسان، يحرص دائما على أن يحذف عطوة من اسمه كلما وقع مقالا أو تحقيقا في المجلة، وقليلا ما كان يسمح له بالتوقيع؛ فقد كان حديث الالتحاق بالمجلة، ومع هذا كنت إذا انفردت به صارحك بآرائه في المجلة وكتابها، وفي الحركة الفنية والأدبية بشكل عام، ولن تجد كتابا واحدا يعجبه أو عملا واحدا يكن له أقل تقدير.
وكانت هناك أيضا سانتي ولورا ومحرران آخران وجودهم مثل عدم وجودهم. وأدهشني وجود لورا؛ إذ لم تكن قد حضرت معنا اجتماعات تحرير قبل هذا، ولكني علمت فيما بعد أنها - حين عرفت أني سأحضر الاجتماع - رجت شوقي أن يسمح لها بالحضور، فقبل على مضض. ولم يكن قد مضى على مقابلتي العاصفة لسانتي في بيتي وخروجها غاضبة أكثر من ساعة.
وحين بدأت أصغي كان محمد حلمي عطوة هو الذي يتكلم، وكانت طريقته في الكلام في الاجتماعات تضحكني؛ فقد كان يتوجه بكلامه أول الأمر إلينا نحن المجتمعين، ويكسب صوته طابعا خطيرا تظن معه أنه سوف ينهي كلامه بنتائج تاريخية لا بد ستغير من مصير الشعوب والبشرية عامة. ويبدأ يتكلم فتظن أنه يعارض ما يقوله شوقي أو ينقده، ولكنك لا تلبث بعد حين أن تتبين أنه ما تكلم إلا ليؤيد ما قاله شوقي تمام التأييد ويحاول تبريره، وافتعال حيثيات سخيفة له. وفي الفترة الأخيرة لم أكن راضيا أبدا عن كلام شوقي. كان اتجاه المجلة قد بدأ يميع، وسياستها قد بدأت تتخذ طابعا غامضا غير مفهوم، ولم أكن أعرف ماذا يسخطني بالضبط.
ولم يطل إصغائي. سرعان ما أدركت أن الاجتماع خطير؛ فقد كان يدور حول خطاب وصلنا من البارودي رئيس التحرير السابق، والذي كانت حكومة ذلك الوقت قد اعتقلته ووضعته في السجن. والواقع أن البارودي لم يكن رئيس تحرير مجلتنا السابق فقط، كان الجميع ينظرون إليه باعتبار أنه واحد من أخطر الشخصيات في البلد، وإن كانت شهرته لم تتعد نطاقا ضيقا من هؤلاء الذين يعملون تحت الأرض. حتى أنا كان بالنسبة إلي شخصا أكاد أرفعه إلى مرتبة التقديس. كانت آراؤه في نظري هي دائما أسلم الآراء، وذكاؤه أحد ذكاء، وكان يخيل إلي في أحيان أنه معجزة وأن أية معضلة لا يمكن أن تستعصي على مخه. وأعصابه كانت من حديد؛ لم أره مرة ثائرا، ولم أضبطه مرة مرتكبا خطأ ما، حتى كدت أومن إيمانا تاما بأنه لا يمكن أن يخطئ. في أحلك الظروف تجده رابط الجأش! إذا كنا في الاجتماع مثلا وجاءنا نبأ خطير، نبأ يزلزل كيان إنسان، كان يناقشه، ويناقشه في هدوء قاتل، وحتى لا يغفل أثناء النقاش عن أشياء صغيرة جدا مثل «أعتقد أننا جعنا، نأكل أولا ثم نكمل النقاش»، أو يفاجئ الواحد منا وهو هارب ومطلوب القبض عليه بهدية صغيرة في عيد ميلاده أو باحتفال.
هكذا كنت أراه قبل أن يسجن حين كنت أعمل معه. والحقيقة أني كنت أحس بفخر لا حد له وأنا أعمل معه. وإذا كلفني بعمل ما أكاد أطير فرحا وأنا أبذل كل ما في طاقتي من جهد لتنفيذه. ومع أني كنت وثيق الصلة به وكثيرا ما بتنا معا في بيتي أو في بيته ورأيته بالفانلة والسروال، ورأيته وهو مريض وعالجته، وانتشيت وهو يمتثل لأوامري كطبيب، كأي مريض، مع هذا كله إلا أنني كان بيني وبينه نوع من الاحترام الغريب الذي لا يمكن وصفه، حتى إني لم أجرؤ مرة على مناداته باسمه مجردا، وإنما كنت أقول له يا أستاذ بارودي، ولا أذكر أني حدقت في وجهه مرة بعيون لا ترمش أو واجهته مواجهة الند للند.
حقيقة كانت أحيانا تبدر منه آراء لا يهضمها عقلي، ولكني كنت إذا ناقشته يقنعني بل يفحمني، ومع هذا أبقى غير مقتنع تماما بما يقول. كان يتكلم عن الفلاحين مثلا ويدافع عنهم، ولكني كنت أعتقد أنه يدافع عنهم دون أن يعرفهم، وكان يتكلم عن «مصر»، ولكني كنت أحس أن «مصر» التي يتكلم عنها غير مصر التي أعرفها، وكان يتكلم عن «الثورة»، ولكني أحس من أعماقي أن الثورة التي يتكلم عنها غريبة تماما عن نفسي وكأنها ثورة أجنبية، أو ثورة لا يمكن تحقيقها إلا في الكتب، وحتى الكتب التي كان يحملها كان معظمها كتبا فرنسية، والأشعار التي يحفظها كان معظمها لبيرون وشيلي ولافونتين وبول إيلوار وعشرات غيرهم، ويردد أمامي بعض مقاطع من شعرهم ويدعوني لأتأمل جمالها، وأتأملها فلا أحس أنها جميلة، أو أحس أنها جميلة جمالا لا أستطيع إدراكه.
لأمر ما كنت أحس أن البارودي مصري دما ولحما، أعرفه وأعرف أباه الشيخ المتخرج من الأزهر، وأعرف بيتهم في المغربلين، ومع هذا فعقله أحس به عقل خواجة، حتى وهو يتكلم الفرنسية أحيانا كنت أحس أنه يغير الطريقة العادية التي يتكلم بها العربية ويكسب صوته وتعابير وجهه إجلالا ما ويتأمل كلماتها بتقدير عظيم وهو ينطقها.
ولأني كنت أكاد أقدسه كما قلت، فقد بدأت أشك في كنه هذه الأحاسيس التي كنت أشعر بها ناحيته وناحية آرائه، بل بدأت أعتقد أنني لا بد مخطئ في أحاسيسي تلك، وأنني أشعر هكذا لأنني كما يقولون أحيانا «فلح» أو متعصب لقوميتي وشعبي أكثر من اللازم، وأن علي أن أساير العلم والحضارة والتقدم وإلغاء كافة الفروق بين الشعوب والخبرات والثورات.
بل ذهبت في هذا الاعتقاد بعيدا، وبدأت أستعذب الفرنسية والنطق بها وأشعار إيلوار وموسيقى سترافنسكي، وأقرأ كثيرا من تلك الكتب التي طالما استنكرت من البارودي قراءتها.
والواقع أنه لأمر محير ولكنه كان الحقيقة، كنت بطبيعتي - ولا أدري لماذا - أعشق كل ما هو أوروبي وخاصة الأوروبيات، كنت إذا ذهبت مثلا إلى الإسماعيلية أو بورسعيد، ورأيت الذوق الأوروبي يصبغ المدينتين، ويصبغ منطقة القنال، البيوت ذات الطابق الواحد، والأسقف المائلة الحمراء والمدافئ والمداخن، والنظافة والسكون والنظام، النظام الذي نكاد نكرهه نحن ينقلب بين أيديهم إلى فن، فن النظام، الطعام بنظام، والحرب بنظام، والحب بنظام. كنت إذا رأيت هذا كله أحس بشجن، برغبة خفية ملحة أن أصبح ونصبح جميعا مثل ذلك الكائن الأبيض المعقد ذي الوجه الأحمر، غير أني - وهذا هو العجيب - لم أتمن قط أن أكون أوروبيا، كنت أتمنى في أحلامي أن يصبح لي مثل قدرتهم العجيبة على الإبداع والنظافة والنظام، ولكن لي أنا، وأنا ابن عرب هكذا، دون أن أكون مستعدا إلى تغيير شعرة واحدة مني، بل كنت أحيانا أفيق لنفسي وأنا في المظاهرات التي كنا نقيمها ضد الاحتلال البريطاني وأنا أهتف «تسقط إنجلترا»، كنت أحيانا أفيق لنفسي فأجدني أهتف بصدق حقيقي، بل وبغل وكراهية شديدين تكاد تقترب درجتهما من درجة إعجابي الشديد بهم، وبما رأيتهم قد صنعوه أو يصنعونه في الإسماعيلية أو الإسكندرية أو بورسعيد.
أما في عملنا الثوري، فقد كنت شيئا آخر، كنت لا أطيق كل ما يمت إلى الأساليب الأوروبية بصلة، كنت هكذا بطريقة غريزية تلقائية، حتى الاشتراكية الأوروبية بنظامها وثورتها،
1
كنت أحس دائما أنها غريبة عني بقدر قرب النظرية مني، أحس أنها أسلوب ثوري خواجاتي، وأننا في حاجة لطرق أخرى من صنعنا نحن، أما ماهية تلك الطرق فلم أكن أعلم عنها شيئا، ولكني كنت متأكدا أنني أستطيع التعرف عليها حالا لو وجدت أو لو عثر عليها أحد.
وبنفس هذا الشعور المركب المتناقض اندمجت في الحركة الثورية، وكل ما حدث أن اندماجي هذا كبت اعتراضاتي وشعوري بالغربة، بل انقلب هذا الكبت إلى نوع من الموافقة والتأييد حتى جاء علي الوقت الذي أصبحت أرى فيه أن الأوروبية في كل شيء - حتى في الثورة - هي المثل الأعلى.
اندمجت وأصبحت واحدا من الحركة التي تتلمس طريقها في الظلام الكامل، وليس هناك ما يهديها إلا شعاع أبيض واحد قادم عبر البحر.
وفي تلك الظروف عرفت البارودي. كنت في بيت شوقي أزوره ووجدت عنده شخصا طويل القامة رفيعا يبدو أكبر من سنه بكثير، وعجبت لأن شوقي لم يقدمني إليه ولم يقدمه لي، وخجلت أنا أن أسأله، وتكلمنا ولم يتكلم ذلك الشخص الغريب الطويل، وكنت أتحدث عن مظاهرة قدناها نحن طلبة الطب، وفرقها البوليس. وانتهت زيارتي لشوقي، وحين كنت آخذ طريقي إلى الخارج سألني ذلك الضيف الرفيع إن كان من الممكن أن يقابلني مرة أخرى. ورحبت بالمقابلة، واتفقنا على ميعاد. وفي الميعاد ذهبت ولم أكن أعرف ماذا يريد مني ذلك الشاب العجوز الطويل، ولكن كان لدي إحساس مبهم أنه منهم، من هؤلاء الناس السريين الذين يدبرون للثورة وهم مختفون، وكنت أعرف أنه سيكون لي معه شأن، وأي شأن، وأن لقاءنا هذا لن يكون الأخير.
وفعلا لم يكن لقاؤنا هو الأخير، كان مجرد اللقاء الأول، ومن يومها بدأت شيئا فشيئا أدخل إلى ذلك العالم الغريب، عالم الأبطال الخفيين، عالم ظللت فيه إلى أن بدأنا نخرج للناس ونصدر المجلة وأصبح من محرريها. عالم كنت أندفع فيه بكل طاقتي وحماسي وقدرتي على العمل والتضحية والمثابرة.
والزمن كان قد أفلح في تعليمي أشياء كثيرة؛ فلم يعد ذلك العالم ظلاما مثلما كان. تعلمت أن أرى من خلال ظلماته، وأن أتلمس الأشياء، وأتعرف الخطأ من الصواب، وكنت مستعدا لأن أفعل أي شيء في سبيل إنقاذ بلدنا، ومدرك تماما ألا سبيل لإنقاذه إلا بواسطة ذلك العالم الصغير، وتلك المجموعة القليلة العدد الخطيرة الشأن من الناس.
كان يبهجني أن أسمع عن بطولتهم، ويبهرني أن أراهم يفكرون ويعملون وينظمون؛ فقد كنت أعلم أن كل هذا من أجل بلدنا، ومن أجل الشعب، الشعب الذي لا أعرف متى أدمنت حبه أو لماذا أدمنته، والبلد الذي نشأت أحس به كأمي الكبيرة التي لا تموت، ولا تهرم ولا تنتهي. حبي له لم يكن حبا بتعقل كحبنا للرجل الأب، كان حبا بلا حدود كحبنا للمرأة الأم.
وظل البارودي يقودنا ويرأس تحرير المجلة، نجمع تكاليفها من التبرعات، ونرتب حروفها، ونحمل رصاصها، ونشترك في توزيع نسخها، ونجتمع بعد سهر أسبوع أو أكثر حول طبق فول أو عدة سندويتشات جبنة نتخاطفها ونحن نضحك، ونحن نختلف ونتناقش ونعمل ونقترح، وفي داخلنا قوة يخيل إلينا أنها كفيلة بسحق أقوى الأعداء، قوة إيماننا بما نفعله وإيماننا بأن ما نفعله حق.
وفي يوم جاءنا من يقول: البارودي اتمسك.
ولم يكن البارودي هو وحده الذي قبض عليه، كانت الحملة ممتدة وواسعة، حتى إننا - الجزء الذي بقي من المحررين - لم نصدق أننا أفلتنا من الحملة، وظللنا كل يوم نتوقع أن تمد يدها الغادرة وتشملنا. ولكن مهما كان الوضع فقد كان علينا أن ندبر أمر المجلة بعد البارودي. وتولى أحمد شوقي رياسة التحرير، وازددنا نشاطا وحماسا، غير أن الظروف ظلت تسير من سيئ إلى أسوأ، والمجلة أصبحت مشبوهة يخاف الناس تداولها، والعقبات تتكاثر، وضربات حكومة ذلك الوقت تنهال علينا، وبعض المترددين كفوا عن دفع الاشتراكات والهبات. وما لبث عملنا نفسه أن عانى من كل تلك العوامل فبدأ يتأثر، وبدأ ينقلب في أحيان إلى روتين، وبدأنا نثور.
والحقيقة أن ثورتنا لم يكن سببها تلك العقبات، كان سببها راجعا أساسا إلى أمور أدركناها، بعد دخول البارودي السجن، شيئا فشيئا بدأنا ندرك أن عملنا يضيق؛ لأن أساس عملنا نفسه كان في حاجة إلى تعديل جذري.
ولا أعرف كيف حدث هذا بالنسبة لبقية الزملاء في المجلة، ولكني أذكر أني بدأت أحس بالتناقض داخل نفسي أنا. كانت خواطري القديمة، وعدم هضمي لكل تلك الأساليب الأوروبية في العمل الثوري نفسها قد بدأت تعود إلى تفكيري، بل بدأ يخطر لي أحيانا أن كل ذلك العالم السري الذي عشت فيه وقضيت أهم سنوات عمري أخوضه، لا يمكن أن يؤدي بنا إلى ثورة حقيقية ننقذ بها بلدنا.
وكنت أكافح ما استطعت لأحتفظ بخواطري تلك لنفسي، غير أني أحيانا كنت أصارح شوقي بها. كان لا يدهش ولا يستنكر. كان في مبدأ الأمر يحاول إقناعي بصلاحية أشياء، ويوافقني على عدم صلاحية أخرى، ولكني كنت أجده في أيام وكأنما طفح به الكيل، وكأنه هو الآخر قد أدرك ما أدركته، وأحدثه حينئذ عن ضرورة التغيير الجذري فيصغي لحديثي ويطول صمته.
وكنت طوال الوقت أحاول أن أطرد خاطرا مخيفا يحوم حولي، خاطر مخيف حقيقة؛ فقد كنت أحيانا أتساءل: أليس من المحتمل جدا أن يكون البارودي قد قادنا طوال تلك الأعوام في الطريق الخاطئ، الطريق الذي يؤدي إلى أوروبا، ولكنه لا يمكن أن يؤدي إلى بحري أو الصعيد؟
وأعترف أني كنت أخاف أن يكون الخاطر صحيحا؛ إذ معناه أني ضيعت أخطر فترة من حياتي في طريق خاطئ، ومعناه أيضا أن هذا الشخص الذي أكاد أقدسه - البارودي - ممكن أن يكون عبقريا وخطيرا ومعجزة، ولكن حسابه أفلت هذه المرة، وإذا استمررنا وراءه ضاع وضعنا.
وعلى الرغم من أنني أنا وشوقي وكل من كانت تحدثه نفسه بأشياء كهذه من الزملاء كنا نؤجل حكمنا النهائي على تلك الخواطر المخيفة، إلا أن هذه الخواطر كان لها انعكاسها في عملنا. فبدأ حماسنا للعمل يفتر، وبدأنا نغير تغييرات لا إرادية في سياسة المجلة واتجاهاتها، ونبحث فيها بعض مشكلات بلادنا بالطريقة المحلية وباللغة التي يفهمها شعبنا. وبدأنا نردد شعارات أقرب إلى طبيعتنا وروحنا من الشعارات «العالمية» التقليدية المحفوظة.
وفي تلك الظروف عرفت سانتي.
عرفتها واليأس قد وصل بي إلى مرحلة كنت أكاد أقرر كل يوم فيها أن أقطع صلتي بالمجلة وبالمجموعة كلها، وأن أبدأ في البحث عن طريق آخر أكون مقتنعا به وبصحته ومؤمنا بفائدته.
وكل يوم كنت أؤجل القرار، لا بحكم العادة والكسل فقط، ولكن لأني كنت - رغم إيماني المطلق بخطأ هذا الطريق - أخاف أحيانا أن أكون أنا المخطئ، وبصراحة ليس هذا كل شيء؛ فقد قضيت سنوات طويلة أكافح جنبا إلى جنب مع تلك المجموعة من الناس، وفوق رباط العمل تآلفنا كأشخاص وكأصدقاء، حتى لم يعد لي أصدقاء آخرون، أصبحوا هم كل أصحابي وأقربائي ومعارفي، هم شلتي التي أسهر معها والتي لا أرتاح إلا لمناقشاتها، شلة أفقدتني الإحساس بطعم الناس العاديين، بل جعلتني أمج هذا الطعم وأمج الحديث العادي الذي قد أجبر عليه حين يأتي لزيارتي قريب أو أوجد في حضرة أطباء أو موظفين، وأصبح الانفصال الكامل أمرا صعبا أو أهم من هذا، لم أكن أجد أمامي طريقا آخر لأسلكه وأحقق به كل ما يجيش في صدري وأرد به على تلك الهواتف الخفية التي تهيب بي أن أعمل دائما عملا من أجل بلادي وأناسي. وعلى هذا كنت أقول لنفسي: عمل خير من لا عمل، وحتى العمل في طريق مشكوك في صحته خير من لا عمل بالمرة، وأؤجل القرار.
وحين عرفت سانتي فرحت، ولعل جزءا كبيرا من فرحتي كان راجعا إلى أنها جعلتني أؤجل ذلك القرار إلى الأبد، وجعلتني أعود لمحبة طريق كدت أكرهه رغما عني، جعلتني أعود أتمنى أن تحدث المعجزة وأن ننجح فعلا في تغيير كل ما كنا نراه غير قابل للتغيير.
وهكذا بدأت في الاجتماعات أناقش وأجادل وأنفعل، وكنت قبلا قد دفعني اليأس إلى حضورها ساكنا ساكتا مطرق الرأس. كنت آتي إلى الاجتماع وأنا أكاد أنفجر بالثورة وأنفجر بها فعلا ويصغي إلي شوقي حتى أنتهي من كلامي ثم يبدأ يفند أقوالي. والعجيب أنه كان ينجح بلباقة في تنفيذها كلها وفي إقناعي أن كل شيء على ما يرام وأن سياسة المجلة هي أسلم سياسة ممكن اتباعها، وأنه إذا كان هناك عيب فالعيب يكمن في أنا، والأعجب من هذا أني كنت دائما أقتنع. بل يحدث أحيانا أن أقر بخطئي وأعترف صراحة أني مقصر وأتعهد بإصلاح ذات نفسي. ولكني كنت أخرج من الاجتماع وأنا في أعماقي أكثر إيمانا بآرائي قبل دخولي إليه، معاهدا نفسي أن يكون هذا آخر اجتماع أحضره. وكالعادة لا يكون، وكالعادة آتي للاجتماع التالي وكلي ثورة وأغادره بتصميم فاشل آخر وعهد آخر.
13
موضوع الاجتماع كما قلت كان هذا الخطاب الذي جاءنا من البارودي في سجنه، ومن ملامح الزملاء كان واضحا أن الخطاب خطير وأنه مفاجأة لم نكن نتوقعها. والمجلة رغم كل القيود كانت تصل البارودي وبانتظام وهو في السجن، ويبدو أنه أدرك من أعدادها الأخيرة كنه التغييرات التي بدأنا ندخلها على سياسة المجلة بقصد تعريبها وتمصيرها. والخطاب في الواقع لم يكن يناقش هذه التغييرات، كان يناقش المبدأ، مبدأ أن نجري - نحن الذين بقينا بالخارج - أي تغيير يمس سياسة المجلة، ويصر على أن أمثال هذه التغييرات مسألة من اختصاص «القيادة» حتى لو كانت القيادة بعيدة عن أرض المعركة ومقطوعة الصلة بالمجلة والكفاح، مشكلة كادت تضحكني؛ إذ هل من المعقول أن نمنع، نحن الذين نخوض المعركة، من قيادة أنفسنا ويعطى هذا الحق للقيادة القديمة، سواء كانت داخل السجن أو في المنفى؟ وهل من المعقول أن نظل ننتظر التوجيه من قائد مسجون أو منقطع الصلة بنا ولا يدري من أمرنا أو أمر المعركة التي نخوضها شيئا، ولا نتحرك إلا إذا جاءنا الأمر منه؟ وكل هذا لكيلا يصبح من حقنا أن نقود أنفسنا، ولكي تظل القيادة هي القيادة؟ وجها لا يعقل، وجها كنت أعرف حقيقته وأعرف أنه موجود، ولكن لم يخطر ببالي مطلقا أن أراه مجسدا أمامي على تلك الصورة وفي خطاب من البارودي.
كان عطوة هو أول من طلب الكلمة للتعقيب على الخطاب، ودائما كان هو أول من يطلب الكلمة. وبدأ كلامه بطريقة ظننت معها أن معجزة قد حدثت وأنه سيندد بما جاء في الخطاب، ولكني وجدته يلف ويلف ويعود يتكلم عن خبرة القيادة وضرورة احترامها وتقديسها، وأن هناك مشاكل أعلى من مستوى تفكيرنا ولا يملك البت فيها إلا أمثال البارودي، ولم يكتف بهذا، بل أكسب ملامحه في النهاية كل ما يملكه من جد وخطورة، وخاطبنا بجفون مسبلة ودون أن ينظر إلينا قائلا: يا زملاء، في نهاية الكلمة بتاعتي عندي اقتراح أرجو أنكم تقبلوه، أقترح أننا نبعث لقائدنا البارودي خطاب شكر وتأييد.
ثم فتح عينيه وأدار فينا نظرات سريعة خجلة وقال: بس، دا كل اللي أنا عايز أقوله.
وسادت فترة صمت، طلب مني شوقي بعدها أن أتكلم، وكان في نيتي أن أبدأ كلامي في خفوت، وأن أتحدث على مهل وبرزانة كما يفعل محترفو الاجتماعات وهواة الكلام، ولكني ما إن بدأت حتى وجدت الضيق يكاد يكتم أنفاسي، ضيقا ماديا حقيقيا أحسست أن لا منفذ لي منه إلا بالانفجار، وانفجرت وتكلمت بحدة وانفعال وقلت رأيي بصراحة، رأيي في سياسة شوقي المترددة، ورأيي في تذبذب المجلة، وفي خطاب البارودي والتعفن الذي سادنا، وسببه الوحيد أننا لا نتصرف في أنفسنا بأنفسنا، وكيف أننا من المستحيل أن نستمر على هذا الوضع، وكيف لا بد من اتخاذ خطوة إيجابية نحصل بها على حقنا في قيادة أنفسنا، ونحيل بها هذا الكلام الميت الذي ننشره على الناس إلى شعلة نار وحماس، خطوة نخرج بها من الدائرة القاتلة المغلقة التي احتوتنا وامتصت كل ثورتنا وأحالتنا إلى كائنات بيزنطية لا عمل لها إلا أن تجتمع وتناقش وتنفض لتعود إلى النقاش.
وقال شوقي: انتهيت يا زميل يحيى؟
قالها بتكشيرة رسمية جعلتني أضيق به هو الآخر، ولم أكن قد انتهيت ولا قلت ربع ما عندي، ولكني أجبته: أيوه.
وتنحنح شوقي وأخذ يتكلم. ومشكلة شوقي في نظري أنه كان يناقش معي بطريقة، ويتكلم في الاجتماعات بطريقة. بيني وبينه كان يوافقني بإيمان على ما أقوله، وفي الاجتماعات يلبس - عن إيمان أيضا - رداء المسئول ويتكلم كالمحافظين، ولا أعرف أي الشخصين هو، وأحتار دائما بأي شيء يؤمن أو إن كان يؤمن بشيء على الإطلاق. تنحنح وقال: كلامك ده كلام فوضويين، واحنا ناس ميزتنا الحقيقية إننا ثوار منظمون. بعض الناس زيك بيعتقدوا إن الثورة فوضى، إنما الحقيقة الثورة نظام بل هي قمة النظام، وأي خروج على النظام هو عمل ضد الثورة على خط مستقيم. والنظام يعطي البارودي الحق أنه يقودنا، فإذا احنا خرجنا عن النظام وأخذنا قرارا بفصله وعزله من رئاسة التحرير كده، ولمجرد أنه بيرى أن القيادة من حقه، يبقى بنخرب، نبقى فوضويين، يبقى هو راخر ياخد قرار بفصلنا ونقعد نلطش في بعض ونحطم العمل والمجلة، دي تبقى ثورة أطفال.
وكانت أصابعه قد أوصلت السيجارة إلى فمه فأشعلها، وقد عاد إليه هدوءه وأكمل: عايز تغير الشيء غير من داخله، وبنفس قوانينه، إنما كل واحد يعمل قوانين على كيفه عشان يغير بيها اللي يغيره، ح تنقلب المسألة فوضى.
ولم أكن أسمع هذا الكلام للمرة الأولى، كنت دائما أسمعه ودائما أعرف نتيجته ودائما أضيق به، وقاطعته قائلا: يوهوه! مهوده مش معقول، إحنا عايزين تغييرات جذرية، ودي مش ممكن تحصل من داخل الشيء أبدا. علشان الشيء يتغير تغيير جذري لازم قوة خارجية هي اللي تغيره. وإذا كان قانون المجلة بيدي للبارودي الحق أنه يفضل رئيس تحرير حتى لو خرج برة البلد، يبقى هذا القانون لا يمكن يغير نفسه، لازم التغيير يتم بقانون آخر، إحنا اللي نضعه. القوانين دي مش نازلة من السماء ولا وضعها أنبياء، وضعها بشر ويغيرها بشر.
ولم يفعل كلامي أكثر من أنه زاد انفعالي، وفجأة وفي غمرة ذلك الانفعال التقى بصري بسانتي، كانت جالسة قبالتي ترقبني بعينين اتسعت حدقاتهما في مزيج غريب من الحماس والاستنكار.
ولكن نظرتها لم تكن هي الشيء الذي أثار انتباهي. رقبتها كانت هي ذلك الشيء، أو على وجه الدقة جيدها؛ إذ هناك فوق هذا الجيد بقعة حمراء أنا السبب فيها، أحدثتها محاولتي منذ ساعات أن أقبلها عنوة.
وتوقفت عن حديثي الغاضب برهة، ثم لم أدر كيف أنهيته بسرعة ولا حتى ماذا كانت إجابة شوقي عليه. كنت من لحظة أن لمحت البقعة الحمراء في جلدها قد بدأت أهوي في بئر خجل عميقة؛ أتحدث عن الثورة والقوانين والشعب بكل هذا الحماس، وأوزع الاتهامات والتقصير يمينا ويسارا، وأنا ما فعلت شيئا يذكر طوال أسابيع إلا التعلق بسانتي والغرق في مشكلتي معها.
ظللت غائبا عن الوعي الكامل بالاجتماع وبما دار فيه، أخجل وأصنع من خجلي أصابع حديدية أحاول أن أخنق نفسي بها إلى أن بدأ يطرق مسامعي حوار يدور بين شوقي وسانتي. كانت - ولا أعرف لماذا أدهشني هذا؟ - تهاجم رأي البارودي وكلام شوقي عنه، وتدافع هي الأخرى عن حقنا في قيادة أنفسنا. وكان شوقي يرد عليها، وتدرج رده كالعادة إلى الحديث عنها هي، ولم يكن حديثا، كان تأنيبا لبقا ومريرا في الوقت نفسه؛ إذ لم تكن قد أنجزت شيئا مما عهد إليها به، وكانت تتملص وتحاول أن تعتذر بمشغولياتها العائلية، وشوقي يحاول تذكيرها بحالها منذ مدة لا تزيد عن الشهر، وكيف كانت مثلا رائعا في إنجاز كل ما يكلفها به وفي إنجازه بحذق وبراعة.
كان شوقي يسألها: ماذا حدث لك؟ لم تكوني هكذا.
قلت لنفسي: أجب عنها يا سيدي الذئب، أجب أنت السبب. لماذا لا تواجه الموقف بشجاعة الرجال وتعترف؟ لماذا تصمت؟ لماذا تجبن هنا وتستذئب هناك؟
أجب.
ولم أجب. عدت مرة أخرى أهوي في بئر الخجل ولا أريد أن أخرج منها.
وانتهى الاجتماع.
وكنت أول الخارجين. وكنت تقريبا مغمض العينين لا أريد أن أرى أحدا أو يراني أحد. كل ما أريده أن أسرع إلى البيت بأقصى ما أستطيع، وهناك أغلق على نفسي باب حجرتي وأطمئن إلى أن أحدا لا يراني أو يراقبني، وأستخرج على مهل كل ما في أعماقي وأتأمله، وأجد حلا للمأساة.
خلال الأسابيع التي مضت كانت سانتي هي كل شيء في الحياة بالنسبة إلي، حتى لم أعد نفسي، أصبحت مجرد شخص يحبها. في الاجتماع أحسست أني أعود قليلا إلى وعيي وأني أدرك أن حبي لها ليس هو كل شيء. في الاجتماع كان شوقي وفتحي سالم وعطوة وكلهم يبدون لي بيضا ناصعي البياض شرفاء، ثوارا حقيقيين ليس لديهم ما يثقل ضمائرهم، وكنت أحس بنفسي وكأني ميكروب له كل قذارة الميكروب ودناسته. ولم أكن أريد لنفسي هذا، ولم أكن أريد لها أن تفقد كبرياءها وتتلوث، ولم أكن أريد أن ألوث سانتي معي.
ومع هذا.
وبينما كنت أنهال على نفسي بصفعات مكتومة.
بينما نفسي كلها في جنازة خجل قائمة، كان جزء صغير من نفسي يكاد يرقص فرحا، جزء أحاول إسكاته فلا يسكت، أحاول سحقه فلا يموت، أبصق عليه فيزداد مرحا وفجورا، ويفعل هذا لأن معنى أنها أهملت في عملها طوال تلك المدة أنها كانت مشغولة بشيء آخر، مشغولة بي. كانت سانتي طوال تلك المدة مشغولة بي، بي أنا. ولم أكن أكذب في كلا الانفعالين، كان أغلب نفسي في جنازة حقيقية أقطر لها مرارة وألما، وذلك الجزء الصغير في مرح حقيقي يكاد يهزني طربا، وكلا الانفعالين لا يستطيع التغلب على الآخر أو محوه، وصراعهما وتنافرهما يمزقني ويدميني.
وماذا كان يمكن أن يحدث لو أغلقت على نفسي سبعة أبواب، وابتعدت عن العالم كله بمن فيه؟ أقصى قرار كان ممكنا أن أصل إليه كان أن أقطع علاقتي بها. سخف ما بعده سخف. من أول يوم عرفتها فيه وأحسست أني منجذب إليها، وأنا في كل ساعة بل في كل دقيقة آخذ قرارا بأن أقطع علاقتي بها، كانت كلها محاولات جادة لقطع علاقتي بها. وربما نحب أحيانا لأننا نريد أن نمنع أنفسنا من أن نحب، ويكون حبنا بها سلسلة متصلة من محاولاتنا لكي نمنع أنفسنا من أن نحب.
القرار ليس جديدا بالمرة، ولكن تنفيذه تنفيذا حقيقيا أصبح واجبا لا بد منه حتى لكي أعيش؛ فلم يعد بإمكاني أن أعيش هكذا.
حسن إذن! كيف يمكن أن أنفذه؟ بأن أنالها فتخف حدة عواطفي ويمكنني حينئذ أن أقطع علاقتي بها؟ هذا أيضا ليس جديدا بالمرة؛ فقد سبق وقررته، وسبق ولم أستطع تنفيذه. وهذا اليوم بالذات حاولت، واليوم أيضا فشلت.
المشكلة أني كنت أعرف أنه مهما طال بي التفكير وتفرع وتشعب، فقد كنت متأكدا سلفا أنني لا يمكن أن أصل إلى طريقة أستطيع أن أقطع معها علاقتي بسانتي بإرادتي. تماما مثلما لو قضيت مئات السنين أفكر فلا يمكن أن أصل إلى طريقة أستطيع بها أن أقتل نفسي بإرادتي؛ فعلاقتي بها بالرغم من كل خجلي وتأنيب ضميري وسخطي، لم تعد مجرد علاقة، أصبحت حياتي هي علاقتي بها.
لم يعد أملي إلا أن أحاول ذلك الحل، وأحاوله وأنا عاجز وحزين. لم يكن حلا جديدا، ولكني تصورت في ضباب ما قبل النوم نجاحه، وتصورت فعلا أني سأظفر بها ثم أتركها. وقبل النوم أيضا حاولت أن أتخيلني معها، ولكني أحسست بخيالي يجمح ويأبى أن يمضي بي خطوة واحدة، ودسست رأسي بين كوعي وألصقتها بالمخدة ونمت.
وعجبت حين استيقظت؛ فقد أدركت أني نمت مبكرا حوالي التاسعة أو العاشرة، وها أنا ذا أستيقظ والدنيا لم تصبح نهارا بعد.
ولم أندم على يقظتي التي جاءت في غير أوانها، في الواقع سررت. الضغط الهائل الذي كان يسحق أعصابي قد زال، والتوتر الذي ساد نفسي كان قد خف وتلاشى، وأصبحت المسائل في نظري أبسط. ولأننا كنا لا نزال في الليل، فخواطري كانت لا تزال دافئة ممكن أن أعيد صياغتها كما أحب، وممكن أن أصنع بها ما أشاء من خطط وأشكلها كما أريد.
وكان السؤال الذي واجهني حين أوقدت النور الصغير وأحسست بدفء اللحاف وبخدر النوم لا يزال يسري في أطرافي، كان السؤال هو: ماذا أفعل لأظفر به؟ كان الاجتماع والخجل وتأنيب الضمير قد زايلتني كلها نهائيا، أو على الأقل أصبح همي الأول أن أفكر في حل للمشكلة وبعدها المجال فسيح للخجل وتأنيب الضمير.
وكما جاءني الخاطر أول مرة فكرت أن أعبر لها عما يجيش في نفسي؛ فقد جاءني نفس الخاطر مرة أخرى وعلى نفس الصورة، لماذا لا أكتب لها خطابا أسطر فيه كل ما أعجز عن قوله أمامها؟ وما أكثر ما كنت أعجز عن قوله أمامها!
وأحسست فقط بالخاطر حين واتاني، أما إحساسي الثاني فلم أشعر به إلا وأنا جالس على المكتب وإلا وأنا أكتب.
والواقع أني كنت أجد لذة في الكتابة إليها لا تقل عن لذتي في رؤيتها ومحادثتها. كان إحساسي أني أكتب «إليها» يملؤني بالنشوة، وإحساسي أنها ستقرأ كلامي، ستقرأ كل كلمة، وتتوقف لدى كل تعبير، كان إحساسي هذا يدفعني إلى الإتيان بكلمات وأفكار أنتقي كلا منها بدقة وشغف وحب وكأنما أنتقي هدية يسعدني أن أقدمها لها. وأعبر عن نفسي بأرفع صدق أملكه - على الأقل - لأريها ذاتي الحقيقية التي لا تظهر إلا بكلماتي.
والموضوع كان شائكا، والاقتراب منه في حاجة إلى براعة عظمى، والذي أعجبني في نفسي أنني لم أتوقف لأشحن قلمي بالبراعة أو لأفكر فيما يجب قوله. وجدت الكلمات تنساب من قلبي وتقترب من الموضوع بأبرع مما كنت أتصوره. وكانت المشكلة التي حاولت أن أجسدها لها هي موقفها الغريب مني. كنت أعلم أن ما سأقوله سيحرجها، ولكني لم أتردد في قوله؛ فقد كان هدفي واضحا وكنت أريد أن أصل إلى النتيجة بسرعة.
قلت لها إنها أنانية؛ فهي تراني أحترق ولا تكلف نفسها مشقة إيقاف هذا الاحتراق. قلت لها إنها تسخر مني؛ لأنها لا تعارض في أن أحدثها عن الحب وأصف لها كيف أتعذب وكيف أهفو إلى كلمة أو نظرة منها، لا تعارض في سماعي وأنا أحدثها عن الحب من بعيد لبعيد، ولكن إذا حاولت مزاولة هذا الحب والاقتراب منها تتراجع إلى الخلف مذعورة وتتهمني بأني بدائي وذئب. وكأنها لا تريد من حبي لها إلا أن يداعب آذانها ويسعدها، أو يجعلها تحس بأنها محبوبة مرغوبة، أما أن يمس هذا الحب شعرة واحدة منها فتلك هي الجريمة البشعة في نظرها.
بدأت الكتابة باحثا عن طريقة للاقتراب مما أريد، ولكني حين عثرت على الوتر الذي بدا لي منطلقا ومعقولا رحت أداعبه وأعزف عليه وأعمقه حتى آمنت أنا به، وتحمست له، ودفعني الحماس إلى أن أظل أكتب وأكتب حتى ملأت ما يقرب من العشر صفحات.
وحين انتهيت كان نور الشمس قد بدأ يملأ الدنيا، والمدينة قد بدأت تدمدم فيها الحركة وتصحو. وحتى لم أقرأ الخطاب، جمعت أوراقه ودبستها ووضعتها في مكان من درج المكتب ثم ذهبت إلى الفراش ونمت.
وطوال اليوم التالي كنت مستريحا نوعا ما، كان كل شيء في هائما نائما، يترقب لقائي القادم معها وما سوف يدور فيه، ولم أفكر فيما يمكن أن يحدث بعد أن تجيء، تركت التفكير والتنبؤات جانبا، وكنت أحيانا أقول لنفسي: لماذا لا آخذ الأمر مأخذا طبيعيا جدا، إنها مهما كانت فهي امرأة، وأنا مهما كنت فأنا شاب، وما يحدث بيننا حدث مثله لملايين من قبلنا وسيحدث لملايين من بعدنا، فلماذا أعقد الأمور وأحملها فوق ما تحتمل؟
ولكني كنت موقنا أني أكذب على نفسي؛ فقد كنت آخر من يعتبر أن ما يدور بيني وبينها شيء عادي. كنت في قرارة نفسي مؤمنا أن ما يحدث لي لم يحدث لإنسان من قبل، وكأنني أول واحد شعر بعواطف كهذه تجاه إنسانة مثلها، وسانتي في يقيني كانت لا يمكن أن تكون مجرد فتاة أو امرأة عادية، كانت تكاد تقترب في نظري من ظاهرة شاذة، كائن خارق للعادة، كائن أحس ناحيته بأحاسيس لم أحسها قبلا تجاه أية أنثى أو تجاه أي إنسان آخر.
ورغم حالتي فالعمل يومها لم يكن سهلا بالمرة؛ فمنذ أسابيع قليلة كانت إدارة الورش قد أصدرت قرارا باعتبار يوم الجمعة راحة أسبوعية إجبارية للعمال بدون أجر، ولا أعرف ما حدث بين العمال نتيجة لهذا القرار، ولكن ما عرفته بعد هذا أنهم - أو على الأقل عدد كبير منهم - بدأ يبحث عن حل، حتى ولو عن طريق باب خلفي؛ فالظروف لم تكن تسمح بحلول عن طريق الأبواب الأمامية ومواجهة الإدارة بصراحة وإجماع. واكتشف العمال - ولا أدري كيف - أنهم إذا بلغ الواحد منهم أنه مريض يوم الخميس مثلا وأعطي الخميس والجمعة إجازة مرضية، فإن يوم الجمعة يحتسب بأجر، وغير مهم حينئذ أن اليومين سيخصمان من إجازته المرضية؛ فأهم لدى العامل الذي يدبر حياته يوما بيوم أن يفرط في رصيد من الإجازات المرضية، على أن يأتي ليقبض في نهاية الشهر أو الأسبوع فيجد يوميته تنقص كل سبعة أيام يوما.
وأول شيء فكر فيه العمال في بحثهم عن هذا الباب الخلفي هو الطبيب، وقدرته على منحهم أو عدم منحهم إجازات. وهكذا فوجئت في أول أسبوع بمائة زيادة قد أبلغوا أنهم مرضى يوم الخميس، وكان إشكالا! وفي الأسبوع التالي تنبهت إدارة الورش لهذا الباب فأصدرت قرارا بأن يوم الجمعة لا يحتسب إجازة مرضية إلا إذا وقع بين يومين من الإجازة المرضية، وعلى هذا فالعامل لكي يحتسب له يوم الجمعة بأجر، عليه أن يأخذ الخميس والجمعة والسبت إجازة مرضية، ومع أن هذا حل غير عملي إطلاقا، لكي يحتسب العامل لنفسه الأربع جمعات التي في الشهر عليه أن يفقد اثني عشر يوما من إجازته السنوية التي لا تتعدى العشرين يوما؛ أي إن إجازة العام المرضية كلها لا تكفي لكي تحتسب له أيام الجمعة في شهرين اثنين، مع هذا إلا أني وجدت العدد يتضاعف في ثاني أسبوع. وفي ذلك الأسبوع الثالث، حاول بعض العمال أن يتلافوا ازدحام يوم الخميس وما قد يحدث فيه، فأبلغوا بمرضهم ليوم الأربعاء، وقضيت يوما طويلا مزدحما أحاول أن أفهم فيه العمال بخطأ ما يرتكبونه في حق أنفسهم، وأحاول أن أفهم فيه أعضاء النقابة أن يتحركوا وأن يفعلوا شيئا غير اللجوء إلى هذا الحل الخلفي. ولم أجد أية فائدة في الكلام مع العمال، أو مع أعضاء النقابة ورئيسها السني النحيف، وأمين صندوقها الحاج الذي لا يفقه من أمور الدنيا شيئا، وأدركت حينئذ حرج الموقف الذي سأقفه في الغد، الخميس، وفي كل خميس؛ فقد كنت أريد أن أقف الموقف الصحيح كمكافح يؤمن بالشعب، حتى ولو جاء هذا الموقف على حساب وظيفتي، وكان لا بد أن أستشير شوقي في الموضوع.
وهكذا في عودتي إلى البيت، مررت على المجلة، كان شوقي هناك، وجلست وطلبت قهوة ودخنت، وراقبت شوقي طويلا وهو يكتب، ثم طرحت المشكلة، وكنت أعتمد اعتمادا كليا على رأي شوقي؛ فمفروض أنه أنضج مني سياسيا، وأكثر خبرة بالموضوع، وفوق هذا وذاك فقد كان يعمل مهندسا في فترة من حياته قبل أن يستقيل وينضم إلى نقابة الصحفيين ويصبح رئيس تحرير مجلتنا. وكان رأي شوقي واضحا محددا صريحا؛ إذ رأى أنه لا يجب علي أبدا أن أساعد العمال على الهروب من مواجهة المشكلة بمنحهم تلك الإجازات، وأن أجبرهم برفضي على مواجهة الإدارة وأخذ حقهم المغتصب. ورغم أني أفهمته بوضوح أن الظروف لا تسمح أبدا بتلك المواجهة العلنية إلا أنه أصر على رأيه، واعتبر رأيه مجرد رأي، ولكنه أمر لي علي أن أنفذه.
وربما لو كان شوقي قد تخيل ما سوف يحدث في الغد نتيجة لمشورته هذه لتردد قليلا مثلا وهو يقولها لي، أو لطلب مني أن يؤجل رأيه حتى يدرس المسألة، ولكنه أبدا لم يفعل هذا ببساطة وحسم أفهمني أن المسألة مسألة مبدأ.
وعدت إلى البيت، وما كدت أضع قدمي فيه وأدرك أن الساعة تقترب من الثانية، وأنه لم يبق على الثالثة والنصف - ميعاد سانتي - إلا تسعون دقيقة، حتى بدأت أنسى شيئا فشيئا مشاكل العمل والورشة والعمال، وبدأت تعود إلي من جديد حالة التوهان الهائم، وبدأت أهيئ نفسي لاستقبالها.
وحين جاءت الثالثة والنصف ومرت، ومرت وراءها الرابعة والخامسة ولم تأت سانتي، لم أحس بخيبة أمل كبيرة؛ فشيء ما لا بد كان سيحدث نتيجة لما دار بيني وبينها بالأمس، ونتيجة للاجتماع الذي أعقب ما دار، أقل ما يمكن أن يحدث أن تمتنع عن الحضور ثاني يوم. لا بد أنها هي الأخرى متأثرة ولها ألف عذر، بل الحقيقة سررت لأنها لم تأت، وتصرفت حسبما اعتقدت أنها ستتصرف؛ إذ معنى هذا أنها تتصرف بطبيعتها معي، لا تدعي شيئا ولا تجبر نفسها على فعل شيء.
وكعادة لحظات السرور القليلة التي نادرا ما كنت أسعد بها، لم تكن لحظة سرور خالصة؛ فقد شابها في الحال بعض الخوف، الخوف الذي أعرف أنني ما إن أبدأ أحس به يتكاثر بسرعة مذهلة إلى أن يخنق سروري ويمحوه. وخوفي هذه المرة بدأ باحتمال صغير، احتمال ألا تأتي في اليوم التالي. لماذا لا تكون هي الأخرى قد قررت أن تقطع علاقتها بي، تماما مثلما قررت أنا؟ كل الفرق بيننا أنها قررت ونفذت، وبدأت التنفيذ في الحال.
سموها لعب عيال ومراهقين، ولكن ركنا رئيسيا من أركان العلاقات بين المحبين ليس في مزاولة الحب فقط، ولكن في أي الطرفين يقطع علاقته بالطرف الآخر أولا، وإذا كان الحب مزيجا من مزاولة العلاقة والخوف من قطعها، أو على وجه الدقة الخوف من أن يقطعها الطرف الآخر قبل أن نقطعها نحن. إننا في هذه الحالة نصاب بغصة مزمنة لا نبرأ منها. والمهجور لا ينسى هاجره أبدا.
وخوفي هذه المرة لم يكن أن أهجر، فحتى إذا كانت ستهجرني فالسبب لن يكون لأنها كرهتني، السبب في هذه الحالة خارج عن إرادتها تماما.
ورغم هذا فقد كنت خائفا ألا تجيء فيفسد تدبيري؛ إذ في هذه الحالة لن أنجح في قطع صلتي أنا بها؛ فالمهم ليس أن تنقطع صلتنا، أو تقطع هي صلتها بي، المهم أن أقطع أنا صلتي بها. أنانية ما في ذلك شك، ولكن الحب نفسه، أليس هو الرغبة في الاستحواذ على إنسان آخر؟ أليس هو قمة الأنانية؟ وقد يبدو أني سمحت لنفسي بالإطالة والتبحر في أشياء سخيف أن يتبحر الإنسان فيها. ولكني لا أعتقد أن كل من مر بتجربة حب - وكل منا لا بد قد مر - سيعتبر هذا تبحرا سخيفا. إنها تبدو لحظتها لنا وكأنها كل الحياة، وكأنها أهم من الحياة. لقد ظللت أفكر في تلك التفاصيل التافهة، ولم أفق منها طوال اليوم كله وجزءا كبيرا من الليل، حتى نمت . وكنت أحس طوال الوقت أني أفكر في أهم شيء في دنياي، وأن هذا العمل هو أهم ما يمكنني مزاولته، بل حتى اليوم التالي لم أنقطع عن التفكير على هذا النحو، ولم أكن ضيقا بتفكيري ولا حزينا، بالعكس كنت أحس أني كلما أوغلت في التفكير أحسست بشجن خفي، شجن رائع حبيب، وتوهان ورغبة ممدودة في بكاء طويل، وأمنية دفينة في سعادة كبرى، وتصور غير واضح لآمال، ويأس غير مر يعصف بالآمال. حالة لم أكن أريد أن أفيق منها ولا أن تنتهي أو تتبدل، حالة استنفدت فيها إحساسي بأني مظلوم مرة وإحساسي بأني ظالم مرة أخرى، غالب مرة ومغلوب في المرة التالية، مرة أحس أني أحب ومرة أحس أني محبوب، مرة أحس أني شرير ومرة أحس أني ضحية شرير خبيث، مرة أحس أني كل شيء ومرة أحس أني لا شيء، مرة أنا ضيق بنفسي أشد الضيق، ومرة أنا سعيد بنفسي أقصى سعادة.
وأنا مستسلم لهذه الموجات لا أريد أن يكون لي إرادة في ضبطها أو تكييفها، كالمدمن حين يستسلم سعيدا لمفعول العقار، ويشل بنفسه إرادته ليترك لإرادة العقار أن تحدد سعادته ونشوته، أنا أيضا كنت تاركا هذه الحالة تقرر أفراحي وأشجاني، سعيد بأني مستسلم لها، لا إرادة لي في فرحي أو حزني، ولا في سعادتي أو شقائي.
ولم أكن أعرف أبدا أن تلك هي آخر حالة تصلح لمواجهة الموقف الذي كان علي أن أواجهه صباح اليوم التالي، ولا حتى بعد الظهر حين جاءت سانتي.
أجل! في الصباح حين ذهبت وبي من الهيام ما بي إلى الورشة، فوجدت المكتب الطبي غارقا في وسط بحر زاخر الأمواج من العمال، عشرات ومئات وربما آلاف، جاءوا كلهم يطلبون الخميس والجمعة والسبت إجازة، ومدير الورشة في مكتبه حائر ساكت يترقب، ومعظم العمل في الأقسام قد توقف، وآلاف من عيون العمال تترقب، والقسم الطبي يترقب، وحتى الباشتمرجي بوجهه الوردي السمين يترقب، وكلهم يترقبون ما سوف أفعله، وليس في ذهني فكرة مما يمكن أن أفعله.
ولمقدمي تحرك العمال يفسحون لي الطريق، تحركوا في بطء وتكاسل ووجوه لا تتوقع خيرا ولا تبشر بخير، كانوا على الأقل قد حسبوها بينهم وبين أنفسهم قبل حضوري وأدركوا أن عددهم كبير، أكبر مما يجب بكثير، أكثر من نصف عمال الورشة، وعرفوا أنه وإن كان الحل في يدي إلا أنه صعب حتى لو كنت في أحسن أحوالي؛ فمعنى أن يمنحوا كلهم إجازات أن يتعطل العمل في الورشة تماما ويقف، ولكن لأنهم كانوا كثيرين جدا فقد كانوا متأكدين أنهم بكثرتهم سيحلون المشكلة، وعلى أي وجه.
ووصلت إلى مكتبي بعد جهاد، وحاول الباشتمرجي أن يخرج العمال المنتظرين في الحجرة يكادون يملئونها ويغلق الباب كعادته كل يوم فلم يستطع، لا لأن العمال فضلوا الخروج ولكن لأنهم لم يستطيعوا؛ إذ كانت جميع ممرات المكتب وحجراته وما حوله تعج بغيرهم من المنتظرين، ووقف عم مرسي في النهاية مشبكا يديه أمام كرشه في عجز واستسلام ينتظر أوامري.
والمشكلة أني كنت لا أعرف بالضبط ماذا يجب علي أن أفعل، من لحظة أن وضعت قدمي في الورشة ورأيت هذا العدد الهائل، وأنا أحاول أن أعثر على شيء محدد أستطيع أن أفعله أو آمر بفعله بلا فائدة. ضجة العمال في الخارج تصلني كهدير محيط عميق، وهمسات العمال الواقفين في الحجرة تتلاصق أجسادهم وتتدافع أحتار في تفسيرها وفهم معناها، وأكثر ما يضايقني عيونهم المنصبة كلها علي ترقب أي انفعال تفلته ملامحي، أو أية رمشة يرمشها جفني. وأحسست أن وجودهم وأنفاسهم ونظراتهم وحفيف أنفاسهم وهمساتهم يشلني تماما ويبقيني عاجزا عن الحركة أو التصرف. وكان أول ما قلته: أخلوا الحجرة. وكأني كنت أتمنى أن تفشل عملية الإخلاء فأجد عذرا وجيها لكيلا أتصرف، أو يخلوها فعلا فأستطيع أن أجمع نفسي وأحدد ما أريد وأتصرف على ضوء ما أحدده؛ فمستحيل أن «يفكر» الإنسان وهو في حضرة جمهور يراقب عملية تفكيره، بل هو حتى لا يستطيع أن يتنفس بانتظام إذا وجد في حضرته جمهورا يراقب عملية التنفس.
ألقيت الأمر لعم مرسي بهدوء حاسم، وسكت أنتظر التنفيذ، وأنا فاتح عيني مغمض بصري لا أرى أحدا ولا أسمع شيئا، ولا أعبأ أبدا للأيدي التي تشوح والأصوات التي بدأت تعلو وتحتج.
واستغرق إخلاء الحجرة ربع ساعة بأسرها.
ثم أمرت بإغلاق الباب.
واستغرق إغلاق الباب مجرد دفع المتزاحمين في فتحته عدة سنتيمترات إلى الوراء وإغلاقه، استغرق عشر دقائق.
ورفعت سماعة التليفون وطلبت من العامل إيصالي بمدير الورش، وكنت أعرف سلفا أن العامل سيستمع للمحادثة ثم ينقلها إلى العمال كلمة كلمة؛ فهو عامل مثلهم، والتومرجي الواقف على الباب عامل، وكاتب القسم الطبي عامل، وأنت وحدك في وسط هذه الكتلة العمالية المتصلة المتداخلة التي لا تخفى عليها خافية. وحياني المدير بفتور وسألني عن الصحة والمزاج، ومن أول كلمة شعرت أنه يعتبر نفسه خارج المشكلة تماما؛ إذ كان يشغل وظيفة كبيرة في الوزارة ثم غضبوا عليه وجاءوا به مديرا للورش، وأن يتعطل العمل في الورشة شيء لا يهمه بالمرة طالما هو ليس مسئولا عن التعطيل، قال ببراءة: إحنا ما نقدرش نعمل حاجة يا دكتور، أي عامل يحب يبلغ أنه عيان نديله أرنيك، وحضرتك تشوف إذا كان عيان تديله إجازة، ما كانشي ترجعه الشغل. - بس إذا رجع الشغل يبقى متمارض وبيعاقب وبيتخصم منه أيام، ودي تنفع في عامل واحد أو اثنين، أنا أعمل إيه في ألفين أو ثلاثة آلاف؟ - والله يا دكتور أنا آسف، ما أقدرش أعمل حاجة.
وقبل أن تنتهي المحادثة أحسست أنها قد أذيعت بالنص في السويتش، وأن أخبارها وصلت إلى المتجمهرين في الخارج؛ فقد بدأت أسمع قهقهات.
وقلت لعامل التليفون: إديني مدير القسم الطبي.
وشرحت لرئيسي المشكلة، فقال بحسم: اللي عيان اديله أجازة، واللي مش عيان ما تديلوش.
قلت: كلهم مش عيانين.
قال: خلاص ما تدلهمش.
قلت: افرض ...
وسكت؛ إذ كنت أريد أن أسأله عما يجب أن أفعله لو حاولوا الاعتداء علي أو قاموا بعمل عنيف، ولكني لم أشأ أن يسمع العامل والعمال شيئا كهذا. - افرض إيه يا دكتور؟ - افرض أني حاولت أن أكشف عليهم وخد كل واحد منهم ثلاث دقائق كشف ، يبقوا عايزين 150 ساعة يعني عايزين أسبوع، فأعمل إيه؟ - اكشف على اللي تقدر عليه والباقي أجله.
وأدركت ألا فائدة ترجى من مناقشته، فانتهت المكالمة وقد وصلت إلى قرار؛ فلا أحد يريد أن يواجه المشكلة ويحلها، ولا أحد يريد أن يتحمل مسئوليتها، وقد كان من الممكن أن أتهرب أنا الآخر من حلها، فأنسل من المكتب بأية حجة وأذهب إلى القسم وآخذ إجازة وأفعل مثلما فعل المدير وزميله الآخر.
ولكن كيف أصنع مثلهما وأنا ناقم أشد النقمة على موقفهما ومحتقره؟ وكيف يمكن أن أفر من مواجهة موقف لا بد أن يواجهه واحد، سواء أنا أو غيري، فلماذا لا أواجهه أنا؟ هناك أناس وسيلتهم في الحياة أن يتفادوا الاصطدام، ويبدو أني كنت من صنف يرحب به.
قلت لنفسي: إن شوقي على حق. هؤلاء العمال الواقفون في الخارج يتلمظون ويضعونني بين موقفين: إما أن أوافقهم على كذبهم وادعائهم فيتركونني بسلام، وإما أن أرفض فيعتبرونني عدوهم الأول، هم في الواقع يحجمون عن مواجهة عدوهم الأول، لا يستطيعون الاصطدام به فيتشطرون علي، فكيف أسهل لهم عملية خداع أنفسهم؟ ألكيلا أواجههم؟ ألخوفي من مواجهتهم؟! أأعيب عليهم أنهم يخدعون أنفسهم وأخدع أنا نفسي وأكتب ألف «إسهال» وألف «نزلة»، بينما لا إسهال هناك ولا مغص ولا نزلة؟
قلت لعم مرسي في هدوء: دخلهم.
ودب النشاط في جسده المستقيم العجوز في الحال، واستعاد صوته وجعجعته، وتخبطت ضلف الباب مدوية في الحائط تحت الطابور الهائل. وعلى حافة المكتب وقف عامل يرتدي بدلة وفانلة برقبة ينظر لي باتهام ووقاحة وشرر الرذالة يقدح من وجهه الشرس وشعره الأكرت المستفز، وهدير المحيط في الخارج كان قد اندفع إلى الحجرة في سيل مكتسح يجمع الصفافير والزعيق وسب الدين، وبهمسة خفية من همسات عم مرسي التي لا ترى ولا تضبط أفهمني أن هذا الذي يتقدم الطابور هو سكرتير النقابة.
وتكون للمشهد الدائر أمام بصري عمق آخر لم يكن موجودا؛ أخيرا ظهر سكرتير النقابة وأطل يتقدم طابور العمال «الناخبين» في هجوم ساحق على طبيب الورش يريه العين الحمراء ، أو يلقي الرعب في قلبه وينتزع منه الإجازات بالقوة ويوزعها على العمال في حركة جماهيرية مسرحية يذكرها له العمال أياما وشهورا وربما سنوات.
وكنا في زمن تصنع فيه النقابات وتفرض ويتاجر بسكرتيريتها وأمانة صناديقها، وكنت قد جئت بعد أجيال من الأطباء الذين عودهم العمال وعودوا العمال أن تؤخذ الإجازات بالتسعيرة، اليومين بريال والثلاثة بخمسين قرشا والأسبوع بجنيه.
وكان كل شيء بيسر وسهولة، كل ما في الأمر أن الطبيب تحول في نظرهم من معالج وإنسان حكيم إلى قابض إجباري للريالات ومانح للإجازات ومخلص من الزنقات. فإذا جاء على آخر الزمن طبيب يريد أن يقوم بمهمة الطبيب فمعناها أنه مجنون، وإذا استمر جنونه هذا فمعناه أنه في حاجة إلى درس يلقى عليه ويعيده إلى الصواب ويفهمه مركزه. ومن أولى بإلقاء الدرس من سكرتير النقابة؟ هذا الرجل الشرس الواقف أمامي الذي يرتعد رعبا أمام المدير ويشرب السجائر «الكرافن»، وتسهل له الإدارة مهمة انتخابه كل عام في مقابل أن يسهل للإدارة مهمتها، ما أحوجه الآن إلى حائط منخفض يقفز عليه ويري العمال براعته في الدفاع عنهم واقتحام المخاطر من أجلهم، ويغطي بهذا العمل «البطولي» كل مخازيه وراء الستار.
قلت له بصوت طغى على كل الضجة وأسكتها: مالك؟
قلتها بحقد حقيقي وجدته ينفجر في نفسي كما ينفجر الدمل، حقد على الأوضاع التي تجعل من أمثاله زعماء للعمال وسكرتيرين، الأوضاع التي تجعل من الأطباء لصوصا ومرتشين، والقرارات التي تصدر وتجبر الناس على التحايل والكذب وطرق الأبواب الخلفية، وتخلق من الأبرياء أعداء وهميين.
قال بفظاظة: عيان.
كان السكون قد عم الحجرة وخارجها، سكون ملتهب فائر كسكون الظهيرة، سكون جمهور غير محايد، ولكن كلمة «عيان» حتى مع أنها قيلت بفظاظة وأعلم سلفا كذبها، إلا أنها ردتني إلى عملي فورا وجعلتني أسقط من وعيي أي اعتبار آخر سوى أن الذي أمامي عامل مبلغ بمرضه، وأني مجرد طبيب للورش، بل أكثر من هذا جعلتني الكلمة أصمم أن أواجه الموقف كله كطبيب عليه ألا يغضب أو يواجه التحدي بالتحدي أو يعادي من أمامه حتى لو عاداه من أمامه.
وعادت إلى صوتي طبيعته وبساطته وقلت: عندك إيه؟
وانقلبت فظاظته إلى غطرسة وقال: أمال أنا جايلك ليه؟ أمال دكتور إيه؟ أنت اللي تعرف أنا عندي إيه مش أنا.
قلت وكأني لم أر شكله ولم أسمع لهجته: يعني بتشتكي من إيه؟
قال بغطرسة أكثر: أهو كل جسمي تاعبني. - يعني ما فيش حاجة معينة تاعباك؟ - قلتلك كل جسمي تاعبني. - طيب نشوفك.
قلتها وأنا أشير لعم مرسي أن يخلي منضدة الكشف من الواقفين عليها والجالسين، ثم أشرت له أن يذهب ويخلع ملابسه ويرقد.
ولمحت الغيظ يغلي داخله؛ إذ لم أعطه بكلامي أو بتصرفاتي حجة ولو واهية يستطيع أن يقيم معها المشهد الذي استعد له، بل لم أعطه الفرصة حتى ليعصي أمري، وذهب ليرقد على المنضدة، وبإخلاص حقيقي لعملي كشفت عليه، ولم أجد به - كما توقعت - أي مرض أو شبه مرض.
وعدت إلى المكتب، وحتى قبل أن يكمل إدخال قميصه في بنطلونه عاد إلى وقفته المستهترة المتحدية أمامي.
قلت: هات الأورنيك.
فقال: ح تعمل به إيه؟
قلت له ببساطة وحسم: ح أقول فيه إنك ترجع شغلك.
قال وكأنه يقهقه: أرجع شغلي ازاي؟
قلت له: لأنك ما عندكش حاجة.
فقال: أنت كذاب.
وعم سكون هائل، وأحسست بدم يتفجر في صدري ويصعد إلى رأسي ويعمي عيني، وحين عدت للرؤية كانت الحجرة قد تسرب إليها أضعاف أضعاف الموجودين فيها، والكلمة لا تزال ترن في أذني وآذانهم جميعا، والتحدي سافر على وجه سكرتير النقابة، وجسدي وأجساد الحاضرين ترتعد ارتعاد التربص للحركة التالية لتندفع تقتل أو تخمد، واللمحة الخاطفة التي قرأت فيها وجوه العمال كانت قد أنبأتني أنهم استكثروا الكلمة، ولكن أي رد مني سيقلبهم إلى وحوش، والكلمة أيضا كانت قد أزهقت روح الطبيب في، ولم أعد سوى رجل يواجه جمهورا على استعداد للانقضاض عليه لدى أية بادرة، وهانت علي حياتي وعمري وآمالي. وفي اللحظة التي قررت أن ألكمه فيها وجدت صفعتين متتاليتين سريعتين توجهان إليه، والتفت، كان الغضب قد أحال وجه عم مرسي العجوز الأحمر إلى كتلة لحم بيضاء غير محددة الملامح، لا يميزها غير بريق أهوج صادر من العينين، واستغربت كيف تحول صوته الهامس الناعم المؤدب إلى ذلك الرعد المتحشرج الذي قال به: اخرس قليل الأدب، إزاي تشتم الدكتور؟
وثانية سكون واحدة أعقبت هذا، ثانية خيل إلي فيها أن كل من بالحجرة كف عن التنفس وقد أخذته مفاجأة ويترقب مفاجأة تالية. والسكرتير المصفوع يقف مذهولا يحدق في عم مرسي، والعمال المتزاحمون من حوله واقفون مذهولون هم الآخرون وكأن كلا منهم نالته صفعة، وحتى أنا نفسي كنت في حاجة لبرهة أتبين فيها حقيقة ما حدث وأعد نفسي لما سيحدث، ثانية سكون واحدة تفتحت بعدها أبواب الأقفاص غير المرئية، وخرجت من الصدور نمور غاضبة تترقب اللحظة المناسبة لتنقض.
وفي جزء من الثانية التالية كانت الحجرة قد امتلأت بأعنف حركة شهدتها، حتى لقد بدأت أرضيتها المصنوعة من كمرات حديد تتذبذب وتتلوى، ولو كنت أنا الذي صفعته لاختلف الوضع، ولكن عمهم مرسي العجوز المهيب هو الذي صفعه. ألف واحد منهم لا يرضى أن ترد له الصفعة، وعشرة أحاطوا السكرتير وكتفوه وحالوا بينه وبين عم مرسي، والحاضرون جميعا في ارتعاش واهتزاز، يدفع الغضب صفوفهم البعيدة فتتدافع وتدفع من أمامها، وتتكون للجمع الحاشد موجات غضب تظل في مد وجزر حتى تصل إلى البقعة التي أقف فيها أنا وعم مرسي، ولا يوقفها عن اكتساحنا وتمزيقنا إربا إلا ذلك الحاجز الرقيق من الهيبة الذي كان لا يزال يحيط بي وبه، هو بحكم السن، وأنا بحكم المهنة والتعود، حاجز قد تكفي يد طويلة تمتد أو كلمة نابية توجه وتسمع، لكي يتهلهل وينمحي ونبقى عرايا من الحصانة تحت رحمة أكف غليظة وسواعد لا ترحم.
كان الموقف جديدا علي تماما، لم أواجهه من قبل ولا تعلمت كيف أواجهه، وحتى الخبير المجرب يتردد في مواجهته، لم أكن خائفا ولا مترددا بل كنت مندهشا مستغربا، ماذا فعلت لهؤلاء الناس لكي يعادوني على تلك الصورة؟ إني لا أذكر أني آذيت أحدهم أو قدمت إليهم إساءة، كل ما قدمته كان تحزبا لهم واستعدادا دائما لمساعدتهم. وبينما الحركة في الحجرة قد عنفت وازدادت حتى لكأن محتوياتها الآدمية قد بدأت تغلي وتفور، كان صفاء مفاجئ قد سيطر على تفكيري وعقلي، صفاء غريب كصفاء ما قبل الموت، صفاء جعلني أدرك الأمر؛ فلست في نظرهم سوى جزء لا يتجزأ من الإدارة ومن الخصم والفصل والقرارات التعسفية. أنا رمز كالأتوبيسات التي كنا نحرقها حين نتظاهر ونحن طلبة، ما كان هناك عداء بيننا وبين شركة الأتوبيسات، ولكن كنا نحرق فيها الظلم والحكومات الخائنة وأعداء الشعب. وليس بيني وبين هؤلاء العمال عداء، ولكنهم قد يقتلونني ويقتلون في شخصي الظلم والظالمين.
وعلى حين بغتة سمعت شيئا لم أتبينه أول الأمر، ولكني حالا تبينته، كان هتافات ضدي، عدة أصوات تقول: يسقط طبيب الورش. ورعدا هائلا أعنف وأبشع وأقوى رعد يردد ويقول: يسقط طبيب الورش. وتكهرب شيء في نفسي وكأنما صعقته الشحنة الهائلة التي ولدها الرعد، لحظتها عرفت لماذا يقشعر الملوك والحكام من الهتافات والمظاهرات، من هذا الصوت العريض المكتسح الذي يتصاعد من حنجرة خرافية مكونة من آلاف الحناجر، الصوت الذي يهدر به فم واسع، أوسع فم، فم الجماهير حين تفتحه ويصبح لها فك في السماء وفك في الأرض، وتهدد بابتلاع كل ما بين الأرض والسماء.
هم يقشعرون لأن هتاف الجماهير ليس مجرد تعبير عن سخط ولا عن ضيق من حاكم أو شخص. إنه حكم، حكم باتر ساحق لا راد له، يصل إلى الملوك حتى في مخادعها وإلى الحكام ولو كانوا في أبراج محصنة، فيرتعد له الملك ويقشعر له الحاكم؛ إذ لحظتها يتبدد على الفور كلام المداهنين والمتملقين ويدرك كل منهم أن حكما قد صدر عليه، وأنه قد أدين، وأنه لأول مرة يسمع الحقيقة، يسمعها من فم هادر عريض لا يعرف سوى قول الحقيقة، لحظتها يدرك - مهما اعتقد بينه وبين نفسه أنه بريء - أن حكما أبديا قد صدر عليه، حكما لفرط قوته وصلابته وصراحته يجعله يشك حتى في براءة نفسه، فيبدأ يسألها وفرائصه ترتعد: ألا يمكن أن أكون قد أجرمت؟
لحظة قصيرة جدا، أقصر من أن تقاس أو تحسب، ولكنها جعلتني أحس وكأني في يوم الحساب، وكأني بين يدي الجلالة العليا، وكأن الهتاف الذي سمعته نار مقدسة تعرضت لها وأصبح عليها أن تظهر بكل ما فيها وأن تبدو على حقيقتها، لحظة جعلت جدرانا كنت قد أقمتها لنفسي وعشت أتحرك بها تتهاوى وتنهار، ولم يعد أمامي إلا أن أرى ما كنت أتجاهله وأتعامى عنه؛ إذ لست في الواقع والحقيقة سوى جزء من ذلك الجهاز الضخم الكبير الذي يسير هؤلاء العمال ويتحكم في مصائرهم. كنت وأنا أقول لنفسي: أبدا أنا شيء آخر، أنا لي رأي آخر، أنا لي موقف آخر، أنا مع العمال؛ ألم أكن أضحك على نفسي حينئذ؟ فها أنا ذا في ساعة الجد أختار جانب الجهاز الذي أنتمي إليه وأدافع عنه بدفاعي عن نفسي ووظيفتي.
تصاعد هتاف بسقوطي مرة أخرى، وكان آخر هتاف؛ إذ تكلفت أصوات كثيرة بإخماده، وانطلقت ألسنة لا أعرف أصحابها، وربما لن أعرفهم، تندد بالهاتفين وتنصفني، وتقول إني كنت دائما في صفهم، والسبب في موقفي اليوم راجع فقط إلى كبر العدد.
وكان الموقف قد نضج لتدخلي، فقلت بأعلى صوتي: اسمعوا!
وخرجت الكلمة آمرة حامية سكتت لها الضجة في الداخل والخارج، وجعلت الآذان تصغي ولو بدافع حب الاستطلاع.
وبدأت أتكلم. لم أشعر بما قلته بالضبط، ولكني كنت غاضبا أشد الغضب من موقفهم وطريقتهم. كان باستطاعتي أن أجنب نفسي مشقة مواجهتهم بمفردي وأستعين بفرقة بوليس النظام، ولكني آثرت أن أعاملهم كرجال ووثقت فيهم وأمنت لهم، وكانت النتيجة أنهم يريدون أن يستغلوا كثرتهم ويأخذوا الإجازات بالذراع وبالعنف، وأية إجازات يريدون أخذها؟ ثلاثة آلاف عامل يريدون مني أن أمنحهم جميعا ثلاثة أيام إجازة مرضية. من يظنوني؟ رئيس الحكومة! إن كلا منهم لا ينظر إلي إلا من زاويته الضيقة، يريد أن تحتسب له الجمعة، ومعنى أن أوافقه على رغبته أن أوافقهم جميعا على رغباتهم، فهل هذا في قدرتي؟ إن معناه ببساطة أن أفصل من وظيفتي وأقدم للمحاكمة بعدة تهم، وحتى لو حدث هذا فلن تحل مشكلتهم أيضا؛ لأنهم في الجمعة التالية سيواجهون بطبيب جديد آخر، وحتى لو غامر هو أيضا بمستقبله ووظيفته فإجازاتهم المرضية لن تكفي إلا لاحتساب أيام الجمع في أقل من شهرين، فماذا يفعلون في بقية العام؟
وأنهيت كلامي قائلا: أنا مستعد أعطي كل واحد فيكم ثلاثة أيام ويتحسب له يوم الجمعة، وأترفد أنا وأتحبس. أنا مستعد، فهل أنتم مستعدون؟
هل يقبل الواحد فيكم أن يأخذ أجرة يوم مقابل أنه يرفدني أنا ويحبسني؟
ألقيت السؤال وسكت أنتظر الإجابة.
وكانت الإجابة ضجة عظمى تصاعدت؛ فكل منهم مضى يجيب على السؤال بفهمه الخاص وطريقته الخاصة. ومن مئات الإجابات الصاخبة أدركت أنهم يفهمون ويقدرون، ولا يرضون أبدا بفصلي وسجني. ولكن المشكلة أنهم أيضا لا يزالون يريدون الإجازات، بل أكثر من هذا، وجدت فجوة تحدث بين المتزاحمين أمامي ويبرز منها سكرتير النقابة ويقف وقفة مستهترة ويقول: إذا كنت صادق في كلامك ده مالكش دعوة، إدينا الإجازات واحنا نحميك.
وضغطت غيظي تحت أسناني وقلت: اسمع، أنا عاملتك كصنايعي فرديت علي رد بلطجية، وبعدين عاملتك كعيان فرديت علي رد فتوات، وإذا كنت فاكر إنك لما تحتمي في زملائك وتتهجم علي تبقى جدعنة فتبقي غلطان، الجدعنة مش إن الواحد ينتهز فرصة أنه قوي ويقل أدبه، الجدعنة إنه لما يحس بنفسه قوي بزملائه يبقى مؤدب. تصرفك ده مش تصرف عمال، ده تصرف ح سيب زملاءك دول إنهم يحاسبوك عليه ويعاقبوك، أما أنك تقول إنك مستعد تحميني فتبقى أنت الكذاب؛ لأن بدل ما تحميني أنا كنت احمي نفسك وزملاءك وواجه اللي أصدر القرار وخليه يغيره ويعدله.
وطبعا لم يدعني أنطق جملة ما كاملة، ظل يقاطعني ويتحرش بي حتى أجبره العمال على السكوت، وحين انتهيت كان وجهه قد بدأ يشحب وبدأ يعد خطة التراجع، وما لبث أن طبقها في الحال وراح يصرخ في زعيق عال متواصل: أمال بس ح نعمل إيه؟ نكفر؟ مهي دي مش عيشة دي! والله الواحد يقتل له حد ويروح فيه، ح نلقاها منين وألا منين؟
وآب صراخه إلى السكوت. لم يلبث أن قطعه عامل من الواقفين قريبا من الباب حيث قال: معلهش بقى يا دكتر، إدينا إجازة المرة دي وبعدين تفرج.
ولم أتمالك نفسي وضحكت، وما لبثت ضحكات أخرى أن تفجرت في الحجرة حتى عمتها واهتزت لها جدرانها.
ولكن المشكلة - رغم الضحكات - كانت لا تزال باقية بغير حل.
والأهم من هذا أني كنت موقنا أنه لا بد أن تحل على وجه ما قبل أن ينتهي اليوم، أما ما هو ذلك الوجه فذلك هو السؤال.
14
وكنت موقنا أيضا أني بعد ساعات سأكون في حجرة مكتبي جالسا فوق ذلك المقعد بالذات، وقد انتهى اليوم وانتهت المشكلة، جالسا أسترخي وأحاول أن أنسى كل ما حدث، ورغم محاولاتي يظل ما حدث يفرض نفسه علي ويأبى أن يغادر وعيي.
المحادثة الثانية التي دارت بيني وبين مدير الورش وصوته الدافئ الكسول الممتد وهو يقول لي يا دك...تو...ر، واحتداده فجأة حين أنذرته بأنه ما لم يتدخل فورا ويحل المشكلة فسأتصل بالوزير. ومهزلة الاتصال بالوزير؛ إذ كيف لموظف صغير أن يتصل بالوزير مباشرة مهما بلغت خطورة السبب، ثم الإحالة لوكيل الوزارة، وأخيرا اقتناع الوكيل وإيفاده مدير مكتبه، ومجيء مدير المكتب مستصحبا قائد فرقة بوليس ب أو ج لا أعرف، ضابط بوليس سمين ملظلظ على كتفه وصدره إشارات حمراء وخضراء وتيجان ونجوم، سكتت لها ضجة العمال، وجعلت سكرتير النقابة يخاطبه ويقول: يا سعادة الباشا، ثم الاتفاق الذي تم في النهاية، أن يعود العمال إلى عملهم في ذلك اليوم بلا إجازات وبدون أن يوقع على أحدهم خصم أو جزاء، وسكرتير النقابة وهو يزف للعمال الخبر وكأنه يزف إليهم البشرى، وكأن أيام الجمع قد ووفق على احتسابها، مع أن عودة العمال إلى عملهم كان ممكنا أن تتم بلا وزير أو قائد فرقة، ولكن السكرتير راح يؤكد للعمال أنه لولا جهوده وكلامه «اللاذع» لمدير مكتب وكيل الوزارة؛ لكان من المؤكد أن الوزارة ستصدر قرارا بفصل جميع العمال.
زعيق وخناق وأيمان مغلظة وأعصاب مشدودة قطعت ولم ينته المشهد الحافل إلا في الثانية والنصف، وما أكاد أبتعد عن الشارع الذي تستقر في نهايته الورش وأصبح بعيدا عن كل ما يمت إليها بصلة، حتى أحس وكأني أوشك على السقوط إعياء وتعبا. لم أكن قد أغمضت عيني وآلاف الوجوه تسبح في خيالي، وجه سكرتير النقابة، الصفيق الذي لا أدري لم بدأت أحس بشفقة عليه، ووجه قائد الفرقة الدسم المستريح، ووجه مدير المكتب الرفيع الجاد الذي لا يني عن ترديد: كده لا يا شيخ، ووجه عم مرسي، ووجه العامل الذي كان متشبثا بحديد النافذة لم يبرحه طيلة ما حدث، وجوه تسبح في خيالي، ووجوه، وآذاني فيها صرخات وطنين وهمسات. وهناك من أبعد مكان في شرق خيالي بدأ وجه ما يظهر ويتضح ويتكامل ويقترب، كان وجه سانتي، حيا ومبتسما ورائعا، بدأ مجرد وجه بين آلاف الوجوه، وأخذ نوره يزداد حتى بدأت الوجوه التي حوله تظلم، وظلامها يبهت ويبهت إلى أن أصبحت نفسي سماء ليلية صافية ليس فيها مضيء غير وجه سانتي. وما كنت قد قررته والخطاب الذي كتبته، والنية التي بيتها وعزمت على تنفيذها بعد زمن لن يزيد عن الساعة وبعد كل ما رأيت.
وحين دق الباب في الثالثة والنصف من ذلك اليوم، دبت حياة عنيفة في جسدي، واستعدت أقوى إرادة أمتلكها في حياتي، لقد جاءت.
وحتى قبل أن أفتح الباب، في تلك الأجزاء من الثواني التي كانت لا تزال واقفة فيها بالخارج وأنا في الداخل وزجاج الباب يفصلنا، في تلك الأجزاء من الثواني أحسست بدفقة انفعال ساخنة تنسكب في دمي وتسري في كياني كله. فرحة ونشوة وأمل كبير في سعادة حقيقية، وأهم شيء: يقين، يقين لا شك فيه أنها تريدني مثلما أريدها، وأن لديها هي الأخرى دوافع خاصة لي جعلتها تأتي.
وفتحت الباب وأنا أحاول أن أخفي سخونة انفعالي، وكل ما فعلته المحاولة أنها جعلتني أرتبك، بل وجعلتني يخيل لي أنها هي الأخرى مرتبكة.
ودخلت.
كنا في يوم من أيام فبراير، ولكنه لم يكن كسائر أيام الشهر، كانت حرارته تكاد تقترب من حرارة أيام الصيف، وكأنه يذكرنا بقرب مجيئه. وكانت سانتي تحمل جاكتتها على نفس اليد التي تمسك بها حقيبتها، وكانت ترتدي بلوزة سماوية على هيئة قميص و«جيب» رمادي. وكانت حرارة الجو قد وردت جسمها كله - وخدودها بالأخص - حتى بدت عيونها شديدة السواد، وكذلك بدا شعرها.
دخلت بخطوات سريعة نشطة ذكرتني بخفتها في أيامنا الأولى. ولأمر ما أحسست بإحساس طاغ حين تجاوزتني وأولتني ظهرها وهي تأخذ طريقها إلى حجرة المكتب، أحسست أني أحبها حبا عارما مجنونا. إحساس نادر ما كان يخالجني، بل لم أحسه بمثل تلك القوة إلا في هذه المرة التي أولتني ظهرها فيها. ربما كانت حين تواجهني يشغلني عنها محاولاتي لتبين ملامحها وانفعالاتها وكل خلجة من خلجاتها. أما وأنا أراها من ظهرها فأنا أحس بها ككل، ليس نفس الكل الذي أحس به حين أتذكرها مثلا، ولكنه «كل» أراه فعلا وأحس تجاهه بأضعاف أضعاف الانفعالات التي أحس بها إذا تخيلته، تلك اللحظة التي أراها فيها وكأنها خيال حقيقي.
شعور طاغ جرفني كالفيضان وجعلني أوقن أنني مستعد أن أفعل أي شيء لإسعادها، مستعد أن أقف ضد العالم كله من أجلها، مستعد أن أموت أكثر من مرة لأمنعها أن تصاب بالضيق لحظة.
ولم أكن أفكر وأنا أحس، كنت أدرك هذا بلا وعي. كانت أبشع جريمة في نظري أن أمسها - مجرد مس - بكلمة أو حتى بإشارة. لحظة أتمنى فيها أن أشف وأشف حتى أتلاشى إذا كان مجرد وجودي لا يريحها، ترى ماذا يحدث لو اطلعت على ما كنت قد أعددته لها في نفسي؟
دخلت الحجرة وألقت بجاكتتها وحقيبة يدها جانبا، وألقت بنفسها على الكرسي الأسيوطي، ثم ما لبثت أن مدت ذراعيها في استرخاء من يستريح بعد طول عناء، وأمالت رأسها قليلا، وراحت تنظر إلي بوجنتين شديدتي الاحمرار وتبتسم، وترمقني بنظرات لا أدرك كنهها، ولكنها مطمئنة لذيذة يتمنى الإنسان لو ظلت تنظر إليه بها سنين وسنين.
وكنت أراقبها أنا الآخر وأنا واقف قبالتها، مرتبك، أبتسم وأنا خجل من نفسي، وأنا غير مستريح أبدا أو مطمئن إلى الأفكار التي تدور في خاطري، ووجدت نفسي أذهب إلى المطبخ وأنا أزعق وأقول لها إني سأصنع لنا كوبين من القهوة. وفي المطبخ أيضا كنت مرتبكا مترددا أحاول التفكير ولا أجرؤ عليه، وأحاول أن أطرد أي تردد جانبا وأغمض عيني وأسير قدما في الخطة التي كنت قد وضعتها. وعدت بالقهوة وجلسنا نحتسيها. وقبل أن يفرغ القدح قلت لها: أريد أن تقرئي شيئا.
نظرت إلي بمكرها اللذيذ وقالت: خطاب؟
قلت: أظن هذا، أتحبين أن أقرأه عليك؟
قالت بمرح صبياني: لا لا لا، أرجوك، أحب أن أقرأه أنا.
ولكن لأمر ما، ربما لأني أحب أن يبدو الأمر على أنه حديث موجه مني إليها، كنت أريد أن أقرأ أنا الخطاب، فقلت: ولكن خطي كما تعلمين. - معلش، دعني أنا أقرؤه. - على رسلك.
قلت هذا وأنا أبحث بحث المرتبك الشديد الارتباك في أدراج المكتب عن الخطاب الذي خيل إلي أن فوهة سحرية قد ابتلعته، ولكني أخيرا وجدته وأعطيته لها. تأملت حجمه قليلا وهي تبتسم وأنا أقشعر من الخجل وكأني بسبيلي لإطلاعها على ملابسي الداخلية، وتركت مكانها وجلست على المكتب ووضعت الخطاب أمامها وراحت تقرؤه، وقلت لها: الخط يعني ...
ولكنها قاطعتني وهي تضع أصبعها على فمها تحذرني من الكلام وكأنما تحذرني من قطع لذة كبرى، وأحسست بارتباك أكثر حتى لقد غادرت الحجرة نهائيا ورحت أدور في الشقة أحاول بطريقة ما أن أداري خجلي من نفسي ومنها. وكل ما كنت أتمناه لحظتها أن ينتهي الموقف على أية صورة وأن ينتهي بأسرع ما يمكن. وكنت في عجب من نفسي لهذا الخجل، ولهذا الاشمئزاز الذي أشعر به حيال ما يدور في عقلي في تلك اللحظة. بالأمس فقط كنت متحمسا شديد الحماس لما أقوم به الآن، بالأمس كان كل شيء يبدو لي منطقيا ومعقولا، وكنت أمام نفسي على حق إلى درجة أن كتبت هذا الخطاب لها، ولحظتها ماذا حدث؟ ولماذا تغيرت المقاييس؟ ولماذا فقدت حماسي لهدفي وخطتي ولكل شيء؟ ولماذا أريد للموقف أن ينتهي بأقصى سرعة وكأنه موقف مخجل؟
وكانت احتمالات الدنيا كلها تدور داخل صدري والوساوس تنهش أعماقي. ترى ماذا يكون بعد قراءتها الخطاب؟ ماذا تظن؟ ماذا تفعل؟ على أي محمل ستأخذ كلامي؟ لم أنتظر حتى أن تنتهي من القراءة لأعرف النتيجة، تسللت عائدا إلى حجرة المكتب دون أن أحدث صوتا لأحاول أن أعرف انفعالاتها وهي تقرأ الخطاب.
وحين أصبحت قامتي الطويلة تسد فتحة الباب تجمدت في مكاني كالمأخوذ؛ فقد فوجئت بمشهد لم أكن قد أعددت نفسي له أبدا ولا حسبت له حسابا، كانت سانتي تبكي، لم تكن تشهق أو تنهنه، كانت عيونها محمرة شديدة الاحمرار وبياضها محتقن والدمع يتساقط من عيونها دون أن تحاول مسحه أو ترفع نظرها عن سطور الخطاب.
ودارت بي الدنيا.
كانت هذه أول مرة أرى فيها سانتي تبكي، بل لم أكن أتصور مطلقا أنها مثلها مثل سائر البشر يمكن أن تبكي، وأعجب من هذا أنها تبكي في موقف لم أكن أتخيل أبدا أنه ممكن أن يدفعها للبكاء، والمذهل أنها لا تبكي بقصد أن تريني أو تري أحدا، ولكنها تبكي بلا وعي، ولا يمنعها انفعالها وبكاؤها أن تكف عن قراءة الخطاب.
ولم أصدق ما أراه برغم تأكدي من حدوثه، خيل إلي أنها تعد عدتها لتمثيل دور غضب آخر، أو أن هذا البكاء ليس حقيقيا بصورة ما.
ووجدت نفسي أتقدم منها في وجل، وأتحدث بصوت مسموع لتنتبه إلى وجودي، بل حاولت أن أضحك ولكني أنهيت المحاولة في الحال؛ فقد بدا ضحكي سخيفا لا مكان له ولا معنى، ووصلت إلى المكتب وانحنيت أواجهها وأحدق فيها، كان احمرار عينيها احمرارا حقيقيا، ودموعها دموعا حقيقية. ومع أني كنت قد أصبحت قريبا جدا منها إلا أنها أيضا لم ترفع عينيها عن سطور الخطاب، ولا أتت بأية بادرة تدل على أنها أحست باقترابي أو وجودي.
وإحساس غريب تملكني لحظتها حتى لقد دفع إلى ملامحي بابتسامة خفيفة باهتة لا تكاد تلحظها العين؛ فحين مضت فترة صدمتني الحقيقة وبدأت أنفعل وأحس. كان أول ما أحسست به لمحة اغتباط عابر ؛ فالمعنى الواضح لبكائها أنها قد تأثرت بكلامي تأثرا دفعها إلى البكاء.
وأنت إذا تكلمت وأبكيت شخصا ما بكلامك فهو دليل على أنه يحبك ما في ذلك شك، إن كلامنا لا يبكي من يكرهنا مهما أسرفنا فيه وقسونا، كلامنا يبكي فقط من يهتم بنا، من يحبنا.
ولكن اغتباطي لم يطل؛ فلم ألبث أن أحسست بشفقة طاغية جارفة تتملكني. لا لم تكن شفقة، إن الشفقة نحسها فقط تجاه من هم أضعف منا، أما هذا الإحساس تجاه ند لنا أو تجاه من نعتبره أعلى منا فلا أعرف ماذا أسميه؟ ولكني أحسسته، وأحسست معه أني وغد لأني جعلتها تبكي، مع أن غبطتي لأني أنا الذي أبكيتها كانت لم تزايلني بعد. وهكذا دخت في هذا المزيج الغريب المسكر من الفرحة والشفقة والفروسية والندم والرغبة في القيام بأي عمل عاجل يمنعها من الاسترسال في البكاء، والرغبة في عدم الإتيان بأي عمل من شأنه أن يوقفها عن البكاء؛ فقد كنت آسف له وأستعذبه، وأدوخ ألما حين أرى تساقط دموعها الحقيقية قطرة متبلورة وراءها قطرة متبلورة على صفحات الخطاب تذيب حبره وتبلل ورقه وتصنع دوائر شفافة متناثرة على صفحاته، وأحس في نفس الوقت بسعادة محرمة خفية لعجزي عن إيقاف هذه الدموع.
وكان لا بد أن أصنع شيئا، ورحت أردد: سانتي، سانتي، ما هذا؟
ولم يأتني جواب على تساؤلي، ظلت سادرة في قراءتها وبكائها فاستدرت وعانقتها محاولا أن أمنعها عن متابعة القراءة، ولكنها لم تستسلم لمحاولتي ومضت تقرأ وتبكي. ويأسا من المحاولة - التي كنت أتمنى لها الفشل في قرارة نفسي - رحت أضمها وأمرغ وجهي وأنفي في شعرها وأقبل عنقها وآخذها كلها بين ذراعي، وهي جالسة على الكرسي، جسدها في حالة استرخاء تام، ولأول مرة أحس بها مستسلمة استسلاما كاملا لي ولذراعي ولقبلاتي ...
وحتى وأنا في قمة نشوتي لم أستطع أن أمنع السؤال الملح من أن يطرق بالي ويوالي طرقاته، ماذا أبكاها؟
ورغما عني انتقل السؤال من عقلي إلى لساني ورحت أقول: لماذا تبكين يا سانتي؟ لماذا تبكين ... لماذا؟
ولم ترد في الحال، ظلت تقرأ البقية من الخطاب وهي تائهة، وحين انتهت منه رفعت رأسها وقالت: أنت قاس يا يحيى، أنت قاس جدا.
قلت لها وقد فرحت لأنها نطقت: لماذا يا سانتي؟
قالت وهي لا تزال تبكي: خطابك هذا، أنت قاس جدا.
فقلت لها وأنا لا أزال أضمها وأقبل عنقها من الخلف: ولكنه حقيقي، أليس كذلك؟ - لست أدري، ولكنك قسوت علي، أنا لست كما ذكرت، أنا لا أعبث بك، أنا لم أعبث بك أبدا، أنا لا أريد التفرج عليك وأنت تتعذب، أنا لست هكذا أبدا أبدا، أنا لست هكذا.
وبعنف وبكل إرادتي رحت أحاول أن أمنع قلبي من أن يدق ذلك الدق الجنوني الذي كان يدق به، لا لكلماتها ولكن لأنني في تلك اللحظات بدأت أتبين حقيقة غريبة ينكشف عنها الموقف، كانت سانتي تمر بالحالة التي أعرفها جيدا في النساء، الحالة التي تحس فيها بالمرأة جسدا وشخصية وروحا قد بدأت تفقد صلابتها الطبيعية وتلين بين يديك حتى ليمكنك أن تفعل بها ما تشاء.
ولم يكن قلبي يدق من الفرح، ولا من الإحساس بالانتصار العظيم الذي عملت من أجله طويلا، ولم أكن أعرف لحظتها لماذا يدق، ربما من الخوف، ربما من رهبة الإقدام على عمل هائل مروع.
وبدأ ريقي يجف وينضب.
ورحت أردد من خلال حنجرة جافة ولسان جاف: لماذا يا سانتي؟ لماذا؟ لماذا أردد الكلمات فقط وأنا أفهم معناها ولا أعيها، بل حتى المناقشة الصغيرة التي نشبت بعد هذا لم أكن أعنيها، ولا كنت أفكر فيها، لا لأني كنت مشغولا بالتفكير في شيء آخر؛ إذ الواقع لم أكن أفكر في أي شيء بعينه، ولا حتى في سانتي. قلت لها: ولكن كلامي حقيقي، أليس كذلك؟ أنت فعلا تتفرجين على حبي لك ولا تريدين أن تتبيني أني أتعذب، ولا حتى أني أحبك فعلا حبا حقيقيا مجنونا، انظري إلي! انظري إلي! افتحي عينيك الجميلتين وانظري إلي! تبينيني ولو مرة واحدة.
قالت ودموعها تتساقط بسرعة أكثر: أنت قاس يا يحيى، أنت قاس. - لا يا حبيبتي، لست قاسيا، أنا أحبك يا سانتي، أنا أحبك، هل تعرفين هذا؟ أنا أحبك.
كنت أود في تلك اللحظة - حتى وأنا لا أفكر - أن أقول كلاما جميلا، حوارا من النوع الذكي المنمق الجميل الذي نقرؤه في الكتب ونراه في الروايات، ولكني لم أكن أجد شيئا أقوله سوى أن أردد: أحبك يا سانتي، أحبك.
وأخذتها تحت إبطي فطاوعتني ووقفت معي، وقبلتها في عنقها وأنا أرتجف؛ إذ كنت قد بدأت أرتجف، وأنا خجل أريد أن أداري ارتجافي عنها، وكلما حاولت هذا ازدادت حدة رجفتي ومشيت وأنا أدفعها أمامي برفق ولين، حتى صرنا أمام الكنبة، وجلست وجذبتها معي فجلست بجواري، ولم تجلس كما تعودت أن تجلس، خلعت حذاءها وألصقت ركبتيها بصدرها وأنا بجوارها وذراعي ملتف حولها وأحتويها ولا أزال أرتجف، اللحظة التي انتظرتها سنين طويلة وسنين، آلاف السنين، خيل إلي أني حتى قبل أن أولد كنت أنتظرها، ها هي ذي قد جاءت، ها هي ذي سانتي أمامي، ساكنة مستسلمة كالعجينة، أستطيع أن أفعل بها ما أشاء.
وقبلتها في فمها، ولأول مرة أحسست بنشوة عارمة حين وجدتها لا تشيح بفمها عن فمي وأنها تسلمني فمها، ولكني لم أحس أنها قبلتني، فقبلتها مرة أخرى وأخرى.
وازدادت بكاء وقالت: لا تفعلها يا يحيى، أرجوك لا تفعلها.
ودق قلبي بعنف جديد أشد، وبدأت أسناني من الارتجاف تصطك، إنها تطلب مني أن أدعها، مستسلمة وتطلب مني أن أدعها وتبكي، أحتويها بذراعي وهي مستسلمة إلى صدري وتطلب مني ألا أفعلها وتبكي.
قلت: لماذا يا سانتي؟
قالت: لأنني لا أريد.
ما زالت كل دقيقة من دقائق المشهد حاضرة محفورة في ذاكرتي لا تنمحي: سانتي منكمشة على نفسها في ركن الكنبة، وأنا بجوارها أحتضنها بذراع، وبيدي الأخرى أرفع وجهها وأقربه من فمي ووجهي، والشمس تغرب، والحجرة غير مضاءة، والمكتب والكراسي والستارة الرقيقة المسدلة على النافذة، والدنيا كلها تمر بلحظة سكون لا أعرف سببه، ربما كانت كلها واجمة تنتظر نتيجة ما يدور، ودوي ما حدث في الورش في الصباح ووجوه العمال الراسخة في ذاكرتي تنتظر أيضا وتترقب، بل كان واضحا أن سانتي هي الأخرى تنتظر النتيجة، وتنتظر مني أن أفعل شيئا، أو لا أفعل شيئا بالمرة.
وفيما تلا هذا من أحداث، ربما لو لم تحدث بالطريقة التي حدثت بها لما كان ما كان، ربما لو تقدم حدث عن حدث أو استبدلت كلمة بكلمة لتغير المشهد، ولتغير مصيري ومصير سانتي، ولخطت لنا الحياة مصيرا آخر. أحداث صغيرة قد تبدو تافهة كل التفاهة، ولكنها في أوقات، في وقت كهذا كانت مهمة عظيمة الأهمية إلى درجة قد لا يصدقها العقل، بل لم أصدقها أنا نفسي حين رحت أستعرض ما حدث فيما تلا هذا من أيام، وأعوام.
للحظة خاطفة ألقيت نظرة على نفسي وعلى أعماقي فروعت للنتيجة. لم أجد لدي أية رغبة في سانتي، بل لم أستطع أن أفكر فيها لثانية واحدة - وكمجرد تفكير - وهي أمامي امرأة مستسلمة تبكي، وكأنها امرأة حرن بي تفكيري كما كان يحرن خيالي. وكم قضيت الساعات الطويلة أفكر في الأحداث القليلة التي احتواها المشهد، وأحاول تحليلها وتعليلها، ووصلت إلى نتائج ولكنها أبدا لم تستطع أن تشفي غليلي، لم أستطع أن أعثر على سبب وجيه يفسر لي كل ما حدث. أحيانا كنت أقول إن السبب هو أن سانتي - حتى تلك اللحظة - لم تكن قد قامت بأي تصرف يدل على رغبتها في، وكان السؤال إذن لا يزال يلح: هل تريدني مثلما أريدها؟ هل تحبني سانتي؟ ذلك هو السؤال، تلك هي المأساة التي كانت تشلني.
بل حتى حالة الاستسلام التي كانت فيها، لم أحدثها أنا الرجل فيها، لم يحدثها كلامي أو ضغطاتي ولا قبلاتي، كتابتي هي التي أحدثتها. ولم أكن أريد أن تستسلم لي ككاتب، ولا أن تحبني كمحرر في المجلة وصاحب قلم وأسلوب. كنت أريد أن تحبني أنا، أنا الرجل، أنا الجسد والشكل والروح.
كل ما كنت أريده تلك اللحظة هو نفس ما أردته دائما، أن أبيع حياتي من أجل أن أظفر بلمحة منها تدل على أنها تريدني هي الأخرى ، طيلة علاقتي بها كنت في انتظار هذا، وفي تلك اللحظة كنت أيضا لا أزال أنتظر. والموقف يستدعي أن أتصرف بإيجابية وأنالها، فكيف أنالها وأنا أنتظرها؟ وكيف أتحرك وأنا أنتظر منها أن تتحرك أولا لأريدها وأرغب فيها. كان مستحيلا علي أن أتحرك ما لم تتحرك هي، ما لم تعاملني كامرأة تحبني لأعاملها كرجل يحبها.
واللحظة رهيبة وفاصلة، حقيقة فاصلة؛ فإحساس مبهم غامض وكأنه الحاسة السادسة، قارئة المستقبل، ومدركة البعد الآتي في أي وضع حاضر، كانت تهيب بي أن تلك اللحظة سوف يكون لها أعمق الأثر في علاقتنا، سوف تحدد مصير العلاقة. كنت أدرك أن العلاقات تبدأ بمناورات مزدحمة من جانب المرأة والرجل على حد سواء، ويظل الاثنان يحاوران بعضهما حتى ينضج ما بينهما، فإذا جاءت ولم يتم لا تلبث العلاقة أن تفتر وتبرد ثم تنهار. ترى لو لم يتم ذلك الاتحاد بيننا في هذه اللحظة وانتهى المشهد على غير تلك النهاية، فهل أغفر لنفسي هذا؟ وهل إن غفرت أنا ستغفر لي هي الأخرى وتسامح؟
وحتى إذا كنت قد تغلبت على كل قيودي الداخلية، فكيف ستواجهني هي بعدما يحدث شيء كهذا بيننا؟ كيف ستجلس في اجتماعاتنا، كيف تستعيد نفسها وتتكلم وتعمل وكيف أجلس معها، وبأي عين نناقش حينئذ نشاطنا وثورتنا؟ وكيف أستطيع أن أحمل على سياسة المجلة وأطالب بالقيادة لنا وأتهمها بما تستحقه؟ كيف أدعي الشرف بعد هذا والبراءة؟ وكيف أعود نظيفا كالبلور مثلما أريد؟
ولا أكذب على نفسي وأقول إن أفكاري الأخيرة تلك كانت حوائل رئيسية في نظري، ولكنها هي الأخرى كانت تعمل، ولقائي مع أحمد سيف النصر وكلماته، وكلمته بالذات: والله أنت أناني! ووجه العامل المتشبث بحديد النافذة لا يبرحه، تلك الأشياء المتباعدة التي كانت تبدو لي قليلة الأهمية كانت تدق فوق رأسي بعنف، وأحيانا أتفه الأشياء هو الذي يدق فوق رءوسنا ويأخذ الأهمية الكبرى في لحظات كتلك.
وفجأة أنتبه لأجد نفسي أفكر في شيء غريب، وكأني مذهول من استسلام سانتي لي، وكأني لم أكن أتوقع أبدا أن تستسلم وتصنع كما تصنع أية امرأة أخرى، إلى درجة أني أكاد أنهرها بنظراتي وأنهاها وأستنكر أن يكون ما تصنعه لحظتها أن يثبت في النهاية أنها امرأة ككل النساء. كنت أشك وأومن، وأظن أنها لا يمكن أن تفعل هذا أبدا، وأنظر إلى الواقع فيكاد الواقع ينطق ويكذبني، بل أحد الدوافع الرئيسية التي كانت تدفعني للمضي في المشهد إلى نهايته هو أن أتبين بدرجة لا تقبل الشك إن كانت ستسلم حقيقة في النهاية كغيرها أو أنها لن تفعل.
وفجأة أيضا أضيق بكل شيء، بها وبنفسي وبعلاقتنا وبالدنيا كلها، وأكاد أنفجر في سانتي سبا ولعنا؛ فلم أكن أريد بخطابي لها إلا مجرد افتتاح الحديث ليدور بيني وبينها، حديث تنضج فيه لحظتنا ونتجاوب خلاله، وينتهي إلى هذه النهاية نفسها. كنت أريد أن أؤقت أنا المسألة ولا يكون الموضوع كله مفاجأة لي، فإذا بتأثرها بالخطاب يصل إلى درجة يصبح معها أي حديث بعده سخيفا سخفا لا حد له، وإذا بما رتبته ينقلب رأسا على عقب، وإذا بي واقف عاجز لا أكاد أعرف ما يجب علي أن أفعله.
وبدأت أختنق.
والكلمة تستعمل أحيانا للتهويل، ولكني حقيقة بدأت أحس بأشياء تتصاعد من داخلي، وتلتف حول عنقي، وبدأت أحس بروحي ترف في صدري وأنني حالا قد لا أستطيع التنفس.
لم يكن قد مضى منذ جلست معها على الكنبة أكثر من دقيقة أو دقيقتين، في أثنائها دارت كل تلك الاحتمالات والافتراضات والتصورات في عقلي، وكانت لا تزال تدور حتى كدت أحس بعقلي يجأر كموتور عربة تصعد مرتفعا وهي تحمل فوق طاقتها. وكانت سانتي لا تزال على جلستها ودموعها قد بدأت تسيل في وهن، ولأنها كانت ترتكز برأسها على ذراعي فدموعها كانت قد صنعت خطين لامعين فوق وجهها المحتقن. لأول مرة كنت أرى دموعا حقيقة تصنع بسيلها خطين لامعين كلما قاربا الجفاف بللتهما دموع جديدة. وبدأت لي مسكينة ضعيفة واهنة لا حول لها ولا قوة، هي سبب الدوامة التي تجتاح عقلي وحياتي ولا أستطيع لومها، وكل ما أحسه أني أريد حمايتها حتى من نظرة لوم تفلت مني، ولا أريد منها أكثر من أن تسمح لي بأن أحميها.
ولا أعرف كيف جاء هذا الخاطر اللعين إلى تفكيري، ربما كان عقلي قد وجد فيه مخرجا للأزمة العنيفة، وربما لم أكن قد لاحظت علامة واحدة أحسست منها أنها تحبني مثلما أحبها، مع أني كنت أقول لنفسي إنها ربما تدخر إحساسها كله لتعبر لي عنه بعدما ينتهي المشهد إلى نهايته الطبيعية؛ أي بعد أن أصل معها إلى مرحلة الاتحاد الكامل. هناك فوق قمة تلك المرحلة وبعد أن نجتازها ممكن أن تأخذ رأسي بين راحتيها وتقص علي قصة أحاسيسها ناحيتي بصراحة ودون أن تخفي شيئا؛ فالمرأة أحيانا تدخر اعترافاتها لنهاية الشوط وبعد أن تكون قد اطمأنت إلى أنها الكاسبة. ولكني كنت أستبعد أن تكون سانتي من هذا الصنف من النساء، بل لم أكن أريدها أن تكونه. لماذا تضن علي بعواطفها وأنا لم أضن عليها بعواطفي؟ ولكن دموعها، لماذا تبكي هذا البكاء المتصل المرير وكأنها في جنازة أو مساقة للذبح؟ لماذا لا أحس أنها في حالة هيام عاطفي مثلما أنا هائم؟ لماذا تقابل انفعالي العظيم بذلك الانكماش المطلق؟ لماذا هي غير منفعلة مثلما أنا منفعل؟ مرة أخرى لا أعرف كيف واتاني هذا الخاطر، ولكني وجدته ينصب أمامي ويصفر في عقلي صفيرا طويلا كئيبا يورث الوحشة ويهز الكيان.
لماذا لا تكون المسألة كلها مجرد أحاسيس عارمة من جانبي أنا وحدي؟ لماذا لا تكون قصة الحب التي تخيلتها مجرد خيالات دارت في عقلي أنا فقط؟
جفلت للخاطر وكأني قد اصطدمت صدمة مفاجئة مروعة بحاجز صلب قاس، بل أحسست حقيقة بأني أشم في أنفي رائحة كالتي تحدث حين يصوب لنا أحدهم لكمة هائلة في الأنف، ووجمت. ولكن وجومي لم يستمر إلا للحظات خاطفات، بعدها استعدت نفسي تماما، بل جمعت كل نفسي وكل كياني وكل شغفي بها وخوفي عليها ورغبتي فيها، وهززتها برفق بين ذراعي وأنا أقول لها في همس ملح: إذن أنت حقيقة لا تريدين يا سانتي؟
وتململ جفناها، وبشريط ضيق من عينيها واجهتني وقالت في كلمات نطقتها وكأنها تذرفها حتى كان لها نفس دفء الدموع: أكنت تظن أنت غير هذا؟
فقلت وصفارة الخاطر لا يزال صداها في رأسي: كنت ... كنت ... أجل كنت أظن هذا.
وكنت أتوقع أن تتكلم، ولكنها سكتت، فعدت أسألها وأستحثها: صحيح يا سانتي ... لم تريديني، وكنت فقط تتحملينني؟
وقالت: أجل، أجل.
ودفعت رأسي بعنف من صدرها وأنا أقول: يا للفظاعة!
وتنبهت سانتي تماما، وأمسكت بيدها وجذبت رأسي بحماس لكي أواجهها وقالت: مالك يا يحيى، مالك؟
فقلت لها وأنا بالكاد أركب الكلمات وأصنع منها جملا وأكملها بتعبيرات وجهي وتقلصات يدي وأصابعي: تصوري! كنت فقط تتحملينني، لم تكوني تريدينني وكنت أنا أثقل عليك بسخفي وبعواطفي، وأنت طيلة الوقت تتحملينني. هذا مريع حقيقة، سيئ جدا.
وبصوت متناه في الخفوت أنهيت كلامي بسؤالها: صحيح يا سانتي، صحيح لم تكوني راغبة في أي شيء مما بيننا فقط تتحملينني؟ - أجل، أجل يا يحيى كنت أتحملك، هل كنت تعتقد شيئا غير هذا؟
وكمحاولة يائسة أثبت بها لنفسي أن كلامها غير صحيح ضممتها وقبلتها، فعادت تقول بلهجتها الدامعة السابقة: أرجوك يا يحيى، لا تفعلها أرجوك.
ورغما عني أحسست أني لم أعد أحتمل، ووجدت نفسي أنتفض واقفا وأغادر الحجرة إلى الصالة كمن أصيب بلوثة، وعند باب الحمام توقفت ورحت أشهق محاولا أن أبكي، لم أكن أعرف لماذا قمت وغادرتها، ولا لماذا أحاول أن أرغم نفسي على البكاء، ولا السبب في هذا الضعف الشديد الذي شعرت به يمتص كل قواي وإرادتي وكأني إنسان آخر غير الذي كنته في الصباح، إنسان آخر غير الرجل الناضج القوي الذي وقف وحده يواجه آلاف الرجال وتحيطه نمور غضبهم. أين هذا منه الآن وهو يواجه هذه الفتاة التي لا حول لها ولا قوة بأضعف ضعف وأسخف موقف؟
ولكن كنت في حالة غريبة لا أستطيع أن أوجه لنفسي سؤالا أو أجيب عليه، وأي شيء لم يهمني ولا حتى رأيها في وفي تصرفاتي أصبح يهمني، كنت أحس أني لا أستطيع أن أفعل إلا ما أفعله، إلا أن أتفرج على ما أفعله، وكأنما ركبتني إرادة أخرى أصبحت هي التي تسيرني.
ولم تمض سوى لحظات قليلة جاءت بعدها سانتي ورائي وأمسكتني من كتفي ومضت تهزني وتقول: ماذا حدث يا يحيى؟ ماذا حدث؟ ماذا جرى لك؟ فقلت لها وأنا أستدير وأواجهها وأحاول أن أبتسم: لا شيء لا شيء، نوبة، معلش! لم يحدث شيء أرجوك انسي ما حدث.
وكنت أقول هذا وأنا أراقبها؛ فحالتها كانت مختلفة تماما عن الحالة التي كانت عليها منذ برهة فوق الكنبة، وكأنما أفاقت تماما، وكأنما كانت مندمجة في دور ثم انتهت منه فانتهى تقمصها له. صوتها استرد حماسه وتدفقه، وملامحها استردت حيويتها، وابتسامتها أصبحت حائرة بين الاستنكار الخفيف والشفقة الخفيفة، وليس فيها أي حب استطلاع أو دهشة وكأنها كانت تعرف أني سأفعل هذا.
والمضحك أنني رغم أي اعتبار آخر كنت في تلك اللحظة بالذات أقول لنفسي: لو دموعها التي كانت تسيل كانت حقيقية، لو كانت منفعلة انفعالا حقيقيا أوصلها لدرجة البكاء، لما كانت قد استطاعت أن تسترد شعورها ونفسها بمثل تلك السرعة. لو كانت تحبني حقيقة لظلت سادرة في انفعالها السابق ولظلت تبكي. المحب الصادق لا يكون انفعاله انعكاسا لانفعال حبيبه، ولكنه يتصرف بوحي من نفسه ولا يملك إلا التصرف بما يمليه عليه شعوره هو. انفعاله يكون أقوى منه، وأقوى من إرادته، أما التحكم في الانفعالات وتغييرها حسب الحاجة وضبطها فأمر لا يستطيعه المحب.
أكثر من فتاة تحب رأيتها، وباستطاعة الإنسان أن يلتقطها من بين الآلاف، إنها تبدو كمن يعاني من جنون الإيمان بفكرة ثابتة، ولكنها ليست فكرة، شخص تؤمن به وتحبه ويشغلها عن العالم كله حتى ليصبح لها شكل المهاويس وتصرفاتهم.
وكانت سانتي أمامي في أتم قواها وتحكمها بنفسها.
وقلت لها: سامحيني، لقد أزعجتك، لم أكن أقصد هذا، ولكنه حدث برغمي، أرجوك انسيه.
ولم يكن لدي ما أقوله غير هذا؛ فقد شعرت أني لو حاولت التوضيح، لو حاولت التحدث عما أحسه وأشعر به، لكنت وكأني أكشف عن عواطفي لغريب أو على الأقل لمحايد.
وسكت، حتى الكلمات القليلة التي تلتها بعد هذا كانت مجرد صدى لصدمتي، ما فائدة الكلام؟ لو أردت الكلام حقيقة لخنقتها أو انتحرت وأشعلت النار في البيت، في جوفي بركان انفعال يذيب الصلب. وحين عدنا من أمام الحمام وجلسنا مرة أخرى في الحجرة جلست صامتا لا أكترث، وحتى سانتي لم تتكلم كثيرا، حاولت أن تطرق موضوعات وقالت: نسمع موسيقى. وأدرنا أسطوانة أو اثنتين وتبادلنا الابتسامات، وأخيرا جمعت سانتي أشياءها في تكاسل وارتدت الجاكيت وقالت: أنا ذاهبة، هه أنا ذاهبة.
ابتسمت وقلت وأنا مخفض رأسي: أوكي.
وبطريقة روتينية محضة قالت: أراك غدا.
قلت: طبعا طبعا.
قلت هذا وأنا أسير وراءها إلى الباب، وكانت تسير أمامي وأنا أراها من ظهرها، هذه المرة كنت أحس بضيق منها يكاد يعادل إحساسي بالحب لها حين دخلت. وكانت تمشي إلى الباب لا تتلفت ولكن مشيتها يبدو منها أنها تتوقع حدوث شيء. وفتحت الباب وأبطأت في فتحه متوقعة، واستدارت وهي تقف على العتبة وابتسمت وقالت: باي. قالتها وهي أيضا متوقعة، ثم راحت تهبط السلالم، سلمة سلمة وعلى مهل، وحين أغلقت الباب كنت أسمع أصداء أقدامها آتية من بعيد، وكل صدى كان يحمل في طياته توقعا، وكأني سأفتح الباب وأنادي عليها، ولم أفتح أي باب، تمددت على الكنبة وأمرت نفسي ألا أفكر، ولم تكن نفسي في حاجة إلى أي أمر، من تلقاء نفسها كانت لا تريد شيئا بالمرة.
ولا حتى مراجعة ما حدث.
وأغمضت عيني وأغمضتها بعنف وكأني أخاف أن تنفتحا رغما عني وتريا ...
كم من الزمن مضى وأنا على هذه الحال؟ كل ما أذكره أني سمعت - وكان هذا قد حدث مباشرة بعد خروج سانتي - أن الباب يدق، ولم أتعب نفسي بمحاولة تخمين إن كانت هي الطارقة، قمت إلى الباب وفتحته، ولم أفتح الباب مرة واحدة، ثلاث مرات فتحته. في المرة الأولى كان شوقي وقد حضر ليعرف نتيجة ما حدث في الورش في ذلك اليوم، وغمغمت له بأن كل شيء على ما يرام، وأني نفذت نصيحته ولم أمنحهم إجازات رغم أنهم كادوا يمزقونني تمزيقا، وعبثا حاول أن يعرف مني التفاصيل؛ فقد كنت باردا ضجرا لا أريد الحديث. ولم تضايق شوقي لهجتي أو طريقتي، كان واضحا أنه سعيد بالنتيجة؛ فقد تخللت حديثه كلمات كثيرة عن نفوذنا وسط العمال ووجوب تدعيمه وما حدث يعتبر بداية لتوسيع أكثر، وأشياء أخرى كثيرة لم أحفل بتبينها.
والطارق الثاني كان آخر إنسان أتوقعه أن يطرق بابي، كان سكرتير النقابة، أنيقا جدا يرتدي بدلة كحلية ورباط عنق أحمر ومنديل صدر من نفس اللون، واعتذاراته كانت أول ما واجهني حين فتحت الباب، اعتذارات أكثر سماجة من تصرفاته في الصباح؛ فقد كانت تنزلق من فوق لسانه انزلاقا دون إيمان حقيقي بها. ولم يلبث سبب زيارته أن اتضح؛ فقد بدأ يعرض علي عرضا غريبا ويبرره بقوله إنه كان نظاما متبعا مع جميع الأطباء الذين عملوا قبلي في الورش، والعرض كان أن تدفع لي النقابة ماهية شهرية (لا يطلع عليها غيري وغيره!) لكي أتساهل مع العمال وأمنحهم إجازات. وأعجب شيء أني كدت من فرط حقدي على نفسي وعليه وعلى الدنيا الخانقة المقبضة التي تركتني فيها سانتي، كدت أقبل العرض، ولكني رفضته بوقاحة وأمرته بمغادرة البيت في الحال. وظن أني أستشوي العرض فأعاده بمبلغ أكبر، بخمسة عشر جنيها في الشهر. وفكرت فجأة في قتله، ومن درج المكتب أخرجت مشرطا جراحيا كنت أستعمله لبري الأقلام. ودهش وظن أني أهزل معه، ولكنه ما إن رأى وقفتي ونظرتي والمشرط المشرع في يدي حتى خاف خوفا كاد يدفعني لطعنه، ولو كان قد بقي في الحجرة لحظة لفعلتها، ولكنه جرى ناحية الباب كالأطفال وهو يصيح: دا أنت باينك مجنون صحيح.
وما كدت أتمدد على الكنبة وأغمض عيني وألتقط أنفاسي وأعود إلى حالة السكون التي كنت عليها قبل أن يبددها شوقي والسكرتير، حتى دق الباب مرة ثالثة، وقمت وفي اعتقادي أنه السكرتير قد عاد ومعه البوليس أو عاد ومعه رفاقه، ولكن الطارق كان لورا، ولم أسأل نفسي لماذا جاءت ولا ماذا تريد. انتباهي كله انصب على أمر غريب؛ فبشرتها كانت تلمع لمعانا غير عادي، وكأنها خارجة لتوها من الحمام.
وأحسست أني لست بكامل قواي العقلية وأنا أرفع صوتي أكثر مما يجب وأقول لها: هاللو.
ورفعت حاجبين خفيفين أصفرين في دهشة وقالت: حسبتك نائما. وقلت وأنا أمد يدي وأتناول يدها، قلت وكأنني لا أخاطبها وإنما أخاطب جمعا حاشدا، أخاطب يوما عاصفا مزدحما جرت فيه أحداث هائلة كثيرة تستغرق عاما: أبدا أنا لست نائما، أنا مستيقظ، مستيقظ جدا، أنا أنتظرك، لي يوم بطوله وأنا أنتظرك. كنت أقول هذا وقد أغلقت الباب ووضعت يدها تحت إبطي وسحبتها ورائي وهي تسير بتردد وخوف قليل وقالت: تنتظرني! لماذا؟
قلت: أتذكرين يا لورا الدرس الذي أعطيتك إياه هنا؟
قالت ببراءة حقيقية: درس العربي؟
قلت: لا، الدرس الآخر، درس وظائف الأعضاء.
قالت: أوه.
قلت: لقد كان درسا نظريا يا عزيزتي.
وكنت أكلمها وظهري لا يزال إليها وواجهتها مكملا: أما الآن فموعد الدرس العملي.
وبوغتت وظهرت الدهشة واضحة أكثر من اللازم على ملامحها، وقالت بروح مسحوبة: ماذا تعني؟
قلت: أعني ...
وجذبتها من يدها واحتضنتها بشدة وقبلتها.
فقالت وهي تحاول أن تتملص: لا لا، أرجوك.
ولكني لم آبه لاعتراضاتها وأخذتها بين ذراعي وأنا محموم.
وحاولت لومضة أن أتصورها سانتي، ولكني كدت في هذه الومضة أن أهمد وأدوخ، وعدت أكثر عنفا، وشيئا فشيئا بدأت أعي أن لورا تتكلم، وحين أنصت كانت تقول: أنت تحبني؟ أليس كذلك؟ أنا أحبك جدا جدا جدا. أحبك لدرجة لا تستطيع أن تتصورها، وكنت أكتم عنك ولا أريد البوح. أرجوك، أستحلفك، قل لي، قلها لي، هل تحبني أنت؟ إني مستعدة أن أموت لأعرف إن كنت تحبني، أرجوك أجبني، إنك تفعل كالمحبين فلا بد أنك تحبني، أجبني أرجوك.
وفجأة وجدت نفسي أبكي بكاء حقيقيا، بكاء كان يهزني ويهزها معي وقد أصبحنا كتلة واحدة، بكاء يهز الحجرة كلها، بكاء كنت أحس أنه يتصاعد من كل جسدي وروحي وضياعي وحتى من أطراف أصابعي، أبكي وأبكي، والمسكينة لورا تلحس دموعي بقبلاتها ولسانها وتمسك رأسي في حنان ، وتغوص بأصابعها في شعري وتضمني إليها بشدة وتقول: لا حاجة بك للكلام، يكفيني هذا يا حبيبي، أنا أعبدك، أنا التي كنت أعتقد أنك لا تحبني، يا حبيبي الصغير يا رجلي، أحب رجولتك أحبها، كفى بكاء يا حبيبي كفى، لا بد أني أحلم؛ فأنا أحس أني أسعد فتاة في العالم، لا أستطيع أن أصدق أنك أنت وأنني أنا، ولكنك أنت أنت وأنا أنا، ما أروع هذا يا حبيبي، ما أروع هذا!
15
خيل إلي أن أياما كثيرة قد مضت وليالي، ولكن الساعة لم تكن قد تجاوزت منتصف الليل إلا بدقائق، وكانت لورا أول من غادر حجرة النوم، وجلست أنا في حجرة المكتب أتفرج وحدي على الكرنفال الحادث؛ فمن لحظة أن غادرت لورا الحجرة امتلأت الشقة بضجيج عظيم متباين الأسباب. كانت في حالة نشوة كبرى ترقص وتغني، حتى وهي في الحمام تأخذ دشا كان صوت غنائها يصلني عاليا واضحا وكأنها تستحم معي في حجرة المكتب، وحين خرجت من الحمام خرجت صاخبة وزاعقة في أغرب لباس، جسدها كله يكاد يكون عاريا، وقد لفت فوطة الحمام حول رأسها في عمامة ضخمة، خارجة لا تمشي ولكنها ترقص الفالس وتضحك، وأسألها عما يضحكها فتأخذني من يدي وهي لا تزال مندمجة في الفالس وتجري بي وأتبعها، وفي الحمام تريني صرصارا انسلخ من جلده البني وأصبح عاريا أبيض، وتضحك وتقول إنه لا بد أن يستعد لاستعمال الحمام، وتصفر بفمها كما يفعل الشبان، وتتحدث في وقت واحد عن فائدة الاستحمام بالماء البارد في الشتاء، وأنواع الصراصير وشقيقها الصغير العفريت الذي يتجسس أحيانا عليها.
وتنتقل فجأة إلى الحديث عن الشقة وتقترح تعديلات ضخمة في نظامها، ولا تكتفي بالاقتراح بل في الحال تشرع في التنفيذ فتنقل المكتب من مكانه وتجعلني أعدها بشرفي أن أشتري بوتاجازا؛ لأنها لا تطيق البوابير، ثم تتوقف مرة واحدة عن كلامها وضجيجها وصفيرها وتقول: أتعلم أن ما يلزمك هو حمام، بالضبط الحمام هو ما يلزمك، تعال.
وفعلا أمسكتني بكلتا يديها، وحاولت التملص فجذبتني بقوة شاب وأدخلتني الحمام وشرعت تخلع عني ملابسي بالعافية، وأحاول مقاومتها فلا تفعل المقاومة أكثر من أن تزيدها إصرارا كإصرار الأطفال حين يعثرون آخر الأمر على لعبة سمجة يلعبونها، وكانت لا تزال سادرة في خلع ملابسي تضحك وتقهقه لاحتجاجي ومقاومتي حين صرخت فيها بأعلى صوتي مطالبا منها أن تخرس وتسكت وتدعني.
واستغربت أنا نفسي للدهشة الشديدة التي اعترتها وأسكتتها تماما، وأسكتت معها الشقة والحمام وخرير الماء من الحنفية.
ولو ظلت ساكنة لما حدث شيء ولكنها شرعت تبكي. لم تبك ولكن ملامح وجهها بدأت تتقلص وترتفع في أمكنة وتنخفض في أخرى، وفمها يتسع وحاجباها يرتفعان من الناحية الملاصقة لأنفها فقط، وعيناها تغلقهما الجفون المنضمة، وبدت لي بشعة بشاعة قد تثير في النفس أي شيء إلا الشفقة، ووجدتني أقول لها بكل عنف وقسوة: اسمعي، أنا لا أحبك ولا أي شيء، لا بد أن تعلمي هذا وتتصرفي على أساسه.
وتهدلت عمامتها الضخمة في تلك اللحظة بالذات، وسقطت فوطة الحمام على كتفها وبقي جزء منها صغير عالقا بشعرها المبلل المنكوش، وكذلك تهدلت ملامحها فقبر مشروع البكاء إلى الأبد وحل محله استغراب بريء حزين وقالت: ولماذا إذن ...
ولم أدعها تكمل، قلت لها وأنا أعود لارتداء جاكتة البيجاما التي كانت قد خلعتها عني: هذا لا يدل على شيء.
وتركتها واقفة في الحمام وعدت إلى حجرة المكتب، وما يشغلني ليس هو لورا ولا ما قلته لها، ما يشغلني هو المفارقة العجيبة التي كشف لي كلامي للورا عنها. آه لو تقف مني سانتي حتى نفس هذا الموقف الخشن الذي وقفته أنا من لورا! آه لو تنهرني مرة واحدة وبقسوة وتفهمني بشكل قاطع أنها لا تحبني! لو تفعل لأراحتني؛ فمشكلتي معها أني لا أعرف حقيقة شعورها، ومشكلتها معي أنها لا تريد أن تعرفني.
جلست في حجرة المكتب وسمعت بكاء صادرا من الحمام ولم آبه له بالمرة. كنت في حالة غثيان واشمئزاز، وكم نتحول في حالات إلى كتل صخر قاس لا أثر للآدمية فيها، جلست على مضض ومنتهى أملي أن تغادر لورا الشقة بأسرع ما يمكن لأعود إلى وحدتي، إلى نفسي، إلى مأساتي.
وليلتها لم تغادر لورا الشقة، بعد أن ارتدت ملابسها وتهيأت للخروج، فجأة وأنا أكاد أتنفس الصعداء قالت لي إنها تذكرت أن والديها لن يناما الليلة في منزلهم، بل سيبيتان عند عمتها في مصر الجديدة. وكان معنى كلامها واضحا جدا، وكان إحساس بالشفقة والندم لما قلته لها بدأ يخالجني، فعرضت عليها أن تبقى، ولم توافق أو تلح، مضت تخلع ملابسها في صمت وتستعد لقضاء الليلة عندي.
وعلى عكس ما توقعت لم يكن ما قلته لها قد أغضبها كثيرا؛ فما كدت أبتسم لها مرة حتى عادت إلى طبيعتها في الحال، وظللت طوال الليل تحيطني بذراعيها وتهدهد علي، وكانت رقيقة في حنانها كأم، وكنت مذهولا كيف نسيت ما قلته لها بهذه السرعة وتناسته؟ لو كنت في مكانها لما أريتها وجهي بعد ما حدث، ولكن يبدو أن للنساء طابعا آخر. إنهن لا يتعاملن بالكلمات الجوفاء التي يتعامل بها الرجال، إنهن يعتبرنها مجرد كلمات قد لا تعني شيئا بالمرة في معظم الأحيان، نفس الكلمات الجوفاء التي يقتل الرجال بعضهم بعضا من أجلها.
وتركت للورا الحرية في أن تقبلني وتحدثني وتناجيني كما تشاء؛ فلم أكن معها، كنت مع سانتي لا أفكر في أي شيء بذاته مما حدث لي معها ولا فيها هي نفسها، ولكني كنت معها.
وفي الصباح وطوال اليوم التالي، يوم الجمعة، كنت قد تركت كل شيء جانبا وأصبح ما يسيطر على عقلي هو ماذا ستفعل حين تأتي في ذلك اليوم. كنت متأكدا أنها لا بد قادمة، وكنت خائفا جدا أن تكون الشفقة هي مبعث قدومها، أو على الأقل حب الاستطلاع، بل الواقع كنت خائفا جدا أن تكون قادمة لأي سبب كان إلا رغبتها في المجيء. بطريقة لا أعرفها ولا أدريها وجدت نفسي وكأن شيئا لم يحدث بالأمس، بل وكأن شيئا لم يحدث بيني وبينها بالمرة، وأصبح كل همي هو ذلك اللقاء الآتي وكأنه أول لقاء لي معها.
وكنت مستغرقا في هذا إلى درجة لم أشعر معها بما قالته لورا ، ولا بالطريقة التي غادرت بها الشقة، كل ما أذكره أنها أشركتني للحظات طويلة - وأنا ضيق النفس فاتر الإحساس - في الكذبة التي يجب عليها أن تخترعها إذا حدث ووجدت أن والديها لم يبيتا في مصر الجديدة وعدلا عن الذهاب إلى عمتها ماتيلدا وقضيا الليلة في بيتهم، لا بد سيقلقان حينئذ قلقا عظيما، ومن المحتمل أن يقدما على ما لا تحمد عقباه.
وقلت لها لأتخلص منها: فكري أنت من ناحيتك، ودعيني أنا أفكر في كذبة مناسبة.
وهكذا شغلتها عني، ورحت مرة أخرى أحوم - غير مقاطع - حول سانتي وحول مجيئها المقبل، وأفقت مرة فلم أجد لورا بالشقة.
وأحسست براحة عظمى، واسترخيت وسعدت بوحدتي مع نفسي في الحجرة وكأنها كانت مكتظة بازدحام هائل ونجحت في التخلص منه.
وفي الوقت المحدد تماما، في صبا العصر، تلقفت أذني الدقة الطويلة نوعا، والأخرى التالية القصيرة التي تشبه النقطة في إشارات موريس.
ومع أني كنت متأكدا أنها ستجيء وواثق من هذا ثقتي أن العصر سيعقب الظهر حتما، إلا أنني فرحت للدقات وكأني كنت فاقد الأمل في مجيئها، وكأنها معجزة أن يعقب العصر الظهر.
وفتحت الباب وأنا في حالة غير عادية، ذائب في مزيج من الفرحة والحساسية الزائدة لأدق انفعالاتها وخوالجها، كأن في عقلي ألف سؤال ينتظر الإجابة، وكلها أسئلة عما حدث بالأمس، رأيها في وفي كل كلمة قلتها وكل تصرف قمت به. وكنت أعلم أني لا أستطيع أن أسألها عن شيء، وعلي أن ألتقط الإجابة من بسمة أو طريقة نطق كلمة، وربما من تسهيمة.
ودخلت سانتي وهي تحاول أن تكون عادية: إزيك؟ كويس جدا. الكلمتان العربيتان اللتان كنا نتبادلهما دائما، وهذه المرة زادت عليهما بالعربية أيضا وهي تبتسم وعيونها تلمع: إيه أخبارك؟ فقلت بالفصحى: لم يجد جديد. وأردفت بالإنجليزية: ماذا يمكن أن يكون قد حدث منذ الأمس؟ لم يحدث شيء.
وجلست وهي تنظر ناحيتي بهدوء متعمد، وفي كل مرة كانت تخرج علبة سجائرها كنت أشعر بلذة متجددة؛ فحين تعارفنا كانت تدخن سجائر أمريكية وحتى كانت لا تدخنها بكثرة ، ولكنها أخرجت علبتها - نفس ماركة سجائري - وكأنها تريني علامة من علامات تأثرها بي وانفعالها، ولم تكن السجائر هي العلامة الوحيدة، من كثرة ما تكلمنا معا وتناقشنا كنا قد تبادلنا بلا وعي كثيرا من خصائصنا، أردد بلا وعي أنا تعبير «ده موش كلام» (الذي كثيرا ما كانت تستعمله) أردد أول الأمر في تقليد ساخر للهجتها، ولكني لا ألبث أن أستعمله في حديثي العادي ويصبح جزءا من لغتي، وهي أيضا كثيرا ما ضبطتها تتعمد عوج ابتسامتها لكي تشبه ابتسامتي، ثم أصبح الاعوجاج جزءا من ابتسامتها.
أخرجت سانتي هذه المرة علبة سجائرها وتناولت سيجارة وقدمت لي واحدة، وشددت في عزومتها حتى أخذتها. ومن دخانها، والطريقة التي نفثت بها دخان سيجارتها، ودقات أصابعها على مسند الكرسي، والابتسامة الصغيرة البارزة من فمها، أدركت أنها هي الأخرى جاءت وفي عقلها ألف سؤال، وحب استطلاعها لمعرفة ما يدور في نفسي يكاد يعادل حب استطلاعي لمعرفة ما يدور في نفسها.
وكان مفروضا أن يسعدني هذا الاستنتاج وأكتفي به، وأجلس هادئا مطمئنا وأترك الحديث يقود نفسه بلا خطة أو تعمد؛ فأروع النتائج تأتي أحيانا لمن لا ينتظرها، ولكني لم أهدأ وأسعد إلا للحظة قصيرة جدا، القلق الناري المدمر الذي كان يجتاحني كلما رأيتها أو حتى فكرت فيها، ذلك القلق كيف كان باستطاعتي أن أهرب منه؟
قلت لنفسي: ها هي ذي قد جاءت بأقدامها كما يقولون، لم تغضب ولم تستنكر، بل وأكثر من هذا جاءت متسائلة محبة للاستطلاع، أعتبر إذن أن ما حدث بالأمس كان تجربة فاشلة، وأبدأ معها الآن فورا تجربة ناجحة.
وكان ممكنا أن ينتفض عقلي علي ويثور، ويتصور ما يحلو لي من أوهام وأوضاع، أما أن أنفذ هذا فشيء مستحيل تماما. سانتي كانت أمامي، على بعد خطوة واحدة مني، أستطيع أن أشل مقاومتها كلها بأصبعين اثنتين من أصابعي وأنالها عنوة، ثم أنفض يدي منها كما أريد، ولكنني لم أكن أستطيع، أبدا لم أكن أستطيع، كنت متأكدا أنها لو غضبت حتى من فعلتي فستصفح عني بعد هذا وتغفر لي، بل من الممكن أن تذكرني بها بعدئذ وتضحك وأضحك معها. كنت متأكدا ألا بروتوكولات في الحب، فإذا ما وجدت في مكان واحد مع شخص تحبه، وتعتقد أنه يحبك، فأسلم تصرف هو أي تصرف طالما أن الحب دافعه.
كنت مؤمنا بهذا ومتأكدا منه، ولكن ما فائدة الإيمان به والقيود التي تغلني في مكاني وتربطني إلى مقعدي أقوى ألف مرة من كل الحقائق التي أومن بها وأعرفها؟ ما فائدة إيماني وأنا كلما أدركت أن نوالها أمر سهل لا يكلفني إلا فك قيودي أحسست بالقيود تتضاعف وتضيق، وكلما وجدت سانتي قريبة مني راضية ومستعدة لأن ترضى أحسست بها تبعد عني وتبعد حتى لتصبح أبعد من أن أنالها ببصري أو حتى بخيالي.
ظلت سانتي تجذب أنفاسا من سيجارتها حتى تكونت لها بقية طويلة متماسكة من الدخان المحترق، وقمت من مكاني وقدمت لها الطفاية. وبينما هي تدق على السيجارة بأصبعها السبابة وعيناها تنظران إلى السيجارة من خلف جفون تكاد تكون مغلقة، عاودني مرة أخرى ذلك الخاطر، لقد جاءت يدفعها حب الاستطلاع لمعرفة أثر ما حدث بالأمس، والموقف بيننا قد سكن وهمد، ولا بد من عمل أقوم أنا به لأبدد ذلك الجو. وأكثر ما كان يضايقني هو هذا الإحساس الملح بضرورة أن أقوم بعمل، كلما وجدت معها في مكان يبدأ القلق ينهش صدري وأحس أنني أنا الذي يجب عليه أن يتحدث، وأنا الذي يجب عليه أن يقطع الصمت إذا حل الصمت، وأنا الذي يبدد الوجوم إذا حل وجوم، وعلي في هذه المرة أيضا أن أرد على حب استطلاعها، علي أن أفسر موقفي وأوضحه، إنها تنتظر مني وتتوقع، فكيف أخيب أملها في؟
وتلاقت نظراتنا لقاء سريعا خاطفا، وابتسمت هي ابتسامة سريعة هي الأخرى خاطفة، وما لبثت أن خفضت عينيها وركزتهما على السيجارة التي بين أصابعها، وفجأة عادت تنظر إلي وتبتسم. حين التقت نظراتنا للمرة الثانية قالت وكأنما تذكرت شيئا: أراك لم تكتب لي خطابا آخر.
وانتهزت الفرصة وقلت لها في مكر: ومن أين لك أن تعرفي ؟ ربما أكون قد كتبت.
قلتها على سبيل المزاح، ولكني تذكرت أني حقيقة قد سجلت خواطري عما دار بالأمس على شكل خطاب موجه مني إليها، وفعلت هذا وأنا لا أحس أني أسجل شيئا أو أوجه لها خطابا، وكأنما فعلته في غيبة وعيي، ثم نسيته.
ويبدو أن تذكري لهذا الأمر جعل بريقا ما يشع من ملامحي؛ فقد وجدتها تعود تقول: صحيح، ألم تكتب خطابا؟
وسرني شغفها هذا، وقلت: لست أذكر تماما، ولكن ... هيه، دعينا نرى.
وقمت إلى المكتب وبحثت طويلا حتى عثرت على الأوراق مهوشة غير مرتبة، وما كادت تراها وتدرك أن هناك حقيقة خطابا حتى هبت واقفة وقالت بفرح طفولي: دعني أقرأه، دعني أقرأه.
فرح لم أكن أشهده في عينيها حين تلقاني أو تتحدث إلي، فرح غريب، وكأنه فرح للقاء حبيب وليس لقراءة خطاب، ومع هذا أصررت على أن أقرأه أنا لها؛ فقد كان مكتوبا بطريقة لا يمكن لأحد أن يحل ألغازها سواي.
ووافقت سانتي على مضض وكأنما حرمت من متعة خفية خاصة وجلست على الكرسي أمامي، وأشعلت سيجارة أخرى قدمتها لها حرصا مني على أن يكون مزاجها وهي تستمع في حالة اعتدال تام.
ومضيت أقرأ، ولم أكد أنتهي من الفقرة الأولى حتى كنت قد بدأت أصغي رغما عني لصوت غريب محايد يصدر من نفسي، ويدلي بوجهة نظر في المشهد لم تخطر لي على بال؛ فأنا شاب في الخامسة والعشرين من عمره، مطلع ومجرب وتحمل من المسئوليات ما يعجز عنه أحيانا رجال أكبر منه سنا وتجربة واطلاعا. شاب يحب هذه المرأة الصغيرة المتزوجة، والاثنان يجمعهما معترك ثوري واحد، وبينهما كل ما يستطيع الإنسان أن يتصوره من حرج وارتباك، وقد جاءت بعد حادثة فشل ضخمة، ومعنى مجيئها أنها لا تخاف من أن تخوض التجربة مرة أخرى، لا تخاف حتى لو نجحت ونالها ذلك الشاب، ومع هذا فكل ما يستطيعه شاب كهذا هو أن يجلسها أمامه ويقرأ لها خطابا كتبه في الليلة الماضية!
كان من المحتمل أن تكون هذه أيضا وجهة نظر أي مشاهد يدخل علينا فجأة ويرانا ونحن على هذا الوضع، وجهة النظر التي كنت كلما فكرت فيها أزداد ارتباكا فوق ارتباكي، وكيف لا أرتبك وأنا أومن بأن ما أفعله شيء وأن ما يجب علي عمله شيء آخر؟
وكيف لا أتعثر وأسخط على نفسي وأنا أرى أن الطريقة التي أتبعها هي آخر طريقة تصلح أن يتبعها محب، ومع هذا فلا أستطيع سلوك غيرها أو الخروج عنها؟
ولكني بتوالي سطور الخطاب وصفحاته بدأ الصوت في داخلي يخفت، وبدأت أنسى ويقل ارتباكي وأحيا شيئا فشيئا فيما كتبته وما كنت أقرؤه. كان الخطاب طويلا أكثر من عشرين صفحة، ومكتوبا بخط محموم رديء، وكنت لا أملك نفسي في أجزاء منه فأكاد أقشعر، أجزاء كانت تنفذ مباشرة إلى إحساسي حتى بغير أن أعي معانيها وعيا كاملا، أجزاء أحس أنها ليست كتابة ولا مجرد خواطر سجلتها، ولكنها قطع صغيرة حية استخرجتها بطريقة ما من أغوار جسدي، قطع حية تتشابك أمامي وتنبض وأحس فيها دفء الحياة، وأكاد أرى فيها صراخي وعذابي وتمزقي وقد تحول إلى أنين طويل حتى لا يموت. كنت كمن يتفرج على نفس أخرى غير نفسه، نفس أخرى تحب بقوة وقسوة وظمأ وحشي، وتحاول أن تجد قطرة حب تمتصها فلا تجد، فتئن وتعوي وتتلوى. كنت وكأني قد أصبحت شخصين: شخصا يعذب وشخصا يتفرج ويستغرب، والأعجب من هذا أن كليهما يحب سانتي، وأني بكليهما أحاول أن أظفر بها.
ونص الخطاب غير مهم؛ فوأنا أكتبه وأنا أقرؤه وأنا أرقب سانتي وهي تسمعني، لم يكن يدور في ذهني غير شيء واحد فقط، هو أن أحاول أن أعرف إن كانت قد أحبتني هي الأخرى مثلما أحببتها أو لا. كان كل همي وهم خططي، وحتى الهدف الحقيقي من وراء محاولاتي أن أنالها، لم يكن الهدف أن أجعلها تحبني ولكن أن أعرف إن كانت قد أحبتني فعلا. لم يكن مهما عندي حتى لو تأكدت أنها حتما ستحبني غدا مثلا، كل همي كان أن أعرف إن كانت قد أحبتني في نفس الوقت الذي كنت أحبها فيه أم لا.
توقفت هنيهة عن القراءة، ثم بلعت الغصة التي تكونت في حلقي ومضيت أقرأ، ومن تلك اللحظة بدأت أقرأ بنصف انتباه؛ فنصف انتباهي الآخر كان مركزا تركيزا غير ملحوظ على ملامحها، فإذا كنت في المشهد السابق لم أجد لديها علامة واحدة من علامات إرادتها لي، فقد بقي سؤال: لماذا تواظب على مجيئها إذن؟ ولماذا جاءت في هذا اليوم بالذات؟ وكان هناك جوابان لهذا السؤال: إما أنها جاءت لتتفرج على إنسان يحبها وتحس بأنها مرتبطة به بشكل ما لأنه يحبها، وإما أنها جاءت بدافع من نفسها وعواطفها. مضيت أراقب ملامحها لأعرف إن كانت تتفرج أم هي تحيا المشهد ومنفعلة به وبكلمات الخطاب.
أما الانفعال فقد كان هناك حقيقة انفعال، أما سبب الانفعال فتلك هي المشكلة. ترى أهو انفعال متفرجة أو انفعال محبة؟ إن المتفرج أيضا ينفعل وخاصة إذا كان يتفرج على من يحبه، بل أحيانا يتطلب الموقف من المتفرج أن يمثل دور الحبيب ليرضي هذا الذي يعذب نفسه في حبه.
وانتهيت من قراءة الخطاب ولم أكن قد انتهيت من تحديد نوع الانفعال.
ولم تعقب سانتي في الحال، مضت تعبث بأظافرها. وحتى في أثناء ذلك الصمت القصير كنت أحاول أن أخمن أية كلمات سوف تقولها.
ولكنها بعد قليل قالت وهي تائهة، وكأنما لا تزال تحيا في الجو الذي خلقته كلمات الخطاب: يحيى، هل كنت تقول الحقيقة وأنت تكتب هذا الخطاب؟
ولم أجب على سؤالها. كنت أريد أن أعرف الدافع الذي حدا بها إلى هذا السؤال، ولما لم أستطع قلت: إن ما في هذا الخطاب لا يصور إلا جزءا واحدا مما أشعر به. إني عاجز، أنا عاجز، أنا عاجز، وقلمي عاجز، وقدرتي على التجسيد عاجزة.
وسكتت وهي تنظر إلي، ثم قالت بضحكتها المعهودة وقد عاد البريق إلى عينيها وكأنما أفاقت: أعطني الخطاب.
وناولتها إياه ببساطة، فطبقته بعناية ووضعته في حقيبة يدها وهي تقول: لقد أصبح عندي مجموعة رائعة من خطاباتك.
قلت: تحتفظين بها؟
فقالت ببراءة: طبعا، أنا أحتفظ بها كالكنز .
قلت وأهدافي ماكرة: وزوجك، ماذا يفعل لو رآها حين يحضر؟
قالت: اطمئن، إني أخبئها في الجزء الخاص بي من دولابنا. وافرض أنه عثر عليها، فماذا في هذا؟ - ماذا في هذا؟ كيف؟ - إنها ليست خطابات مني، إنها خطابات إلي.
وارتبكت وأنا لا أعرف إن كان يجب علي أن أحزن أم أفرح أم أسخط لهذا الذي قالته.
وقلت لنفسي في النهاية: ها هي ذي تسمع خطاباتي وتحتفظ بها، وتغفر لي تهجمي عليها ومحاولاتي معها، ألا يكفيك هذا؟
وفي الثانية التالية كنت ثائرا على نفسي فقلت لها فجأة: بصراحة أريد أن أسألك سؤالا، أجيبيني عليه أرجوك، أجيبيني بالحقيقة.
قالت وهي تبتسم وكأنها تعرف ما هو ذلك السؤال: اسأل. - هل تحبينني يا سانتي؟
ولم يهمني البسمة التي أفلتت منها؛ فقد كنت أنتظر إجابتها على نار، وبيني وبين نفسي لم أكن أنتظر منها الكثير، بل أن تقول إنها تحبني. كنت أسأل السؤال ولا أريد أن أعرف سوى كيف تجيبني عليه.
قالت وهي تسدل جفنيها على عينيها: ولكنك تعرف إجابتي.
قلت: ولكن افرضي أني غير مقتنع بإجاباتك السابقة. أريد جوابا محددا وصريحا.
قالت وهي تضحك: إذن أنت أعز أصدقائي.
ولم أشأ أن أقول إني أسأل عن الحب لا عن الصداقة.
سكت محرجا، ولكني أدركت أني قد بلغت في حرجي إلى آخر حد، فلماذا لا أسألها عن كل ما يدور بخلدي. قلت: ولماذا تأتين إذن يا سانتي؟ ولماذا جئت اليوم؟
وهنا قامت قومة المفزوع، وقالت: يحيى ... يحيى، هل أنت تفسر مجيئي هذا التفسير؟
وطبعا أجبت بكل حروف النفي التي أعرفها وقد رأيت انزعاجها لسؤالي، وقلت على سبيل الكلام، مجرد الكلام: أنا فقط كنت أسأل، مجرد سؤال.
ومن جديد عاد الصمت المشبع يخيم على جلستنا، صمت كنت أخافه وأخشاه وأكافحه بكل ما أستطيع من قوة؛ فقد كنت أخاف أن ينهي جلستنا فتقوم، وأخاف أن أقول كلمة لأقطعه فتجرحها الكلمة ويتعكر الجو، وأخاف إن سكت أن تغير هي موضوع الحديث. أخاف أن أتكلم وأخاف أن أسكت ، وأخاف إن تكلمت هي وأخاف إن سكتت.
ولكن صمتنا هذا سرعان ما قطعه دق الباب.
وتضايقت، وقمت لأفتح وأنا أحاول أن أخمن من يكون الطارق في مثل تلك الساعة، خاصة وبيتي الجديد لم يكن قد عرفه نفر كثير من أصدقائي ومعارفي.
قمت لأفتح فإذا بها لورا، وما كدت أجذب ضلفة الباب حتى دخلت وكأنها تهوي إلى بئر، شاحبة اللون مغمضة العينين، وكأن الأشباح كانت تطاردها.
ولم تترك لي وقتا أو فرصة لإيقافها أو الاعتذار إليها أو الحيلولة بينها وبين الدخول؛ فقد كان من غير اللائق أبدا أن تجد سانتي عندي في مثل تلك الساعة، ولم أكن أريد أيضا أن أقطع حديثي مع سانتي.
وهي على الباب بدأت تتحدث وتقول بصوت لاهث متقطع لا ينقطع: حدثت مصيبة، تصور! والداي لم يبيتا لدى عمتي في مصر الجديدة، لم يجداها، وعادا إلى المنزل ليلة الأمس، وطبعا لم يجداني، ولما لم أعد أبلغا البوليس، يا لغباوتهما! أبلغا البوليس، وحين عدت في الصباح يا لهول ما حدث بي بي بي بي ...
كانت تتكلم وهي تواجهني وتتشنج بيديها وكتفيها علامة المصيبة الكبرى. ولكنها بلفتة واحدة كانت قد رأت سانتي في حجرة المكتب، فتصنعت (أو دهشت حقيقة) هذه الدهشة العظمى وقالت بترحيب مبالغ فيه: أووه ... هاللو.
وطبعا حدث السلام المليء بالحرج والارتباك، وتلاقت العيون بنظرات صريحة ونظرات لا تمت إلى الصراحة أو البراءة بصلة.
وما لبثت الحجرة أن احتوتنا نحن الثلاثة، سانتي التي أحبها، ولورا التي تحبني. سانتي التي أريدها ولورا التي تريدني. سانتي التي لا أعرف ماذا يدور في عقلها، ولورا التي كان يلفحني لهيب الغيرة البدائية الذي تشعه نظراتها. أنا أراقب كل همسة من حركات سانتي وأقوالها، ولورا تراقب كل همسة من حركاتي أو حركات سانتي، وأنا الحائر المتسائل بحق عمره وحياته لأعرف ما هو رأي سانتي في هذا كله.
بل لكي أعرفه تعمدت أن أنكش لورا، والواقع لا أستطيع أن أحدد أنني كنت السبب أم أن لورا تعمدت أن تثبت ملكيتها لي أمام سانتي وبالمرة تغيظها حين جرى الحديث إلى قصة والديها ومصر الجديدة، ولمحت لورا بما يفهم منه أنها قضت ليلة الأمس، وليلة الأمس بالذات عندي، وأنها لهذا وقعت في ورطة وتطلب مني إنقاذها.
وبمثل ما يغفر الحب إساءة للحبيب، بمثل ما نكره أي شيء من اللاحبيب. قد كرهت لورا وورطتها ووالديها والساعة التي عرفتها فيها ودللتها على بيتي، خاصة وكل ما حدث لسانتي حين أدركت الورطة وما تعنيه أنها هزت رأسها في جمود وتخابث، وهمهمت همهمات لم أعرف إن كانت همهمات غيرة أم همهمات اشمئزاز.
ولم أنقذ لورا ولا حتى أبديت أي استعداد لإنقاذها، ولم أتبين أية غيرة جدية في عيني سانتي. وحرصت لورا على أن تنتحل المعاذير لتبقى، وجاء وقت انصرافهما، وقامت لورا فلحقتها سانتي ومضيا معا، وأغلقت الباب وعدت إلى الحجرة.
عدت وأنا أقول لنفسي: لماذا لا تترك هذا كله وتثوب إلى رشدك؟ لماذا لا تضرب عرض الحائط بسانتي ولورا والمجلة وكل هذا العمل الذي لا طائل من ورائه؟ لماذا لا تقوم بأي عمل آخر ترضى عنه أنت وتحس أنه أكثر جدية وفاعلية؟ لماذا تغرق نفسك إلى أذنك في تلك الدوامة التي تختنق فيها بإرادتك بكل إرادتك، لماذا؟
16
والإجابة على ثورتي لم تأتني لحظتها. كانت الإجابة تأتي أحيانا في شكل خوف شديد من الفشل، وكأني غامرت بكل حياتي على علاقتي بسانتي، وكأنها إن لم تحبني أو إن لم تكن تحبني فمعنى هذا ألا فائدة مني ومن رجولتي بل من وجودي نفسه، وكنت شديد الثقة بنفسي أومن إيمانا كاملا بأن لا بد لي أن أنجح مثلما لا بد لي أن أعيش أو أتنفس. إذا لم تكن الحياة نجاحا فلا كانت الحياة. حتى وأنا أخوض أية تجربة فاشلة لا بد أن أنجح فيها، وإذا لم يكن بد من الفشل فليكن الفشل بإرادتي أنا. أما أن أفشل رغما عني، أما أن تهزمني الحياة أو تهزمني سانتي، فما فائدة حياتي وأنا مهزوم؟ شاب قوي ممتلئ بالثقة في العالم وفي نفسه يكتسح الدنيا بناظريه ويقول الحياة هي النجاح والفشل هو الموت. سني خمسة وعشرون عاما، ومعركتي الجدية مع العالم لم تكد تبدأ، بالكاد بدأت أحس أني أخوضها حين عرفت سانتي. وحبي لها لم يكن في الواقع حبا خالصا لها، كان أيضا وقبل كل شيء حبا لحياتي أنا نفسها وتعلقا بحياتي أنا نفسها، وإصرارا على أن أحيا وأن أنجح.
حتى وأنا أعلم أن الإصرار والعناد قد يصلح في أي شيء إلا في الحب، كنت مصرا أيضا على نجاحي في هذا الميدان الذي لا يصلح له الإصرار، مصرا على نجاحي وكأن النجاح عمري؛ فالموت عندي كان أهون من الفشل. أعظم فشل يصيبني كان في نظري فشلي مع سانتي.
ولم يمض سوى يومين، وجاء الأحد، وجاء الصباح وظهرت الأهرام والمصري والأخبار والإثنين ولم تظهر مجلتنا، لأول مرة منذ شهور كان يحدث هذا. وأنا ذاهب في الصباح إلى الورش كنت أتطلع وأسأل فلا أجدها معلقة فوق الأكشاك، ويهز الباعة رءوسهم نفيا وأسفا، وبالكاد مكثت في المكتب ساعة، وحوالي العاشرة كنت في بيت شوقي أتعاون أنا وزوجته على إعادة الحياة إلى جسده النائم؛ فلم يكن نومه نوما، كان وفاة مؤكدة تحدث له بين الثالثة والرابعة من صباح كل يوم ولا تعود إليه الروح إلا هناك قرب الظهر أو أحيانا بعده، وأكثر من ساعة لا بد أن يمضيها في مواء ورفس وتحديق أجوف في السقف والوجوه التي حوله قبل أن يعود الوعي إلى رأسه، وكان أول سؤال وجهته له عن المجلة، وأجابني بمواء وإشاحة وكأني أطلب منه أن يعيد على مسامعي قصة أبو زيد وقد رواها ألف مرة، ولم أهدأ إلا حين عرفت منه بالضبط ما حدث، ولم يكن قد حدث شيء كثير، كانت موارد المجلة قد نضبت والخوف قد تولى إنقاص عدد القراء إلى درجة لم يكن مستغربا أن تتوقف معها عن الصدور يوما ما، وجاء ذلك الأحد ومنعهم صاحب المطبعة من دخولها وانتشروا في القاهرة كلها ليجمعوا الثمن، ولكنهم عادوا بوفاض خال، ومتى حدث هذا كله؟ في الوقت الذي كنت جالسا فيه بين سانتي ولورا.
وقلت لشوقي: وبعد؟
قال وقد بدأ يستيقظ ويفرك عينيه ويتثاءب: تفرج. - امتى؟ - الأسبوع الجاي لازم تفرج.
وضحكت في تهكم، وسألني عما يضحكني، فقلت: إن الفلاحين في بلدنا المؤمنين بالله والمتوكلين عليه توكلا تاما يدبرون مستقبلهم بنفس هذه الكلمة: تفرج، فما فائدة أن نكون ثوارا إذن وعلماء ثورة؟
وكانت راقية زوجته قد أحضرت لنا الشاي في كوبين، كل كوب منهما شكل، وجلست تستمع لحديثنا برهة وتحاول المشاركة فيه ولو بهز الرأس.
ولكن يبدو أنها وجدته يدور في نفس الدائرة فقامت إلى المطبخ.
وفتح شوقي فمه فتحة واسعة حتى خفت أن يتمزق صدغه، وتثاءب في صوت كصوت صفارات البواخر وقال: فتحي اتمسك.
وتثاءب مرة أخرى.
وأعدت عليه السؤال فعاد يؤكد لي أن فتحي سالم قبض عليه من يومين، ولأمر ما لم أستطع أن أتخيل فتحي سالم مقبوضا عليه، كاتب القصة المرهف، وعينيه الخضراوين الواسعتين وطريقته في نطق المصطلحات الطبية حين يناقشني ويريد أن يشعرني بالرابطة الخاصة التي تربطني به؛ إذ كان مثلي يكتب ويعمل في المجلة، وكان طبيبا هو الآخر، وإن كنت قد تخرجت قبله بعامين. لم أستطع أبدا أن أصدق أو أتصور أنه اعتقل أو قبض عليه. كان خجولا رقيقا طيبا، ذكاؤه حاد رفيع كذكاء الأنثى، وفكاهاته كثيرة ناعمة تكاد تذوب قبل أن تلتقطها الآذان، وها هم قد أمسكوه، وكان السؤال هو: لماذا فتحي سالم بالذات، وهناك من هم أخطر منه وأكثر فائدة؟
وقال شوقي وهو يكاد يتركني ويعود للنوم: أنت عايزهم يفكروا زيك؟ مفيش منطق عندهم، كله زي بعضه، إحنا متصورينهم أذكى مما هم بكثير.
ولم أوافقه أبدا على كلامه؛ فهم فعلا أذكياء وأقوياء، وبعضهم يحس أنه بما يفعله إنما يهب نفسه لأشرف عمل. ولكننا في معركة دامية معهم، والمعركة دائرة في خندق سفلي لا يحس به أحد من السائرين في الشارع أو راكبي الترام أو من يملئون المتنزهات والقهاوي والسينمات. مجموعة صغيرة من الناس تحيا في حماس ملتهب، اجتماعات وقرارات وأوراق صغيرة شفافة ، ورونيوهات ومواعيد محكمة بدقة ولها مواعيد احتياطية وأسماء غير حقيقية، وأحقاد وخلافات وتناحر واتهامات وبطولات. مجموعة لا تراها العين العادية ولا تلقاها، ولكنك تسمع بها وترن أسماؤها في أذنك رنينا غريبا، مجموعة لا تراها إلا عيون مجموعة أخرى، وظيفتها أن ترى الشرارة قبل أن تصبح نارا، وتخمد النار لو اشتعلت النار. خندق سفلي، والناس تغدو فوقه وتروح، والمعركة لا حس لها ولا صوت. خطى تترسم خطى، وإشاعات تضلل إشاعات، وذكاء يقدح ذكاء، وخيانات للجانبين ومن الجانبين. عالم سفلي يموج بأصوات عالية غير مسموعة، وحركة دائبة غير ملحوظة، وبراكين غير مرئية تتفجر وتهدد ويعود غيرها يتفجر، وبين الحين والحين يختفي واحد ويجيء الخبر ثاني يوم: «اتمسك.» أو يجيء الخبر ثالث يوم: «أفلت وساب.»
وعقب كل خبر كهذا تتبلبل الخواطر وترتفع الأسماء وتهوي كالأسعار، حتى ليلتبس الأمر على الرائي في الظلام، وهو لا يلحظ فارقا كبيرا بين الخائن والشريف وبين الانتهازي وصاحب المبدأ، ويعشش الشك حتى ليشك الواحد أحيانا في نفسه؛ فالظلام يضاعف الشك، والشك يقطر في العيون ظلاما. وكنت أعتقد أن التصرفات المهتزة التي تصادفني سببها مجرد شك أكثر من اللازم في الناس، الشك الذي يورث الرعب، ولم أكن قد آمنت بعد أن الشك المركب إذا طال بقاؤه في النفس يأكلها ويهرؤها كماء النار، وأن نفوسنا كأكبادنا ممكن أن تصاب بالتضخم والتليف وتفقد إحساسها الإنساني وطيبتها ونكهتها، وتمرض وتموت، ويظل صاحبها يحيا بلا نفس، وما أبشع أن يحيا الإنسان بلا نفس عملها الأساسي أن تتذوق طعم الحياة، وتحبب صاحبها في كل ما هو حي وتحبب كل الأحياء فيه.
ونفس هذا الظلام كان يحدث أثرا مختلفا تماما عند بعض آخر. كنت تلقاهم قبل أن يطئوا بأقدامهم أعتاب ذلك العالم شبانا مستهترين أو تافهين ومنطوين، كل ما يشغلهم حفلة سينما أو بنت حلوة أو أحلام يقظة، وإذا بهم لا تكاد تمضي شهور حتى يحيلهم ذلك العالم الخافت الضوء البارق بشهب الاتهامات إلى رجال أقوياء، تنبت لهم شجاعة لا أعرف من أين، ويصح لهم حكمة غريبة على سنواتهم الغضة، وتحس أنهم إذا قالوا فعلوا، ولا يقولون إلا ما يفعلون، وتحس بفخر أنكم من شعب واحد، وأن جهودكم كلها ذاهبة إلى هذا الشعب.
وبنفس هذه الروح كنت أنظر إلى شوقي وقد ارتدى ملابسه وفي نيته أن يخرج معي لنبدأ جولة إصدار العدد القادم من المجلة.
كان من الواجب ألا يغادر البيت، أو يغادره متخفيا إلى مكان آمن؛ فمعنى القبض على فتحي سالم أنه هو الآخر مقبوض عليه لا محالة، فماذا يكون فتحي كاتب القصة بجوار شوقي رئيس التحرير المسئول؟ ولكنه سخر من مخاوفي وقال إن الطريقة الوحيدة لكيلا أعتقل أن تزول الظروف التي يعتقل الناس فيها، ولكي تزول الظروف لا بد أن نصدر المجلة، ولكي نصدر المجلة لا بد أن نعمل، والعمل هو الطريقة الوحيدة للمحافظة على سلامته. فلكي يحافظ على سلامته لا بد أن يخرج.
ثم التفت إلي وابتسم وكأنه يصالحني وقال: وعلى العموم أنت عندك حق في حاجة واحدة، إني لازم أعزل م البيت ده النهاردة.
وجاءت زوجته وكأنما كهربتها الكلمة، هي التي يعذبها التعزيل. ونشبت خناقة، ولم تدم طويلا، فضضتها بأخذ شوقي والخروج به.
وحين أصبحنا في الشارع، وأصبح القبض على فتحي سالم مجرد خبر يأخذ طريقه ليسكن في هدوء الذاكرة، وشوقي بجواري كالعملاق، ومحفظته البنية الغامقة تحت إبطه، دفعت سانتي أثقال ما كنت أفكر فيه وأستعيده وخطرت لي، وساءلت نفسي إن كنت أحبها حقيقة وأنا أحيا في هذا الجو الملبد المشحون الذي يصبح الحب فيه شيئا مخلا يعاب ويستنكر. ساءلت نفسي ولم أحتج للإجابة، كنت كمن يضيق أحيانا ويرفع بصره ويتساءل: أين السماء؟ والسماء كبيرة ضخمة هائلة ممتدة من أفق لا بداية له ولا نهاية إلى أفق لا نهاية له ولا بداية.
نعم، كنت وأنا ماش بجوار شوقي أحبها، وأنا أحيا تحت الأرض أراها، وفوق الأرض أراها، وأراها وأنا أريد أن أراها، وأراها وأنا لا أريد أن أراها، هي شوقي ومحفظته والمكان الذي كنا ذاهبين إليه والمجلة وفتحي سالم وخوفي وشجاعتي ، ولولا أني مدرك ومؤمن أني سأراها اليوم ما كنت قد صحوت من النوم أو ذهبت للورش أو ضحكت أو حزنت أو احتملت وجودي على ظهر الدنيا لحظة واحدة، ولجزء على ألف من الثانية.
أحاول أن أتخيل العالم بغيرها، أو أتصور نفسي حيا من غير أن أراها، فأحس كالواقف فوق ناطحة سحاب حين يلقي بنظره مرة واحدة إلى الأرض يحس وكأنما هي التي تخلو به وتسقط من أعلى في سرعة مذهلة لتستقر على بعد سحيق، وليصبح بينه وبينها هوة تورث الغثيان والدوار. ودوار وغثيان هو ما يحدث لي كلما حاولت أن أتصورني بغيرها، أو أتصور العالم بغير أن تكون فيه وأن ألقاها، بل لا أستطيع التصور أكثر من ذلك الجزء، وكما يرتد البصر عن الأرض السحيقة أرتد أنا عن التصور؛ لتعود الروح تسري في، ويعود إلى العالم الجمال الذي يحببني فيه.
وأظل في تلك الدوامة، أرى شوقي بحافظته أو يكلمني فأتذكر عملي الثوري، فإذا ما تذكرت قصوري فيه، والقصور يذكرني بسانتي، وتأنيب الضمير الذي يصاحب تصورها يذكرني بتقصيري، وتقصيري يذكرني بها.
ظللت إلى أن وصلنا إلى المجلة، وهناك وجدنا مفاجأة في انتظارنا لم نكن قد أعددنا لها أنفسنا.
كان الباب مغلقا ومشمعا ومختوما، وما كدنا نقف هنيهة حتى جاء عسكري معين على ما يبدو لحراسة الباب، وحين وجدنا نحوم حوله جاء مصوبا إلينا نظراته الشاكة الحادة، وبسؤال أو سؤالين كنا قد استطعنا تضليله إلى حد ما وهبطنا في السلالم على عجل. وحين رآنا عم حسن بائع السجائر نتستر بالمارة لنغادر الحي كله بسلام خرج من دكانه ونادى علينا، وكدنا نتجاهل النداء لاعتقادنا أنه يريد «الحساب»، ولكنه انزوى في ركن معنا يفهمنا أن البوليس جاء في منتصف ليلة الأمس وفتش المجلة، وهبط ومعه دوسيهات وأوراق كثيرة، وترك عسكري ومخبرين، الجدع اللي واقف هناك دهه مدخل إيده في فتحة الجلابية واحد منهم، والتاني راح باينه يتغدى.
وفقط حين ابتعدنا كثيرا حتى أصبحنا قريبا من ميدان الإسعاف بدأت أشعر بحقيقة ما حدث، والتفت شوقي ، وكانت في وجهه نظرة جادة عميقة قليلا ما كنت أراها، وقلت له: أنت عارف الرد يكون إيه؟
وكل ما فعله أن ألقى علي نظرة جانبية، قلت: إن المجلة تطلع بكرة.
وأنا نفسي عجبت لكلامي؛ فليلة الأمس بالذات كانت أقصى أماني أن أترك سانتي والمجلة وهذا العمل الذي لم أعد أومن إيمانا عميقا بجديته، فكيف يعاودني الإيمان بهذه السرعة وبتلك الدفقة المفاجئة من الحماس؟
قال شوقي: تفتكر نقدر؟
قلت: مش أفتكر، د لازم تطلع بكرة، ونقول فيها برضه إننا نأسف لأن المجلة لم تصدر بالأمس لأسباب «فنية».
ولاحت بسمة خفيفة سريعة في حدقتي شوقي وهو يقول: ونخلي المانشيت: أيها الشعب تحرك.
وحسبته يهزل، ولكنه كان جادا، وبدأنا نضع الخطة والبحث عن الزملاء المحررين وتجميعهم، والبحث عن مطبعة جديدة غير مطروقة وإكمال كتابة المواد أثناء جمع المواد الموجودة ثم الطبع.
وأعجب ما حدث لنا يومها أننا حين ذهبنا إلى مطبعة الدار الصحفية التي كنا نطبع فيها وعرف صاحب الدار بوجودنا، فجأة رأيناه يقبل ناحيتنا. كان علينا بعض الديون، ولكن الابتسامة الغريبة التي كان قادما بها لم تكن ابتسامة مطالب بدين. سلم علينا وما لبث أن وضع إحدى يديه على كتفي والأخرى على كتف شوقي وقال: ماجيتوش تطبعوا امبارح ليه؟
اكتفينا بأن نظرنا له كمن نقول: أنت أدرى بالسبب.
وأدار فينا بصره والسيجارة في فمه لا ينزعها، يخرج دخانها من نارها ومن فمه، وكان ضخما طويلا كالعمالقة لا تستطيع أبدا أن تقسم مهما قال: إنه في صفك. أدار فينا بصره ثم قال: أنا عارف كل حاجة، وأنا تحت أمركم.
قلنا: تحت أمرنا ازاي.
قال: أنا والمطبعة وجرائد الدار ومجلاتها تحت أمركم، وابقوا هاتوا تمن العدد في الوقت اللي يريحكم.
وكدنا نضرب كفا بكف دهشة وذهولا؛ فلم نكن نتوقع أبدا تصرفا كهذا من أحد عمد «الرجعية» كما كنا نسميه، وخفنا أن يكون الموضوع كله فخا منصوبا، وتريثنا وترددنا وتحججنا، ولكن تبين لنا أن لا فخ هناك ولا مصيدة، وأنه حقيقة يعني ما يقول، بل أكثر من هذا وقف بنفسه أكثر من ساعة واضعا السيجارة مطفأة ومشتعلة في فمه يراقب عملية الجمع والتوضيب، وقد أصدر أمره بإخلاء حجرة المصححين لنا لنكمل العدد كتابة.
وجلست أنا وشوقي وعطوة الذي كان قد جاء أصفر الوجه يرتعش بالانفعال. جلسنا نناقش أولا هذا الموقف الغريب لصاحب الدار.
وقال شوقي: وماله؟ احنا بيحصل تناقض بين الرجعية والحكومة، ممكن يحصل، ولازم نستفيد منه.
وكنت أسمع كلامه وأنظر من خلال الزجاج الذي يكون جزءا من جدار الحجرة إلى صاحب الدار ووقفته المهيبة في وسط المطبعة، والحركة الدائبة السريعة لإتمام جمع العدد وتوضيبه وطبعه وأكاد لا أصدق ما يحدث، ولا أصدق أيضا ما يقوله شوقي ويفسر به ما يحدث. هذا الرجل الواقف كان يمثل الدعامة الأولى للحكومة التي كانت قائمة في ذلك الوقت، ومع ذلك فهو نفسه وضع كل إمكانياته تحت تصرفنا لنهاجم تلك الحكومة، ويحدث هذا منه فجأة وفي وقت أغلقت فيه مجلتنا وكاد نشاطنا يتوقف.
ومع هذا، وصدقنا أم لم نصدق، فقد كان علينا أن نعمل؛ فمجرد تصورنا أن المجلة في الغد سوف تغمر السوق وينادي عليها الباعة كما كانوا ينادون، مجرد تصورنا هذا كان يلهينا فننكب على العمل كالمجانين غير مبالين ماذا يمكن أن يحدث غدا أو حتى بعد ساعة.
وأفتح عيني أحيانا فألمح وجه سانتي، وألمحه مشرقا ومبتسما وراضيا عما أقوم به فيلتهب حماسي أكثر، وأحس أني مستعد أن أموت إنهاكا وعملا وتعبا لأرى وجهها مشرقا ومبتسما، ولأراني راضيا عن نفسي غير خجل - لأول مرة منذ عرفتها - من علاقتي بها.
وفتحت عيني مرة فلمحت وجهها أيضا، ولكني لمحته من خلف الزجاج، وحسبتني قد بدأت أخرف ولكنها حقيقة كانت هي. ظللت أتابع وجهها وعينيها وهي تستعرض الموجودين بالحجرة حتى رأت شوقي، وحينئذ استدارت ودخلت واتجهت إليه فورا، وأخرجت من حقيبة يدها ظرف جواب خاص بالبريد الجوي وأعطته له، وتبادلت معه حديثا خافتا قصيرا ثم استدارت لتنصرف، وفقط وهي تستدير لمحتني، وبأسرع ابتسامة حيتني ومضت كسندريللا، كما جاءت.
ولكن اضطرابي ودق قلبي والرجفة التي أصابتني واهتز لها كل ما كنت أفكر فيه لم تكف إلا بعد مضيها بكثير. وعبثا حاولت التغلب على انفعالي والتوهان المفاجئ الذي اعتراني لأنجز ما في يدي والوقت أمامنا ضيق ومشحون. بأية قوى سحرية تؤثر علي هذه المرأة الصغيرة وتحدث في هذا كله؟ بأية قوة غيبية تفرز في دمي كل تلك الكمية من «الأدرينالين» الذي يجعل قلبي يدق هكذا وينبت العرق من جبهتي وتتهدج له أنفاسي؟ ولماذا هي وحدها دونا عن العالم كله؟
وحتى حين عدت للعمل بعد هذا لم أكن قد رجعت إلى حالتي قبل مجيئها، وكل مرة كنت أرى فيها سانتي كنت لا أعود أبدا إلى حالتي قبل رؤيتها، وكان كل مرة كنت أراها فيه كانت تحدث في تغييرات ما، وتترك بصمات ما، قد تبدو خفيفة وباهتة ولكنها موجودة لا تزول ولا تمحى، وتظل موجودة إلى أن أراها مرة أخرى فيتراكم فوق التغييرات تغييرات.
ولم أشأ أن أسأل شوقي عن سبب مجيء سانتي وماذا قالته وقدمته، مع أني كنت أتحرق شوقا لمعرفة كل كلمة قالتها وحتى الطريقة التي قالتها بها. وأعفاني شوقي من مهمة السؤال حين جاء إلى المكتب الذي أعمل عليه ليناقشني في اختيار عنوان. ولمحت ظرف البريد الجوي بارزا قليلا من جيبه ومفتوحا، ومن خلال الفتحة المتناهية الضيق لمحت الحافة الجانبية لبضعة جنيهات. وضبطني شوقي وأنا أحدق فقال وهو يبتسم: نجدة جاءت آخر لحظة. - من مين؟
قلتها رغما عني، وتوقعت أن يزوغ شوقي من الجواب، ولكنه قال: من إسكندرية. - من مصريين؟ - لأ، من خواجات.
مرحى لخواجات إسكندرية الذين يبلغ حماسهم لقضيتنا هذه الدرجة. - بس مش خطر إنها تيجي هنا. - توصيل الفلوس أهم من الخطر، بنت كويسة.
وهززت رأسي أوافقه وأتأمل وجهه لعلي ألمح شيئا آخر.
ولم تلبث حمى العمل أن قطعت الحديث واجتاحتنا.
وفي الرابعة صباحا ونحن في باب الحديد نطمئن على شحن الأعداد المخصصة للأقاليم، كنا ننتهز فرصة الظلام البارد والأنوار القليلة وتختلي جماعة صغيرة في ركن ونفرد المجلة بين أيدينا ونتأمل أقوى وأعنف عدد أصدرناه، وفي أحلك ظروف، وأيضا لا نكاد نصدق أننا فعلنا هذا، وأن الفكرة التي عنت لي ونحن سائرون في الشارع بعد ظهر أمس قد أصبحت حقيقة، وأن العدد فعلا يتوجه مانشيت مكتوب بخط أحمر وبحروف ضخمة غليظة يبعث مرآها في أجسادنا قشعريرة انفعال ورهبة وحماس: أيها الشعب تحرك!
17
وعدت مرة أخرى إلى المواعيد والاتصالات والاجتماعات، لا يهمني كثيرا نهاية الطريق الذي أسير فيه بقدر ما يهمني أنني عدت أسير، ومع نفس الناس، أتغاضى عن العيوب ولا أفكر في الفرق بين الحق واللاحق فيما نفعله، وأحس أحيانا أني أغالط نفسي، وعودتي للعمل تقدم لي في كل ساعة شواهد جديدة على أني كنت في تساؤلي وشكوكي على حق. وأتجاهل إحساسي هذا، كالمدخن الذي يعرف أكثر من غيره أضرار التدخين ولا يملك إلا أن يستمر يدخن، وكأن فترة ضيقي بالعمل واستنكاري لهذا الطريق «الخوجاتي» في التفكير وفي الثورة كان مجرد امتناع مؤقت عن التدخين عدت بعدها إليه، إلى نفس ما ضقت به، نهما، حرمانا، أريد أن أعوض كل ما فات.
وحقيقة صغيرة أخرى كان لها دور في عودتي؛ فأن أمتنع أنا عن التدخين شيء، أما أن تمنعني أنت بالقوة الغاشمة عنه فمسألة أخرى، وإغلاق المجلة والقبض على فتحي سالم واستمرار عمليات القبض والاعتقال. هذا المنع بالقوة والإرغام فيه امتهان لقدرتنا على الإرادة والاختيار، وأي امتهان للتفكير والإرادة لا يمكن إلا أن يقابل بالتحدي ويفرض للإرادة. إنك لا يمكن أن تحرم النملة، أصغر الكائنات، من إرادتها، كما لا يمكنك أن تمنعها من روح الحياة التي تدفعها للحركة والتناسل والبحث عن الطعام، فكيف باستطاعتك أن تمنع الإنسان، أعظم الكائنات وأقواها، من روح حياته، من إرادته، إنك مهما فعلت وخيل إليك أنك انتصرت، فأقصى ما يمكن أن تكون قد فعلته هو أن تكون قد أجبرت الكائن الحي الإنسان على أن يسلك طريقا قد لا يحب هو سلوكه، ولكنه يفعل هذا فقط ليثبت إرادته ووجوده، لكيلا يحس أن إرادة أخرى قد سيطرت عليه؛ فالموت عنده أهون من إحساس كهذا.
إلى أن فوجئت في يوم بأعجب خبر! ولا أذكر من قاله لي، هل هو شوقي؟ هل هو عطوة؟ هل سمعته همسات تتردد على ألسنة بعض الصحفيين؟
كان البارودي قد أفرج عنه.
أية مفاجأة مذهلة؟
مفاجأة دفعتني لأن أصغي رغما عني إلى الهمسات التي راحت تدور على ألسنة بعض الأفراد في ذلك العالم الخافت الأضواء، ولم تكن هذه أول همسات أسمعها عن البارودي؛ فمنذ عرفته واسمه يقرن على الدوام بقائمة طويلة من الألقاب والتهم: الانتهازي، عميل الرجعية، الخائن، الذي يعمل لحساب أقلام المخابرات الاستعمارية ... إلخ، إلخ.
وكانت اتهامات كهذه تتساقط كأوراق المهملات قبل أن تصل إلى أذني؛ إذ كنت أعزو معظمها إلى حقد شخصي على البارودي باعتباره أذكى العاملين تحت الأرض وأكثرهم قدرة على استعمال عقله ووعيه، بل كنت آخذها على أنها نوع من التقدير المعكوس، ولكن بعد ذلك الصراع غير المنظور الذي دار بيني وبينه حول رئاسة التحرير، وإصراره بطريقة غير معقولة على أن يظل هو الرئيس، وبعد ردنا عليه ورده علينا بدأ تقديري له يقل؛ فأن نضبط العبقري في موقف لا يقفه إلا الأغبياء أو غير المخلصين مسألة لا تدفعك للاعتقاد بأنه «أخطأ» كما يخطئ غيره من الناس، ولكنها تفسر على أنه يفعل هذا عن عمد، وأن وراء «خطئه» الظاهر هدفا ذكيا خبيثا. وهكذا لم تتساقط الهمسات التي رحت أسمعها تعليقا على خبر إطلاق سراحه في ذلك الوقت بالذات تساقط الأورق المهملة، بدأت أصغي لها وأفكر فيها. همسات منها أن البارودي خارج من السجن لأن وزير الداخلية في ذلك الوقت ساومه، ومنها أنه أخرج ليكون أداة في يد الوزارة تستعملها للقضاء على التيار الثوري الجديد الذي أصبح يسيطر على المجلة بعده، وعشرات غيرها من الاحتمالات والتأويلات. وكنت أستمع إليها غير مستغرب؛ فلدى اعتقال أي فرد من أفراد ذلك العالم أو الإفراج عنه دائما ما كانت تصاحب أيا من العمليتين إشاعات وأقاويل واتهامات يثبت في معظم الأحيان بطلانها، وفي أحيان قليلة جدا تثبت صحتها، ولكن أحدا لا يسلم منها.
وحين كنت في المطبعة أصحح العمود الأسبوعي، ودق التليفون وقالوا لي إن شوقي يطلبني؛ كان الخبر لا يزال طازجا وما زلت أقلبه على وجوهه، وأهم من هذا أني كنت في شوق شديد للقاء البارودي مهما تكن الحالة التي خرج عليها. كان خبر الإفراج قد دفعني دفعا لمراجعة تلك الفترات الباهرة من حياتي التي عملت معه فيها، وعلاقتنا الطويلة الغريبة التي بدأت ذات مساء في منزل شوقي، والأيام التي كنت أحمل عنه فيها كل ما معه من أوراق سرية خطيرة وأمشي بجواره أو بعيدا عنه، حتى إذا دهمه البوليس في الطريق لم يجد معه شيئا، وأفعل هذا غير مكترث أبدا لخطورة ما أفعله؛ كنت مستعدا أيامها أن أفقد رأسي إذا طلب مني هذا. وحتى فترة خلافنا والصراع الذي نشب بيننا وبينه بدت لي باهتة شديدة البهوت وكأنها لم تحدث أبدا؛ فقد كنت حقيقة أعارضه وأختلف معه ولكني أفعل هذا بروح غير المتأكد تماما من صحة رأيه، وحتى لو كنت متأكدا من صحة رأيي فلو كنت قد خيرت بين رأيي الصحيح ورأيه الخطأ لاخترت رأيه؛ لاعتقادي أن خطأه قد يكون وراءه حكمة تخفى علي.
أمسكت بالسماعة وأنا على يقين أن شوقي سيخبرني عن شيء خاص بالبارودي، وفعلا أخبرني شوقي أن أملي قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقيق، وأنه سيقيم احتفالا صغيرا بمناسبة خروج البارودي من السجن، وأن علي أن أذهب إلى المنزل الجديد الذي انتقل إليه في الساعة الثامنة، وقلت له: والبارودي سيكون هناك؟
قال: طبعا طبعا.
وفي ذلك المساء، في السابعة والنصف كنت آخذ طريقي إلى بيت شوقي الذي اختاره في تلك البقعة شبه المهجورة الكائنة في نهاية حدائق شبرا.
وبصعوبة وصلت؛ فقد كان علي ألا أسأل، والشوارع في تلك البقعة لا تزال جديدة لم تركب لها اللافتات بعد، بل أسماؤها لا تزال محل خلاف، والسكان معظمهم لا يعرفون بعضهم بعضا.
وطرقت الباب تلك الطرقة التي كنا متعارفين عليها، وفتحت راقية زوجة شوقي وهي كعادتها تضحك، وما كاد الباب يفتح حتى فوجئت بضجة لم أكن أتوقعها، ضحكات خافتة وأصوات أناس يتحدثون كلهم في وقت واحد، وصراخ بنت شوقي ذات الستة الأعوام. وحين دخلت لم أستطع أن أحدق في الموجودين أو التعرف عليهم، انتابني كالعادة ذلك الوجل الذي ينتابني حين أواجه جماعة، ومع هذا كنت قد لمحت البارودي، كان جالسا في ركن يتحدث بصوته المنخفض وابتسامته الطفلة، وملامحه هي هي التي أعرفها لم تتغير وإن كان وزنه قد زاد قليلا ووجهه امتلأ امتلاءة المفرج عنهم بعد سجن طويل.
وأحسست بكل حبي له يتجمع في الصيحة التي أطلقتها: حمد الله ع السلامة.
وتوجهت إليه وفي غمرة الانفعال الدافق عانقته وقبلته وحملته من فوق الأرض، وهو يبتسم ويقول: ازيك يا يحيى، ازيك يا راجل؟
وكان جو الحفل قد انقطع بمجيئي، ولكن الجميع سرعان ما عادوا إلى ما كانوا فيه، وكل الحاضرين كنت أعرفهم، والحقل متواضع جدا، عماده بضع زجاجات بيرة وطعام قليل أعدته راقية، وأحاديث كثيرة نصفها ضاحك، والبارودي الذي كان نجم أية مناسبة كتلك، هو الذي يعزم ويتحرك وينكت ويخلق الجو الصاخب المرح بطريقة لا يمكن أن تعتقد معها أنه هو نفس البارودي الزعيم الخطير، هذه المرة كان جالسا صامتا يزوغ من أسئلتنا عما حدث له في السجن، وأحيانا يتطوع برواية أشياء صغيرة غريبة عن الطعام أو المهازل التي كانت تقع في أثناء الذهاب إلى الحمام.
وما كادت تمضي بضع دقائق حتى كانت كل وساوسي قد زالت، وحتى كنت مرة أخرى أحس أني في حضرة البارودي الذي عرفته دائما والذي لم يغير منه السجن جزءا واحدا من تفصيلاته، وحتى كنت أحس بسعادة حقيقية مبعثها إحساسي بالعودة إلى الحياة وسط مجموعة مترابطة قوية أكن لها أقوى الحب ويملؤني وجودي بينها بالفخر، ما أروع الانتماء! كل ما يحدث أنه في أحيان - كأصوات الطلقات البعيدة - يدهمني شعور مربك، ترى ماذا يحدث لو عرف هؤلاء جميعا قصة علاقتي بسانتي؟ أي خزي يصيبني حينئذ وأي عار؟! وكلما حدث هذا كان رد الفعل عندي يقوى، وأحس أني كنت في كابوس طويل علي أن أستيقظ منه، وفي الحال يجب أن أخرج سانتي من حياتي تماما وأعود كما كنت نقيا مستقيما كحد السيف.
وفي لحظة حماس مددت يدي في جيبي وعددت ما فيها من نقود، وجدته مبلغا أكثر قليلا من الثلاثة جنيهات، فقمت وانتحيت بالبارودي ركنا وقلت له هامسا: أنا ما قدرتش أجيب هدية، إنما الهدايا بيننا ممكن تأخذ شكل القرض، خذ دول.
ومددت له يدي مقبضة بالجنيهات الثلاثة، فقال وهو يبتسم بلا خجل: متشكر جدا، إيه الكرم ده!
ومد يده، واستغربت؛ فقد ظل يمدها في اتجاهات كثيرة دون أن تقابل يدي، فقلت له: خد يا أخي ... مالك؟
فقال وأغرب شيء ما قاله: إيدك فين؟
قلت وأنا أضحك: مش شايف إيدي؟ اوعى تكون عميت في السجن. - الظاهر كده.
وسدرت في ضحكي ومررت يدي أمام عينيه لأهوشه فلم يرمش له جفن.
ومن فمه هو عرفت الحقيقة الغريبة التي لم أكن مستعدا أبدا لتصديقها، علمت أن البارودي أصيب بالعمى داخل السجن؛ ولهذا أفرجوا عنه.
والساعات التي قضيتها في الحفلة بعد هذا مرت وأنا مصدوم حائر، لا أكاد أصدق أن عيني البارودي المفتوحتين أمامي كالفناجيل لا تريان، وأنه حقيقة أعمى، وأن كل هذا حدث له داخل السجن، والأهم من ذلك أنه وشوقي وكل الحاضرين غير حزانى ذلك الحزن الشديد الذي كنت أحسه أنا، وأنهم يضحكون.
ولم أفق من الصدمة إلا بعد أن استعدت معلوماتي الطبية، وقلت له ممكن أن يكون أصيب بنوع من العمى النفسي، وأن من السهل علاجه، وناقشت البارودي في هذا الاحتمال، ولكنه أخبرني أن طبيب العيون في السجن يعتقد أن عماه عضوي، ولولا هذا ما أفرجوا عنه، وأضاف أنه حتما سيعرض نفسه على أخصائيين كبار في العيون، ولكنه يائس، وأغرب ما في الأمر أنه كان يناقش المسألة بهدوء وبلا اهتمام كبير خاص وكأنه يتحدث عن مشكلة كليشيه ناقص في أثناء الطبع.
واعترتني نوبة تأنيب ضمير أشد. البارودي الذي شككت يوما في الطريق الذي يقودنا خلاله كان في السجن وأصيب بالعمى وتحمل ما لا يطيقه إنسان، في وقت كنت ألعب فيه أنا وأفقد حماسي للعمل وأعارض وأتهم وأنا طليق.
في تلك الليلة لم أعد وحدي من منزل شوقي، كان معي البارودي وقد شددت عليه حتى قبل أن يقيم معي في شقتي إلى أن ندبر له مسكنا خاصا، وعرضي هذا كان أبسط شيء يمكنني أن أصنعه وأكفر به عن كل ما اعتراني من شك، وكل ما لم أتداركه من تقصير، وكنت سعيدا لا للفرصة التي أتيحت لي لأكفر، ولكن لأنه قبل الإقامة معي، وطوال علاقتنا لم أكن أراه إلا في أثناء العمل، أو لشيء خاص بالعمل، وأمنيتي الكبرى أن يطول نقاشي معه مرة أو يتاح لي أن أجلس معه جلسة لا تقطعها ارتباطاته الكثيرة ومواعيده، أية سعادة إذن أن يقيم معي وأقضي بجواره ما أشاء من أوقات!
وطوال اليوم التالي، وأنا أقوده إلى دورة المياه، وأنا أقرأ له وأكتب ما يمليه علي، وأنا أطعمه ونحن نأكل، وأسرح له شعره حين يغتسل، كنت أفعل هذا بحماس التائب، بحماس الضال حين يعود إلى حظيرة الإيمان، وبحب ممزوج بشفقة غريبة بدأت تتسرب إلى نفسي، الشفقة على البارودي الذي لم أكن أتصور أبدا أن يأتي عليه يوم يصبح فيه محل شفقة أحد، وبالذات محل شفقتي أنا.
ولكن اليوم ما كاد يقترب من نهايته حتى بدأت أدرك فداحة الموقف الذي وضعت نفسي فيه، في الرابعة والنصف دق جرس الباب، وكنت أعرف أنها سانتي.
وبدأت أفيق.
أو بالأحرى بدأت مرة أخرى أروح في الغيبوبة التي اعترتني منذ عرفتها، غيبوبة علاقتي بها، تلك الغيبوبة التي قطعها لفترة وجيزة خروج البارودي، الغيبوبة التي أصبح فيها مجرد كائن لا يربطه بالحياة إلا تلك الساعات القليلة التي يقضيها يتحدث فيها معها أو يتخيلها حين تغيب ويحلم بها، وكان لا بد أن أفتح الباب.
واستأذنت منها أن تنتظر لحظة.
ولم أتردد، قلت للبارودي: إن قريبة لي قد جاءت تزورني، واستصحبته إلى الغرفة التالية وهو مستسلم لا يضايقني منه إلا ابتسامة عادية جدا لم تبرح فمه، وهو يستند إلى ذراعي في طريقه إلى حجرة النوم الداخلية.
وجلست مع سانتي ولم تكن الجلسة ممتعة لكلينا. كانت قلقة وكنت قلقا، ويبدو أنها أدركت أنني أعاني من حرج ما، فقالت على الفور: هل عندك أحد؟
وترددت هنيهة بين أن أكذب أو أقول الحقيقة، وأخيرا قلت: عندي البارودي، هل تعرفينه؟
ولمحت اصفرارا مفاجئا خفيفا يلون وجهها لومضة، وقالت بصوت شابه بعض التغيير وكأنما لونه الاصفرار: سمعت عنه كثيرا، ولكني لم أقابله.
وبأسرع مما خمنت وجدت اللهفة تعود تنتابها، والشغف يكاد يفقدها سيطرتها على نفسها وهي تقول: كيف هو؟ يقولون: إنه رفيع وذكي جدا، هل هو عبقري صحيح؟ هل ممكن أن أراه؟
قلت لها وأنا أريد أن أخيب أملها عن عمد: طبعا غير ممكن.
ويبدو أن كلماتي ولهجتي فعلت فعلها؛ فلم يلبث حماسها أن برد وذهبت اللهفة عنها، وقالت بعد فترة صمت وهي تفتعل عدم الاهتمام: سمعت أنه خرج أعمى من السجن، هل صحيح؟
كان السؤال بسيطا وطبيعيا، ولكني لم أكن أستطيع الإجابة عليه؛ فمنذ عرفت الخبر وهاتف قوي داخلي يلح علي ويؤكد لي أن البارودي لا يمكن أن يكون قد فقد بصره حقيقة داخل السجن، أما لماذا يفعل هذا ويدعي العمى فسؤال لم أكن أجرؤ على مواجهته ومحاولة الإجابة عليه؛ إذ معناه أن أكفر بالبارودي وبكل الطريق الذي سلكته ردحا طويلا من الزمن وعدت أسلكه بحماس أشد، ولم أكن أريد أن أكفر به وبالطريق، ولكني في نفس الوقت لم أكن أريد أن أخدع نفسي وأخالف ضميري.
فقلت لها وأنا أبتسم: يقولون هذا.
قالت: وأنت؟ ألم تره؟ هل هو أعمى فعلا؟ هل فقد بصره؟
قلت بضيق قليل: يبدو هذا.
قالت بالاستنكار: يبدو؟ ألا تعرف أنت؟
قلت: نحن بانتظار تقرير أحد الأساتذة.
وحاولت أن أغير الموضوع، وكانت المحاولة صعبة؛ فلم يكن عندي موضوع حقيقي جديد أستبدل به الحديث، الوضع بيني وبينها كان قد وصل إلى حد معين، ذاك الحد الذي يصبح فيه الكلام نوعا من السفسطة والتفاهة. كان مفروضا بعد المشهد الذي حدث بيننا إما أن تنتهي علاقتنا عند هذا الحد ونفترق، أو أمضي معها إلى آخر الشوط فتستمر علاقتنا إنما على مستوى آخر غير المستوى الذي كانت فيه، ولكن علاقتنا لم تنقطع، وأيضا لم تنتقل إلى هذا المستوى، وظللنا في فترة الترقب والانتظار التي تتبع أي هجوم فاشل. علاقات الحب هي الأخرى تنمو كما ينمو الكائن الحي ولا بد أن تستمر تنمو، وكل مرحلة من مراحل نموها لها خصائصها، والحديث يصلح لعلاقات الصداقة أو المعرفة الجديدة، أما وقد وصل الموقف بيننا إلى تلك المرحلة الحرجة، أنا أصارحها بحبي وهي تقف موقفا مائعا لا تريد أن تقبله ولا تريد أن ترفضه، فأي حديث يصلح لهذا الموقف؟ لا بد أولا من حسم الأمر والانتهاء من هذه النقطة لنصعد بعلاقتنا درجة أخرى، ونتبادل أحاديث من نوع آخر.
وهكذا كان الحال بيني وبينها هذه المرة، نظرات أصوبها إليها وأحاول أن أقول بها كل ما لا يستطيعه لساني، وتهويمات حول حبي لها من بعيد أحاول بها أن أدفعها بتؤدة ورقة لأن تتكلم هي عن علاقتنا، ولكنها تدرك بالغريزة كنه نظراتي وتهويماتي، ولا تفعل شيئا أكثر من أن تبتسم بملامحها الشديدة الدقة الشديدة البياض. ابتسامات محيرة، ابتسامات مراقبة، لا تريدني أن أعتقد أنها تشجعني أو تثبطني، ولكنها تترك لي حرية أن أبدأ ثم أتراجع، وأتقدم ثم أتأخر، وأرتبك وأتلعثم، وأحيانا أفلح في نطق بضع جمل متكاملة لها معنى.
وغيرت هي الحديث مرة وسألتني: هل رأيت شوقي أخيرا؟
وكنت قد رأيته طبعا؛ فعملي معه يحتم علي أن أراه عدة مرات في اليوم، ولكني قلت: كويس، ولو أني لم أره من مدة.
لا أعرف لم كذبت، ولا أعرف أيضا لم رحت أتحدث عن شوقي متعمدا أن أشيد بمواهبه وشخصيته وحبي له.
ولكني كنت في أثناء حديثي عنه أفكر بطريقة أخرى، لماذا تسألني عن شوقي، ربما لتخلق موضوعا للحديث، وربما لأنها لا تراه، وربما لأنها مشتاقة إليه.
وعند هذه النقطة الأخيرة بدأت ملامحي تتجمد.
وبدأت أنظر لها نظرات الزعل الخافت المستطلعة التي تريد أن تسأل ببراءة ودون أن توجه إليها تهمة السؤال.
ولم أجد في ملامحها شيئا، كل ما وجدته تعب. كانت ملامحها تبدو تعبة وكأنها لا تجد شيئا ينشطها.
وكان علي لكي أنشطها وأستثيرها أن أبدأ معها محاولة جديدة، ولكني سررت؛ فوجود البارودي في الحجرة المجاورة كان عذرا وجيها أقنع به نفسي بعبث المحاولة.
وحين آن الأوان وتهيأت لمغادرة الشقة، حرصت على أن أسألها متى ستجيء، ولم أكن في العادة أسألها، وحين أجابتني: غدا طبعا؛ استعدت إجابتها وقلت وأنا أشد عليها: لا بد أن تأتي.
وابتسمت وفتحت الباب وخرجت.
وجاء البارودي إلى حجرة المكتب وهو يستند إلى حائط الصالة ويتعرف على الباب والمقعد، ولم أشأ أن أساعده ورحت أراقبه وهو يتحسس طريقه وكأنما لأدرك من طريقته في تلمس الأشياء هل هو أعمى فعلا أم يمثل دور أعمى.
وجلسنا نتحدث وأنا أحملق فيه بعيني، وعيناه مفتوحتان إلى آخرهما تحملقان في، وأبتسم فجأة لأرى إن كانت ملامحه ستتبدل تحت وقع ابتسامتي ويكون معنى هذا أنه يراني، ولكن ملامحه لا تتبدل، ومع هذا أبقى غير مصدق أبدا أن عينيه هاتين لا تريان ... عيني ذلك الذكي الداهية الذي ما رأيت في حياتي أذكى ولا أبرع ولا أخطر منه.
قال لي، وكانت له طريقته التي لا يبذل فيها أي جهد لاستخراج أية معلومات يريدها مني، قال: هيه ... وازاي قريبتك؟
وضحك.
ما فائدة أن أكذب وهو حالا سيعرف؟ فقلت: دي صديقة أجنبية.
قال: وجاية ليه؟
قلت: باساعدها في إتقان اللغة العربية. - هيه ...
همهم هكذا وهو يهز رأسه وملامحه هزة كنت أعرف ما تعنيه جيدا، وقال كأنما يحدث نفسه: أيتها اللغة العربية، كم من الجرائم ترتكب باسمك؟
وضحكت على مضض لأجعل ما قاله يأخذ شكل النكتة، وضحك هو الآخر، ولكني كنت متأكدا تماما أنه يتكلم جادا ويعني ما يقول، وقطع مرة كلامه الجاد الهازل وقال لي بلهجة مغايرة: إذا كنت عايز رأيي، بيتهيألي أن أحسن بلاش حكاية العربي دي .
قلت باستغراب واستنكار ودهشة، والدهشة وحدها كانت مفتعلة: ليه؟ إشمعنى؟
قال: دي لخبطة دي، بيتك مطروق، وأنت معروف، وناس كتير بييجوا هنا، دي لخبطة دي.
وسكت.
وسكت أنا الآخر؛ فقد كان من المستحيل علي أن أقتنع أنها لا يمكن أن تجيء، فليفعلوا أي شيء، ولكن لا بد أن تجيء سانتي كل يوم كما تعودت أن تجيء.
وبدأ إحساسي بالضيق من البارودي ووجوده معي في المنزل يزداد إلى درجة بدأت أفكر معها في وجوب التخلص منه والعودة إلى الحرية الوحيدة التي لا أريد سواها، حريتي في أن أقابل سانتي في مكان آمن خال.
ولم يكن التخلص من البارودي بالأمر السهل؛ فقد كنت أريد أن أفعل هذا دون أن يشعر أو يحس أني دبرت هذا الأمر أو أن لي فيه يدا، ونوبة صغيرة من تأنيب الضمير راودتني؛ فقد كنت أعرف ألا مكان لإقامته، لا مال لديه، ولكن أي شيء في الدنيا كان لا يمكن أن يحول بيني وبين لقائها.
وكتبت خطابا لوالدتي وأختي أدعوهما للقدوم إلى القاهرة للتفرج على المعرض، وحين كنت ألقي الخطابات في صندوق البريد تنبهت إلى حقيقة ما أفعله. البارودي الذي كنت على استعداد دائم للتضحية بروحي وبكل ما أملك من أجله، ها أنا ذا أدبر عن عمد وإصرار طرده من البيت وهو خارج من السجن مفلسا أعمى. وأدهى من هذا أني لا أتردد فيما أفعله ولا أستطيع التردد وكأني أتصرف رغم إرادتي، ولا أقول رغم إرادتي مجازا ولكنها الحقيقة؛ فقد كنت لا أملك منع نفسي من عمل ما أقوم به، كالميت من الظمأ حين يضحي بأعز الناس لديه - بابنه حتى - في سبيل أن يبلل شفتيه بجرعة ماء، وكأنه قد تولد بينه وبين الماء انجذاب أخطر من أي قوى طبيعية، انجذاب يصل إلى درجة الجنون والتوهج، نفس الدرجة التي تحدث الشرارة الكهربائية بين قطبين. أية إرادة تستطيع أن تمنع حدوث أي شيء وقد وصل الأمر درجة التوهج؟
بعد أن ألقيت الخطاب في الصندوق لم أحس إلا بنوبة صغيرة أخرى من تأنيب الضمير ، ونوبات تأنيب الضمير كلما قمت بعمل أشك في صحته كانت تطول عندي وتطول. وكمن يتبين الشيء وهو على الحافة الكائنة بين اليقظة والمنام، أدركت بذهول قليل أني قطعا لم أعد نفس الشخص. إن علاقتي بسانتي غيرتني، لم أعد أنا، يحيى لم يعد يحيى، أصبح يحيى الذي يريد سانتي وبلا إرادة لسانتي لا يكون يحيى، لا أكون أنا، لا أكون حيا، لا أستطيع أن أحيا إذا لم أردها.
وخفت.
أحسست بأخطر ما يمكن أن يحس به إنسان، أحسست بأن حياتي ووجودي كله يعتمد على شخص آخر، أو على رغبتي في هذا الشخص الآخر، تصور حين تحس أن حياتك أنت تعتمد على استجابة شخص آخر لك، وكأنكما جنينان يعتمدان في حياتهما على حبل سري واحد! ماذا يحدث لو أراد الشخص الآخر أن يستقل بوجوده؟ ماذا يحدث لو لم يستجب هذا الشخص الآخر لرغبتك ونفر منك؟ ألا يكون هذا يقطع حبل حياتك نفسها؟ يقتلك؟
أحسست بالخطر، بل بأغرب خطر تعرضت له حياتي منذ وعيت. خطر أخطر ما فيه أن شعورك به يزيد الأمر خطورة؛ لأنه يزيد من ارتباكك ويزيد من عدم ثقتك بنفسك وذوبان شخصيتك، ويزيد من خوفك على علاقتك بهذا الشخص الآخر، وبهذا يزيد من احتمال أن تنقطع علاقتكما؛ فأحيانا لا تنقطع علاقتنا بالآخرين إلا لخوفنا من أن تنقطع.
روعني بأني أدركت أخيرا أن علي أن أواجه ذلك الأمر الذي كنت دائما أريد أن أتجاهله. أدركت أني خائف خوف الموت أن تنقطع علاقتي بسانتي، وأني في سبيل هذا مستعد أن أفعل أي شيء، والمصيبة أني قد أفعل أي شيء وكل شيء، ومع هذا تنقطع علاقتي بسانتي؛ لأن علاقتي بها لم تكن تتوقف على بطولات أو تضحيات أقوم بها، ولكنها كانت تتوقف عليها هي وعلى مزاجها ورأيها. والرأي والمزاج أشياء لا يمكن لشخص غير صاحبها أن يتحكم فيها، بل حتى صاحبها نفسه أحيانا لا يستطيع أن يتحكم فيها. أليس من المعقول إذن أن يتولاني الرعب حين أحس بأن حياتي، بل ما هو أكبر وأغلى من حياتي، بالعالم نفسه بالنسبة إلي، كل ذلك متوقف على مزاج سانتي، بل حتى لا يتوقف على مزاجها وإرادتها وإنما على قوى وعوامل غامضة لا يمكن التنبؤ بحكمها أو بما يؤدي إليه؟
ألقيت الخطاب في الصندوق وعدت إلى البيت، وطوال الطريق كنت أصمم وأقسم وألح على نفسي وأشتمها وألعنها وأطلب من إرادتي كلها أن تتجمع، ومن كياني كله أن ينتفض، ومن ماضي وذكرياتي وكل شيء يخصني في هذا العالم أن يأتي لنجدتي ويساعدني لأستطيع أن أتخلص من علاقتي بها، أو على الأقل لأقاوم علاقتي بها، أقاومها وكأني أقاوم طاعونا أبيض غير مرئي يتقمص روحي.
وكالعادة وكما كان يحدث دائما، أحسست مثلما كنت أحس في كل مرة أدرك فيها شيئا كهذا أني قوي قوى لا حد لها، وأني أستطيع أن أقاوم أي سانتي فأمحو صفحتها من نفسي مهما كانت صفحتها، وأتحرر - أجل - أتحرر، وأعيش - أجل - أعيش؛ فكيف أكون حيا إذا كانت إرادتي في أن أحيا ملغاة، وإرادة شخص آخر - ولتكن سانتي - هي التي تقرر مصير حياتي؟
والمشكلة الكبرى أنني كنت أنا الذي صنعت بنفسي كل هذا، وصنعته بإرادتي. قيدت نفسي إليها بإرادتي، وبإرادتي أريد أن أكسر قيودي؛ فمن أين آتي بإرادة لي تلغي إرادتي؟ وكيف أحطم بنفسي بنيانا لا تملك نفسي إلا أن تبنيه وتستمر تبنيه؟
فلأثر إذن ما شاءت لي الثورة، ولأحس بنفسي قويا، وبإرادة جديدة تنبعث في نفسي؛ فأنا خير من يعرف أن هذه كلها إن هي إلا انفعالات وقتية لا يمكن أبدا أن تصمد لتجربة.
بنفس هذه الروح وصلت البيت، وبنفسها أيضا بدأت نقاشا جادا مع البارودي، واختلفنا اختلافا جذريا هذه المرة، اختلافا أدركت معه أننا لو مددنا خطوط تفكيرنا إلى آخرها لوجدناه يؤمن بطبقية التفكير مع أنه يطالب بإلغاء الطبقية في المجتمعات. كان الخلاف حول سياسة المجلة.
وكان من رأيه أننا يجب ألا نخضع للنزوات الوقتية للجماهير، ولكن علينا أن «نقود» الجماهير إلى الأهداف التي نؤمن بها. والحقيقة أني كنت قد بدأت في الفترة الأخيرة، وخاصة بعد عملي في الورش واحتكاكي المباشر بالعمال، بدأت لا أومن كثيرا بخدعة «قيادة» الجماهير هذه لتحقيق الأهداف التي نؤمن نحن بها. كل من هب ودب يدعي أنه يقود الجماهير لمصلحتها التي أدرك بفطنته وبعد نظره كنهها، والمنادون بهذا في كل الدول والبلاد يتنافسون في الأهداف المثالية التي يريدون أن يقودوا الجماهير إليها، عوالم أفضل، مجتمعات بلا مشاكل، ديموقراطية كاملة، دنيا بأزرار، كلها أهداف جميلة ورائعة جدا، والكل يعمل لمصلحة الجماهير وباسم الجماهير، ولا أحد يتفضل ويسأل هذه الجماهير عن كنه ما تريده هي، كلهم يعتبرون الشعب مجرد طفل قاصر لا يعرف مصلحته، ويعينون أنفسهم أوصياء عليه بالزلفى وبالقوة، حتى ليصبح الخارج على إرادتهم خارجا على إرادة الشعب، والمعارض خائنا لمصالح الشعب.
ذلك رأي، ولكن هناك رأيا آخر لا يقر مبدأ الوصاية على الناس باعتبارهم قاصرين؛ إذ حتى الجاهل منهم أكثر فهما لظروفه ومصالحه ممن يزعم لنفسه أنه أفهم منهم وأوعى، رأي يرى أن «التقدم» ليس هو في جر الناس جرا لتحقيق أهداف نضعها نحن لهم، ولكن التقدم الحقيقي هو أن نهيئ للناس فرصا أكبر وأوسع لكي يحددوا أهم أهدافهم ويسيروا نحوها بالسرعة التي يرونها تتناسب ومقدرتهم، بأن نرفع العقبات من طريقهم، بأن تصبح لديهم مجالات أوسع للاختيار والتفضيل.
التقدم ليس هو أن نفرض على حقل من الزهور أن ينتج لنا كمية معينة من الرحيق في كمية محددة من الوقت، التقدم هو أن نهيئ الفرصة لكل زهرة في الحقل كي تتفتح، كي تصبح أولا زهرة، فإذا ما تفتحت كل الزهور ربما حصلنا على رحيق أكبر وأكثر تنوعا، ربما حصلنا على أنواع منه لم تخطر لنا ولا كان باستطاعتنا أن نحددها قبل أن توجد.
شيء جميل أن تعي الأزهار أنها منتجة للرحيق، ولكنه خطير في نفس الوقت؛ فإنتاج الرحيق وظيفة واحدة من وظائف الأزهار، فإذا كرست الأزهار نفسها من خلال هذا الوعي الواحد الضيق لكي تصبح مجرد آلات صماء لا عمل لها إلا إنتاج الرحيق، فأقل ما يحدث هو أن تتوقف بقية وظائفها الأخرى، يتوقف تطورها، يتوقف تكوين الثمار والبذور، وبهذا تتحول من مجرد أزهار، مجرد حلقة في سلسلة متصلة الحلقات من عمليات النشوء والتحول والارتقاء، إلى عامل معطل، يصبح الوعي المحدد الناقص في النهاية سلاحا يصيب الأزهار نفسها أول ما يصيب.
باحتداد النقاش بدأت أتبين أن خلافي مع البارودي خلاف أساسي، هو يرى أن وعي الإنسان بنفسه يجب أن يكون هو القيمة العليا، وأنا أرى أن الإنسان نفسه بوعيه وبلا وعيه وبصوابه وخطئه هو القيمة العليا، المشكلة في نظره هي الغاية والمبادئ بصرف النظر عن الوسيلة لتحقيقها، والمشكلة في نظري هي الناس الذين سيحققون هذه المبادئ أو يحققون غيرها، هو يرى أن نسخر الناس لتحقيق الأهداف التي رسمناها لهم، وأنا أرى أن نسخر أنفسنا لتحقيق أهداف ناس مهما بدت ساذجة في نظرنا وقصيرة المدى. هو يرى أن الناس أقل وعيا منا، وأنا أرى أن وعينا مهما بلغ ليس أكثر من قطرة في محيط وعي الناس باعتبارهم جسد الحياة وعصبها الأكبر.
هو يقول: قيادتنا للمجلة لا تعجبكم، وتريدون أنتم أن تتولوا أمرها، أنتم بهذا تتجاهلون أننا أكثر منكم خبرة وثقافة ووعيا.
وأنا أقول: معنى هذا أنكم ممكن أن تظلوا ترأسون التحرير إلى الأبد؛ لأنه لا يمكن أبدا أن ينشأ جيل يصبح أكثر منكم خبرة وثقافة ووعيا؛ لأنكم دائما ستظلون السابقين.
فيقول: وما الضرر في هذا؟
فأصرخ: الضرر أنكم بهذا تنصبون أنفسكم قادة أبديين لنا. الضرر أنكم تدعون احتكار الوعي واحتكار الخبرة والثقافة، وتطلبون من الناس أن يسلموا بولايتكم الأبدية هذه، بلا نقاش أو جدال.
فيقول: الضرورة التاريخية تحتم هذا.
فأقول: الضرورة التاريخية؟ خاتم الملك الذي باستطاعة أي منا أن يضعه في أصبعه ليعطي نفسه الحق في الجلوس على العرش، فإذا حاول أحد أن يسأله أو يناقشه اتهمه بالوقوف في وجه حقه المقدس، في وجه الضرورة التاريخية. أنت مثلا غبت في السجن سنوات جرت فيها أحداث وتبدلت أحوال، ومع هذا تصر على أنك أوعى بما حدث منا، ونحن الذين عشنا هذه السنوات ومشاكلها ، فإذا جرؤنا على معارضتك أصبحنا متمردين على القيادة نعترض طريق التطور والتاريخ. القيادة في نظرك هي إرادة التاريخ، هي وارثة الحق الإلهي في حكم الناس، هي المنزهة عن الخطأ.
قل لي بربك: لو أخطأت هذه القيادة مثلا، أو لو خانت وتواطأت مع الأعداء، أو انحرفت عن الطريق، فمن يبصرها، ومن يحاسبها، ومن يقول لها لا؟ وهي التي باستطاعتها ومن حقها أن تفصل وتدمغ وتتهم أي خارج عليها، وبهذا تضمن لنفسها بقاء أبديا لا يعكره معارض أو محاسب.
وضاق البارودي بالنقاش، وقال: اسمع، نحن نتناقش على أساس خاطئ؛ فليس مفروضا أن تخون القيادة؛ لأنها حينئذ إنما تخون نفسها، وأيضا ليس المفروض أن تخطئ، فإذا أخطأت فعليها هي أن تكتشف الخطأ وتصلحه. هي العقل المفكر إذا أردت أن تقول هذا، وعلى العموم أنا غير موافق أبدا على الروح التي تناقشني بها، والتي لا تتحدث فيها بالاحترام الواجب عن قادتك وقيادتك.
وأصبحت بإجابته هذه أكثر ضيقا، بل بدأ شيء باهت يتسرب إلى نفسي ويوسوس لي أن البارودي ليس فقط مخطئا في رأيه، ولكنه يخطئ عن عمد، ولأهداف خفية. وما العمى والإفراج وادعاء المسكنة والإفلاس إلا أجزاء متكاملة لخطة واحدة.
وكنوبة الغروب التي يطلقها نفير البحرية، وبحزن مندى بالعتب والغضب والاستنكار، وجدت الخاطر يعود ليطرق عقلي. أيمكن أن يكون البارودي قد أفرج عنه في هذا الوقت بالذات، وقد كدنا نضع أيدينا على المجلة وسياستها ليحول بيننا وبين ما نريد، وليعود التيار المتهافت القديم يسيطر على المجلة من جديد؟
وفتحت فمي أسأله سؤالا، ولكنه قال: أرجوك، أسمعنا موسيقى أفيد.
ورحبت بالاقتراح الذي أعفاني من مهمة السؤال، ومن تلكؤ الخاطر أطول من اللازم في عقلي.
ولم تفعل الموسيقى أكثر من أنها مضت كنار المدفأة الهادئة أو كحرارة أفران الخمائر راحت تسوي أفكاري على مهل وتنضجها وتساعد على تفاعلها. أشياء كثيرة أصبحت تشغل بالي، أشياء ليست متعلقة بالمجلة وسياستها فقط، ولكنها عموميات تبدو المجلة جزءا صغيرا من أجزائها.
هذا النقاش الذي دار مع البارودي أنا نفسي كنت أعجب له، لم أكن قبلا أفكر هكذا، بل قبلا لم أكن «أفكر» أبدا. كنت أحيا كالسهم المطيع المندفع، ولكني أردت أم لم أرد، ها أنا ذا قد وصلت إلى مرحلة بدأت أفكر فيها، لم أعد أهضم إقدامي على عمل ما لم أكن مؤمنا تماما بصحته، وأمثالي لا يرحب بهم أمثال البارودي كثيرا. إنهم متعبون، أو كما درجوا على تسميتهم «مثقفون ليبراليون»، يفكرون لأنفسهم بأنفسهم، وهم يريدون جنودا وعساكر لينفذوا فقط ما يفكرون هم فيه، ويريدون جيشا هم وحدهم أصحاب الحق في أن يفكروا له، وما على البقية إلا السمع والطاعة، يريدون «جسدا» لهذا «العقل المفكر».
وحتى حين أمرت نفسي بالتنازل عن كل آرائها وأفكارها وعدت، كنت أخدع نفسي؛ فمن تعود أن يفكر لا يمكنه أبدا إلا أن يظل يفكر، بل ما أكثر ما تمنيت أن أناقش البارودي مرة مثلا فيقنعني بخطئي وأعود كما كنت. ولكن نقاشي معه كان يزيدني اقتناعا بصوابي وبضرورة أن أستمر في طريقي، ورغم هذا أظل أتمنى أن يثبت في النهاية أني أنا المخطئ وأنهم كانوا على صواب، أتمنى أن يثبت أن خطأهم صواب وأن صوابي خطأ، وأن ينجحوا هم وأفشل أنا؛ ليكون هذا عزائي عن عدم قدرتي على عصب عيني وعقلي والمضي معهم في طريق واحد.
ونفس الموقف تجاه سانتي؛ فأنا أعذرها في موقفها مني وأعذر نفسي في موقفي منها. أنا حائر معها وهي حائرة معي، أريد استئصالها من نفسي لأريحها وأريح نفسي فلا أستطيع، وأتعب وأتعبها معي. ثائر على ضعفي تجاهها ثورة عظمى، وثائر على قوتي التي تقف عاجزة أمام هذا الضعف ثورة أعظم. أحبها بضعفي وأريد قتل هذا الحب بقوتي فلا تستطيع هي أن تمد يد العون لتغلب ضعفي على قوتي أو تغلب قوتي على ضعفي.
وها أنا ذا كالتاجر الذي لم يعد يعرف مكسبه من خسارته، كلما خلا إلى نفسه أو كلما عزلته الموسيقى أو الوحدة أو الحياة عن واقعه وعما حوله؛ أخرج دفاتره القديمة وأوراقه ومضى يعد ويحسب، ويخرج من عده وحسابه كما يخرج كل مرة دون أن يصل إلى نتيجة أو قرار.
18
قبل أن أغادر البيت إلى عملي في الصباح، كان شوقي قد جاء ليستصحب البارودي لحضور اجتماع على مستوى عال، وحين أصبحت وحيدا أو بعد عني البارودي بمناقشاته وملاحظاته بدأت أفكر في التراجع، وفي أن أكتب خطابا آخر لأمي وأختي أطلب فيه عدم الحضور ليظل هو معي، لا للأسباب التي أنبت نفسي عليها في اليوم السابق فقط، ولكن لأني من طريقته في نقاشه معي عن سانتي أدركت أنه لم يأخذ كلامي عنها ببراءة، وأن من المستحسن أن أنفي له ما قد يتصوره من ظنون وأن يبقى معي في البيت ليرى بنفسه أن تردد سانتي علي ليس فيه ما يدعو إلى الشك.
كنت قد قررت هذا، وفقط ظللت أنتظر إلى أن تتجمع جرأتي وأستطيع أن أنفذ القرار.
ولكني فوجئت بقرار آخر غير إرادتي، لم يكن لي على بال.
فقد عاد البارودي في الظهر مع شوقي، وتناولنا الغداء معا، ومكث شوقي بعد الغداء قليلا ثم مضى.
وبينما نحن نتأهب لنومة القيلولة قال البارودي وهو يخلع ملابسه: على فكرة، سانتي دي بلاش تيجي هنا.
واستغربت لكلامه؛ فقد كنت أظن أن الموضوع لم يأخذ من انتباهه كل هذا القدر، وقد تأكدت أنه أخذ مجيئها على المحمل الذي لم أكن أريده أن يأخذه عليه، وأحسست بالضيق وعدت مرة أخرى أشرح له أن ما تجيء من أجله لا يتعدى السبب الذي ذكرته له، ودارت المحاورة التي ذكرتني بالكثير من المحاورات التي كانت تدور بيني وبينه حين يكون الحق بجانبه في الظاهر وأكون أنا عاجزا عن إنطاق حقي فيفحمني، وأحاول الصمود ويعود فيفحمني؛ فأزداد استمساكا بموقفي.
وقال وكأنما يريد أن ينهي النقاش: على العموم ده مش أمر مني، ده مجرد رأي بقوله لك وأنت حر.
وكان معنى هذا أن كلامه أمر غير رسمي. وأدركت أني كنت على حق في الحيلة التي لجأت إليها للتخلص منه.
ومضى يومان طويلان لم أر فيهما سانتي؛ إذ كان لا يمكن أن أراها والبارودي موجود. لورا هي التي جاءت أكثر من مرة، ولم يزحزحها عن الدخول وجود البارودي ولا تعليقاته الساخرة على بيتي الذي أصبح مدرسة وأصبح في حاجة إلى ناظر.
وخلال اليومين كنت أنتظر مجيء العائلة بصبر نافد، وأخيرا وفي صباح اليوم الثالث جاءوا. وكانت المقابلة الصاخبة وضجة الترحيب المعتادة. وفوجئوا بوجود البارودي في البيت، ولكن البارودي لم يفاجأ بمجيئهم، بل لم يبد عليه أية بادرة تدل على أن في نيته مغادرة البيت، وكان من الطبيعي جدا أن يحيا معنا وفي وجود أخواتي البنات.
غير أنه قال لي حين انفردت به: أظن مفروض أني أمشي؟
ولم تعجبني الطريقة التي سألني بها؛ فقد كان واضحا أنها طريقة من يتوقع أن تجيبه بقولك مثلا: لا، لا داعي أبدا لهذا.
وفي إجابتي له حاولت أن أحوم حول الموضوع وأفهمه بطريقة غير مباشرة أن للقاطنين في الأرياف تقاليد، وأننا لسنا متحررين إلى هذه الدرجة.
وفهم البارودي أن عليه أن يغادر البيت.
وحين جاء شوقي بعد الظهر ناقشنا المشكلة، وقررنا أن ينتقل ليقيم مع عطوة في بيته، وخرجا سويا وشيعتهما إلى الباب وأنا أحس بارتياح عميق؛ فرغم كل ما فعلته ودبرته كان يخيل إلي في أحيان أن مغادرة البارودي للبيت مسألة مستحيلة، وإذا حدثت فلا بد أن تتم بمعجزة.
وعدت إلى العائلة الصغيرة، أمي وأختي الكبرى محاسن وأخي صفوت وعواطف الصغرى، وتحدثنا، وتأملوني كعادتهم، وتأملوا صحتي وشقتي، وما استحدثته فيها من تغيير، وفرجتهم على المعرض، وأدخلتهم السينما وتعشينا، وكنت أفعل هذا كله من وراء نفسي؛ إذ كنت أفتش عن ذرة رغبة واحدة تدفعني لكي أفعل ما فعلت دون جدوى. كنت طوال الوقت معهم وطوال الوقت أتمنى لو انتهت زيارتهم فورا لكي يصبح في استطاعتي أن أقابل سانتي.
وحين عن لهم أن يقضوا يوما آخر بدأت تصرفاتي معهم يشوبها نوع من الجفوة كانت تصدر مني رغما عني، وأؤنب لها نفسي كثيرا، ولكني لا أملك منعها ولا التحكم فيها. ويبدو أنهم أحسوها أخيرا؛ ففي اليوم الثالث وجدتهم يوقظونني في الفجر، وحين صحوت وجدتهم جمعوا حوائجهم وارتدوا ثيابهم وإن كان النوم لا يزال يملأ عيون الصغيرة عواطف. كانوا قد تهيئوا للعودة ولم يبق إلا أن يسلموا علي. وقلت كلاما فاترا سخيفا كثيرا عن ضرورة بقائهم أياما أخرى، وأن هذا لا يصح، وأقسمت عشرات الأيمانات آمرهم بها أن يلغوا مشروع السفر و... و... إلخ هذه الأقوال الجوفاء التي نرددها في لحظات كتلك ولا نعني بها شيئا؛ فقد كنت في قرارة نفسي أتمنى ألا يتراجعوا وأن يظلوا ماضين في مشروع السفر إلى نهايته.
ولم يتراجعوا، سلموا علي وهبطوا في السلالم شبه المظلمة وهبطت معهم لأوصلهم إلى التاكسي وأنا أؤنب نفسي تأنيبا حادا مريرا؛ إذ لا أجد لدي أدنى رغبة أو إرادة تدفعني لتوصيلهم للمحطة.
وحين ركبوا العربة، ومضت ولم أعد أرى منهم سوى أيد خارجة من النوافذ تلوح ووجوه تطل علي من خلال الزجاج الخلفي وتلمع عيونهم ببريق الوداع الخافت، أحسست أني أريد أن أبكي، وأني مجرم عاق، وأني أستحق كل ما يحدث لي من عذابات ومشاكل.
وعدت إلى البيت وضميري والدموع لا ترحمني، ضميري يكاد يخنقني والدموع تحتبس في حلقي وتطبق علي، أما في قلبي فقد كنت أحس بفرحة كبرى؛ إذ في ذلك اليوم بالذات، اليوم الذي يبدأ بنفس ذلك الصباح المبكر الجميل، سأرى سانتي وألقاها وتجلس معي، وحتما سأعود أحدق في عينيها المشعتين بأروع ما في الدنيا، بروحها.
ولم أكن أعلم من أين جاءني ذلك الشعور بأني سألقاها؛ فلم يكن بيننا موعد، ولم تكن لدي طريقة للاتصال بها، حتى عملها لم أكن أعرفه، كل ما يربطني بها هو رغبتها في أن تأتي إلي.
عدت إلى الفراش أحاول أن أعود إلى النوم، ولكني لم أستطع، كانت الساعة تقترب من السادسة صباحا، ولكي أقابلها في كامل قواي العقلية والنفسية بعد الظهر، فلا بد أن أكون قد نمت نوما عميقا، وأنا قد أويت إلى الفراش متأخرا في الثالثة أو الرابعة، ولم أنم سوى ساعتين. عبثا حاولت أن أرغم نفسي على النوم، ووجدت نفسي أعود وأرتدي ملابسي وأغادر البيت وآخذ طريقي إلى النيل.
كانت الشوارع خالية أو تكاد، وأنوار مصابيحها مطفأة، والأتوبيسات قليلة ونادرة ونورها مضيء، والسكون مطبق لا تقطعه سوى قلقلة من هنا أو هناك لعربة كارو قادمة حاملة الخضار إلى المدينة النائمة، والنسمات طازجة لم يستنشقها أحد بعد، نسمات يوم جديد، يوم تخلصت فيه من كل ما كان يعوق لقائي لها، ويوم أنا حر فيه لأراها. يا إلهي! حريتي تضاءلت؛ فلم أعد أريدها لأسافر أو أكتب أو أتكلم، أريدها فقط من أجل أن ألقاها، وأنا الذي اعتبرت في لحظة ما أن حبي لها يقيدني، وسخطت على هذا القيد وأردت تحطيمه وتحرير نفسي، أين أنا الآن؟ ها هي ذي سعادتي الكبرى أن أصبح حرا في تقييد نفسي بها. لا بد أننا كائنات معقدة جدا، أكثر تعقيدا من كل تلك النفوس المبسطة المسطحة التي نراها ونقرأ عنها في الروايات والكتب؛ فهناك نلتقي بالعواطف والانفعالات وقد استخرجت ونقيت وصنعت منها كتل ضخمة ظاهرة للعيان، وما أبعد هذا عن نفوسنا وهي دائرة في تلك الحياة! ما أبعد هذا عنها وهي حس في اللحظة الواحدة بعشرات العواطف وتتجاذبها عشرات النوازع، وتصدق وتخدع وتمر وتشف وكل ذلك في لحظة، الحب! ها أنا ذا وأنا سائر على شاطئ النيل أتنفس بعمق، وأحب الصبح الباكر والنهر الدافق الممتد وطقطقة العجلات في عربات الكارو من بعيد، ونداءات باعة الفول، وصوصوة العصافير، أجد الكون كله مملوءا بكلمة ضخمة، كلمة حروفها كل الكائنات والأشياء، كلمة «أحبها» وليست كلمة صافية، إنها كلمة معقدة مركبة كالكلمة حين نكتبها ونعيد الكتابة فوقها، كلمات بعضها فوق بعض، كلمات مثل: أنا سعيد بحبي لها، لا بد من قطع علاقتي بها الآن، ليس قليلا أن أهب عمري كله لكي أحبها، لا يجب علي أن أراها، أنا مشتاق إليها، أنا أحبها لأني أحس أنها لا تحبني، أنا أحبها لأنها تحبني، كلمات بعضها فوق بعض تكاد من تعقيد تركيبها أن تطمس، ولكنها تكون بتعقيدها تلك الحقيقة الكبرى التي تجعلني سعيدا بالصباح الباكر، سعيدا بأني حي أعيش هذه اللحظات، سعيدا لأنه في مكان ما من تلك المدينة الكبيرة لي فتاة اسمها سانتي، إنسانة دقيقة صغيرة هائلة، في مكان ما من تلك المدينة الكبيرة لي حبيبة.
ظللت أمشي حتى تعدت الساعة الثامنة وأشرقت الشمس، أشاهد كل شيء وأحس به جميلا من غير أن أراه؛ إذ في الواقع لم أكن أرى شيئا بذاته أو لذاته. كانت سانتي هي أجمل ما كنت أراه في أي شيء، كلما أحسست بالجمال في الماء أو الشمس أحسست بها، وكلما أحسست بها رأيت الجمال فيما أنظر إليه ولو كنت أحدق لحظتها في أقبح الأشياء.
19
ورغم كل تلك التفصيلات فلا أستطيع أن أجزم إن كانت قد جاءت في ذلك اليوم أم لم تجيء؛ فمنذ ذلك الوقت وصور الأحداث في ذاكرتي أبقى أثرا من مواعيد حدوثها، ومع هذا فهي ليست أحداثا كثيرة أو عظيمة الأهمية، إنها بسيطة إلى درجة لا يستطيع معها الإنسان العادي أن يصدق أنها كانت وقائع مأساة كاملة؛ فقد تعودنا أن تراق في المآسي الدماء وتزلزل الزلازل وتنفجر البراكين.
كل ما حدث أني بدأت خلال مقابلاتي التالية لها أحس شيئا لم يكن موجودا، كانت مقابلاتنا السابقة تتم بلهفة، لهفة من جانبها ولهفة من جانبي، وطوال المقابلة أظل أتلهف على أية كلمة تخرج من فمها وتظل هي تترقب كل كلمة تخرج من فمي، أما أنا فقد ظللت على لهفتي، بل كادت لهفتي تتحول إلى نوع من السعار أو الجنون وإن كثرت محاولاتي لإخفائها، أما هي فقد قل ترقبها لكلماتي أو انعدم كمن يظل ينتظر حدوث حادث، فلما طالت المدة ولم يحدث بدأ ييأس، وبدأ ينتابه شعور من اللامبالاة تجاه حدوثه، وأصبح سيان لديه أحدث أم لم يحدث، حتى مواضيع الحديث خيل إلي أننا استنفدناها كلها حتى لم يعد ثمة موضوع جديد نطرقه، أو أي جديد نطرقه يبدو قديما معادا لا جدة فيه، ولست أذكر متى بدأ هذا يحدث، ولكنني أذكر أن سيرة شوقي جاءت مرة فلمحت بريق اهتمام خافت في عينيها، وحرارة ما قد شملت صوتها وهي تسألني عنه وعن أخباره، ولاحظت مرة أنها اشترت علبة سجائر أمريكية وكان شوقي يدخن سجائر أمريكية.
وبدأت أشك.
أنا أعرف أن شوقي من نوع لا يأبه للنساء كثيرا ولا يهتم بعلاقته بهن أو باستلفات أنظارهن. لم ألحظه مرة أنيقا، ولم أضبطه مرة متلبسا بفرق ولو صغير بينه حين يتحدث لرجل وبينه حين يتحدث لسيدة. كان على النقيض مني في تلك الناحية، ولكن من يصلح لصرف أنظار سانتي عني إلا إنسان على النقيض مني تماما؟ إنسان لا يبدو عليه أنه مهتم بها، إنسان غير محب للاستطلاع أو الاستلفات، إنسان يمضي في عمله كالسيف، إنسان كهذا لا يصلح سوى لتتعلق به واحدة كسانتي.
وبدأت أحداث كثيرة تقع وكأنما وقعت كلها في وقت واحد. مرة دون أن أتوقع وجدتها تدق بابي وفتحت لها وجلسنا نتحدث، ولم يطل حديثنا ولم تطل فرحتي لمجيئها؛ فقد دق الباب وإذا بالقادم شوقي، وكالشرارة لمع في ذهني خاطر، آه ... حتما تواعدا على اللقاء عندي! وجلس شوقي وجلسنا، وبدأنا نتحدث.
رحت أراقب نظراتها والطريقة التي تكلمه بها، والآن وأنا أكتب هذا قد أقول لنفسي إن البريق الملتهب الذي كنت ألمحه في عينيها وملامحها وهي تكلمه ممكن أن يكون بريقا صوره لي شكي الملتهب، ولكني ساعتها كنت متأكدا تماما من البريق الذي كان يشع منها كلما خاطبتني في أوائل علاقتنا. وفي تلك الليلة جاء البارودي يصحبه عطوة ورآنا جالسين، ومضى يعلق تعليقاته الخبيثة المغطاة، وكان لا بد أن أعتذر عن مجيئها أمامه بعدما أخبرني بأن مجيئها عندي أمر غير مستحب. وأخيرا انتقل من التلميح إلى الكلام المكشوف، وقال إن وجودنا معا في مكان واحد وبلا سبب ضروري مهزلة، وإن على سانتي أن تذهب. ولعنته في سري آلاف المرات وأنا أتساءل عن كنه هذا العفريت الذي يركبه كلما رأى سانتي عندي، ولكنها قامت لتنزل. وطلبت من شوقي أن تكلمه قبل أن تنزل على حدة، وخرج لها شوقي ووقفت معه في الصالة قريبا من الباب، وجلست أنا والبارودي في حجرة المكتب يأتي همسهما إلينا، ولا نتكلم نحن أو إذا تكلمنا أقول أنا كلمة فارغة تافهة أداري بها النار المتأججة في جوفي، أو يعلق البارودي تعليقا خبيثا مغطى.
وبدأ البارودي يضيق بصوت مسموع وينادي على شوقي، وسانتي تستمهله لتكمل الحديث معه، وأخيرا ذهبت وانضم شوقي إلينا، ورحنا أنا والبارودي نصب عليه نظرات كاوية لاذعة وهو يقابلها بابتسامات محرجة كمن ارتكب ذنبا لا يعرف على وجه التحديد كنهه.
وكل هذا يحدث وعلاقة لورا بي تزداد، أو في الحقيقة مطارداتها تزداد، تأتي كلما حلا لها المجيء. أعبس لها فلا ينفع فيها تكشير، وأعتذر فلا ينفع اعتذار، وفي فترات يأسي وضعفي أصمم على أن أسلي نفسي بها علها تفلح في إطفاء الحريق، وأواعدها مثلا على أن نلتقي في الجزيرة، ونلتقي ونتمشى، وأضع يدي حول خصرها وأضحك معها، بينما مرارة قاتلة تتصاعد من جوفي؛ لأني طوال الوقت أفكر في سانتي وخيبتي معها. ونلتقي مرة لنذهب إلى المعرض، وأفاجأ حين نقابل سانتي فوق الكوبري وتحيينا ونحييها. وأفرح جدا لأنها رأتني ذاهبا مع لورا إلى المعرض، وأصاب بأشد خيبات الأمل لأني لم أجد في عينيها اهتماما يذكر، وأقول لنفسي لا بد أنها بعد أن نبتعد عنها ستستدير، وأظل أتلفت لألمح استدارتها فلا أجدها تستدير أو حتى تتمهل.
وتأتي سانتي لي ذات يوم صدفة، فأحس بأن زيارتها جاءت هكذا، كأنما قد تعودت على زيارة مكان وانقطعت عنه مدة وتحس أحيانا بضرورة زيارته بحكم العادة، أو بحكم انقطاع العادة. تأتي وأعمل لها قهوة مثل أيام زمان، ونجلس نتحدث، ويخيل إلي أن كل شيء سيعود حتما إلى ما كان عليه، وستعود سانتي إلى حوزتي (وكأنها كانت في حوزتي)، ولأستثير اهتمامها أقول لها إني كتبت لها خطابا، ويسعدني بريق الاهتمام الصادق الذي بدر من عينيها، وبمحاولاتها الصبيانية لتفتيش أدراج مكتبي بحثا عن الخطاب، وطبعا كان لا يمكن أن تعثر عليه؛ فلم أكن قد كتبته أصلا، ولا كان في نيتي كتابته، ولكني أعاهدها أني سأقرؤه لها إذا جاءت في الغد، وقد آليت على نفسي أن أكتبه لها خلال الليل، وأجلس على المكتب بعدما ذهبت أحاول كتابة الخطاب ولا أستطيع، وكأن قوة غيبية قاهرة تمسك الكلمات في صدري وتحبسها ولا تستطيع إرادتي كلها بجماعها أن تخرجها، وأخيرا جدا قرب الفجر أكتب بضع صفحات لا حرارة فيها، كلها مرارة، وكلها ألم وسخرية، سخرية المتكبر العاجز الذي لا يريد أن يعترف بعجزه وتفاهته وضعفه.
وكما توقعت جاءت في الغد، جاءت لا كما تعودت أن تجيء؛ إذ كنت أحس قبلا أنها آتية هدفها الوحيد هو الجلوس معي ورؤيتي، تلك المرة أحسست أن مجيئها عندي محطة لا أكثر، مهمة تريد إنهاءها، وازداد ارتباكي. بعد مدة بدأت تتململ وتسأل عن الخطاب، وبدأت أبتسم وأحاول التخابث وأحاول أن أجرها لأحاديث زمان، أو على وجه أدق أحاول أن أجعل لحديثنا طعم الحديث أيام زمان، ولكن بدا وكأن الخطاب هو الشيء الوحيد الذي يشغلها.
وأخيرا أخرج الخطاب وأقرؤه لها، فتظل تنصت وتنصت، لا تبتسم ولا تنفعل، وحين أنتهي تقول بلهجة جادة قليلا: سآخذه، أليس كذلك؟ أين هذا من اندفاعها الصبياني الحبيب وهي تستولي على الخطابات السابقة عنوة وتضعها في حقيبة يدها؟
وبعد الخطاب لم تجد موضوعا للحديث، قالت لي بعد صمت: ألم تر شوقي؟ لم يعد إذن بيننا ما يقال إلا أن يكون شوقي موضوعه.
كنت أتألم وأسكت، أبتلع الألم وأزداد ارتباكا ولا أجد ما أقول، وأحيانا كنت أتطلع لها وأراها، وأرى أنها هي نفسها سانتي القديمة، ولكن وكأن شيئا فيها كان يمت إلي ثم لم يعد يمت إلي، إحساس ربما بأني أنا قد أصبحت غريبا عنها مع أنها باقية قريبة جدا إلي.
بعدما أظلمت الدنيا بكثير قامت لتعود. قلت لها: أوصلك؟ ويبدو أن لم يكن لديها ما تفعله؛ فقد وافقت، وكانت موافقتها مجرد استسلام لرغبتي وإحساسي.
وفجأة ونحن في طريقنا إلى الباب وقفت أمامها في الصالة، وحدقت فيها طويلا.
وقالت لي بنفس طريقتها الآسرة في نطق اسمي: يحيى، ماذا حدث ؟
قلت: سانتي.
وأحسست أني أريد أن أنكفئ على الأرض وأظل أبكي حتى أختنق.
قلت: بودي لو تعرفي كم أحبك؟
قلتها بطريقة تمثيلية هازلة، مع أني كنت أتألم لمجرد أني مضطر لأن أسخر من هذه الكلمات نفسها.
وسكتت وابتسمت ابتسامة لم أعرف كيف أفسرها.
وبدلا من أن أبكي جذبتها إلي بعنف فقاومت، فأمسكتها بكل قواي ولم تتملص، ربما من شدة الألم. كانت الصالة نصف مظلمة لا يضيئها سوى النور الآتي من لمبة المكتب في الحجرة. الشيء الوحيد المضيء في الشقة كلها، وبين ذراعي كانت سانتي صغيرة دقيقة، لو ضغطت عليها قليلا لتكسرت قطعا، ولكني كنت أقبلها عددا لا نهاية له من القبلات، ومن يرانا هكذا يظننا حبيبين قد أوصلهما الغرام إلى الذروة، وما كان أبعدني عنها وأبعدها عني لا لأنها كانت تقاوم؛ فالحبيبة قد تقاوم، ولكن لأن مقاومتها كانت مقاومة إنسانة غريبة غير منفعلة، ولماذا ألومها؟ هذه الرغبة التي نشبت في صدري فجأة لأحتضنها لم تكن رغبة في عمل شيء كهذا بقدر ما كانت رغبة في الاحتفاظ بها وإمساكها عن أن تنزلق. كنت قد بدأت أحس أنها تنزلق بعيدا عني، تنزلق بطريقة لا يمكن إيقافها، وأنا واقف أشاهد هذا الانزلاق ولا أستطيع منعه.
ولكني فوجئت، هكذا كما تحدث المعجزة كما ينشق القمر أو تغيب الشمس في أثناء النهار، فوجئت حين شبت سانتي على أطراف أصابعها وقبلتني قبلة سريعة خاطفة وهي تقول: من تظنني؟ هل أنا قطعة خشب لا تحس؟
ومن هول فرحتي لم تشلني المفاجأة أو توقف تفكيري، ولم يعد مهما عندي إن كانت قد قبلتني لأن حماستي أعدتها أو لأن الموقف أثارها أو لمجرد عطف انتابها. المهم أنها قبلتني قبلة لا طعم لها ولا عاطفة فيها، ولكنها قبلة منها.
واحتضنتها بشدة وقد دبت في جسدي رغبة عارمة مشبوبة، وبدأت تبكي وتقول: كنت أعتقد أني لن أتأثر، ولكنك هوستني بحبك لي، أخذتني من حياتي ومن نفسي، وأنا أحب حياتي وأحب زوجي وأنت صديق، صديق فقط، ولكنك أعز صديق، لا شيء غير هذا، لماذا أنت مصر على أن أحبك، لماذا؟
وظلت تتكلم ولا تتوقف، ولكني أنا كنت قد توقفت عن سماع ما لا يحلو لي، كنت فقط أسمع ما أريد، ثم أصبحت لا أسمع وحمى الموقف قد أصابتني بالصمم.
والعجيب أني لم أحس أبدا بشيء يشبه فرحة النصر، أما هي فقد قالت: لو كنت مكانك لخجلت من نفسي.
وآذتني كلماتها وكأنها لعنات، وقلت وصدري قد امتلأ فجأة بالحقد عليها: لو كنت مكاني؟ إنك أبدا لم تحملي نفسك مشقة الانتقال إلى مكاني.
قالت في شبه صراخ: وكيف أنتقل إلى مكانك وأنا لا أحبك، ألا تفهم هذا؟ - أنت من صنف ينكر على نفسه ما يريد. - أنا لست هكذا، أنت لا تعرفني ولا تفهمني ولا أريدك حتى أن تعرفني أو تفهمني، أنا مخطئة، أنا المخطئة.
قالت هذا وهي تدق الأرض بقدميها، وتعمدت أن أكف عن الإنصات إليها، ولم يعلق بأذني إلا سؤالها الملح الذي كانت تبدأ منه الكلام ثم تعود إليه: لماذا أنت مصر على أن أحبك؟ لماذا؟
وربما لأن تساؤلها ذلك كان أقرب كلماتها إلى مأساتي، فكرت أن أجيبها عليه أكثر من مرة، ولكني لم أكن أعرف ماذا أقول لها، ولا كيف أطلعها على جزء من نفسي لم يره أحد مطلقا، وكان لا يمكن لأحد أن يراه، حتى أنا أيامها لم أكن أراه، ولكني كنت أحسه. جزء عميق خفي ولكنه يكاد يكون روح حياتي ومفتاح شخصيتي، إحساس ربما يوجد لدى الناس جميعا دون أن يعرفوه، ولكني كنت أحسه، ومتأكد أنه لدي، إحساس بثقة لا حد لها بالنفس تجاه الحياة، الإحساس الذي يلون قمة صبانا وفجر رجولتنا، الإحساس بألا مستحيل علينا تحت الشمس، كل ما نريده نستطيعه، وكل ما نريد أن نحلم به نحلم به، وكل ما نحلم به ففي استطاعتنا أن نحققه، إحساس عدم الخبرة كمن لا يعرف المصارعة ولكنه يؤمن أنه في استطاعته أن يصرع أي إنسان لو نازله، إحساسنا بالثقة في أنفسنا، الإحساس الذي يغادرنا حين نحتك بالحياة ونتبين من احتكاكنا بها كنه قوتنا وقصور قدرتنا عن تحقيق أحلامنا، وحتى قصورنا عن أن نحلم. وكنت كغيري أعتقد أني إذا أردت أن أنال أية امرأة فلا بد أن أنالها، وإذا أردت أن تحبني أي فتاة فلا بد أن تحبني، مهما كانت عيوبي، ومهما كانت الظروف التي ألقاها فيها والطريقة التي أعاملها بها، سواء كانت زوجة أم محبة، عجوزا أم صبية، مليونيرة أم فقيرة؛ فقد كانت لدي ثقة تامة أني أستطيع أن أجعلها تحبني. بل أكثر من هذا كلما كانت الظروف أصعب، فتنني الوضع وسلطت عليه إرادتي وكياني لأنتصر، وأزداد ثقة بنفسي وأزداد ثقة بثقتي بنفسي.
وربما أردت سانتي كل تلك الإرادة لاعتقادي أنها منيعة فعلا وبعيدة جدا، وصعبة المنال إلى أقصى حد، ولإيماني أن ظروفي أسوأ ظروف ممكن أن يظفر فيها شاب بفتاة مثلها.
في الصالة نصف المظلمة، وأمامي سانتي أقصر مني، أحاول أن أنتهز الفرصة لأقبلها، ومع أني كنت قد حققت هدفي القديم منها ونلتها، إلا أنها لم تكن قد أحبتني كما أردت، وها هي ذي لا تزال مصرة على أنها لا تحبني ولن تحبني، فلأدعها إذن تتحدث كما يحلو لها وتصر كما يحلو لها؛ ففي نفس ذلك الوقت كنت أبتسم ابتسامة شيطانية ذات بريق أقوى من البريق الصادر من عيني؛ فقد أدركت لأول مرة أنها ليست قصة حب أخرى تلك التي أواجهها، ولكنها تجربة حياتي. حقيقة كنت أحس أن صفارة البدء قد انطلقت وأني أنزل الحلبة لأبدأ أول صراع ينشب بين الواقع وبين ما أريد.
ويبدو أن إدراكي لكنه اللحظة التي أواجهها قد جعل البريق الصادر من عيني ينقلب إلى شيء مخيف؛ فقد أحسست برعشة تجتاح ذراع سانتي وأنا قابض عليها بيدي، أقربها مني وأبعدها وهي تتحاشى النظر إلى عيني، ومع هذا أحس بها تنزلق من قبضتي كالزئبق انزلاقا مستمرا منتظما من المستحيل أن يتوقف أو تفلح قبضتي في منعه، ورعشة من نوع آخر هي التي انتابتني.
ولم أفق إلا حين وجدت سانتي تفلت مني فجأة، وتفتح باب الشقة وتختفي في لمح البصر داخل حلزونية السلم، وأسرعت خلفها، ووقفت على أعلى درجة منفعلا إلى أقصى حد وقلت: سانتي!
ولم تجب.
ومرة ثانية ناديتها: سانتي.
وأيضا لم تجب.
ومرة ثالثة قلتها، وخرج صوتي متهدجا يملؤه التأثر كمن ينادي على رفيقة الصعود إلى جبل حين تتركه فوق القمة وتهبط وحدها السفح، وهي عاجزة عن إيقاف نفسها عن الهبوط، وهو مقيد في مكانه لا يستطيع إلا أن يبقى فوق القمة ويناديها لتعاود الصعود، وهو مؤمن أشد الإيمان أنها لن تكف عن الهبوط، ومؤمن أشد الإيمان أيضا بأنه سينجح بطريقة ما، وحتى بدون طريقة، بمجرد وجوده، بمجرد كيانه، بمجرد ثقته التي لا حد لها في نفسه، سينجح في إرجاعها إلى القمة، قمة حبها له.
مؤمن أن إرجاعها هذا أمر مستحيل، ولكنه أيضا مؤمن أن من المستحيل أن يقهره المستحيل أكثر من هذا، مؤمن على أنه قادر على قهر المستحيل.
بعد أقل من عشر دقائق كنت إنسانا آخر قد رش وجهه بالماء على عجل، وارتدى البدلة، ومضى يقطع طرقات الزمالك كمن فقد صوابه، ويتشعبط على طرف السلم في أول أوتوبيس قادم ليقطع الثلاث المحطات التي تفصل بينه في الزمالك وبين شارع بولاق الجديد، كان لي يومان لم أذهب فيهما إلى العيادة.
أدركت هذا فجأة بعد آخر نداء أطلقته وراء سانتي، وكمن يتخبط من النقيض إلى النقيض، وكمن يستخرج نفسه من الضياع الكامل ليلقي بها في أي طريق آخر لمجرد أنه يؤدي إلى شيء واضح محدد يمكن عمله، وجدتني لم أعد أفكر إلا في ضرورة الذهاب فورا إلى العيادة وبأي ثمن. وكان شارع بولاق الجديد مزدحما كعادته طوال الليل والنهار، مزدحما بأناس أحس أني غريب بينهم، خجلا منهم ومن نفسي خجلا لا أعرف سببه وكأني خيبت آمالهم في شيء، وما كدت أقطع بضعة أمتار حتى فاجأتني صيحة: شوف الراجل يا خويا، نستناه امبارح ما يجيش وأول ما يجيش، حمد الله ع السلامة.
وعرفت أنه عنتر حتى قبل أن ألتفت، ولأول مرة وجدته وحيدا من غير عبلة، وسألته عنه وهو بالكاد يحاول أن يلاحق خطوي الواسع، فأشاح بيده وقال: الولية مراته أصلها بتولد النهاردة، راح يشوف لها فرختين، أصل خايف لحماته تدبح فراخ من اللي مربينهم فوق السطح، أصلهم بيبيضوا، خسارة.
واستغربت لكلامه؛ فقد بدا وكأنما يأتيني من عالم آخر، من دنيا مارست فيها الحياة يوما ثم أصبحت في دنيا ثانية، أيهما الحقيقي يا ترى، ما أحيا فيه أو ما أسمع عنه؟ الناس تحيا وتتزوج ونساؤنا تلد، والدجاج يبيض بغير مشاكل، وحتى إذا وجدت المشاكل فالحل جاهز لا يحتمل إلا مجرد التنقيب، أين هذا من مشاكلي أنا؟ عنتر وعبلة وهؤلاء الناس الذين يزحمون الشارع بإسراعهم وصخبهم يضيقون بالحياة مثلما أضيق أنا بها، ولكنهم يحبونها أيضا، يحبونها ويضيقون بها، أما أنا ما أتعسني! أنا لا أريد أن أحياها إلا كما أريد، هم يغيرون تفاصيل الحياة لتروق لهم، وأنا أريد أن أغيرها كلها جملة وتفصيلا لتروق لي. أريد أن أفعل المستحيل ولا أرضى بأقل من المستحيل.
إما حياة كاملة كما أريدها أو لا حياة، لماذا لا أحيا مثلهم؟ لماذا ليس باستطاعتي أن أساوم؟ لماذا خلقت هكذا؟
لم أتوقف لألتقط أنفاسي أو أجمع شتات أفكاري إلا حين وضعت قدمي على باب العيادة، ونظرة واحدة ألقيتها على الصالة أذهلتني وأوقفتني في مكاني لا أجرؤ على الدخول. كانت الصالة مزدحمة إلى آخرها بالمرضى المنتظرين، ازدحاما لم تشهد العيادة الصغيرة مثله، ازدحاما بلغ من شدته أن بعضهم كان قد فضل أن ينتظر بالخارج وحين ظهرت جاء يتبعني ويملأ المدخل. والنظرة الثانية ألقيتها على عنتر، كان قصيرا سعيدا متهدلا كعادته، ولكن كان على وجهه ابتسامة من يخفي في جعبته شيئا.
وقلت له همسا: إيه دول؟
قال: عيانين، أمال ... مش قلت لك يا دكتور ح تفرج، ده بعضهم مستني هنا، علي الحرام، من أول امبارح، خش خش.
ودخلت، كنت قد حضرت وفي ظني أن العيادة ستتيح لي مكانا جديدا أستخرج فيه أفكاري على مهل وأعيد النظر فيها، ولكن شد ما خاب أملي:
الازدحام والضجة التي قابلتها بنفسي أول الأمر فرضت بعد قليل نفسها علي، وأعنف الأفكار وأحدها قد يذيبها من العقل تماما وجودك في حضرة إنسان. إنه وهو الكائن الحي المتحدث أشد مفعولا من أعمق الأفكار. فما بالك وهم عشرات من الكائنات الإنسانية الحية التي جلست تحكي قصتها مع المرض، وتطلب بأمل وإلحاح علاجك ورأيك. ذهب فجأة كل ما كان يشغل بالي.
ولم يعد رأسي سوى مكان التقاء وتفاعل بين الداخل إلى حجرة الكشف أو الخارج منها وبين كل ما درسته ووعته ذاكرتي من معلومات، وفي خضم فرحتي بالعدد الكبير من الناس الذي أصبحت محل ثقته وملجأه لم يدهشني كثيرا أني وجدت بعضهم لا يعاني من أي مرض بالمرة، وعزوت هذا للوهم أو لذيوع صيتي في الحي ورغبتهم في عرض أنفسهم علي.
ولم يحتج الأمر وقتا طويلا لتظهر آثار واضحة لهذا الإقبال غير المتوقع؛ فقد زارني صاحب الأجزخانة المجاورة ليلتها، وبدأ حديثه بعتاب طويل لأني أمر عليه ولا ألقي السلام ولم أزره ولو مرة، وأنهاه باستعداده لأية خدمة ولأي تخفيض، فقط ما علي إلا أن آمره. وكذلك جاء أناس أفندية وأولاد بلد من الحي لا أعرفهم كان عنتر يقدمهم لي ويضخم في أسمائهم ويعدد مناصبهم ونفوذهم، وكانوا هم يحبونني ويشيدون بي وبمهارتي التي «طبقت شهرتها الآفاق»، وكنت أخجل أنا وأتواضع وكأن شهرتي كطبيب قد طبقت الآفاق حقيقة، وكان عنتر في خير حالاته، يضحك ووجهه السمين يلمع بالعرق والاحمرار والانفعال. ولم تنته العيادة إلا في منتصف الليل، وكان الإيراد يسمح لي بأخذ تاكسي لو أردت، ولكني آثرت أن أقطع المسافة بين بولاق والزمالك سيرا على الأقدام، كنت في حاجة لدقائق أخلو فيها لنفسي بعد هذا الازدحام، حاجة ملحة لم يكن يمنعها إلا العمل المستمر، وكنت أريد أن أفكر في الخلاء في الخارج، بعيدا عن البيت وفراشي وحجرتي، وكأني كنت آمل أن يتغير طعم أفكاري إذا غيرت المكان، ومن يدري؟ ربما وجدت أيضا ما أبحث عنه وما شيبني البحث عنه.
وعدت إلى البيت ماشيا أفكر كما أردت، ليس هذا فقط بل انقضت بضعة أيام - ثلاثة أو أربعة لا أذكر - وأنا أيضا أفكر، لم تكن سانتي قد جاءت خلال تلك المدة أو سمعت عنها شيئا، وكنت لا أزال في نفس الحالة، بل تقريبا أعيش في نفس اللحظة التي غادرتني فيها وأنا أنادي عليها وهي لا تجيب. وكلما كنت أغرق في التفكير كان اضطرابي يزداد، ولم يكن هذا لتخلخل أصاب ثقتي بنفسي، ولكن لأني في الحقيقة لم أكن أعرف ماذا يجب علي أن أفعل تجاه هذا المستحيل الذي قررت أن أقهره وأنتصر عليه.
في كل ثانية من تلك الأيام القليلة كنت إذا رفعت الغطاء عن عقلي وجدته يسأل نفسه: ماذا يجب علي أن أفعل؟ يسأل وفي نفس الثانية يرفض كل ما يقترحه على نفسه من إجابات وحلول. كنت أحس أني عاجز عن التصرف تجاه هذا الموقف الجديد علي، لو كنت قد قررت أن أخترع صاروخا يوصلني إلى القمر مثلا باعتبار أن هذا شيء مستحيل على شخص مثلي لكان الطريق واضحا، ولكان علي أن أبدأ فورا في دراسة كافة الحقائق المتعلقة بالموضوع. أما وهدفي كان أن أحتفظ بسانتي وأجعلها تحبني على الرغم من إدراكي أن هذا شيء مستحيل، فلم يكن أمامي ثمة طريق ممكن أن أتبعه، هل «أتقل» عليها؟ وكيف أتقل عليها وهي بعيدة عني؟ هل إذا جاءتني أتجاهلها وأقابلها مقابلة عادية جدا وأمثل أمامها دور الزاهد فيها المشغول بغيرها؟ ولكن ربما دفعها هذا لأن تزهدني هي أكثر وأكثر. هل أقبل عليها وأركع أمامها؟ ولكن سلوكا كهذا لا يمكن أن يدفع امرأة في الدنيا للحب؟ هل أكتب لها؟ ولكني كتبت وكتبت، وقلت كل ما يمكن كتابته، وتكلمت معها وتكلمت حتى قلت كل ما يمكن قوله، لدرجة أني ذات مرة قلت لها: أعتقد أني تحدثت كثيرا. فابتسمت وقالت بقليل من الجرأة: يبدو أنك تتحدث أكثر من اللازم فعلا. بل ما زلت أذكر ضمة شفتيها وهي تنطق «أكثر» بالإنجليزية. هل أقدم على عمل آخر؟ ولكنها ضاقت بما فعلته بطريقة أزعجتني وأخجلتني. وحتى ما فعلته كان سببه ذلك الأثر الخاطف لقبلتها، كان شدة انفعال مني لا أكثر؛ إذ إني أبدا لا أستطيع اغتصاب قبلة منها عن عمد وإصرار. ثبت لي هذا وأعرف أكثر أن الذي يغتصب هو من لا يحب، أما من يحب إنسانة ما فهو لا يستطيع أن ينالها رغم نفسها أبدا.
في كل ثانية كان السؤال يدور بإلحاح في عقلي، وفي كل ثانية أطرح عشرات الإجابات وأرفضها وأحس بالعجز والتعب فأروح أحلم، أحلم أني استطعت أن أجعلها تحبني بطريقة ما، وأحلم بسعادتي حين يحدث هذا، أحلم بالمستحيل، أو يدفعني العجز إلى الشك فأقول لنفسي: لماذا لا تكون في هذه اللحظة بالذات التي تفكر أنت فيها مع شوقي مندمجة في حديث ساحر معه؟ لماذا لا تكون واهما وعلاقتكما قد انتهت من نفسها إلى الأبد وهي الآن تبحث عن علاقة أخرى وشخص آخر؟
وهكذا أجد نفسي بلا وعي أبحث عن شوقي وأتعمد أن أقضي معه أكبر وقت ممكن. ولكن لم يكن باستطاعتي أن أبقى معه طول الوقت. كانت أعماله كثيرة، وخروج البارودي قد أشاع موجة نشاط غامرة في المجلة وفينا بشكل عام، لا لأنه حمسنا، ولكن ربما لمقاومة آثار خروجه، وللحيلولة بينه وبين أن يعود رئيسا مرة أخرى للتحرير، ولكنا كنا نكبت رغبتنا الخفية هذه في أنفسنا ولا نعارض عودته جهرا، وهو أيضا لم يكن يبدي رغبته في العودة عيانا بيانا، بالعكس كان يصرح دائما بأن مرض عينيه سيعوقه، وأنه في حاجة لإجازة طويلة يعالج فيها بصره، وفي نفس الوقت تزداد حركته وتتضاعف، ويخرج من اجتماع ليدخل في اجتماع، ويناقش ويتدخل في كل كبيرة وصغيرة، ويقترح فإذا لقيت اقتراحاته معارضة يحاول شيئا فشيئا أن يفرضها، ولم يكن ينافسني في البحث عن شوقي والالتصاق به والبقاء معه ليل نهار إلا هو. بدا أنه من أول وهلة لمس بذكائه الخارق أن شوقي هو رأس الرمح في التيار الثائر الجديد، وأنه قائده، وأن هناك إجماعا على أن يبقى في منصبه كرئيس للتحرير حتى بعد خروجه هو، رئيس التحرير الأصلي، ولو كان شوقي ضعيفا أو أقل كفاءة لسحقه، ولكن أحمد شوقي اسم وكفء ومحل ثقة الجميع، وفوق هذا وذاك تلميذ البارودي وصديقه. الطريقة المثلى إذن أن يحيطه ويأخذه تحت جناحه، حتى إذا ما ابتلعه وأعاد صياغة تفكيره أصبح تحطيم بقية هذا التيار الصاعد مهمة سهلة. أفكار كهذه كانت كثيرا ما تخطر لي وأنا محموم أبحث عن شوقي، وأجد البارودي هو الآخر لا يقل عني شغفا في البحث عنه. أنا أريده من أجل سانتي، وهو يريده من أجل رئاسة التحرير. وكثيرا ما كان يختفي شوقي وأسأل عنه في المطبعة فلا أجده، وأسأل عنه في بيته فلا أجده، وأكاد أقسم لنفسي حينئذ وأقول لا بد أنه معها. ويؤلمني تفكيري على هذا النحو، لا لخوفي أن يكون معها، ولكن لأني لم أكن أعتقد أن سيأتي يوم أنظر فيه لأحمد شوقي - الصديق وزميل المعركة ورفيق السلاح - تلك النظرة المغرقة في بعدها عن نوع علاقتي بسانتي وحبي لها إلى هذا الدرك؟ إلى هذا السرداب المظلم المتعفن الذي أنسى فيه نفسي وقيمي ولا أعود أحكم على أعز الأشياء وأقدسها إلا من خلال علاقتي بها؟
عذاب ما كنت أحسه، أبشع أنواع العذاب. إذا سألت نفسي ماذا أفعل عذبني السؤال، وإذا أجبت عذبتني الإجابة، وإذا حلمت تعذبت، وإذا شككت أقاسي أمر الهوان.
كل قوتي وكل طاقتي وإرادتي وقدراتي كنت أجمعها وأحشدها وأحيا بها المشكلة محاولا أن أجد المخرج، وأفظع شيء أن تجمع قواك كلها لتفعل بها لا شيء، كياني كله يزأر، وكل خلية في تعوي وتصرخ، وأعتصر نفسي كلها وأفكر، وأخرج من هذا كله بلا شيء، حتى قارب تفكيري في نهاية تلك الأيام القليلة أن يصبح لونا غريبا من التفكير، مجرد تفكير متصل طويل لغير ما هدف أو فكرة، تفكير على الفاضي، تحس في لحظات أنه على الفاضي وأنك لا تطحن به فكرة محددة، وإنما تفري به عقلك، ومع هذا لا تستطيع أن توقفه أو تكف عنه.
وبمثل ما توقفت توقفت الحياة من حولي، العمل لا أذهب إليه، والطعام بالكاد أتناوله، وحتى الكتابة في المجلة كدت أتوقف عنها.
20
وبكل هدوء وبلا ضجة استغراب أو احتجاج، وكأن الدلائل كلها كانت أو تشير إلى احتمال وقوعه، تقبلت ما حدث في اليوم التالي لذلك الاجتماع العاصف. كنت قد نمت على أمل أن أفكر في الغد، وجاء الغد بمشاغل العمل التي تتولى غسل المخ بكل ما فيه من خيالات وحقائق. وبعد الظهر جاءني شوقي، جادا قليلا على غير العادة، وفي ختام حديثه معي أبلغني بطريقة عابرة أن مجلس التحرير قد أصدر قرارا يقضي بمنع سانتي من المجيء إلى بيتي، وكذلك يأمرني بعدم الاتصال بها. اصطنعت الدهشة الغاضبة وأنا أحاول أن أجادل في أسباب القرار وجدواه، وأخذت أردد ألفاظا جوفاء كثيرة لا معنى لها لا لرغبة حقيقية في الجدل وإنما لكي يبدو موقفي طبيعيا، غير أن شوقي قال بملامح غائمة: ولماذا تحتج والمسألة لا تعدو أن تكون إجراء وقائيا هدفه حمايتك وحمايتها؟
قلت له وكأني أحدث نفسي: إذا كان الهدف الأمان فهم أحرار في اتخاذه، أما لو كان الهدف شيئا آخر ...
وأكملت بقية الجملة تحديقا في ملامح شوقي لعلي ألمح الأسباب الحقيقية التي دعتهم لإصدار القرار، تراهم عرفوا، تراهم خمنوا، وإلى أي مدى بلغت بهم المعرفة أو التخمين؟ كنت أدرك أن البارودي وراء القرار لا شك، وأدرك أكثر أن الأسباب التي دعته كي يوقفني وجها لوجه أمام هذا الإجراء «الرسمي» أسباب لا تمت إلى البراءة بصلة، ولكني لم أجد في ملامح شوقي أية علامات تدل على انفعال حقيقي، لا غضب ولا لوم ولا برود، ترى أهو قناع يغطي به وجهه وخواطره؟ أم إني أبالغ وأتصور وأجري وراء مبالغاتي وتصوراتي؟
وعجبت! لم أعجب منه، ولكن عجبت من نفسي، طوال علاقتي الخفية بسانتي كان أخوف ما أخافه أن يعرف شوقي أو البارودي أو أي من الآخرين ما يدور بيني وبينها. وهذا القرار يدل بشكل قاطع على أنهم حتى إذا لم يكونوا قد عرفوا، فثمة رائحة لا بد قد تسربت وكشفت عن وجود موضوع . فلماذا لا أحس بالخجل الشديد الذي كنت أتصور أني لا بد سأشنق نفسي لأتلافاه؟ أغرب من هذا، لماذا أحس بالراحة وكأن عبئا قد انزاح عن كاهلي، وغيري هو الذي تولى مهمة إزاحته؟ لا أظن أني لحظتها عرفت الإجابة على وجه الدقة، وحتى إلى الآن، ولكن يخيل إلي أن ما من شيء نفعله من وراء ظهور الآخرين ونخاف خوف الموت أن يعرفوه، إلا ونحن نتمنى في نفس الوقت لو يحدث ما يجعلهم يعرفونه ويعاملوننا على أساسه.
أحسست بنوع حرام من الراحة، ولكني لم أستمتع به؛ ففي الحال تذكرت سانتي ولم يلبث قلقي عليها أن اكتسح أمامه كل شعور آخر، فإذا كان كشف الأمر سيريحني فهو حتما سيسبب لها المتاعب، سألت شوقي إن كانوا قد أبلغوها القرار فأجابني أنهم لم يفعلوا بعد، وأنه هو شخصيا مكلف بإبلاغها إياه.
ورغما عني وجدت نفسي - بغضب حقيقي هذه المرة - أحذره بكل ما أملك من قدرة على التأكيد والتهديد من مغبة أن تلمح سانتي من كلامه أو طريقة إبلاغه أية بادرة تدل على محمل آخر للقرار. وبغير انفعال أو تأثر طمأنني شوقي، ومن لهجته ازداد يقيني؛ إذ لم يبد عليه أنه دهش لانزعاجي أو تهديدي وكأنه كان يتوقع أن أنزعج وأهدد. لا بد أنهم فعلا أصدروا القرار بهدف مبيت آخر، ولأسباب أكثر استخفاء من قصة الأمن التي ما عدت أصدقها.
ولم يمكث شوقي طويلا؛ فمنذ أن جاء لم يكن باديا عليه أية رغبة من إطالة الحديث أو الزيارة، وكأنما قد جاء خصيصا ليبلغني بطريقة مخففة مهذبة ذلك القرار.
وللحظة واحدة، وأنا أشد على يد شوقي مودعا، عشت في أمنية بدت عريضة كالحلم العريض، خاطفة كبارقة الأمل، أن تكون النهاية في هذا القرار، أن يكون الخاتمة للمأساة المعقدة التي عذبتني وللمرض الطويل، أجل المرض الذي أخذت في تلمس الشفاء منه، ولعلي لهذا استرحت لأنهم عرفوا؛ فقد كنت دائما أتخيل النهاية حين يعرف الموضوع وتصبح العلاقة أمرا علنيا مشينا، بعدها قطعا سأثوب إلى نفسي وتهبط حوافزي كلها وتخمد النيران.
ولكنها لحظة واحدة؛ ففي اللحظة التالية مباشرة بعد اختفاء شوقي كانت ابتسامة غريبة تعلو وجهي؛ إذ الخاطر الذي تملكني كان شيطانيا غريبا، النقيض تماما للخاطر الأول؛ فما كادت الصدمة وكل ما خلفه القرار في نفسي من انفعالات تتلاشى حتى وجدتني سعيدا بالقرار سعادة خفية حقيقية؛ فمنذ اليوم الذي بدأ فيه البارودي يلاحظ تردد سانتي ويشير إشارات مبهمة ساخرة إلى هذا المجيء، ومنذ بدأت راقية وشوقي والأصدقاء يرونها ويصبح مجيئها أمرا علنيا يعرفه الجميع، بدأت أشياء تحدث في نفسي وتجعلني لا أعود أرضى أو أعجب بتلك العلاقة التي أصبحت علنية. فحتى لو بقي ما يدور بيني وبينها سرا لا يعرفه أحد، فمجرد أن يرانا الناس معا، مجرد أن أوجد معها في مكان يحتوي أحدا غيرنا، مجرد إحساسي أن طرفا ثالثا قد أصبح له وجود في علاقتنا مهما بلغت تفاهة هذا الوجود، كفيل بأن يفقدني الحماس للعلاقة التي أردت لها دائما وعملت أن تظل خفية متناهية الخفاء، تكاد الروعة كلها تتجسد في سريتها. والآن وبعد ذلك القرار، فأية علاقة مقبلة بيني وبينها لن تكون إلا في الخفاء، لن تكون إلا كما أردتها دائما خفية وسرية ومتكتمة ورائعة الروعة كلها من أجل ذلك كله.
كم جاء حكيما وجميلا وفي وقته ذلك القرار. •••
وضاعت أيامي.
ولم أعد أستطيع الصبر. لقد نفذت هي القرار وكفت عن زياراتي واختفت تماما من الوجود. ظلت تتفرج مستمتعة بمشاهدتي أحبها وبقراءة خطاباتي، ثم جد الجد، اختفت. وكان هذا كله كفيلا بأن أكرهها وأنساها.
ولكن المشكلة أني كنت قد وصلت إلى مرحلة اليأس الكامل، يأسي من أن أشفى منها، نسيت مشاريعي وخططي، نسيت قراري بأن أستحوذ عليها وأهجرها، حتى لم أعد أذكر أني صممت ذات يوم على الكف عن التعلق بها. كان حنيني لأراها - مجرد أن أراها - قد أصبح أقوى من كل شيء، أقوى من غضبي وضياعي، كان مرضا، كان جنونا، كان شيئا أعتى من المرض والجنون.
وليال طويلة قضيتها على مقعد متنزه أمام منزلها، أصادق حراس الليل وأسليهم على أمل أن أراها وهي هابطة من منزلها إلى عملها في الصباح، وفي أحيان كثيرة لا أراها، وفي أحيان قليلة جدا - نادرة - أراها، وأرتجف ارتجافا حقيقيا أمام أعين أصدقائي من الحراس، لمجرد ظهور شبحها الحبيب في فتحة الباب.
العيادة أغلقتها وبعتها، وقد عرفت أنها ستستخدم بابا خلفيا للرشوة والإجازات، وعملي أخذت منه إجازة، وسكرتير النقابة قد أصبح سكرتيرا للجنة «حركة التحرير». كيف أنساها وأعود أحيا؟
كيف وأنا قد عرفت عن يقين أنها لم تعد تأبه لي فقط، ولكنها أنشأت مع شوقي علاقة وطيدة، وأن زوجته تهدد بالطلاق، وأنني رغم هذا كله لم أكف عن حبها ولن أكف، وأني قطعا وبالتأكيد هالك، وقد بدأت أتناول الحبوب المهدئة وأنام بالمنومات وأستيقظ بالمنبهات، وعقلي كله أراه رأي العين ينفصل شيئا فشيئا عن واقع الحياة، ويتصاعد متصوفا في عبادتها، وكأنها تجردت هي الأخرى ووصلت إلى معنى الله.
خاتمة
بعد أسابيع قليلة فوجئت في الثانية من صباح ذات يوم بطرق خفيف متلصص على بابي. من أول طرقة أدركت أن ساعة السجن حانت، ودخل الضابط مؤدبا أبيض الشعر يكاد يذوب رقة. فتش البيت واستغرق في تفتيشه ست ساعات، وفي الصباح اقتادني إلى القسم ومنه إلى السجن.
وفي السجن بدأت حياة جديدة.
وفي السجن وافاني شوقي بعد أسابيع من الهرب، وعلمت أن سانتي غادرت البلاد، وأن لورا اعتقلت هي الأخرى وأنها بجوارنا في سجن الحريم. وكم هفت نفسي لأراها، إنها البقية الباقية من سانتي وأيام سانتي.
أما البارودي فقد ظل أعمى يقود.
وحين أفرج عني بعد عامين.
كانت سانتي قد أصبحت صورة وكلمات، وكانت أيامي المشحونة معها قد بردت وتقلصت واستكانت في زاوية من نفسي، ربما لتعود إلى الوجود بشكل آخر.
ولو أن أحدا قد لوح لي أن سانتي ممكن أن تتحول ذات يوم إلى ذكرى، مجرد ذكرى، لخنقته احتجاجا وغضبا.
ولكن أحدا لم يقلها، حتى أنا لم أقلها لنفسي، إنما بلا قول أو ضجيج تكفل الزمن بكل شيء، وفي صمت وبلا مؤثرات.
الزمن القاتل.
نهاية الأشياء ...
القاهرة في صيف 1955 (انتهت)
अज्ञात पृष्ठ