बकैय्यात
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
शैलियों
ودرة مكنونة في بحرها، لم انكشفت؟»
وهل يساوي العالم الذي وهبته دمك، هذا الذي وهبت؟
لا. لا أقول قد رحلت، بل أقول في غد سنلتقي كما وعدت.
1981م
خاتمة
لا أجد تعبيرا عن حياة صلاح وكفاحه لمعرفة نفسه ومجتمعه وعالمه خيرا من كلمات «روسو» في مقاله المشهور عن الفنون والعلوم: إنه لمنظر جميل وجليل أن نرى الإنسان يرفع نفسه من العدم بجهده الخاص، ويبدد بنور عقله تلك الظلمات التي لفته بها الطبيعة (لنقل: تلك الظلمات التي لفته بها الحياة العربية. في ليل الهزيمة والقهر والتخلف والثرثرة). أنه ليرفع نفسه فوق نفسه، وينفذ بروحه إلى أطباق السماء، وينطلق كالشمس بخطوات جبارة عبر الفضاء الشاسع للكون. أما الأمر الذي يبقى هو الأعظم والأصعب، فهو أن يعود إلى نفسه ليدرس الإنسان، ويعرف طبيعته وواجباته وغايته.
ومع أن هذه العبارات العاطفية المتحمسة لا تصور عذاب صلاح تصويرا دقيقا، إلا أنها تضع أيدينا على هذه الحقائق التي لا يدركها إلا أصحاب طريقه وجرحه، لقد استطاع أن يرفع نفسه بإرادته من العدم العربي المحيط به إلى الوجود الشعري الذي يبدد هذا العدم، ولو في لحظات الخلق المتاحة، هذا الارتفاع فوق العدم الذي يغرق هو وزملاؤه المبدعون في مستنقعه كل يوم - قبل الإبداع وبعده وفي أثنائه - قد مكنه في الوقت نفسه من العلو فوق نفسه المحدودة والمقيدة في أغلال المكان والزمان وفوق الموقف الأدبي والتاريخي والاجتماعي والسياسي الذي يحاصره. أما المناطق السماوية العلوية التي يذكرها النص، فهي قصائده ومسرحياته وإيقاعاته الشعرية وقراءاته ومشروعاته، أي البديل الفني عن ذلك العدم الذي تختنق فيه ليل ونهار. وفي النهاية يعود صلاح الإنسان إلى نفسه بعد أن ينطفئ وهج اللحظة وتهوي أجنحتها، يعود ليعطف إلى الداخل، ويشتبك في الصراع اليومي مع قبح الحياة اليومية لكي يفحص طبيعته وواجباته وغايته.
هذه الحياة اليومية التي اختفت منها قيم المحبة والتقدير والثقة والاحترام المتبادل، وأصبحت لا تسمح بنمو حياة إنسانية سوية، ناهيك عن حياة مبدعة، وأتى على خضرتها جراد الكراهية والحقد والادعاء والثرثرة وعدم الاكتراث؛ هذه الحياة اليومية التي غطت وجهها الحجب والأقنعة الشائهة، وظلت تمد حبال مشنقتها كل صباح؛ كيف لا يدينها ويسجل علامات التصدع والانهيار في بيتها الآيل للسقوط؟ كيف لا يفضح القردة والأفاعي والثعالب المتربصة وراء الأقنعة (بشر الحافي)؟ غير أن الشاعر الذي يحاول أن ينتزع نفسه من مستنقع الخراب والبلاء ليعتصم بلحظات البراءة والنقاء (يا من يدلني عن طريق الضحكة البريئة والدمعة البريئة)، هذا الشاعر الذي يجوس عاريا مكشوف القلب في أسواق المدن الجاحدة المتبلدة الحس، يشتاق على الدوام إلى مدينته المنيرة التي ينام فيها الأبناء في أحضان الأمهات، مدينة الرؤى التي تشرب ضوءا وتمج ضوءا، مدينة المستقبل التي كتب على المغتربين المحتجين منذ أفلاطون إلى اليوم أن يحلموا بها، وأن يتركوا العالم وهي جنين أسطوري في بطن الغيب، ويظل النقاد المتفائلون يدينونه بحزنه. ويطالبون بطرده من المدن السعيدة التي يقلق نومها دون أن يكلفوا أنفسهم بالسؤال: ومن المسئول عن هذا الحزن كله؟! هذه المدن المقنعة المغتربة عن نفسها، كيف لا يباح للفنان أن يغترب عنها؟ كيف لا يسمح له بأن يكون هو نفسه ويحقق هذا المثل القديم الذي تقوم عليه الحقيقة والأصالة؟ أليس هذا هو دأب المفكرين والمبدعين في كل زمان ومكان؟ ألا نتحمل الخسارة الفادحة في حاضرنا ومستقبلنا إذا حرمناهم من هذا الترف البائس الضئيل أن يقولوا لنا: «لا.» ولأنفسهم والقيم الباقية: «نعم.» ولكن مجتمعاتنا التي اختلطت فيها القيم وجثم عليها كابوس القهر وعبيده لا تطيق هذا. إنها تتربص بكل صوت صادق ، وتجدل مشنقة التعذيب لكل بادرة حياة. وهكذا يقع الإبداع العاري من كل سند يحميه فريسة الكلاب التي تنهشه من كل ناحية، عبيد السلطة وخدمها وحشمها، الثرثارين الكذبة من يمين ويسار. البيروقراطيين زبانية الموت وسدنة الجمود والركود والتحجر، أوباش العصر وجلاديه الجدد وطواويسه المزيفين الذين يجوسون بيننا كالكوارث، ويبرعون في رصف بيانات الإدانة والاتهام قبل أن يتعلموا ألف با الحب والعلم والفهم والاحترام (إذا فرغت جعبتهم الفارغة لم يعدموا حرية يسددونها شاعر مغترب عن مجتمعه، غير ملتزم تقدمي وميتافزيقي وصوفي ووجودي!) وبدلا من ضم صوتهم إلى الأصوات الصادقة لرفع ركام الظلم ورواسب التخلف وأقنعة البطولة الكاذبة تراهم ينادون، كما نادى أفلاطون قديما بحسن نية أخلاقية، بطرد الأصوات النقية التي تزعج أحلام المدن الغافية وفرسانها المهزومين! هذا هو الأمر المحير في حالتنا اليوم. كأننا قد التصقنا بأقنعتنا فلا نقوى على انتزاعها لنتحسس وجوهنا الحقيقة، كأننا نصنع أغلالنا بأيدينا، ونحب أدوار عبوديتنا التي نؤديها بلا وعي، ونكره أن نكون أنفسنا، ونواجه واقعنا، ونحيا في النور والحوار والنتيجة هي هذه اللعنة التي عبر عنها طه حسين عندما قال: إننا لا نعمل ولا نحب لغيرنا أن يعمل. فمتى نتعلم أن اليد التي تجرح هي اليد التي تشفي الجرح، وأن خلاصنا لن يتم إلا بأيدينا، ولن يتحقق إلا بالعمل؟ أقول العمل لا القول، العمل الذي نحقق به ذاتنا ومجتمعنا وننقذ أنفسنا وحاضرنا ومستقبلنا المهددين بالخراب والانقراض. •••
لم يكد يمر يوم واحد على رحيل شهيد الشعر والعصر، حتى اشتعل الجدل العقيم: من الذي قتله وكيف قتل؟ ما التهم التي سددت سهامها إلى قلبه، حتى اختنق وخذلته طاقته على تحمل الجراح؟ وأنا أنزه نفسي عن المشاركة في هذا الجدل، كما أنزه الأصدقاء الذين كانوا معه في ليلة الوداع. فالثلاثة الذين كانوا معه أصدقاء أحمل لهم الود والتقدير. وحتى الرسام المجهول الذي كان معهم، وسمعت أنه لم يتورع عن قذفه بأبشع التهم على مشهد من زوجته وابنتيه، أدعو الله أن يغفر له ويسامحه (يعلم رب الغيب حقيقة ما قالوه وما فعلوه. ولقد كنت على موعد اللقاء بالصديق المسافر في اليوم نفسه، الذي قدر على أن أشيعه فيه). لكل أجل كتاب، ولم يبق إلا التسليم. غير أن هناك حقيقة لا بد أن أشهد بها، وأشهد عليها كل المبدعين المخلصين في أمتنا العربية: لقد ظل صلاح يقتل طوال العشرين سنة الأخيرة، وظلت الفخاخ تنصب له من جهلة اليمين وأدعياء اليسار (في الجو الذي تعذب فيه جيلنا التعس فقدت هاتان الكلمتان معناهما كما فقدت كل القيم معانيها.) وتبقى قضايا وأسئلة أكبر منا جميعا: لماذا يقدر على أفضل أبنائنا وأخوتنا أن يسقطوا ضحية الضنى والقهر والتعذيب؟ إلى متى نضن عليهم بالكلمة الطيبة طوال وجودهم معنا، فلا نقولها - إن قيلت على الإطلاق - إلا بعد غيابهم عنا؟
16
अज्ञात पृष्ठ