فقد ظهر إبسن حوالي منتصف القرن الماضي بمذهب جديد في الدرامة هي أنها يجب أن تعالج المشاكل الاجتماعية والفلسفية في عمق وجراءة، ودرسه برنارد شو، وألف عنه كتيبا بعنوان «لباب الإبسنية» دافع فيه عن موقفه هذا، كما أنه تأثر بإبسن في التأليف فجعل المسرح ميدانا للمناقشات الاجتماعية والفلسفية، ولكن ميزة إبسن الأولى، وهي دقة الحبكة المسرحية، لم يستطع برنارد شو أن يرتفع إليها.
هؤلاء المعلمون الأربعة علموا برنارد شو، وبرزوا في وجدانه الثقافي، وكانت لأفكارهم دورات في ذهنه بحيث تغير بهم وتطور، ولكن هناك مئات من المؤلفين الذين انتفع بهم أيضا، فقد عاش 94 سنة كان يقرأ ويدرس فيها، أو في ثمانين سنة منها، قراءة الوعي والتساؤل والتطور.
ولم نذكر هنا داروين باعتباره أحد معلميه، ومع أن فكرة التطور بارزة في جميع مؤلفات برنارد شو؛ وعلة ذلك أن برنارد شو كان يسلم بالتطور، بل يؤمن به إيمانا دينيا، ولكنه كان يكره داروين لاعتماده على «تنازع البقاء»؛ ولذلك فالتطور عنده هو تطور لامارك الذي سبق داروين، وقال بأن العادات تورث وأنها هي علة التطور.
إن برنارد لم يكتب تاريخ حياته ولم يخبر في إيضاح مسهب عن أولئك الذين علموه، ولكنه في مقدماته لدراماته كثيرا ما يذكر حياته وكفاحه ودراساته، ومنها نستطيع أن نتبين أن هؤلاء الأربعة، أو الخمسة بزيادة لامارك، قد أثروا في ثقافته وأخصبوا ذهنه.
ولكن مع ذلك يجب ألا ننسى أن الذي وجه شو وجهة الفن هي أمه التي احترفت الغناء والموسيقى، وهو لا يذكر فضلها لأنه كان يكرهها للمعاملة السيئة التي وجدها منها لأبيه السكير، ويبدو أن هذا الأب كان يحب الصبي جورج كما كان الصبي يتعلق به، وكثير من السكيرين يبدون أبطالا للأطفال، وتزيد هذه البطولة إذا كان البطل أبا، ولكن ليست هناك امرأة تطيق زوجا سكيرا عربيدا تافها أجوف ليست له غير زجاجة الخمر يعانقها ويفرغها في جوفه كل يوم؛ فالأم تعذر هنا في كراهتها له.
وكان برنارد شو، كان على الدوام، يذكر أباه بلهجة الحب، ولكنه لا يكاد يذكر أمه، مع أننا نفهم أنها هي التي وجهته وجهة الفن - أجل - والاستقلال؛ إذ كانت تعمل لكسب قوتها وقوت أبنائها في وقت كانت المرأة فيه، حتى في إنجلترا، قعيدة البيت.
الصداقة حب على مستوى عال
الصداقة حب على المستوى الإنساني العالي، وهي لذلك تتجاوز الحب الجنسي في القيم الإنسانية؛ لأن هذا قد ينبعث بالاشتهاء الجنسي أولا فيكون حافزه انفراديا، ثم يتسامى إلى الصداقة، وليس في هذا بالطبع ما يعيب الحب، بل ليس هناك ما يعيب الاشتهاء الجنسي؛ إذ كيف نعيب شيئا تطالبنا به الطبيعة في نخاع عظامنا بل يطالبنا به الخلود البشري؟
ولكن الصداقة، حين تنشأ بين رجل ورجل أو بين رجل وامرأة، ويكون حافزها اجتماعيا وليس انفراديا، تكون بلا شك أسمى من الحب، بل نحن حين يستولي علينا حب عظيم، بل حب جنسي عظيم، نكاد نفقد غريزة الاشتهاء، ألسنا نستطيع أن نقول أحيانا في بعض تجاربنا: «إن حبي لها كان أعظم من أن أشتهيها؟»
والصداقة ميزة للممتازين من الناس؛ إذ ليس كل إنسان قادرا على أن يصادق، ذلك أننا حين نصادق نحتاج إلى قدرة تؤاتينا على اختيار من يستحق الصداقة، وإلى قدرة أخرى تؤاتينا على أن نضحي من أجله، وبين هاتين القدرتين: فضائل لا تحصى من الإيثار والشرف والشهامة والنجدة، وهذه خصال نادرة.
अज्ञात पृष्ठ