ويوحي هرمس براكزيتل إلى الزائرين من رجال ونساء برغبته في ملاطفة أرجلهم، وقد اكتشف منذ خمس وستين سنة في ألنبيا، ولكنه الآن في متحف يورث النفس غما ولا يثير الفؤاد أبدا، ولا ريب في أن هذا هو التمثال الرخامي الوحيد الذي يرجع إلى العصر الكلاسي، وهنالك بضعة آثار زخرفية وبضعة تماثيل يرد تاريخها إلى أدوار لاحقة فنراها أصلية كما يحتمل أن تكون أصلية بضعة آثار برونزية، غير أن جميع التماثيل التي تعزى إلى بعض المشاهير فنجدها على قواعد في مختلف متاحف العالم، والتي فحصها العلماء والهواة في القرون الأربعة الأخيرة، ليست سوى نسخ عن الأصول، وقد عملت الأفاريز نفسها، وقد عملت أفاريز البارتنون وفيغاليه، في محترفات بأيد مجهولة، لا من قبل فيدياس ولا ميرون لا ريب، وتدل قوائم نفقات الأكروبول الإنشائية على أن هؤلاء المتفننين المجهولين قبضوا ما يعدل خمسة عشر دولارا عن وجه كل إنسان أو حصان.
وعلى العكس ترى تمثال هرمس، كما هو في الألنبيا، أنه القطعة الرخامية الوحيدة التي انتفع بها في عمل أثر نحتته يد معلم في القرن الرابع فظل باقيا حتى أيامنا، وذلك مع استثناء الذراع اليمنى التي أصلحها أستاذ مؤخرا فأساء إلى التمثال بذلك، ولما أبرز هذا التمثال كان هذا مثل بعث للجمال الإغريقي بعد رقاد طويل، ويبعث هرمس كمسيح انتظر ظهوره منذ زمن. أجل، توجد تماثيل رجال ذات جمال بدني كذلك، وذلك كتمثال سائق العربة إلى دلف، أو كتمثال هرمس بسيكوبونبوس، غير أن الأول هو من برونز مصبوب وأن الثاني هو نسخة رومانية عملت بعد حين.
ويختلف الخبراء من حيث أصل هذا أو ذلك الأثر الفني، ولكنك لا تجد أثرا يمكن أن ينم على حنان حسي كتمثال هرمس ذلك، وما في هذا الجمال من قوة إيحاء يظن الإنسان به إمكان لمسه قدما فاترة عن حرارة الحياة لا عن برودة الحجر. وإذا كان من الممكن أن يعبر عن الجمال البدني بألفاظ عند عدم الموسيقى، فإنه يمكن تعريف خيال الأغارقة الرجولي ب «اللطف الطبيعي». والواقع أن هذه الصفة تظل سائدة من أثينة بركلس حتى بونبي، ومن بوليكليت حتى متفنني برغامون، ومما قرره أرسطو عدم وجود جمال إغريقي نموذجي مع عده جميلا كل شكل ممكن للأنف أو الفم، وما هي فائدة التعاريف؟ وإذا ما رئي شاب يقبل إلينا على طول الشاطئ فيسميه بعضنا إلها شابا إغريقيا عرف كل واحد منا ماذا يعني ذلك. ويوجد هذا اللطف الطبيعي لدى الرومان وحدهم عندما يستنسخون آثار الأغارقة، ويجيد الرومان عمل التصاوير على خلاف الأغارقة، وكان الإسكندر من الشخصية البارزة ما يكون معه مثلا إغريقيا عاليا.
ومن المحتمل كون السر في ابتداع الأغارقة، والأغارقة وحدهم، لجميع آلهتهم على صورتهم، فهم لم يحاولوا قط أن يجعلوهم في أقصى درجات الكمال. قال إكزينوفون: «لو كانت الأسود قادرة على التصوير لصورت آلهتها على شكل الأسود.» وهنا تجد السبب في أن التمثال لإله إغريقي ليس أكثر من تمثال الرجل جمالا. ومن العادة أن نقول عن إحدى الفتيات: «أليست حسناء كديانة؟» وقال إغريقي عن تمثال ديانة: «حقا إنه من الجمال كفرينتي أنا.»
ولو جرؤ أحد الأثنيين على عرض تماثيل أشخاص بالغة من البشاعة كما تبلغه الآلهة المصرية التي لها رءوس الحيوانات أو الإلهات الهندوسية ذات الثدي العشرين أو آلهة أمم الشمال العور بعضها والكتع بعضها الآخر، لصلب بلا محاكمة. ولم تكن الآلهة في أثينة فوق البشر ولا دون البشر، وكانت هذه الآلهة تصنع كما يصنع الآدميون، ولكن بسهولة ومع زيادة إتقان، وكانت الآلهة تخطئ وتقترف أغاليط، وكانت الآلهة لا تبصر المستقبل في كل وقت وكانت خاضعة لأحكام القدر. وروى أوميرس أن زوس خشي ذات يوم أن يقبض أشيل على تروادة ما دام لم يعين هذا الحادث في تقويمه. وكان الإغريقي لا يشعر بعرفان الجميل من أجل ما كانت الآلهة تنعم به عليه من السعادة، وعلى العكس كانت الآلهة نفسها تشكر له تمتعه بهذه السعادة ما دامت لا تحتمل رؤية الشقاء.
وماذا كانت السعادة عندهم في الأساس؟ وإذا ما لخص رأي فلاسفة اليونان حول السعادة في خمسة قرون أبصرنا ظهور الكلمات: الصحة والنوم والمجد والجمال والتربية والصداقة والموت بلا ألم مع تقدم السن. ولم يذكر أحد من الفلاسفة الثراء من عناصر السعادة، وتبلغ الآلهة الإغريقية من الطبع البشري ما تحسد معه سعداء الناس وتعتدي معه عليهم، وديونيزوس وحده، وهو المعدود من الآلهة الآسيوية، هو أكثر الآلهة نفورا وأشدها خطرا، وبهذا تفسر أسرار هذا الإله.
وإذا ما تمثل شعب آلهة منتقمة منيعة، سواء أتعددت هذه الآلهة كما عند المصريين أم كانت إلها واحدا كما عند اليهود أم كانت إلهين كما عند النصارى، عين الخوف والإجلال صورة هذه الآلهة، وكان الأغارقة أنفسهم يحاولون نيل الحظوة لدى آلهتهم بما يقدمون إليها. وكان الأغارقة خرافيين أكثر من معظم الأمم الأخرى من هذه الناحية، وما كان من كثرة أساطيرهم ومن إنعاشهم العناصر والنباتات والحيوانات يدني آلهتهم منهم ويحول دون إقامة ذلك الحاجز المنيع الذي يفصل بين تعاليم الأديان الأخرى وربهم، وما كانت الآلهة الإغريقية تبديه من اكتراث دائم للآدميين الذين يستولي عليها سأم عظيم بغيرهم يعين المظهر التصوفي والشعري في ذلك الدين، وما كان من استنساخ المئات من صور هذه الآلهة في كل يوم يجعل هذه الآلهة حقيقية كما يجعلها أقرب مما يمكن أن يكونه إله واحد لا يحضر إلا وفق خيال مجرد.
وذلك هو السبب في أن الدين الإغريقي هو الدين الوحيد العاطل من علم لاهوت ومن أية وثيقة مكتوبة حتى في دلف. وقد جرؤ بروتاغوراس، الذي هو أول السوفسطائيين والذي هو أسن قليلا من سقراط، على القول: «ومن حيث موضوع الآلهة لا أعرف شيئا، لا أعرف هل هي موجودة أو غير موجودة، كما أنني لا أعرف طبيعتها، وهنالك أمور كثيرة تحول دون النظر جليا، ومنها غموض الموضوع وقصر عمر الإنسان.» وما كان الخيال لينال حرية أكبر من هذه، ويمكن كل واحد أن يتمثل آلهته ولا يعوزه ذلك في الحقيقة.
وباللواطة يفسر تفسيرا جزئيا عرض التماثيل بوجوه رجال على الخصوص، وبما أن جميع المتفننين، والممثلون منهم، كانوا من الرجال، فإن من الطبيعي أن يجعل بدن الرجل العاري نموذجا. وكان عدد التماثيل النسوية العارية قليلا جدا، والنساء كن يخفين فتونهن على حين كان الفتيان يبدونه، حتى إن المترجلات كن كاسيات، وما نراه من مستثنيات جميلة، كتمثال فينوس دوميلو أو تمثال أفروديت النصفي الذي وجد حديثا في قورين، يرجع إلى عصر لاحق، وليس تمثال نيوبيد المشهور العاري الذي يشتمل عليه متحف ترمس برومة، وهو الأثر الوحيد الذي يعود إلى دور كلاسي،
118
अज्ञात पृष्ठ