الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
بريق في السحاب
بريق في السحاب
تأليف
ثروت أباظة
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الأول
استيقظ الصباح في قرية الحمايدة ليجد بيت الحاج حامد بركات قد صحا من نومه، وراح الحاج يتوضأ ليصلي الفجر، وراحت الحاجة توحيدة تعد الإفطار لزوجها بعد أن أدت الفريضة.
وجلس الحاج حامد بركات بعد أن تناول إفطاره يشرب القهوة السادة، وجلست إلى جانبه الحاجة توحيدة، وسألها: هل صحا هارون؟ - طبعا لا. هو كما تعلم يصحو في السابعة كأنه يصحو على منبه. - ربنا يكون في عونه. - حملته العبء من أول شبابه. - أنا تعبت! والديون تكاثرت علي، ولا أستطيع أن أكافح كما كنت أفعل في شبابي، وهو رفض أن يذهب إلى الجامعة، وأصر على أن يعمل في الأرض بعد أن نال البكالوريا. - هو يحب الأرض من طفولته. - كان يصحو معي في الفجر ليذهب إلى الغيط. - وهل أنسى؟ - وكان يصلي الفجر معي، وكأنه يؤدي حركات مفروضة عليه. - وهو الآن لا يصلي. - لم أستطع أن أرغمه على الصلاة. - الصلاة لا تكون بالإرغام يا حاج. قلب الإنسان هو الذي يحتم عليه الصلاة. - أنا اعتقادي أن الصلة بين العبد وربه لا يجوز أن يتدخل فيها أحد، حتى ولا الآباء والأمهات. - صدقت. - كل ما علينا نحن الآباء أن نعلم أطفالنا الصلاة، ونحثهم على قراءة القرآن دون أن نرغمهم على ذلك؛ لأن الإرغام سيجعلهم يبتعدون عن الصلاة والقرآن جميعا. - لك حق، ولكن وهم أطفال لا بد أن نرشدهم. - طبعا ، ونكافئهم أيضا، حتى إذا بلغوا مبلغ الشباب تركناهم يواجهون الله وحدهم. وإنك لن تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء. - مع ذلك كنت أتمنى أن يصلي هارون، كما أتمنى أن يتزوج. - وأنا أيضا أتمنى هذا، ولكن هارون مشغول بالدنيا شغلا يجعله لا يفكر في الآخرة أبدا، ولا في الزواج. - نعم يا حبة عيني مشغول بالدنيا أكثر من اللازم. - ولهذا تركت له كل شيء. وأنا يكفيني أن يوفر لي أنا وأنت اللقمة وفنجان القهوة. - وأنا وأنت لا يلزمنا شيء أكثر من هذا، ولكن يتهيأ لي أن فكرة الزواج تراوده الآن. •••
صحا هارون من نومه في الساعة السابعة، وتناول إفطاره ومر على أبيه. - صباح الخير يا أبويا. - صباح الخير يا بني. - أستأذنك. - إلى أين يا ابني؟ الساعة لم تصل إلى الثامنة. - ذاهب إلى بنك التسليف. - خير؟ - حضرتك تعلم أن الشغل فيه لا ينتهي. ندير ديونا ونؤجل ديونا ونأخذ السلف. - طبعا. - اليوم أريد أن أحصل على تقاوي القمح. - أليس الوقت مبكرا؟ - لقد جاءت إلى البنك، وأفضل أن أحصل عليها مبكرا حتى تكون جاهزة. - مع السلامة، الله يوفقك.
وحين ذهب هارون إلى البنك أحس من الإقبال الشديد على التقاوي أنها ستكون قليلة هذا العام، وأن الفلاحين سيضطرون أن يشتروها من السوق السوداء عند زراعة القمح وترقيع الأرض؛ أي إعادة زراعة أجزاء الأرض التي لم تنبت ما بذر فيها في أول مرة.
وبمكر اقتصادي لا مثيل له يتمتع به هارون، كتب إقرارا أنه سيزرع أربعين فدانا من القمح، مع أنه لم يكن أعد من الأرض إلا عشرين فدانا فقط لزراعة القمح. وبقدرة فائقة على الصداقات والاتصالات استطاع أن يحصل على التقاوي التي يريدها، وهو ينوي أن يبذر نصفها فقط ويبقي النصف الآخر ليبيعه بأغلى الأثمان؛ فهو يعلم أن الفلاح عند الحاجة إلى زراعة الأرض يدفع عمره ليحصل على التقاوي التي يحتاج إليها.
وهارون لا يعنيه في شيء أن يرفق بالناس، وإنما يعنيه أولا وأخيرا أن يحصل على المكاسب من أي سبيل، مهما يكن في هذا السبيل عنت بالآخرين وإثقال على مقدراتهم.
كان جالسا إلى مدير البنك ليكمل إجراءات صرف الكيماوي، حين دخل الحجرة سعدون عمارة، وهو رجل طويل القامة ضخم الجسم يعرفه هارون ويعرف هارون، ولكنها معرفة لا ترقى إلى مستوى الصداقة؛ ففارق السن بينهما ليس هينا. ولكن هارون - شأن أعيان الريف جميعا - يعرف كل شيء عن كل إنسان في المنطقة وما حولها، وقد كان يتوق إلى لقاء سعدون، وكان يريد أن يأتي هذا اللقاء صدفة دون إعداد سابق.
وقد كان سعدون أغلب وقته مقيما بالقاهرة بعيدا عن أرضه؛ ولهذا لم يكن إنتاج أرضه إنتاجا يرضى عنه الفلاح الخبير.
استقبل هارون القادم عليه في غرفة مدير البنك بترحاب شديد: مرحبا سعدون بك، عاش من شافك. - أهلا هارون بك، ماذا أعمل؟ أنا قليل المجيء إلى العزبة كما تعرف. - أعرف. هل جئت اليوم وحدك أم جاءت معك العائلة؟ - لا والله جئت وحدي؛ فلن أبقى هنا أكثر من ليلة واحدة. - إذن فالغداء عندي اليوم. - يا سيدي حفظك الله. - لا والله لن أقبل عذرا، والبك مدير البنك سيشفع لي عندك.
अज्ञात पृष्ठ
وقال مدير البنك محروس مهنا: ولماذا أشفع وأنت لم تدعني معه؟
وقال هارون: أخاف إن دعوتك أن أغضب السيدة حرمك، فأنا أعرف أن أولادك في القاهرة وزوجتك معك، وأنك إذا تركتها فستتغدى وحدها.
وقال محروس: لكم أخاف منك يا هارون بك. ليس شيء في بيوتنا إلا وأنت مطلع عليه. - ليس في الأرياف سر. - ولكني أعيش هنا في المدينة في الزقازيق، فكيف تعرف أخباري كلها؟ - أولاد الحلال كثيرون، والناس ليس لهم تسلية إلا أخبار الناس. - ترى يا هارون بك هل تعرف ما يدور في البيوت فقط، أم تعرف أخبارنا في حجرات النوم أيضا؟ - ليس في حجرات النوم أسرار تستحق الذكر يا محروس. - يعني تعرف هذا أيضا؟ ربنا ينجينا منك يا هارون بك.
والتفت هارون إلى سعدون وهو يقول له: هيه يا سعدون بك، الغدا عندي أم أذيع أسرارك؟
وقهقه سعدون عمارة وهو يقول: المسألة أصبحت تهديدا إذن؟
وقال محروس : تهديد واضح؟ - نعم تهديد، ما رأيك؟
وقال محروس: وما الداعي للتهديد؟ لا يا عم، الغدا أهون.
وأكمل هارون عمله مع محروس، وذكر سعدون ما جاء فيه وأنهى هو أيضا موضوع التقاوي الذي كان قادما من أجله، وصحب هارون سعدون إلى البيت. وسرعان ما أعطى أوامره بإعداد غداء يليق بالموضوع الذي دعا من أجله سعدون إلى الغداء. •••
تناولا الغداء في حجرة المائدة، وانتقلا إلى غرفة الاستقبال. وكان بيت الحاج حامد ذا طابقين؛ فالطابق الأول خالص للاستقبال تقريبا، والطابق الأعلى مخصوص للنوم.
قال هارون: هل تحب أن تنام قليلا، أم لست متعودا على نوم القيلولة؟ - ليس دائما. - أما أنا فأحب أن أنام. - وهو كذلك، تفضل!
अज्ञात पृष्ठ
وصحبه إلى غرفة خاصة لنوم الضيوف في مثل هذه الحالات، واطمأن إلى صلاحية الغرفة للنوم، وأقفل بابها عليه وذهب إلى أريكة بحجرة الجلوس واتكأ عليها، وغفت عيناه وأحلام سعيدة تداعب جفنيه. •••
حين صحا سعدون من النوم جلس إلى هارون في حجرة الاستقبال يحتسيان القهوة، وقال هارون: ما رأيك يا سعدون بك، عندي لك مشروع يفرحك. - يا ليت. قل ما هو. - أنت أغلب الوقت بعيد عن البلد، وأرضك حوالي سبعين فدانا ليس فيها أرض مؤجرة لفلاحين. - عندك أخباري كلها، كيف عرفت أنها سبعون فدانا مع أن المسجل منها خمسون فقط؟ - أتحب أن أذكر لك أسماء الأربعة الذين بعت لهم العشرين فدانا الأخرى بيعا صوريا؟ - لا، لا داعي، واضح أنك تعرف كل شيء عني. - أنت لست هاويا للفلاحة، والبنتان عندك لا تحبان الريف ... وأنت تحب أن تقضي وقتا مع الأصدقاء، والزراعة عندك الآن لا تأتي بهمها. - والله لك حق. - كم تكسب من الأرض الآن؟ - حوالي ألفي جنيه في السنة. - هذا ما قدرته فعلا. - أنت وضعت يدك على حقيقتي. أنا لست فلاحا ماهرا ولا محاسبا ماهرا، وأعلن أنني مسروق في كل شيء، سواء فيما أنفق على الزراعة، أو ما أحصل عليه من محصول الأرض على السواء. - ما رأيك لو أعطيتك ثلاثة آلاف جنيه في السنة، تأخذها دفعة واحدة كل عام في شهر نوفمبر.
وصمت سعدون قليلا، ثم قال: أحيانا أحب أن أجيء إلى البلدة ومعي أسرتي. - سبحان الله! أنا أستأجر الأرض لا أشتريها، وبيتك لا يلزمني. تعال أنت وأسرتك كلما شئت. - على بركة الله. - نكتب عقدا. - عقد إيجار؟ - عقد توكيل بإدارة الأرض، وعندما أسلمك المبلغ تكتب لي إيصالا به. - توكلنا على الله. - توكلنا على الله.
الفصل الثاني
حين عاد سعدون إلى بيته، استقبلته زوجته وفية الزهار التي تزوجها منذ خمسة وعشرين عاما زواجا نمطيا؛ فقد كان والده عبد الهادي بك عمارة صديقا لوالدها عثمان بك الزهار، وكانا متجاورين في الأرض، وكانا يقيمان شأن ذلك الزمان بالريف أغلب الوقت. فكانا يسهران معا في بيت أحدهما يلعبان النرد ويلتقيان بالناس. وكان كل منهما يعرف أصدقاء الآخر معرفته بأصدقائه وبفلاحي أرضه هو؛ فكان عبد الهادي دائما يلتقي في مجلس عثمان الزهار باثنين لا يغيبان عن مجالسته؛ أحدهما عطا الله عبد السيد، وهو تاجر أقطان صغير يعمل في كميات قليلة من القطن دون توسع في البيع أو الشراء، ولكنه كان ميسورا كريما على نفسه، حسن المظهر دائما، وكان يلبس الجلباب البلدي الأنيق، فإن كان الشتاء يلبس معطفا من الصوف الجيد. وكان يجيد الحديث عالما بأسرار المنطقة. وكان عبد الهادي يسمع منه دائما أخبارا جديدة. وكان لبيبا في تعليقاته، ذكيا كل الذكاء في تفهمه لما يسمع. وكان يقرأ الجرائد بدقة شأن التجار ليتقصى أخبار السياسة صاحبة العامل الأول في أسعار التجارة وخاصة القطن. أما الرجل الثاني فقد كان الحاج وافي العسكري، وليس اسم العسكري دليلا على أنه كان يعمل في الجيش أو الشرطة، وإنما هو اسم وجده لنفسه وعرفت به أسرته دون أن يكون له معنى أو أصل تاريخي. وقد كان الحاج وافي من أعيان بلدة النمايلة التي بها أرض عثمان بك الزهار وبيته. وكان الحاج وافي يعمل في تجارة الغلال. وكان يأبى أن يشتري أرضا لتظل أمواله كلها سائلة حرة يشتري بها ما يتاح له من صفقات. وكانت محاوراته مع عطا الله أفندي تضفي على الجلسة نسمات رطيبة من الضحك وخفة الروح. وقد كان أيضا على صلات كثيرة بالناس، شأنه شأن عطا الله أفندي، وكان يعرف خباياهم. ولم يكن له إلا ولد واحد، وكان هذا يسعده على عكس ما عرف عن أعيان الريف من حبهم لكثرة الأبناء، في حين كان لعطا الله أربعة أبناء كلهم ذكور.
وكان عثمان بك إذا زار عبد الهادي بك وجد عنده دائما ناظر زراعته إبراهيم أفندي جندية، ولم يكن أفنديا كامل الأفندية، وإنما كان يلبس مثل عطا الله عبد السيد الجلباب البلدي والطربوش. وبالطربوش وحده اكتسب لقب أفندي كما اكتسبه أيضا بخبرته الدقيقة بالحساب والدوبيا. والدوبيا هذه لفظة لا يعرفها أبناء الجيل الجديد ... إنها طريقة خاصة للحسابات، أغلب الأمر كانت تتم بها محاسبات الزراعة.
وكان إبراهيم رجلا أمينا غاية الأمانة، لا عيب فيه إلا ادعاءه لنفسه من الأعمال الجلائل ما لم يقم به، ولكن هذا في ذاته كان يضفي على حديثه ظرفا يتيح لعبد الهادي بك وجلسائه أن يتفكهوا به ويتندروا عليه. فكان يقبل دعاباتهم في سماحة، ويمضي في حديثه عن أعماله الجليلة وكأن أحدا لم يقل شيئا أو يسخر مما يقول.
وكان من جلسائه الشيخ متولي عبد الموجود، وكان فلاحا حاذقا في الفلاحة، ويحفظ القرآن وإن كان لا يلبس العمامة، وكان لا يملك إلا فدانين يحصل منهما على محصول لا تنتجه خمسة أفدنة. وكان عبد الهادي يغدق عليه الهدايا، وكان هو محبا أشد الحب لعبد الهادي بك.
وكان في مجلس عثمان أيضا شخص آخر يجده عبد الهادي كلما زاره، وهو بلال أفندي عبد الفتاح. وكان مدرسا في المدارس الإلزامية، ومحبا للشعر يحفظ منه الكثير وينظم منه القليل. وكان عبد الهادي وعثمان يأنسان إلى حديثه، سواء كان راويا للشعر أو ناظما له. وكان لماح الذهن حاضر البديهة يملك أربعة أفدنة، وكانت مع مرتبه تجعل منه واحدا من أغنياء القرية، خاصة وأنه كان شديد البخل إلا في ملبسه الذي كان دائما أنيقا. وكانت الصداقة بين عثمان وعبد الهادي وطيدة، ولهذا لم يكن غريبا أن يتزوج سعدون وفية. ولم يلاق عبد الهادي بك من ابنه أي ممانعة؛ فلم يكن سعدون يعرف فتاة أخرى، وكانت الفتيات عنده كلهن متساويات لا فارق ثمة بين فتاة وفتاة، وكل ما فعله أنه سأل أباه عنها: شفتها يا أبويا؟ - طبعا شفتها. - حلوة؟ - قمر. - توكل على الله.
ولم تكن وفية قمرا، ولكنها أيضا لم تكن قبيحة. كانت فتاة كأي فتاة لا تجتذب عينيك إذا رأيتها، وهي أيضا لا تجعل عينيك تنصرفان عنها. كانت بيضاء البشرة، ذات شعر أسود لا هو بالمسترسل ولا هو أيضا بالملبد، ذات عينين سوداوين في غير ضيق ولا اتساع. تلقت تعليمها في المدارس حتى بلغت السنة الثانية من الثانوي، ثم ضاقت بالتعليم أو ضاق بها التعليم فأقامت في بيت أبيها تنتظر العدل.
अज्ञात पृष्ठ
وتزوجت سعدون، وكان سعدون أيضا قد ترك التعليم بعد حصوله على البكالوريا التي تقلبت عليها الأسماء فأصبحت توجيهية ثم أصبحت ثانوية عامة.
ولم يكن سعدون راغبا في إكمال تعليمه، ولا كان أبوه مهتما بذلك أيضا، راجيا أن يتفرغ سعدون لفلاحة الأرض.
ولكن سعدون لم يكن يهوى الفلاحة، فما لبث بعد زواجه بسنة وبضعة أشهر أن أقام في بيت أبيه في القاهرة في حي جاردن سيتي. ولم يكن البيت فخما ولا كان متواضعا، وإنما وسط بين هذا وذاك. ولم يكن أبوه راضيا عن ذلك، ثم احتسب الله: ربما بعد أن أموت أنا يضطر سعدون إلى فلاحة الأرض، فليس له مورد رزق حقيقي إلا هي وعمارة الزمالك وعمارة عابدين، وهما عمارتان قديمتان ما يلبثان أن يهدما ويجد سعدون نفسه وجها لوجه مع الأرض. وماذا سيفعل في أرض زوجته، إنها سترث أيضا؟ اتركها لله كله بأمره.
تعود سعدون منذ ذهب إلى القاهرة أن يجلس في بار الأنجلو الذي يضم كثيرين من الأعيان، وكان البار في الصباح مقهى، وفي الليل بار.
وأصبح سعدون زبونا دائما له في الليل، أما في الصباح فهو يعكف في البيت على القراءة، فكان يقرأ بنهم شديد وبمتعة لا مثيل لها . ووجد نفسه في جلسة المساء جالسا إلى قوم لا هم لهم إلا شرب الخمر وتبادل الحديث المخمور، فكان لا بد له أن يشاربهم. وأعجبته نشوة الخمر فصار يشرب، حتى إذا مرت به وفية آخر الليل لتصحبه إلى البيت، وجدته في حالة سكر بين. وضاقت بهذه الكارثة، ولكنها ما لبثت أن راضت نفسها على قبول الأمر الواقع، فلم يكن لها حيلة إلا أن تقبل الأمر الواقع.
وأحب سعدون الخمر وفتن بمجالسة المخمورين، وتعود كلما جاء السائق ليدعوه للقيام ويبلغه أن الست تنتظره يقول له: يا مغفل، ابحث عني بعض الوقت، هل لا بد أن تجدني بهذه السرعة؟
ويتابع الشرب، ويظل السائق رائحا غاديا بينه وبين وفية حتى يقوم كارها.
ولم تمض سنة على مجيئه إلى القاهرة حتى حملت وفية طفلتها الأولى حميدة، ولم يمض أكثر من عام وبعض عام حتى رزق الزوجان بابنتهما الثانية وجيدة. ولم يكن سعدون يهمه أن ينجب البنين أو البنات؛ فقد أصبح لا يعنيه من الحياة إلا الكأس والقراءة التي يتفرغ لها نهاره كله. ولم يكن أمر سعدون خافيا على هارون، ولكنه أبى أن يذكر له وهو يفاوضه في الأرض معرفته بحبه لبار الأنجلو وما يشربه فيه.
كانت حميدة في العشرين من عمرها حين تمت الصفقة بين هارون وسعدون.
وكان سعدون إذا لم يكن مخمورا غاية في التعقل والاتزان، وكانت الخمر تخرجه عن وقاره بعض الشيء، ولكنه لم يكن يخرج عن أدبه قط. وكان يستطيع أن يتحكم في ألفاظه. وكان ذكيا في سكره، فإذا أراد أن يصارح أحد أصدقائه برأي لاذع فيه، ادعى أنه سكران وقال ما يريد قوله.
अज्ञात पृष्ठ
لهم صديق اسمه عيسى حامد ثري غاية الثراء، بخيل كز غاية البخل والكزازة، ويتمتع شأن كل بخيل بصفاقة يشهد له بها جميع رواد المقهى. يأتي في كل ليلة ويمر على المناضد واحدة بعد أخرى، وتدعوه كل منضدة إلى كأس أو كأسين يشربه أو يشربهما وينتقل إلى منضدة أخرى، فما إن تنتهي دورته على المناضد حتى يكون قد نال من الويسكي كفايته دون أن ينفق مليما واحدا. وفي ليلة مر كعادته بمنضدة سعدون، وكان لسان سعدون قد بدأ يتلوى من الخمر فيبدو كأن الويسكي قد تعتعه فنادى بأعلى صوته: مانولي!
فجاء القاهي: أفندم سعادة البك؟ - حسابنا كله الليلة عند عيسى بك حامد.
وزلزل عيسى زلزالا شديدا: ماذا؟! - أي ماذا يا أخي؟! أنت كل يوم تأتي إلى المقهى وتسكر مجانا وتروح. ادفع مرة الحساب عن نفسك، ألا تحب أن تشعر مرة بلذة السكر على نفقتك الخاصة؟ - ولكن هذا ظلم يا سعدون بك. - الظلم ما أفعله أنا بك أم ما تعمله أنت في زبائن المقهى كل ليلة؟ خف ولا تثقل حتى لا يضيق بك أصحابك ورفاق كأسك.
وهكذا كان يفعل سعدون كلما عن له أن يصارح أحد الجالسين معه برأيه فيه، فكان أصدقاؤه يحبون مجالسته كل الحب، ويضحكون مما يفعله ويقوله.
وقد ارتاح سعدون كل الارتياح للصفقة التي أتمها مع هارون، وحين عاد إلى زوجته بعد إتمام الصفقة أخبرها بها فإذا هي تقول: مبروك يا سعدون ولكن لماذا نسيتني؟ - كيف؟ - أرضي. - أليست أرضك مع عطا الله أفندي والحاج وافي؟ - إنها معهما بناء على عقد بيع صوري، ولا أحصل منهما إلا على مبالغ ضئيلة. فلم لا تؤجر الأرض لهارون ويدفع لي مثلما يدفع له؟ - والله فكرة. •••
كان عثمان الزهار يدرك أن ليس له إلا بنت واحدة، وكان يملك مائة فدان، لو مات عنها ما ورثت ابنته إلا نصف الأرض، ويشاركها أخوه مجدي وأخته تفيدة في النصف الآخر. فتشاور مع زوجته بهية على أن يبيع أرضه مناصفة لعطا الله أفندي وللحاج وافي، ويكتب كل منهما على نفسه وصل أمانة بقيمة الأرض. واستحسنت بهية الفكرة، ونفذها عثمان فعلا وسجل الأرض، ولم يمر على تسجيل الأرض سنة حتى كان عثمان قد انتقل إلى رحمة الله قبل أن يشهد ثورة 52. •••
أما عبد الهادي فقد شهد ثورة 52، ولحق به قانون الإصلاح الزراعي الأول. وكان يملك سبعين فدانا فلم يكن واقعا تحت طائلة القانون، ولكنه أدرك بإلهام لا يدري مأتاه أن الأمر لن يقف بالثورة عند هذا، فقال لابنه سعدون: أرى ألا نبقي لك أكثر من خمسين فدانا. - تريد أن تبيع عشرين فدانا؟ - نبيعها ولا نبيعها. - يجب أن تكون واثقا من المشترين. - لقد فكرت فيهم فعلا. - إبراهيم أفندي جندية ومن؟ - أنا لا أريد أن أبيع للشخص الواحد أكثر من خمسة أفدنة. - كلام معقول. - طبعا سأبيع خمسة أفدنة لوالي قطب. - طبعا هذا واحد منا. - وما رأيك في الاثنين الآخرين؟ - موجودان. - من؟ - ما رأيك في الشيخ متولي وبلال أفندي؟ - ونعم. - على بركة الله. - على بركة الله.
وتم البيع الصوري لكل هؤلاء فعلا، ولكن استمر عبد الهادي يزرع حتى توفي. وحين ورث سعدون الأرض ظل الأمر على ما كان أيام أبيه، ولم يجد هارون أيه صعوبة في تسلم الأفدنة السبعين كاملة بما فيها العشرون فدانا المبيعة بيعا صوريا. •••
أما الحاج حامد بركات والد هارون فكان لا يملك إلا بيتا في عابدين وأربعين فدانا، وحين صدر قانون الإصلاح الزراعي الأول باع أرضه كلها لابنه هارون حتى يعفيه من ضريبة التركات. وكان هارون في ذلك الحين قد ترك الدراسة وبقي في الأرض يفلحها ويحاول أن يسدد الديون المتراكمة عليها لبنك التسليف. ولم يكن الأمر سهلا، ولكنه بذكائه الشديد استطاع أن يجعل أموره تسير. وكان هارون في ذلك الحين في الخامسة والعشرين من عمره، ولكن درايته بإدارة السلفيات وتأجيلها والحصول على سلفة جديدة لتسديد سلفة قديمة حل موعدها، كانت دارية واسعة مكنته ومكنت أباه وأمه أن يعيشوا عيشة ميسرة. وحين تمكن من عقد صفقته مع سعدون أحس أنه على أبواب الغنى الذي يسعى له سعيا حثيثا، لا يرده عنه شيء، ولا يقف في سبيل وصوله إليه حائل، مهما يكن هذا الحائل متصلا بالنزاهة أو غيرها.
الفصل الثالث
अज्ञात पृष्ठ
دق جرس التليفون في بيت الحاج حامد بركات وكان المتحدث سعدون عبد الهادي، وسأل عن هارون. وأمسك هارون سماعة التليفون ليسمع صوت سعدون: كيف أنت يا هارون بك؟ - مرحبا. - هل تنوي المجيء إلى القاهرة قريبا؟ - أنا تحت أمرك. - أريد أن أراك في أمر يهمك. - أجيء إليك باكرا إن شاء الله. - نتغدى معا. - وهو كذلك. •••
على الغداء كانت المائدة معدة إعدادا أنيقا، وتحلق حولها أسرة سعدون وفية هانم وحميدة ووجيدة.
كان هارون يفكر تفكيرا جادا في الزواج.
وكان يعرف أن لسعدون بنتين، ولكنه لم يكن رآهما من قبل.
وكانت حميدة مقبولة السمات لا هي بالجميلة الباذخة الجمال، ولا هي أيضا على شيء مما يعاب في وجوه الفتيات، وكذلك كانت أختها. إلا أن حميدة كانت ذات شعر أسود داكن منساب تجيد التعامل معه، وتجعل منه وسيلة من الوسائل التي يكسب بها الفتيات وجوههن جمالا ورقة وعذوبة. وقد كانت حميدة وادعة، فيها طيبة وهدوء طبع، كما كانت أختها كذلك. وربما كان لشعور الفتاتين بما يدمنه أبوهما من شرب الخمر أثر في جعلهما تشعران ببعض الأسى الذي يلون هذا الهدوء، ويجعل فيه رضا بما قسمه الله لهما.
وإن لهارون عينا نافذة ظلت تنتقل بين الفتاتين في ذكاء ودهاء، حريصا دائما ألا يشعر الوالدان أو الفتاتان أنه ينعم النظر فيهما.
كان هارون فتى أقرب إلى الطول منه إلى القصر، وكان شعر رأسه مرجلا، ولم يكن بالشعر الكث، واسع الجبهة، ضامر الخدين، له ذقن مدبب، وأنف ووجه أقرب إلى الطول منه إلى الاستدارة. وكان من أولئك الناس الذين يستطيعون أن ينفذوا إلى الذين يلاقونهم بابتسامة ثابتة لا تترك فمه، ومع ذلك يستطيع أن يشيع فيها الحياة بما له من موهبة قادرة على إرضاء جميع الناس، والتلطف في الحديث إليهم، ومعرفة مواضيع الحوار القريبة إلى نفوسهم. بل وبمقدرة فائقة على الوصول في لمحة خاطفة إلى المكامن الخفية في نفوس محدثيه التي تجعلهم سعداء راضين عن أنفسهم وعنه كل الرضاء.
وانتهى الغداء وانصرفت الفتاتان، وخلا المكان بهارون وسعدون ووفية هانم.
ونظر سعدون إلى زوجته وقال: تتكلمين أنت أم أتكلم أنا؟
وفي ذكاء لماح قال هارون: إن كان لي رأي، أنا أرى أن صوت السيدات أجمل بكثير من صوت الرجال.
अज्ञात पृष्ठ
وقال سعدون مستجيبا لتظرف هارون: إذن قضي الأمر، تكلمي يا ستي.
وقالت وفية على استحياء: يعني يا هارون بك تأخذ أرض زوجي وتترك أرضي؟ - والله أحببت أن أجرب الأمر في أرض سعدون بك أولا. - ولماذا لا تجرب في أرضنا معا. - أنا أعرف أن عطا الله أفندي والحاج وافي يزرعان الأرض ويقدمان ريعها كاملا إليك. - الحقيقة أنا لا أشكو منهما شيئا فكلاهما رجل أمين، ولكنهما يزرعان الأرض زراعة تقليدية، وطبعا كثر خيرهما فهما لا يكسبان مني شيئا، إنما شعورهما أنهما ليسا مالكين ولا حتى مستأجرين يجعلهما خائفين من التعامل مع الأرض. - أنا أعرف أن الأرض ليست مؤجرة. - هذا صحيح، إنها ليست مؤجرة. - لا تنسي يا هانم أن عطا الله أفندي والحاج وافي مع ما هو مشهور عنهما من أمانة، يكسبان من الأرض مكسبا كبيرا. - أترى ذلك؟ - يكسبان الوجاهة، وشعور الناس بالحاجة إليهما. - والله، جايز. - بل مؤكد، وأظنك تأخذين من كل منهما ألفا وخمسمائة جنيه كل عام.
قال سعدون: حتى هذه تعرفها؟
وقالت وفية: فعلا.
قال هارون: أيرضيك أن أدفع إليك في الأرض كلها أربعة آلاف جنيه؟ - على بركة الله. - وسأوقع العقدين مع عطا الله أفندي والحاج وافي. - وهو كذلك، ونحن سنبلغهما أن يسلماها إليك. - على بركة الله.
الفصل الرابع
جلس هارون إلى والده وأمه وهما يشربان قهوة الصباح، وقال الحاج حامد: هيه يا هارون، ماذا تنوي أن تزرع أرض سعدون وزوجته؟ - والله يا أبي لم أقرر بعد. أبحث في فكرة زراعة موالح. - ربنا يوفقك يا ابني. - المهم أريد أن أقول لكما شيئا أعتقد أنكما ستفرحان له.
وقال أبوه: هيه هل آن الأوان؟
وقالت الأم في فرحة: أخيرا نويت؟
وضحك هارون مقهقها وهو يقول: وهل قلت شيئا؟
अज्ञात पृष्ठ
وقال الحاج حامد: بل قلت كل شيء.
وقال هارون: إذن موافقان؟
وقال الحاج: على الزواج نعم، ولكن ألا تخبرنا من العروس؟
قال هارون: حسبتك عرفتها؟
وقالت الأم: حميدة بنت سعدون عمارة.
وضحك هارون: وكيف عرفتها؟
وقال الحاج حامد في ظرف وابتسامة: المسألة لا تحتاج إلى ذكاء. - وما رأيك يا أبويا؟ - والله لا عيب فيها إلا إدمان أبيها للخمر.
وقالت الحاجة توحيدة: ونحن ما لنا وما له؟
وقال الحاج حامد: توكل على الله، إن سعدون صديقي وحبيبي منذ سنوات.
وشدت الأم ابنها فقام من مجلسه، واحتضنته أمه في سعادة غامرة ودموع من الفرح تترقرق في عينيها: ألف مبروك يا بني، ألف مبروك يا هارون.
अज्ञात पृष्ठ
وقال هارون: على مهلك يا أمي، ألا نعرف أولا إن كانت عائلة سعدون موافقة أم لا؟
قالت الأم: لا، من هذه الجهة لا يكن عندك فكر. طبعا موافقة.
وقال هارون: متى تستطيعان السفر إلى القاهرة؟
وقال الحاج حامد: إن شئت قمنا معك الآن.
وقال هارون: لا ليس إلى هذا الحد. نكلمهم أولا ونتفق على موعد.
وقال الحاج حامد: وهو كذلك. •••
إن للفتيات في سن حميدة ووجيدة حاسة سادسة يدركن بها أن هناك نظرة نافذة تحيط بهن، وتتعرف ما يحاولن أن يخفينه من أعماق نفوسهن.
وبهذه الحاسة لم يخف عن حميدة ووجيدة النظرات المتلصصة التي كان يختلسها هارون طوال فترة الغداء.
وأدركت حميدة أنها أقرب إلى اختياره من وجيدة: كانت نظراته إلي أكثر تعمقا. والله لا بأس به، ربما كان أكبر مني قليلا ولكنه مناسب على أيه حال، وأحسب أنني أستطيع أن أطمئن إلى حياتي وأنا زوجة له. وأنا - والحمد لله - لا أحب أحدا بذاته، وإن كان توفيق قريبنا الذي لا أعرف درجة قرابته لي يحاول أن يشعرني باهتمامه بي، إلا أنني لا أرتاح إليه. إنه لا يعرف شيئا عن مشاعر الحب التي يحاول أن يتخفى وراءها بالنظرات التي أحس فيها بالكذب، والكلمات التي أشعر فيها بالاصطناع الذي يفشل أن يخفيه.
وأحسب أن توفيق بلا مشاعر على الإطلاق. وأرى أيضا أن هارون بلا مشاعر على الإطلاق، ولكنه لا شك ذو عقل واع رصين تجربته أكبر من سنه بكثير. ثم هو ليس فقيرا فقر توفيق، فإن كان يفكر في مال أبي وأمي فليزيد هذا المال، فليس هناك ما يدعوه أن ينهبه. أما توفيق فشاب ما زال في نزق الشباب، وليس بعيدا حين يخلص هذا المال إلي بعد عمر طويل أن ينهبه توفيق لينفقه على ملذات الشباب، الأمر الذي لا أخشاه مطلقا من هارون؛ فواضح أن هارون كلف بالثروة ولوع بالغنى. ولا بأس على أن يكون زوجي، فأغلب الأمر أنه سيجعلني سعيدة في حياتي، وأنه سيجعل حياتي هذه بلا مشاكل على الإطلاق. وأنا أعرف نفسي وأعرف أنني أحب أن أحيا حياة راضية، وإن كنت أحب الأشياء النفيسة، فلا يستطيع أحد أن يلبي هذه الرغبات التي تزخر بها نفسي إلا رجل غني، وواضح أن هارون سيصبح ذلك الغني الذي يتمنى لنفسه أن يكونه.
अज्ञात पृष्ठ
أما وجيدة فقد أحست بنظرات هارون: واضح أنه اختار حميدة؛ فأنا وحميدة متقاربتان في الجمال. وطبيعي ما دام الأمر كذلك أن يختار الكبرى ما دام الاختيار قائما على العقل وحده، فما رآني ولا رأى حميدة قبل اليوم، وليس في شيء يجعله يفضلني على حميدة.
وفيم العجلة؟ فكما وجدت حميدة هارون، أو كما وجد هارون حميدة، فالطبيعي والمعقول أن أجد من يجدني أنا أيضا، فهنيئا لحميدة بهارون، وهنيئا لهارون بحميدة. •••
لم يدهش سعدون ولا دهشت وفية حين دق جرس التليفون في منزلهما وكان المتحدث الحاج حامد بركات؛ فكلاهما لم يغرب عنه سرعة اقتناع هارون أن يتولى أرض وفية كما تولى أرض سعدون، ورأيا في ذلك دلالة على أنه انتوى شيئا، ولم تستطع وفية أن تكتم ما جاش في صدرها: أتراهنني أنه ينوي أن يخطب واحدة من البنتين؟ - لا، لا أراهنك فهذا أمر محتمل. وما رأيك؟ - والله الرجل لا عيب فيه. - ربما كان أذكى مما ينبغي. - وهل هذا عيب؟ - أحيانا كثيرة يكون الذكاء المفرط شرا من الغباء. - ما هذا الكلام؟ - عيب الأذكياء أنهم لا يقدرون ذكاء الآخرين فيقعون في مشاكل لا حد لها. - ما هذه الفلسفة؟ - تعلمتها من تجاربي مع الناس، ومن كثرة ما قرأت. - أهذا عيبه في نظرك؟ - وهو يتعجل الغنى. - الله يبارك له. - عيب هؤلاء أنهم لا يذكرون الله كثيرا ولا يعنيهم أن يرضوه. - يا أخي قل هذا الكلام لنفسك! - الله يعلم ما بيني وبينه، أما إن كنت تقصدين الخمرة فعقوبتها ستون جلدة، وأنا عامل حسابي أن يجلدني الملائكة الجلدات الستين، ثم سيكون كتابي بعد هذا في يميني إن شاء الله. - عيني عليك باردة، أنت مرتب كل أمورك مع ربك. - حسبي أني لا أوذي أحدا. - بل أنت تؤذي أهم إنسان بالنسبة لك. - من هذا؟ - نفسك. أنت تحطم كبدك، والذي لا يحافظ على نفسه لا يستطيع على أن يحافظ على الناس. - المرض والموت من عند الله. - سبحانه من عنده كل شيء، ولكن الإنسان لا ينتحر ثم يقول الموت من عند الله، هذا كفر. - الكفر والإيمان الله وحده يعلمه. - ألا تخشى أن تعتدي على أحد وأنت سكران؟ - أنا لا أشرب إلا بعد أن أصلي العشاء، وكل الذين حولي سكارى والحمد لله، والسكران يفهم السكران الآخر ولا يغضب منه. - عجيبة! إننا نسمع كل يوم عن السكران الذي قتل، والسكران الذي بطح. - أتظنين أنني يمكن أن أقتل أو أبطح؟ - المهم هل معنى هذا أن نرفض هارون؟ - أنا لم أقل نرفضه، ولكن فقط أذكر لك عيوبه، وأدعو الله أن يقيه شر نفسه ولهفته على جمع المال. - ولمن سيكون هذا المال، أليس لابنتك وأحفادك؟ - يا وفية المهم ليس المال، إنما المهم كيف نجمع هذا المال. - أيسرق؟ - إذا تأكد أن أحدا لن يكشف سرقته. وهناك وسائل كثيرة لجمع المال عند المنهوم، السرقة واحدة منها. - اترك المستقبل لله. - كان التليفون الذي دقه في منزلهم الحاج حامد يوم السبت، وتواعدوا على أن يتناول الحاج حامد وأسرته الغداء في بيتهم يوم الإثنين. •••
قال حامد: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، أنا يا سعدون بك أملك أربعين فدانا وبيتا في المنيرة، ولذلك لم تنل مني الثورة سهما واحدا. وأنا وأنت أصدقاء منذ زمن بعيد. - نحمد الله ونشكر فضله. - منذ أول قانون بعت الأرض بعقد مسجل في الشهر العقاري لهارون ابني، ولم يبق على ذمتي شيء إلا البيت. وهارون هو الذي ينفق علي أنا وأمه، ونحن مطالبنا لا تزيد على اللقمة والهدمة وفنجان القهوة. - أطال الله عمرك. - ونريد أن نزوج هارون. - على بركة الله. - مد يدك واقرأ معي الفاتحة على خطبة حميدة لهارون. - على بركة الله، ولكن ألا ترى أن نسألها؟ - طبعا، قم فاسألها. - قد تطلب مهلة. - المهلة تكون حين تريد أسرة الخطيبة أن تسأل عن أسرة الخاطب، وهذا لا داعي له بيننا؛ فكل منا يعرف عن الآخر كل شيء.
ولأول مرة يتدخل هارون قائلا: يا أبي لا تحرج سعدون بك.
وقالت وفية: لا يا هارون، ليس هناك أي حرج، وإن كان على السؤال فسأقوم أنا وأسألها الآن.
وقال الحاج حامد: توكلي على الله.
وقامت وفية وعادت وعلى وجهها إشراق الأم حين تفرح بابنتها وقالت: اقرأ الفاتحة يا سعدون على بركة الله.
وما هو إلا شهر وبعض شهر حتى تم الزواج.
الفصل الخامس
अज्ञात पृष्ठ
كان الحاج حامد قد اشترى بيته بالمنيرة أيام الحرب العالمية الثانية، وكان يقيم به أوقاتا كثيرة، إلا أنه أخيرا فضل أن يقيم ببيته في قريته الحمايدة ولا يترك الريف؛ فقد كان أصدقاؤه في القاهرة أغلبهم قد اشتغل بهموم الدنيا التي تكاثرت بعد الثورة، فوجد أن في إقامته بالحمايدة ما يعينه على قطع الوقت مع أهل البلد الذين يزورونه، وفي لعب النرد مع بعضهم وأغلب القاصدين إليه.
وربما كان مختار عمر أكثر الزائرين له انتظاما في الزيارة. ومختار عمر مدرس ابتدائي أحب الحاج حامد وأنس إليه، وكان يلعب معه النرد أحيانا، حتى إذا ملاها جرى بينهما الحديث تعليقا على ما جاء في الصحف، أو تعليقا على ما يحدث في القرية أو في القرى المجاورة. وكان مختار يزور الحاج حامد في الصباح حين ينتهي من دروس المدرسة، ويتركه وقت الغداء ليعود إليه بعد القيلولة ليستأنفا ما انقطع من حديث الصباح أو الظهيرة. وكان هناك زائرون كثر للحاج حامد، فهو يحظى بين أهل الحمايدة بالحب والتقدير؛ فقد كان رجلا سمحا في معاملته للناس، حريصا أن يرضي الجميع، وكان يعين الناس على قضاء حوائجهم. وكانوا يعرفون أنه ليس ذا ثراء؛ فلم يكن أحد يطلب إليه أن يعينه بمال، هبة كان هذا المال أو كان قرضا. وكان منتداه في الصيف حديقة غير معتنى بها، ولكنها تقع من البيت في مكان ظليل بجوار جدار البيت. وكان هذا المنتدى في الشتاء قاعة واسعة داخل البيت، نظيفة الأثاث في غير أناقة. وهكذا تيسرت له الحياة. وكان هارون بارا به، يراعي دائما أن يجعله هو ووالدته في غير حاجة إلى شيء. وكان إلى ذلك الحين يلبي أية رغبة لهما حتى وإن لم يبدياها، رغم أنه كان يجهد كل الجهد في الحصول على المال لكثرة الدين. وحين صدر قانون الإصلاح الزراعي كان الحاج حامد يزرع فدادينه الأربعين كلها، ولم يكن ماهرا في الزراعة؛ ولهذا أصبحت الأرض مدينة لبنك التسليف بدين ليس هينا، وإن كان لا يستغرق الأرض كلها.
وقد أدرك هارون أنه لا يصلح للتعليم في سن باكرة، ولم يكن أبوه حريصا على إرغامه أن يكمل تعليمه؛ فقد كان قد تبين فيه هوايته الشديدة للزراعة، وارتأى أن إشرافه على الأرض سيكون خيرا له من الشهادة، خاصة وأنه يتعثر دائما في دراسته، كما يتعثر أبوه في زراعته.
ترك التعليم وهو في الثالثة الثانوية، وكانت حتى ذلك الحين تعادل الأولى الثانوية الآن. وبطبيعة الحال لم يتول شأن الأرض منذ بقائه بالبيت، وإنما ظلت الأرض تحت رعاية أبيه. وحين صدر قانون الإصلاح الزراعي كان هارون هو فعلا الذي يرعى الأرض ويعامل بنك التسليف، وما كان على أبيه إلا التوقيع حين يطلب إليه هارون هذا التوقيع.
فحين صدر القانون خشي الحاج حامد أن تصدر قوانين أخرى. ولحسن حظه أو حظ هارون - إن شئت - أنه لم يكن يؤجر الأرض، ولا كان يشارك الفلاحين بالمزارعة فيها، وإنما كان يزرعها جميعا لحسابه، وكذلك فعل هارون حين استقل بالإشراف على الأرض.
كان هارون قد شغلته الأرض ورغبة الغنى حتى عن نفسه، وخاصة أن حالة الزراعة في الفترة التي أعقبت القانون وما استتبعه من إجراءات جديدة في بنك التسليف، وهبوط أسعار المحاصيل، كل ذلك جعله ذاهلا عن كل شيء، إلا أن يواجه هذا الطوفان الجديد، وإن لم يكن خاضعا لأهوال هذا الطوفان.
وهكذا لم يفكر في الزواج إلا بعد ذلك بسنوات، وربما كان لقاؤه بحميدة هو الذي جعله يتذكر أنه لم يتزوج بعد، وأنه قد آن له أن يفعل. وما كان إلحاح أمه عنده إلا كلمة عابرة تلتقطها منه أذن وتفلتها منها الأذن الأخرى. وحين تزوج كانت الليلة الأولى موقفا صعبا بالنسبة إليه وإلى حميدة في وقت معا؛ فهو مع خبرته الواسعة في معاملة الحياة والناس لم يتعود أن يعامل النساء إلا في نزوات عابرة كانت تتم في الليالي التي يقضيها بالقاهرة. أما حميدة فموقفها موقف الفتاة الشريفة التي عاشت عمرها كله في بيت أبيها، ولا تعرف عن الرجال إلا ما كان زميلاتها في المدرسة يتهامسن به تهامسا خاطفا لا يكون تجربة ولا يقدم علما، خاصة وأنها تركت المدرسة في سن مبكرة. وكانت الليلة الأولى في بيت المنيرة؛ فقد استقر الرأي أن يقضوا فيه الأيام التالية للزواج.
وحين خلت بهما الحجرة: شرفت منزلك. - شكرا. - إن شاء الله سأعمل على أن تكوني سعيدة دائما ولا تحملي هما. - أتوقع هذا منك. - وما الذي جعلك تتوقعينه؟ - الذي سمعته عنك والذي رأيته فيك. - وماذا سمعت؟ - أنك حملت مسئولية بيتك وأنت في سن صغيرة، وأنك جاد في حياتك، وأنك قادر على جعل الناس يحبونك. - الحمد لله! وما الذي رأيته في؟ - رأيتك في لقائي الوحيد بك تزن الكلام قبل أن تقوله، وتأبى أن تقول كلاما إلا إذا كان له معنى. - أرجو الله أن تكون حياتي معك محققة لهذه الآراء. - إن شاء الله. - قولي لي. - أقول لك. - هل تحبين البقاء في هذا البيت الكبير، أم نجعل الإقامة الأساسية لنا في البلد؟ فقد قال لي والدك مرة إنكم تحبون أن تقضوا في الريف بضعة أيام من حين إلى آخر. - هذا صحيح. - ثم إنك في البلد ستجدين أمي وأبي معك دائما، وهنا ستكونين وحدك في فترات طويلة، فأنت تعرفين أن دخلنا الأساسي من الزراعة، ولا بد لي أن أكون قريبا من الأرض أغلب الوقت. - واضح أنك تريدني أن أقيم في البلد؟ - ذكاء توقعته منك. - أنا أواجه حياة جديدة، وأريد أن يكون أساس معاملتي لك الصراحة والصدق. - أحب هذا. - ولو أنك لا تفعله.
وقهقه هارون وهو يقول: وكيف عرفت هذا أيضا؟ - واضح أنك بارع في الدوران بالحديث، وأن لك قدرة على أن تجعل الرغبة التي في نفسك تعرض عليك من الذي تحدثه، فيبدو الأمر كأنه عرض منه هو لا رغبة في نفسك أنت.
وقهقه مرة أخرى وهو يقول: واضح أنك تحاولين في ذكاء شديد أن تحللي كل جانب من جوانب نفسي. - أنت منذ اليوم المحور الذي تدور عليه حياتي كلها. - وأنت أيضا. - أشكرك، ولكن هذا مستحيل؛ فإن لك مشاغلك في الزراعة وزيادة دخلك ومعاملة الناس، فأنا قد أمثل جانبا هاما في حياتك، في حين تمثل أنت حياتي كلها. - ولكن كل هذه المحاور التي قد تشغلني الهدف منها أن تجعل حياتنا سعيدة. - إن الرغبة في الغنى أغلب الأمر تكون غريزة في النفس، وإن كانت تحاول أن تبحث لنفسها عن مبررات أخرى. - ماذا قرأت من كتب؟ - لا أخفي عليك أني أحب القراءة والروايات، بالذات العربية، والأجنبية الفرنسية بالذات؛ فقد كنت في مدرسة فرنسية إلى السنة الثانية الثانوية. - أعرف، وواضح أن ثقافتك أكبر بكثير مما حصلته في المدرسة. - وماذا تقرأ أنت؟ - أنا كما تعرفين لم أكن تلميذا مجدا ... - هذا لا شأن له بالقراءة. - أحب أن أقرأ في الاقتصاد. - طبعا. - ولا أخفي عنك أن قراءتي فيه تجعلني حين أتحدث إلى أساتذة الاقتصاد الكبار أفهم لغتهم كل الفهم. - مؤكد، وأغلب الأمر أنك تجادلهم مجادلة الند للند. - الحقيقة لا أشعر أنهم يعرفون شيئا لا أعرفه. - ليس هذا بغريب عليك، فما دمت تقرأ في الاقتصاد فأنت مثلهم في العلم النظري، وتزيد عليهم في الممارسة العملية. - إنك ماهرة جدا في الحديث. لقد استطعت أن تبعدي بنا عن سؤالي الأول ولو أنني أحسب أنني عرفت الإجابة. - لا شك أنك عرفتها. - لك ما شئت، فلتقيمي إذن في القاهرة. - ولكن هذا لا يمنع أن أرافقك إلى البلدة حين ترغب في ذلك. - اتفقنا. •••
अज्ञात पृष्ठ
توثقت الصداقة بين سعدون والحاج حامد، فكان الحاج حامد يحرص كل الحرص أن يزور سعدون كلما جاء إلى زيارة زوجة ابنه. وكان سعدون يأنس إلى الحاج حامد، وكان يكثر من زيارته في البلدة، ويعود في نفس اليوم حتى لا تفوته جلسة المقهى.
وجرت الحياة رخاء في الأسرة الصغيرة الجديدة، وفي الأسرتين الأخريين اللتين جمعهما النسب الجديد.
وشاء الله أن يكون زواج هارون خيرا وبركة على بيت سعدون؛ فلم تمض إلا شهور ثلاثة حتى تقدم لخطبة وجيدة أستاذ بدرجة مدرس في كلية الحقوق يملك أبواه حوالي عشرين فدانا وهو ابنهما الوحيد، هو أيضا شأن هارون في عائلة حامد. ولم يكن العريس أمجد حماد قد رأى العروس، فدبرت تحية هانم الأحمدي واسطة العريس اللقاء، ورضي كل من العروسين عن الآخر. وتم الزواج بعد شهرين من الخطبة، وسكن الزوجان حي الجيزة ليكون الزوج قريبا من الجامعة. ولم تمر سنة حتى رزقا بهناء، ثم مرت سنة أخرى ورزقا بأيمن.
الفصل السادس
ما هذا الذي حدث؟! كيف استطاع هارون أن يجحد فضل أبويه هذا الجحود؟ لقد أصبح لا يزورهما إلا في القليل النادر، حتى إنه كان يزور القرية ويمر بالأرض ولا يلقى والديه، وإنما يذهب إلى مزارعه الأخرى.
ربما زارهما مرة في الشهر، أو قد يمر شهران أو أكثر ولا يراهما! وكأنما كان الحاج حامد يتوقع هذا، ولكن الحاجة توحيدة كانت تعيسة بهذا التجاهل من ابنها تعاسة فاجعة.
وكان هارون قد دأب أن يسهر مع حميه سعدون، ولكنه كان لا يشرب معه إلا في القليل النادر. وفي هذه السهرات تعرف على عبد المجيد زين الدين، وكان زين الدين مشهورا أنه من كبار الأغنياء. وفي ليلة سأل هارون: ماذا تزرع يا هارون؟ - أحاول زراعة الموالح. - تحتاج إلى صبر طويل وإنفاق كبير وخبرة عميقة. - وماذا ترى سعادتك؟ - أتعرف مكتبي في شارع قصر النيل رقم 14. - عظيم. - تمر علي غدا الساعة الثانية عشرة.
قال له في المكتب: عندي لك زراعة تكسب منها مبالغ خيالية. - خيرا؟ - الأعشاب الطبية. - سمعت عنها، ولكن كيف أبيعها؟ - هذا عملي؛ فإني متعاقد مع شركات أجنبية، وإني سأشتري منك المحاصيل كلها، وسأدلك على محلات التقاوي وكيفية الزراعة، وأدفع لك مقدم ثمن المحصول حتى لا تتكلف أنت وحدك الإنفاق عليها. وتستطيع أن تبقي في نفس الوقت على أشجار البرتقال. - شيء عظيم. - نكتب عقدا؟ - عشرة عقود إذا أردت. - سنكتب عقدا واحدا على أربعة أنواع من الأعشاب، وبعد أن تجرب الزراعة نزيد العقود إن شاء الله. - وهو كذلك.
وكانت فاتحة خير عميم على هارون؛ فقد بدأ يزرع هذه الأعشاب وبرع في زراعتها براعة فائقة، واستطاع أن يبقي أشجار الموالح في الأرض، وكسب آلافا من الجنيهات. •••
ومرت سنوات ازدادت فيها ثروة هارون زيادة فائقة، وأنجب في خلال هذه السنوات شهاب وفائق من بعده، وطبعا فرح بولديه ولكن فرحه بالمكاسب كان أكبر. وكانت حياته في البيت هادئة مطمئنة، ولم يكن ازدياد ثروته مفاجأة لحميدة؛ فقد كانت تعرف رغبته العارمة في الغنى والاستكثار من الأموال. •••
अज्ञात पृष्ठ
لم يكتف هارون بالمكاسب التي كانت تدرها عليه عقوده مع مكتب عبد المجيد زين الدين، فتاقت نفسه إلى مكاسب أعظم، حتى وإن ضحى بمن كان سببا في هذا الغنى الذي بلغه؛ فراح يغدق المال على رفعت فواز سكرتير عبد المجيد زين الدين، وقد كان مثله شرها للمال. وفي يوم: - قل لي يا رفعت. - تحت أمرك يا هارون بك. - لو طلبت منك شيئا؟ - لا أتأخر. - أسماء الشركات التي يتعامل معها عبد المجيد زين الدين في الخارج. - آه، وماذا تصنع بها؟ - مجرد علم. - هارون بك أنت رجل ذكي، فأرجوك لا تظن أن الآخرين أغبياء. - أعطيك عن اسم كل شركة خمسمائة جنيه. - ألف. - ألف.
وعرف الأسماء وعناوينها، وسافر إليها، واستطاع في سهولة أن يغري الشركات بالتعاقد معه على أن يكون وكيلها في مصر وفي الشرق الأوسط كله، وقد كان واثقا من نجاح عروضه؛ لأن الأسعار التي قدمها كان فيها للشركة أرباح أكبر مما يحققه لها عبد المجيد زين الدين.
ولم يهم هارون أنه قطع مورد الرزق الوحيد الذي كان يعيش عليه عبد المجيد زين الدين، ولم يهمه أيضا أن الحياة سترغمه على لقائه؛ فعند المال كل شيء مباح، وكل شيء يهون.
كان لقاؤه بعبد المجيد زين الدين في المقهى مع سعدون. ولم يقل عبد المجيد شيئا أول الأمر، حتى إذا شرب كأسه الثالثة وسرت حمياه في دمائه.
نظر إلى سعدون: سعدون. - أفندم؟ - أهنئك. - خير إن شاء الله. - لقد زوجت ابنتك الكبرى لأسفل رجل في العالم. - أعوذ بالله لماذا هذا؟
وقال هارون: لا عليك يا عمي؛ فإن الخسارة مؤلمة.
فقال سعدون: هل تسببت في خسارته؟
وقال عبد المجيد: خسارة هينة. خرب بيتي تماما.
وقال سعدون: لا حول ولا قوة إلا بالله! لماذا يا هارون؟ لماذا يا ابني أنت غير محتاج.
وقال هارون في تحد وصلافة وجمود وجه: السوق لا يعرف إلا من يفهمه.
अज्ञात पृष्ठ
وقال عبد المجيد في ثورة مكبوتة: بلا شرف؟ - هذه ألفاظ لا شأن لها بالسوق.
وقال سعدون: بل التجارة شرف يا ابني. لا حول ولا قوة إلا بالله!
وقال هارون لينهي المناقشة: أستأذن أنا ... سلام عليكم.
وقال عبد المجيد: الله يخرب بيتك كما خربت بيتي ... مع السلامة. ولماذا السلامة؟ مع الموت والخراب إن شاء الله.
وانصرف هارون، وتجهم المجلس، وقال سعدون: لا علينا، نعود إلى ما كنا فيه.
وعندما حان انصرافهم همس سعدون في أذن عبد المجيد: أنت بكرة في المكتب؟ - إن شاء الله. - انتظرني الساعة الثانية عشرة. - أهلا وسهلا.
سعدون في طبيعته هادئ خجول، ولعل كثرة قراءته زادت من خجله هذا.
لا يزول عنه خجله إلا حين يشرب. وكان في مجلسه من عبد المجيد أسيفا يكاد الحياء يرتج شفتيه، ولكنه كان مصمما أن يقول ما يريد قوله: أنا آسف. - وأنت ما ذنبك؟ - علي الأقل عرفته عن طريقي. - كان يمكن أن أعرفه عن طريق أي إنسان. - على كل حال أنا أشعر كأنني أنا المذنب. - الأمر لله. - أنا لا أستطيع أن أعوضك عن الخسارة التي لحقت بك، ولكنني أرى من واجبي أن أخفف وقعها عليك. - أنا شاكر مشاعرك على كل حال. - المشاعر في هذه المواقف لا تعني شيئا. - لا يملك الناس غيرها. - عبد المجيد، لك عندي في كل شهر مائتا جنيه. كنت أتمنى أن أقدم لك أكثر ولكن ... - ما هذا الذي تقول؟! - ما سمعت. - وكيف أقبل؟ - لتفكر أولا كيف تعيش مستورا.
وصمت عبد المجيد وأطرق، ولم يستطع أن يرد دمعتين تحدرتا على وجنتيه. - لا أستطيع في حالتي التي أنا عليها اليوم أن أمتنع، فإن تكن كرامتي ترفض فحاجتي تلح. - أخوك ويقف إلى جانبك. - ونعم الأخ! - سلام عليكم. - مع ألف سلامة مع الشكر ... لا أستطيع ...
واختنق مرة أخرى بالبكاء. - السلام عليكم. •••
अज्ञात पृष्ठ
ولم يقل سعدون شيئا لهارون عما صنعه مع عبد المجيد، فكان شأن هارون عجيبا معه؛ فقد زاد من المبالغ التي كان متفقا عليها معه ومع حماته دون أن يطلب ذلك؛ ربما لأنه كان يعلم أن إباحة الأرض له ليزرعها قائمة على توكيل من صاحبي الأرض الصوريين، فكان في مقدور سعدون وزوجته أن يأمرا عطا الله أفندي والحاج وافي بأن يسقطا التوكيل عن هارون كما يسقطه عنه سعدون نفسه. وإذا فقد هارون هذه الأرض فإنه يفقد شيئا ليس هينا، ولو أنه استولى بنفس الطريقة على أرض أخرى كثيرة، أصحابها يقيمون بعيدا عنها ولا قدرة لهم على مواجهة الزراعة، ولكن مساحة الأرض المتاحة له من حميه وحماته ليست بالشيء القليل، وهو أيضا حريص ألا يسيء إلى بيته، ولا ينغصه من ناحيته منغص. فلو أن حماته وحماه لم يرضيا عنه لأثار هذا ما لا يحب له أن يثور من مشاكل في بيته.
أما أبوه وأمه فلا يستطيعان أن يثيرا مشاكل فبخل عليهما بخلا شديدا؛ فكانت تمر شهور لا يرسل إليهما مالا مع علمه أن لأبيه ريع أرضه التي استولى عليها، وله أيضا بيته الذي يقيم فيه، وإن يكن قد جمل بيت أبيه هذا وأثثه بأفخر الفراش، إلا أنه يظل مع ذلك بيت أبيه.
الوحيد الذي كان يزور حامد وزوجته من القاهرة هو سعدون، وقد أصبح يصحب حفيديه شهاب وفائق ليزورا جديهما ويمرحا في القرية في كل يوم جمعة. وأنس الطفلان إلى الجدين أنسا شديدا. وكان المال الذي يرسله إليهما هارون كلما تذكرهما لا يكاد يفي بما يحتاجان إليه من طعام وملبس ودواء، فكانا في ضيق مالي شديد لم يخف أمره على سعدون، وكان حائرا ماذا يستطيع أن يفعل إلا أن يأتي في كل أسبوع بهدية كبيرة نافعة للأبوين المهجورين، فأحيانا يأتي لهما بطعام وفير، أو يأتي لهما بملابس، وكان يقبلانها في إذعان يقرب إلى الذلة.
وتعرف سعدون في هذه الزيارات على أصدقاء حامد جميعا، وأنس إليهم وأحبهم. •••
مرضت الحاجة توحيدة وعادها طبيب الوحدة وهو صديق؛ فلم يقبل أن يتقاضى أجر الزيارة. ولم يكن المرض خطيرا ولكنه كان يحتاج إلى دواء على أية حال، وليس معهما ثمن الدواء، واضطر الحاج حامد كارها حزينا أن يطلب ابنه في التليفون ويخبره أن والدته مريضة. - مريضة بماذا؟ - المصران الغليظ. - بسيطة. - الحمد لله. - على كل حال سأحضر قريبا لأراها. - أهلا بك.
واستكبر الأب أن يقول لابنه أرسل الدواء، ووضع سماعة التليفون. ورأت الأم ما ارتسم على وجهه من أسى وشجن وحزن، وقامت من فراشها، وما هي إلا لحظات حتى عادت: حاج حامد. - نعم يا توحيدة. - لا تحمل الهم أبدا، خذ هذا الكردان. - حتى المصاغ القليل الذي تملكينه ستبيعينه هو أيضا؟! - بيعه خير من أن يرثه ابن لنا جحد أبويه. بعه يا حاج حامد. ما فائدة المصاغ إن لم يكن عونا عند الشدة، فما دمنا فقدنا ضمير ابننا، فلا بأس علينا أن نستعين بمصاغنا.
وأخذ الحاج حامد المصاغ، ولم يكن معه أجر السيارة إلى الزقازيق أو القطار إلى القاهرة، فراح يفكر في الأمر.
ترك الحاج توحيدة في مجلسها وخرج يخلو بنفسه في غرفة الاستقبال، ولم يتح له مختار عمر أن يخلو إلى نفسه طويلا: سلام عليكم!
وفي صوت هادئ ليس فيه رنة الترحاب التي تعودها مختار منه: أهلا. - ما لك؟ - لا شيء. - بلا هناك أشياء . أنت تحمل هما ثقيلا. - ومن فيها مرتاح يا مختار؟ - المؤمن. - نحمده؛ فبالإيمان نحتمل الحياة. - كنت مسافرا إلى القاهرة، ولكنني لا أستطيع أن أتركك على هذه الحال.
أنا كنت ذاهبا أزور الأولياء وبعض أقاربي. - كتر خيرك.
अज्ञात पृष्ठ
ثم وضحت في ذهنه فكرة: مختار، أنا أريدك أن تذهب إلى القاهرة. - أسافر، أسافر حتى ولو لم أكن ناويا للسفر، فما بالك وأنا أنتويه. - الحاجة عندها قطعة مصاغ تريد أن تبيعها لتشتري بثمنها قطعة أخرى رأتها عند إحدى السيدات اللائي يزرنها. - وما له.
واعتصرت قلب مختار يد قاسية كبت آثارها أن تبدو على وجهه، فما يدري هل وفق إلى ذلك أم لم يوفق، وإنما قال كلمته السريعة، ثم صمت لحظات يكتم إجهاشة بكاء تعتصر فؤاده، حتى إذا استوثق أن صوته لن يخونه قال: هاتها. - هاكها.
فأخذ الكردان ووضعه في جيبه وقام: أقوم أنا لأعود مبكرا. - مع السلامة. •••
حين نزل مختار إلى القاهرة توجه من فوره إلى الصاغة وعرض الكردان للبيع، فكان أكبر ثمن له ثلاثمائة جنيه، فأعاده إلى جيبه، وقبل أن يغادر الدكان الذي كان فيه بحث في دفتر التليفون وعثر على الرقم الذي يريده وأدار القرص به: منزل سعدون بك؟ - وجاءه صوت سعدون. - نعم أنا هو، من الطالب؟ - مختار عمر صديق الحاج حامد.
ورحب به سعدون: يا أهلا يا مرحبا! أين أنت يا مختار أفندي؟ - أنا هنا في القاهرة وأريد أن أشوفك. - يا مرحبا نتغدى معا اليوم. - أعفني من الغداء، أريد أن أرجع اليوم. - تعال أولا ثم نتكلم في موضوع الغداء. •••
وقص عليه قصة الكردان ومرض الحاجة توحيدة، وأطرق سعدون طويلا وقد تمزقت نياط قلبه: ألهذا نأتي بمن يخلفنا؟! أنهب لهم مالنا وأنفسنا ليجعلوا منا حطاما من البشر؟ وفكر كثيرا: كيف سيصل بالمال إلى حامد دون أن يعرف حامد أنه منه.
وحين طال الصمت خشي مختار أن يكون قد جاء إلى من لا يعنيه الأمر، وأنه أخطأ المقصد والمتجه فزاد حزنه، بل أضيف إليه الخجل من نفسه والأسف أنه أذاع سر صديقه بغير داع إلى ذلك، وقال: سعدون بك كأني لم أقل لك شيئا.
وأفاق سعدون من أحزانه وقال في حدة: يا أخي انتظر، أو فكر معي على الأقل! - أفكر؟! فيم أفكر؟ - ألا تدري فيم تفكر؟ - لا والله، بل ولا أدري أن المسألة تحتاج إلى تفكير. - شأنك عجيب يا مختار أفندي! - هل شأني أنا هو العجيب؟ - أم تراك تظن أنه شأني أنا هو العجيب؟ - والله نعم. أظن أن شأني أنا ليس عجيبا. صديق لك في محنة وقصدت إليك، فبدلا من أن تدفع عنه هذه المحنة تصمت؟! - وهل هي محنة واحدة؟ - الموجود حاليا محنة واحدة. - بل محن كثيرة. - كثيرة؟ - المحنة الأولى جحود ابنهما لهما. والمحنة الثانية كيف نقدم المال لهذين العظيمين؟ إنهما ليسا فقيرين من الذين تعودوا مد أيديهم للناس وابنهما من كبار أغنياء مصر. أما مسألة الكردان هذه فلا قيمة لها. - كيف؟ - سأعطيك المبلغ وآخذ الكردان، وأجعل الحفيدين يشتريان لجدتهما قطعتين من الذهب ضعفي ثمن هذا الكردان، على أن يكون ذلك بعد شهر أو أكثر، حتى لا يظنا بالهدية منهما ظنا لا نريده أن يخطر على بالهما. - نعم التفكير. - كيف نقدم لهما هذا المال بعد ذلك، تلك هي المحنة. - ونعم الأخ أنت يا سعدون بك. - قل هل عندكم مكتب بريد. - عندنا. - إذن حلت. - كيف؟ - لا شأن لك. انتظر حتى آتي لك بثمن الكردان. تقول ثلاثمائة جنيه؟ - نعم. - ولكنك تستطيع أن تقول إنك بعته بأربعمائة. - أنعم وأكرم!
ومنذ ذلك اليوم كانت تصل الحاج حامد شهريا خطابات مسجلة بمبلغ ثلاثمائة جنيه مع بطاقة باسم هارون حامد بركات. ولم يقف المبلغ عند هذا الحد، بل كان يرتفع مع زيادة الغلاء حتى بلغ بعد سنوات ستمائة جنيه في الشهر. ولم ينس في نفس الوقت عبد المجيد؛ فقد كان يزيد له المبلغ الشهري حتى يواجه الغلاء الذي يفغر فاه المتوحش على الناس.
الفصل السابع
अज्ञात पृष्ठ