فازداد «ڤكتور» حيرة في أمر هذه الفتاة، كيف ينالها الملال من الحياة؟! وكيف لا ترهب الموت وهي في ريعان الشباب ونضارة الحسن وتمام النعمة؟! فتساءل عما تحتاج إليه في نيل السعادة، وعن سر شوقها إلى الاستقلال، وما الذي تفعل إن حصلت عليه، فكانت هذه المسائل كلها أسرارا غامضة عنه، فاتسع بها مجال التصور لديه؛ فتسابقت خواطره فيه وما يسبق الخاطر هاجس القلب في مثل تلك الحال إلا إذا كان من القوة بمكان.
ولم يكن علم المركيزة بأحوال «ڤكتور» كافيا في بيان ما أثر كلامها في نفسه، على أنها أحست منه بانفعال غير معهود، فمالت إلى استطلاعه منه ثم لم تجرؤ على ذلك، فالتزمت وإياه السكوت حتى سكن خاطرها واطمأنت نفسها، فقالت: لعلنا نراك ومدام «ديلار» - تريد زوجته - في «سرڤيل» يوم تشخيص الرواية. - أما أنا فلست أتأخر عن هذه المسرة، وأما زوجتي فهي مثقلة متألمة فلا تستطيع الفوز بهذا الإرب. - إني أراجع دوري في التشخيص منفردة له متنزهة، فهل تعرف الروايات التي سنشخصها؟ - ما رأيت إلى الآن تشخيص رواية، ولا قرأت من الروايات إلا منظومات أدبائنا المشهورين. - يا عجبا! ما رأيت إلى الآن تشخيصا؟! - كيف يتيسر ذلك ولم أتجاوز حدود هذا الوادي.
فحدقت المركيزة ب «ڤكتور» تحديق المستغرب لما بين يديه، فإنها لم تكن رأت من قبله رجلا من طبقته، يجهل كل ما لم يره مدونا في الكتب، ويكون على حاله من الجمال الباهر والذكاء الظاهر ولا علم عنده بكونه جميلا ذكيا، ثم أدركت - بما فيها من فراسة النساء - أن سجاياه الفطرية الفائقة لو أخرجت من مضيق ذلك الوادي لأثمرت خيرا، وصارت بعد حين من محاسن الوجود، فاجتمعت قوى فكرها على الرغبة في استقدامه إلى «باريس» فقالت غير مختارة: ينبغي أن تجيء «باريس». - أريد ذلك ولا ينبغي لي. - وما السبب؟ - عفوا، إني لا أستطيع الجواب. - لك الأمر.
فاحمر «ڤكتور» مما قاله خجلا وخاف أن يكون أساء الأدب في امتناعه عن الجواب، أما هي فتلاهت عن ذلك وقالت: لا بد أن يكون لهذه الأطلال قصة غريبة. - إن لها قصصا كثيرة، ولكن لا يجدر بالذكر غير واحدة منها. - أتريد أن تقصها علي؟! - أخاف ألا أحسن الحكاية، ومع ذلك أقول امتثالا للأمر. «قد سمعت - لا شك - بحديث الجنية «ملوزين» أميرة «لوزينيان» المشهورة التي كان لها الملك في جانب عظيم من هذه البلاد، فتلك الأميرة كانت تسكن هذا البرج، وههنا حل بها المصاب الذي ما برحت تبكي وتنوح من جرائه منذ خمسمائة عام أو ستمائة فيما يزعمون، وكان لها خلوة في إحدى القباب التي تلوح لنا تحت هذه الهضبة، تنعكف فيها على السحر في كل يوم من منتصف الليل إلى الصباح متحجبة عن الأبصار، علما منها بأن لو رآها أحد من الناس على تلك الحال لفسد سحرها أو ضاع، وكان لها عشيق تهواه ويروم أن يكون لها بعلا، وكان العهد بينهما أن يتركها وشأنها بعد منتصف الليل، ولا يلتمس العلم بمكانها في ذلك الوقت، فثبت المعشوق على هذا العهد مغالبا فيه هوى النفس حتى غلبه في إحدى الليالي؛ فتبع الساحرة من غير أن تشعر به، ورأى فعلها في الخلوة فانمسخت للحال حية «وبقي من ذلك في يدها أثر لا يزول»، فلما بدت للرجل على تلك الصورة أغمي عليه من الخوف تحت هذا الدرج، فأتته وردته إلى الرشد، ثم أعانته إلى الرجوع إلى المنزل، فلما أفاق من الإغماء والدهشة صد عن الأميرة وعابها بالسحر؛ فأيقنت بوقوفه على سرها ولزمها إبعاده اضطرارا، فأمرته بالخروج ففعل محتارا راضيا، ولكنه ما لبث أن جد به الشوق إليها، فندم على ما وقع منه، وأرسل إليها يلتمس العفو والسماح، فجنحت إلى ذلك، ولكن منعها شيطانها عنه فردت الفتى خائبا فتولاه اليأس، فاعتزل في بعض الأديار حتى مات، ولم تكن هي تستطيع الموت؛ فبكت وملأت غابات هذه الناحية نواحا، ومذ حينئذ اشتهر صراخ «ملوزين»، وكان نواحها إنذارا بموت أحد من بيت «لوزينيان»، فلما انقرضوا صارت تنوح إنذارا بمصائب الناس، فإذا نزلت بالبلد نازلة سمعت الفلاحين يقولون: لا عجب فقد سمعنا صياح «ملوزين».»
فلما فرغ «ڤكتور» من حديثه قالت مدام «دي ڤلمورين»: لقد اختارت هذه الساحرة لنفسها حياة شقية، ولم تجد من لذة الوجود ما يهون تسليم النفس للشيطان. - يزعمون أنها ما زالت حية، وكيف كان الأمر فهي لا شك حية الذكر! - ثم كيف يقال إنها كانت تحب وتعشق، ولو صدقت في دعوى الحب لضربت بعصا السحر وجه شيطانها، ولم تترك من تهواه، فليس في الأرض ولا في الجحيم ما يغني من الحب.
فإن المحب يعاني الصدود
ويقضي الوعود ويرعى العهودا
ويصبر في الحب صبر الجليد
يلين الحديد ويدني البعيدا
ويفني الوجود وفاء وجودا
अज्ञात पृष्ठ