बकैय्यात
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
शैलियों
تحس بصوت الشاعر، وهو يحاول أن يمتد إليك كما يمتد الحبل لإنقاذ غريق. تنتبه للثلاثة
3
الذين يسيرون بجانبك مطرقين صامتين: الشاعر الكبير الأصلع الرأس، والشاعر المجدد الذي يشبه إخناتون، الناقد الممتلئ الطموح. تشعر أنك تهوي في جب معتم. يسرع الناقد بإدلاء حبل آخر: بالعكس. الهواء النقي هو ما يحتاجه الآن.
ترفع يدك لتتحسس موضع قلبك. تتأمل جسمك يتدلى من سقف الليل الأزرق.
يتلوى في جوف الجب الأسود. يسقط تحت سنابك خيل وحشية. يتفتت فوق الأسفلت. تتنفس بعمق وتتقلب السكين في صدرك. تنظر للصديق مبتسما: الهواء النقي هو ما نحتاجه جميعا. يخرج الشاعر الكبير عن صمته: خصوصا بعد يوم مرهق. تقول بعد فترة صمت: بالفعل. وتضيف لنفسك: بل يوم ميت. يسقط في أيام ميتة من أيام العالم مكرورة. يوم كذاب خوان، بعناه بثمن بخس، قايضناه وساومناه، ودفعناه للنخاس الأبدي، ثمن فطانتنا الصفراء. في الصباح والضحى تجمع في مكتبي أكثر من ثلاثين أو أربعين. ضاقت الغرفة على اتساعها بالثرثرة والدخان والضحكات وصليل أكواب القهوة والشاي، وطنين أجنحة الأشعار الزاحفة من الدواوين. بح صوتي من الكلام، كلت يدي من التأشيرات والتوقيعات، ضحكت كثيرا حتى أصبحت الضحكة غصة، نهرت حزني القديم أن يطل من ستائر الجفون، أمطرت الجميع بحكمتي ودعاباتي المرة، حلقت فوق سفوح الصغائر والأكاذيب، وتوقفت وحيدا عند القمة كالنسر الجارح والمجروح، تسللت كفي آلاف المرات لتمسح عش النسر الأبيض كالثلج، يتهدل فوق السالفتين كشلال فضي، لكل واحد كتاب أو ديوان أو مجموعة قصص يستعجل ظهورها لتغير وجه العالم، وكل واحد يتسمع طرقات أكف الملايين على بابي. وبقيت وحيدا كالأبطال القدماء، كالفرسان الحكماء المحزونين، كمغن سئم الجمهور ولزم الصمت.
تتتابع الخطوات، وتتهشم أصداء كعوب الأحذية على الأسفلت. تخوض الأقدام في ظلام الليل كأنها تخوض في نهر جف ماؤه. يعبر بعض المارة وتنداح أصواتهم في السواد والصمت. تتكسر مقاطع حروفهم على الرصيف كقطع الفخار. يا ليل يا ليل يا ليل.
تنعكس أضواء السيارات العابرة على عينيك فتهز رأسك: «أبعد رماح النور عني.» وتتثاقل أطرافك، تعلو الموجة، تطفر من عينيك، تصغر كالإعصار بأنفاسك. ترتجف الشفتان: «حزني ثقيل فادح هذا المساء.» يسارع الشاعر الكبير يقترب منك ويمسك يدك: لم يكن يقصد ما قاله. ترفع يدك في غضب مفاجئ: أرجوك. يشاركه الشاعر المجدد رأيه، ويغتصب ضحكة: قلبك كبير أكبر من كل ما قال. تمر بيدك على موضع القلب، كأنك تخرج الشوكة من موضعها. تحس الوخز، وتملك نفسك من أن تلفظ آه. يشارك الناقد صاحبيه في محاولة يائسة لانتزاع ضحكة منك: كم عذبناك بكلامنا. كم ناجيناك بألفاظ، كم آلمناك. لكن قلبك الكبير ... تتحسس موضع الصدر، وتلتفت إليه بعينين تقطران لوعة وموتا، تعاسة وصمتا. تحاول أن تنزع الشوكة، وتزم الشفتين من الألم، تهم أن تقول: حصل خير. تغالب الضحكة فيغلبها الحزن كوحش يجثم فوق غزال. تصعد بصرك إلى السماء التي تتواثب فيها السحب السوداء، وتخنف أنفاس النجوم الفضية، تطوف بعينيك كتل الليل الساكنة كقطط سوداء، تسمع صوتا في داخلك ينوح: «حزني ثقيل فادح هذا المساء. حزني غريب الأبوين. ويلتوي كالأفعوان يعصر الفؤاد، ثم يخنقه. وبعد لحظة من الإسار» يا ترى هل يعتقه؟ تبتسم للصحاب، وتحاول أن تضحك وأنت تتحسس صدرك: «معذرة يا صحبتي قلبي حزين.» يسارع الشاعر المجدد والناقد في صوت واحد: «من أين آتي بالكلام الفرح؟» يؤمن الشاعر الكبير على قولهما ويهتف وهو يربت على ظهر الشاعر، الذي يمشي بجانبه: راوية وشاعر. عندما نرجع لن أتركك، حتى تروي عني أيضا. وعندما تموت سنبني لك قبرين وشاهدين.
يضحكان وتتردد أصداء الضحكة على الفم، وتجاعيد الوجه، وأطراف الثياب، وتتناثر مع حبات الهواء البارد. يختلس الناقد نظرة حانية إلى وجهك. يلمح انقباضه بالألم. يرفع صوته ليداري غصة انزلقت في حلقه: «حزن تمدد في المدينة. كاللص في جوف المدينة.» يقاطعه الشاعر المجدد محاولا أن يستدرجك للكلام: «حزن ضرير، حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم. حزن صموت.» ثم تستغرقه موجة من الغناء فيمد صوته: «والصمت لا يعني الرضاء بأن أمنية تموت وبأن أياما تفوت، وبأن مرفقنا وهن، وبأن ريحا من عفن، مس الحياة، فأصبحت وجميع ما فيها مقيت.» ويضحك وحده فتتفتت ضحكته وتتهاوى على رصيف الشارع كالزجاج المكسور. وتنعقد سحابة الحزن على وجه الصحاب، فيسدد سهمه الضاحك مرة أخرى، ويهتف: «سنعيش رغم الحزن نقهره، ونصنع في الصباح، أفراحنا البيضاء أفراح الذين لهم صباح.» يحس أن السهم خاب. أوشك أن يرتد إلى صدره، يختلس النظر إلى وجهك يتحسس قشرة الأحزان الصلبة التي التفت حوله، تتلوى الكلمات في حلقه، وتتبعثر على شفتيه. تتطلع إليه بعين غاب عنها بريق الدعابة، تسحب نظرتك من وجهه إلى أعماق بئرك الدفين، توشك أن ترد على سؤاله الذي يخاطبك بلا صوت: «لا تسأل الشيء الحزين أن يبين؛ لأنه مكنون. شيء غريب غامض حنون. لعله التذكار. لعله الندم. لعله الأسى. لا تسأل الشيء الحزين أن يقر؛ لأنه كطائر البحار لا مقر. وقل له لقد ملكتني. فتحت لك. صندوق قلبي الكليم. فلتقطر الدموع كالنغم.»
تعاودك شكة الألم. وخزها أقسى ما كان. تنعقد خطوط جبينك، وتفتح فمك لتقول لنفسك: «لا شيء يوقف المأساة لا أحد.» يصعد من أعماق البئر الأسود صوت يناجيك: «من لي بمن يجس ذلك الشيء الحزين جستين؛ لكي يرى فجاءته، ويستبين وجهه ومشيته؟!» تمد ذراعك وتستند إلى الجدار الأبيض المرتفع على حافة الرصيف. تتحامل على نفسك وتسأل: أليس هذا هو المستشفى؟ يلتفون حولك منزعجين، يسرع الشاعر الكبير ليقترب منك ويمسك يدك: لم المستشفى؟ أنت بخير. تقول مداعبا بينما تفاجأ بيدك اليمنى وهي تستقر على صدرك: زيادة الخير خير. ألم بسيط. للاطمئنان. يصدق الناقد على كلامك. نعم لن نخسر شيئا . ما دام المستشفى قريبا. ينبهه الشاعر الكبير: قريب؟ إنك تلمس جداره. يقول الناقد وهو يتأبط ذراعك: على بركة الله. هيا بنا. تحاول أن تمد الخطى، أن تبدو في مظهر من لا يحتاج لكتف يستند عليها، أو لذراع تمسكه حتى لا يسقط. تتأوه في صوت مسموع: آه ما أثقل جسمي الليلة! تقتربون من البوابة الحديدية. تتلفت وراءك، وتمسح نظراتك صدر الليل وخصلات الشعر المنسدل على كتفيه: يا ليل. يا ليل. يا ليل. «عبرت بي آلاف الأقدام الهمجية. أقدام الأفكار الهمجية والنيات الهمجية، فتآكلت وشهوت. يا ليل. يا ليل. يا عين. داويني أيتها الغيمات الفضية. برحيق الأنداء الفجرية.»
يسبقك اثنان من الصحاب إلى الممشى المفضي إلى باب المستشفى. يتوقفان عند حجرة الحارس الليلي ويسألان عن الطبيب المناوب. تلمح رأس عجوز أشيب وعينيه الضامرتين تطلان من كوة زجاجية. تتجه مع الشاعر إلى سلالم الدرج الرخامي اللامع ببقع الضوء والظلال الرمادية الساكنة على صفحته. تحاول أن تبدو خفيفا، وأنت تحرك الأطراف الثقيلة كالأصفاد. تضع على فمك قناع ابتسامة تكشف عن المرارة ولا تخفيه، وتقول لنفسك: «حزني ثقيل فادح هذا المساء.» يقهقه الملثم الشرير ولا يسمعه أحد. يتسلل الطارق المجهول وراء الخطوات الصاعدة على الدرج ولا يراه أحد.
अज्ञात पृष्ठ