وكان للأسرة حياتها الاجتماعية المشتركة، تجد في الرحلة سرورها، فيوم للحديقة اليابانية، ويوم للقناطر الخيرية، ويوم لدار الآثار، رغم أنها كانت أيام أزمة عالمية طاحنة، غير أن الموظفين ذوي المرتبات الثابتة وجدوا يسرا في ظل الكساد وهبوط الأسعار؛ فاقتلعت العاصفة الهوجاء كل قائم، ولاذت الأعشاب بالأمان فمرحت وهزجت بالأغاني. وكان حامد برهان يمضي بأسرته دون حجاب، غير مبال بالقيل والقال، فلم يمل إلى التزمت أبدا، وكانت وراءه امرأة تحسن التربية، وتعطي مثالا في أداء الفرائض والسلوك الطيب. وتمضي الأيام فلا يتقدم أحد لطلب يد كوثر وهي الوحيدة التي لا غاية لها إلا الزواج. وتبسط سنية راحتيها بالدعاء عقب كل صلاة، أو يتهلل وجهها بالبشر أحيانا وهي تقول لحامد: رأيت حلما سيكون له شأن!
أو تكلف أم سيد بقراءة الفنجان وتصغي إلى تأويلاتها الوردية؛ فينتعش حامد بالأمل يهدهد همه المطارد. وما يلبث أن ينسى همه إلى حين وهو يتابع أنباء المظاهرات، والصراع حول دستور 1923، والسعي نحو إيجاد وحدة قومية لمواجهة الموقف. ويتمخض الجهد والدم عن حدث غير عادي فتعقد معاهدة 1936. ليلتها ثمل حامد برهان بالنصر وقال للسمار: كلل جهاد الوفد أخيرا بالفوز المبين. •••
أجل كان ثمة آراء معارضة رددها الأستاذ راضي أبو العزم مدرس العلوم معتذرا بقوله «ناقل الكفر ليس بكافر.» وكانت وردت قبل ذلك على لسان محمد ومنيرة نقلا عما يسمعان في المدرسة. غير أنه لم يكن لها أثر يذكر في الأسرة؛ فسنية وفدية مثل زوجها ومحمد وفدي أيضا، حتى منيرة تعد وفدية بلا حماس، أما كوثر فلا تهتم إلا بما يدور في باطنها. أما في جلسة السمر فكان الوفد متسلطا دون شريك، فتساءل جعفر إبراهيم: كيف يتوقعون نتيجة أفضل من هذه؟
فقال حسن علما: المعاهدة ثمرة صراع مرير بين إمبراطورية طاغية من ناحية وبلد أعزل من ناحية أخرى، فهي مشرفة لا ريب في ذلك.
فقال حامد برهان: على من لا يقتنع أن يزحف على العدو بجيشه!
فقال خليل الدرس وكيل أعمال الوجيه نعمان الرشيدي: انتهت أيام اللعنات وسوف يحكم الوفد إلى الأبد!
ولكن بدا أن أيام اللعنات لا تريد أن تنتهي؛ فقد انفجر صراع جديد بين الوفد والملك الجديد، حول المعركة من معركة موجهة نحو الفقر والجهل والمرض إلى المعركة التقليدية حول الدستور والحكم الديمقراطي، وإذا بالوفد يطرد والأقليات تلعب دورا ديمقراطيا زائفا كغطاء متهتك للاستبداد الملكي. تبادل الأصدقاء نظرات أسى مشتعل بالغضب. أملوا أن يغضب الشعب غضبة من غضباته الماضية، ولكنه آثر أن ينتقل من مكانه العريق فوق خشبة المسرح إلى مقاعد المتفرجين، حتى تساءل حامد برهان: من أين جاءنا هذا الحظ الأسود؟!
واسترقت سنية نظرة إلى كوثر وقالت لنفسها: مثل حظك تماما يا ابنتي!
واكفهر جو العالم كله وتطاير منه الشرر، ثم انحسر قناعه الأصفر عن حرب عالمية جديدة. وأكثر من صوت قال: إيطاليا في ليبيا على بعد شبر منا!
وكان محمد قد التحق بكلية الحقوق، ومنيرة على وشك الالتحاق بالآداب، أما كوثر فما زالت تنتظر. ومحمد - مثل أبيه - انصهر بهزيمة الوفد وأنباء المعارك، وجذبت نظره ذات يوم لافتة مثبتة على قضبان شرفة شقة بشارع سعفان مسجل عليها بالخط الفارسي «الإخوان المسلمون» فدعاه حب الاستطلاع والتوتر إلى اقتحام الشقة. ومضى يختلف إليها من حين إلى حين، وينوه بما يلقى عليه فيها بين أسرته، حتى قال له حامد برهان: حسبك، إني غير مرتاح لذلك!
अज्ञात पृष्ठ