والهوى قائد الزلل
قتل الجهل أهله
ونجا كل من عقل
لم تنس أن «ڤكتور» لم يكتم عن زوجته مسيره إلى «أوتوبل» تلبية لدعوة المركيزة الحسناء، بل أخبرها الخبر، وأظهرها على كتاب الدعوة، فما منعته من إجابتها، ولكن لم تلبث بعد مسيرة أن اعتراها القلق والارتياب، فقصدت الكونتة «دي سرزول» شفيعتها ونصيحتها الصادقة الأمينة ورأت الكونتة على وجهها علائم الاضطراب، فقالت: ما وراءك أيتها العزيزة؟ وما سبب اضطرابك؟ - كنت بالسعادة والهناء أولى وأحق، بعد إذ ردت إلي العناية الربانية زوجي، لولا أني لا أستطيع إزالة الاضطراب عن نفسي، ولا أدري لذلك سرا، بل أدريه ولا أخفيه عنك، إن «ڤكتور» سار إلى «أوتوبل». - وما معنى هذا الكلام؟ - سار ليلقى المركيزة، ويودعها الوداع الأخير. - يودعها الوداع الأخير ! اسمعي ما أقوله يا بنية: إنك ذات صبر وجلد خارق للعادة، وقد احتملت من صنوف العذاب ما لا يحتمل، فلا يليق بك الاغترار في مثل هذه الحال، بل اعلمي أن زوجك وعشيقته إن تلاقيا اليوم للوداع، فإنهما يجتمعان غدا لتجديد عهد الحب، ولو كنت من أهل الاختبار لأحوال أرباب الغرام لعلمت أن الوداع الأخير إنما يكون ليودع المحب حبيبه، فادرعي الصبر أيتها العزيزة، واتقي به الغم، انقضى شيء مما تأملين. - كيف يكون ذلك وقد أقسم لي الأيمان المغلظة، وكتبت له هي بذلك؟! - كل هذا ممكن ولا أجيب عنه شيئا، وإنما أقول: هل تلاقيا؟ فإن كان ذلك، فالأمر ما أوضحت لك. - وهل تحسبين «ڤكتور» من أهل الخديعة يا سيدتي؟! - لا، ولكنه مخدوع مغرور، وقد سار من المنزل بنية صافية، مقتنعا بأنه لن يرى مدام «ڤلمورين» بعد هذه المرة مكابدا أشد العذاب من الفراق العتيد، موقنا بأنه أقوى من أن يغلبه ميل نفسه، فلما رآها اللحظة الأولى أنسي كل هذا، ولم يذكر سوى الحب. - إذن يحبها حبا عظيما. - مثل حب سائر الناس، والحب وإن اختلفت مظاهره في الزيادة والنقصان، فإن نتائجه متشابهة إلا مدة البقاء؛ فإن طولها وقصرها منوطان بأحوال الزمان وأحكام الأيام، وبما يكون في العشيقة من الذكاء والدهاء. - ما أحبني إلا مدة قصيرة جدا. - كان ذلك لازما عن حالك وطباعه، ولم يكن غيره بالإمكان، فأنت لكونك زوجته لم يكن يحول من دونك مانع ولا يحدث في أمرك حادث، بل كان شأنك واحدا على اختلاف الأيام، فلزم أن يكون لهذه الحالة نهاية، وهو كان واسع مجال الخيال، متوقد الذهن، مستور جمر التصور برماد السذاجة، فلم يكن يستطيع المقام في دير قديم ب «بواتو» لدى صغار يبكون، وشيخين وقورين، وامرأة ذات احتشام، بل احتاج إلى ما يذهب عنه الضجر، وتمنى لو لقي من يضربه على أصابعه لتنفتح وتمتد، فلو لم ير المركيزة الحسناء لوقع في أشطان بغي من بنات العشق يحسبها ملكا هابطا من السماء، وكان ذلك شرا من وقوعه بهوى مدام «ڤلمورين»؛ لإمكان أن ينفق كل ما له في هوى البغي، ولقد أخذ الآن في الرجوع إلى رشده، وسوف يبلغه بعد حين فلا تيأسي من رحمة الله. - أرجوك أن تأذني لي في البقاء لديك مدة غيابه، فقد أوصيتهم في المنزل أن يطيروا الخبر إلي متى رأوه مقبلا ، ولا أريد أن أرى الأولاد الآن، فإن رؤيتهم تضعف عزمي، فلا أتمالك أن أذرف الدمع وهم، وا رحمتاه! لهم يسألونني عن سبب البكاء ... - على الرحب والسعة، نتناول العشاء ونصرف ما شاء الله من الليل معا، فإني أعرف عذاب الريب ومقدار ما يدخل من السرور على قلب من لقي فيه صديقا أمينا، فبسط لديه أمره وكشف له سره، حتى كأنما ألقى عليه شيئا من همه، وقاسمه ما أعياه من بؤسه وغمه. - لأنت ملك كريم أرسلت لهدايتي، ووكلت بحمايتي، ولولاك لمت كمدا ويأسا، وماذا ترين الآن؟ ألا يعود - تعني ڤكتور - عما قليل؟ - وا رحمتاه لسذاجتك! إنك ما برحت غير عالمة بما تؤثر الشهوات في النفوس. - كيف هذا وأنا أحبه حبا عظيما لا يحتمل الزيادة؟ أفليس هذا الحب من تلك الشهوات التي تؤثر في الأنفس تأثيرا شديدا؟ - لا، فإن حبك هو الحب المشروع الذي لا حاجة فيه إلى التكتم، ولا محل للخوف والمحاذرة، ثم إن عذابك فيه يتضمن عذوبة العلم بأنك إنما تقضين واجبا، وليس الأمر كذلك في الشهوات.
ثم أقبل الليل ولم يأت «ماري» خبر عن «ڤكتور»، فاشتد اضطرابها، وجعلت تبعث بالرسول بعد الرسول إلى منزلها، ولا يأتيها أحد بنبأ شاف، فقالت الكونتة: لم يأت يا سيدتي، لم يأت. - إن رمت معرفة ما أراه في الأمر، فاعلمي أني ما أظنه يعود الليلة؛ فإن للمحبين حديثا طويلا «بعد» الافتراق. - لعلك أردت «قبل» الافتراق. - إنما أردت ما قلت، وإن كنت لا تزالين في ريب مما أقوله، فسوف يثبته لك العيان يا بنية. - آه، أواه! ما أصعب ما تنذرين به وما أهوله!
ثم اشتد عليها الأسى والأسف، فاسترسلت للبكاء حتى رق لها قلب الكونتة رحمة - والرحمة آخر ما يبقى في أنفس الشيوخ - فقالت: خفضي عليك يا «ماري»، فلا بد لهذه الحالة من آخر. - تظنين أنه لا يعود، فما قولك في مدام «ڤلمورين»، أيمكن ألا تعود إلى منزلها؟ - إنها امرأة من اللواتي لا يفوتهن شيء من أسباب الاحتراز والاحتياط، فلا شك في كونها تداركت ما أشرت إليه، ثم إن الأحوال الحاضرة موجبة لتوقع المكروه من كل وجه؛ ولذلك أخاف أن يكون اليأس قد حملها و«ڤكتور» على شيء من الأعمال البالغة حد الشطط. - ما العمل؟ ما الرأي؟ ما التدبير؟ - أرى أولا أن ترسلي إلى منزل مدام «ڤلمورين» من يسأل، هل هي في المنزل؟ وإن لم تكن هناك فمتى تعود؟ ولا يكون صدور هذا السؤال عنك غريبا بعد حادث «غرفة ڤكتور»، ولا سيما أن المركيز «ڤلمورين» يعتقد أن بينك وبين زوجته صداقة موثقة العرى.
فأرسلت «ماري» خادمها فقيل له: إن المركيزة سارت لزيارة شقيقتها في «لوسيان» ولا تعود إلى صباح الغد، فقالت الكونتة العجوز بعد سماع هذا الكلام: كنت على يقين من أنها تتدارك أمرها، ولا تعدم في كتمه حيلة، فلننتظر إلى غد، بل الأولى أن نذهب الآن إلى «أوتوبل»، فهل تريدين ذلك؟ - أخاف ألا يغتفر زوجي هذه الجرأة؟ - إذن ننتظر ...
ومرت الساعات على هذه الحالة حتى انتصف الليل، فقالت «ماري»: لا بد لي من الرجوع إلى منزلنا يا سيدتي، فقد يئست من أن أراه الليلة، ولا أستطيع ترك الأولاد وحدهم وقتا طويلا، وسأدعو الله وأسأله الرحمة والسلامة، ولا ألتمس المعونة إلا من جوده الواسع، إنه جواد كريم. - أسير معك يا بنيتي العزيزة، فإني وإن كنت عجوزا، فما زلت أقوى على إحياء ليلة من الليالي.
وبعد ذلك خفت لمرافقة «ماري»، فركبتا العربة المعدة، فسارت بهما على عجل و«ماري» مطلة من النافذة تنظر إلى كل من يمر بها، وتحسب كل من تراه «ڤكتور»، وكانت الكونتة تقول في نفسها: وا أسفاه عليها! إني أرق لها، وأعلم أن كل واحدة من النساء لا بد أن تصاب بمثل ما بها ولو مرة واحدة في الحياة، وهل رأيت من شجرة لم يهزها الهوى؟!
ولما بلغتا منزل «ڤكتور» طارت «ماري» إلى الخدم تسألهم عما عساه أن يكون عندهم من خبر زوجها، فلما علمت أنه لم يأت عنه خبر سقطت على الكرسي بالقرب من الموقد، وجلست الكونتة إلى جانبها صامتة لا تجد ما تحدثها به، فاستولى السكون والسكوت على الغرفة، فلم يكن يسمع إلا حركة العربات عائدة بالمتأخرين من أهل الرقص، وكانت «ماري» تتبع حركة العربة مصغية إليها على أمل أن تقف بالباب حتى ينقطع صوت صداها، فينقطع أملها بذلك فتعود إلى حالتها من القلق والاكتئاب والخوف والاضطراب، وفي تلك الساعة قرع باب المنزل، ففتح فصعد الداخل الدرج، وقرع باب الدار، فصاحت «ماري»: هو، هو.
अज्ञात पृष्ठ