ولكنها لم تعتد أن تخفي عن حامد برهان أمرا ذا بال؛ فأشركته في همها قبل انتقاله إلى مجلس السمار. وفاق تأثره بالسر تأثرها؛ إذ كان عاطفيا أكثر منها، أو كان دونها في ضبط النفس، قال بنبرة المتشكي: أي حظ يا ابنتي! .. إنك درة التاج فلم تبتلين بهذه التجربة؟
وتفكر مليا ثم قال: إنه مشروع فاشل، ولكنه خليق بأن يقوم عثرة في سبيل من يطلب يدها!
ولم تر سنية حلما ذا معنى، وضربت تأويلات أم سيد للفنجان في آفاق بعيدة عن الموضوع. أما سليمان بهجت فقد عدل عن رغبته الملحة في إعلان الخطوبة، قانعا بعلاقة أقرب إلى الصداقة مورست في مودة وتحفظ وصينت بالصبر الطويل. على أن سرا بهذه الخطورة لا يمكن أن يبقى سرا طويلا؛ فما دام توجد رائحة نفاذة وجو ذو قابلية لسريان الرائحة فلا بد للرائحة من أن تنتشر. انكشف في بيت سليمان بهجت وقال له أخوه الضابط: أحسنت الاختيار.
وكثرة من زميلات منيرة بالكلية عرفنه، وزحف أخيرا على شارع ابن حوقل فنوقش في مجلس السمار، وبذلك عرف القاصي والداني أن كريمة حامد برهان الجميلة «محجوزة» فلم يتقدم أحد ليخطبها، مثلها مثل أختها كوثر التي طال بها الانتظار وتقدم بها العمر. وكانت أيام حرب وبلاء، واحتلت الوفيات الصفحات الأولى من الصحف ولكن على نطاق العالم، والتهم الخراب العواصم الزاهرة، ودنا الخطر من مصر حتى ترددت أنفاسه في القاهرة والإسكندرية، فقال حامد برهان: من راقب بلوى العالم هانت عليه بلواه!
واختل ميزان المعيشة؛ فتوارت الأسعار القديمة إلى الأبد، وانهمرت الثروات على أناس، فلم يبق في القعر إلا الموظفون، فتساءلت سنية: ما جدوى إمساك دفتر لميزانية وهمية؟!
ولولا عودة الوفد للحكم عقب أزمة خطيرة وتقريره علاوة الغلاء لهلك الموظفون. ولم يزعزع الحدث إيمان حامد برهان بوفديته، بل رقص السمار فرحا وشماتة بالملك. وقالت منيرة: إنه شيء بشع لا يصدق.
وقال محمد لأبيه: ما أفظع ما يقال!
فقال حامد برهان بثقة: كل قول جدير أن يتحطم على صخرة صلدة هي وطنية مصطفى النحاس.
فهزت سنية رأسها باسمة وتمتمت: نطقت بالحق.
وتمضي الأحداث، ويميل مؤشر النصر إلى الناحية الأخرى، ويقال الوفد كالعادة من الحكم، وبعد عامين يحال حامد برهان إلى المعاش لبلوغه السن القانونية، شد ما انقبض صدره حتى ساوره شعور بأنه يموت قبل الموت. لدى رجوعه إلى حلوان نازعا معطف الوظيفة لأول مرة اجتاحته كآبة ثقيلة، وداخله إحساس بالخجل كأنما ارتكب إثما. قال لنفسه: ما زلت في تمام الصحة والعافية.
अज्ञात पृष्ठ