बयान फ़ी तमद्दुन
البيان في التمدن وأسباب العمران
शैलियों
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (النجم: 39)، وقال - تعالى:
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله (الجمعة: 10)، أي: اطلبوا المعاش الذي به قوام حياتكم، وفضل الله هو رزقه الذي تفضل به على عباده، والسعي مشكور في جميع الأحوال والبطالة لا تفيد صاحبها إلا الذل والحرمان، ومن شأن البطالة أن تبطل الهيئات الإنسانية؛ فإن كل عضو أو جزء من أجزاء الجسم إذا ترك استعماله تعطلت حركته، كالعين إذا أغمضت واليد إذا شلت. ولكل عضو في الإنسان حكمة إلهية وحركة جعلها فيه لتتحد الحركات بعضها مع بعض وتصير حركة واحدة، وهي حركة مجموع الأعصاب البدنية التي يقوى بها الإنسان على السعي وطلب الرزق، فإن الله - سبحانه وتعالى - لما جعل للحيوان قوة التحرك العظيمة لم يجعل له رزقا إلا بسعي ما.
ومن هنا لا ينبغي أن يتوهم أن هذا مناف للتوكل، بل التوكل لا بد منه في جميع الأحوال، إنما يكون مع مباشرة الأسباب. فقد ورد في الخبر عن خير البشر أن الله يقول: «يا عبدي، حرك يدك، أنزل عليك الرزق.» وفي قصة السيدة مريم - عليها السلام - أكبر عبرة وأعظم معجزة، لما كفاها - سبحانه وتعالى - مؤنة الطلب بأن أمرها بهز النخلة ولم يجنها لها، وهو قوله - تعالى:
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (مريم: 25)، وقد أشار النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى أن التوكل ليس التعطيل، بل لا بد فيه من نوع من السبب، فقال - عليه الصلاة والسلام: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير؛ تغدو خماصا وتروح بطانا.» فإن الطير ترزق بالطلب والسعي.
نعم، لا ينبغي الإفراط في الكد والجهد، كما لا ينبغي قطع النظر عن الاستراحة في بعض الأحيان، والاعتدال أليق في جميع الأحوال.
ولنرجع الآن إلى بحثنا الأول، وهو أن نبين النوع الثالث الذي يفضل ألفته الجنسية النوعية عن الاختلاط بمن جاوره من الأمم المتمدنة كما تقدم، وهذا النوع لا يكاد يعلم أي الأمرين غالب عليه، أحب الدعة والسكون، أم حب الأمل والعمل؟ فإنك تراه من جهة دائما يكلف نفسه باحتمال المشاق والأتعاب بتجوله بين الجبال والقفار واقتحامه مواقع الشرور والأهوال. ومن جهة أخرى لا تكاد ترى له عملا يحمد أبدا وهو في معزل عن سائر أسباب الحضارة والفلاح، وأفعاله أشبه بأفعال الوحوش؛ وما ذلك إلا لانعزاله عن المخالطة والائتناس بمن جاوره من الأمم المتمدنة. على أنه قابل في كل آن للتربية والتهذيب لاستكمال القوى البشرية فيه وتمام الناطقية التي يمكنه بهم التأنس بالناس واستعمال الوسائل الموصلة للحضارة والتمدن وحب العمران. فإن من منح الله - سبحانه وتعالى - أن خص الإنسان بالصفات المعنوية التي هي أسرار الناطقية، وجعل له العقل سراجا يهتدي به إلى سبل الفوز والنجاح، ويدرك ما اشتملت عليه الكائنات من العجائب الدالة على القدرة الإلهية والحكمة الصمدانية.
ومن أهم ما أنعم الله به على عباده من الأسباب المؤدية إلى التمدن والسعادة الدنيوية والأخروية، إرساله الرسل بالشرائع الحقة وبيانهم للناس أسباب الفوز، وانتشالهم من ورطات التهور والجهل بالحقائق والمصنوعات، وإرشادهم لما به انتظام أحوالهم وتقدمهم وسلوكهم طرق الآداب الإنسانية والتمسك بالأخلاق الحميدة المدنية. ولا شك أن سيدنا محمدا
صلى الله عليه وسلم
अज्ञात पृष्ठ