وتمضي ساعة.
وتهدأ العاصفة. ويستعيذ الزوج من الشيطان ومن ساعة الغضب. ويجد أن الناس للناس والطيب أحسن، وأنه لا بد أن يشتكي الولد لأبيه وهو يعرف أن إبراهيم أفندي رجل جد. لن يرضيه ما فعله ابنه. فإذا أدبه كان بها. وإلا فهناك ألف طريقة لتأديبه. وترفض الزوجة هذا الحل بدعوى أنها جرحت هي الأخرى .. جرحتها طويلة اللسان زوجة «سي» إبراهيم وفضحتها ولا بد من سن بسن وعين بعين والبادي أظلم. ويطمئنها الزوج ويعدها بأن حقها سيأتيها به كاملا غير منقوص وأن مقامها محفوظ وظفرها عنده بمليون واحدة كامرأة إبراهيم أفندي.
ويظل جو البيت مشحونا. وشعبان يخلع بنطلون الشغل وقميصه ويرتدي الجلباب ويريح يديه من نوبة السواقة التي بدأت في الخامسة وانتهت حين تصلب ظهره، وتورمت كفاه وزغللت عيناه. ويسأل عما طبخته الزوجة وهببته. ولا يجدها طبخت ولا هببت. ويلعن العيشة التي لا راحة فيها أبدا. الشغل أومنيبوس والبيت عربة كارو. وفي كل عودة لا بد أن يجد مصيبة. وكم مصيبة يتحملها العمر، والواحد له عمر واحد!
بعد قليل كان شعبان يمسك ابنه المرتجف المرتعش من يده ويدق باب إبراهيم أفندي.
دق مرة فسكتت الأصوات التي كان يسمعها في الداخل. وعاد يدق. فماتت الأصوات. وانطلق حينئذ يدق بلا توقف.
وفتح الباب أخيرا. فتح فجأة. وفجأة أيضا وجد الأسطى شعبان نفسه أمام صالة وفي نهايتها كومة بشرية هائلة. كان الوقت وقت غداء .. والعائلة كلها جالسة تتناوله. والمائدة صغيرة ضيقة لا تتسع لهذا العدد الهائل من أفراد العائلة.
كانت هناك الست شفاعات الزوجة. تخينة ومحنية على المائدة ككيس القطن المتني. وكانت هناك الحاجة تبارك والدة إبراهيم أفندي عجوز جدا وناحلة وشعرها مصبوغ بالحناء ولونه أصفر وأحمر وأبيض. ثم كان هناك ثمانية أطفال بدوا من كثرتهم وتجمعهم اثني عشر أو يزيدون، وكلهم باسم الله ما شاء الله، وبلا ضغينة أو حسد، أولاد إبراهيم أفندي، وفي الركن وفي مساحة لا تتعدى ورقة البوستة، كان يجلس رجل رفيع، لونه أصفر باهت ووجناته بارزة كالشرفات، كان هو بلا ريب إبراهيم أفندي، عميد العائلة والمسئول عن إنتاج هذا العدد الضخم من الكائنات الحية، والمسئول كذلك عن بقائها. وكان الجميع في معركة لا رحمة فيها ولا هوادة، فالطعام قليل، والمائدة ضيقة، والرغيف مهما كبر لا يحتوي إلا على عدد محدود من اللقم، والصراع دائر من أجل البقاء، أو نتش حتة أو الاعتداء على لقمة أو الحصول على غموس. صراع رهيب شمل العائلة كلها وشمل كذلك قططها. فالعائلة - من العز - تحيا معها أربع قطط، لها جيش من الأولاد، والقطط وأولادها لا بد أن تأكل، ولا بد لها من خوض صراع أمر وأدهى لتجد فرجة بين ساقين، أو ثقبا بين جسدين؛ لينالها من الوجبة على الأقل لحسة أو عظمة.
وكان كل شيء يدور في صمت شامل. ولا تسمع إلا أصوات الملاعق واحتكاك الأسنان بالأسنان وجعجعة المضغ، واللكزات التي يصوبها الأخ إلى أخيه والجار البشر إلى الجار القطة.
وما كاد الباب يفتح ويبدو الأسطى شعبان واقفا على عتبته حتى حدث هرج ومرج كثير. وقام إبراهيم أفندي يعزم، وتضايقت الست شفاعات من هذا القادم في وقت الغداء وأحس الأسطى شعبان بالخجل، وتبودلت عبارات مجاملة كثيرة وحلفت عشرات الأيمانات والأقسام، وتزحزحت مقاعد وماء ولد، وصرخت قطة.
وأخيرا جلس الأسطى على الكنبة، وهدأت الأصوات ثم التأم شمل الكومة البشرية مرة أخرى، وعاد السكون الذي لا تقطعه سوى أصوات الأشداق والأسنان وهي تمضغ اللقم وتمزقها، مضافا إليها أصوات ترحيبات كان يرددها إبراهيم أفندي وفمه ممتلئ بالخبز، وعقله ممتلئ بالتخمينات.
अज्ञात पृष्ठ