ومن النادر أن أتيح لملكة إثبات قيمتها، كما اتفق لإيزابلا، ومن الواقع أن قبضت الملكات إليزابت وكترينة وماري تريز وفيكتورية على زمام الملك وحدهن كوارثات مسئولات، فلم يأخذن رأي زوج أو عاشق إلا مجاملة، وعلى العكس لم تجد خدائع الزوج سبيلا إلى إيزابلا، إلى سليلة آل قشتالة المالكين الذين هم أكثر الأسرتين زهوا، ولما حاول فرديناند أن يخادع إيزابلا حين موت أبيها وبعيد وضعها بنتا بدت جافية رجولية على عتبة حصنها الأبوي، فأدى هذا الحادث إلى تلقيبها ب «الملك»، فظل هذا التبديل الجنسي في اللقب وحيدا في التاريخ وإن لم يدل على تقدم.
وكانت إيزابلا أسمى من زوجها من كل ناحية، كانت أعلى منه مواهب وسعة بصيرة ونشاطا خلقيا، ولا ريب في أنها كانت تعاني ساعات تثبيط في الحين بعد الحين نتيجة لبرودة حذر زوجها وحسابات هذا الأرغوني التجارية، ولا يمكن تفسير صبرها عليه زمنا طويلا بغير حمياهما المشتركة من أجل غرض واحد، شأن المهندسين أو الممثلين الراغبين في الاستمرار معا على اختراعاتهما أو القيام بأدوارهما.
وكان يساور فرديناند وإيزابلا رغب واحد، وهو وحدة إسبانية، وفي هذه الرغبة تجد السبب الأول في زواجهما قبل الأوان ودوام قرانهما. والواقع أنه لم يكن من الموكد في ذلك الدور أن تنجذب قشتالة القوية إلى البحر المتوسط أكثر من أن تتحد بالبرتغال، وكان قد وعد بزواج تلك الفتاة مرات كثيرة في صباها الذي قضته في أحد الأديار وفي أثناء مفاوضات سياسية، ولو تم اتحاد قشتالة والبرتغال وفق ما هدف إليه زمنا طويلا لوزعت المستعمرات في القرون الآتية على خلاف ما وقع ولغدا وجه الدنيا على غير ما حدث.
وأضف إلى ذلك الرغب اتحاد الزوجين دينا، ولو نظرت إلى الأساس لوجدت فرديناند كان يعامل الرب تجاريا كما كان يعامل الآدميين، ومع ذلك فقد نال لقب «الكاثوليكي» بعد زمن كما نالت زوجه، ويلوح أن إيزابلا كانت أحق منه بهذا اللقب، وإيزابلا هذه كانت تلتهب من أجل رجل أو غرض كمعظم النساء فبدت متعصبة، وهي قد أيدت جرائم محاكم التفتيش التقية بحماسة، وعلى العكس كان هم فرديناند أكثر انصرافا إلى الأموال التي يمكن الاضطهادات الدينية أن تنعم عليه بها، فكان كلبيا، ومما روي أنه بلغ فرديناند خبر تبرم ملك فرنسة من مخادعته إياه مرتين فصاح قائلا: «لقد كذب! لقد خدعته أكثر من عشر مرات!»
ولا نجد بين المنازعات الطويلة التي وسع «الملكان» بها إسبانية طائلا تحت ما قاما به لرقابة نابل ما تداولت الأيدي هذه الدولة نتيجة زواجات ومؤامرات، ومع ذلك فإن فتح نابل واحتلال الأملاك الصغيرة المتاخمة خلف البرانس أديا إلى اصطراع فرنسة وإسبانية وأوجبا اشتعال حروب طاحنة، وقد أسدل ستار من النسيان على هذا التحاسد الأسري لتفه أهدافه ونتائجه ولأنه لا يصلح لغير شحن دماغ الطلبة، واحتلال غرناطة وحده هو الفتح المهم الذي كانت له نتائج ثقيلة في الميزان.
وما بقي من الفتح العربي انحصر في البقعة الجنوبية من شبه جزيرة إيبرية، وكان معظم المغاربة قد عاد إلى شمال أفريقية الذي هو وطنه الأصلي. وكان الزوجان الملكيان الإسبانيان خاضعين لعوامل قومية ودينية حين قيامهما بهذه الحرب، فعلى إسبانية الحديثة أن تكون موحدة نصرانية في آن واحد، وكان العالم يعد طرد الكافرين من أوروبة رمزا.
وكان يمكن «الملكين» أن يفتحا نصف أفريقية في ذلك الحين وأن يبسطا سلطان إسبانية على هذه البقاع الممتدة بين الأطلنطي وخط الاستواء، ولكن الماء والخبز أعوزاهما في الساعة الحاسمة، وكان يمكن «الملكين» أيضا أن ينتفعا بالمغاربة، الذين كانوا قد شادوا الإمبراطورية الإسبانية، كوسطاء بين إسبانية وبربر أفريقية. ومن العبث أن حث كردينال حمس على التقدم وأن زحف مع كتائبه إلى جربة وإلى وهران، فقد كان فرديناند يحذر كل تحريض حربي وكان موجها جميع نظره إلى إيطالية وإلى المصاهرات والزواجات.
وهكذا وقف الزحف ضد الإسلام، وكان من أشهر الأوقات تلك الساعة التي صرح الكردينال فيها: «لم يبق مغربي غير معمد في مملكة غرناطة»، بيد أن إسبانية كانت تشتمل على ألوف القلوب غير المعمدة، فلم يكن من الممكن محو حضارة العرب التي دامت ستة قرون، واليوم لا يزال جنوب إسبانية ذا مظهر نصف مغربي. أجل، إن الحمراء أشهر أثر، ولكن أدعى المباني التي أقيمت على الطراز العربي إلى العجب هو ما يرى في إشبيلية وقرطبة.
والمرأة من «الملكين» هي صاحبة الحظوة لدى الشعب لا ريب، ومع ذلك فإن فرديناند كان أصلب ملوك زمنه عودا وكان يصلح نموذجا لمكيافلي المفاخر بأصله الإسباني. ومن قول سفير إيطالي لدى بلاط إسبانية: «هؤلاء أناس متواضعون متزنون ظاهرا، مغرمون بالرسميات والألقاب الطنانة حقيقة، أساتذة في فن الأنس والإكرام واقعا، فيبدو كل واحد منهم سيدا كاملا. نعم، إنهم مستعدون لخدمة جميع العالم ولكن من سداد الرأي أن يبتعد عنهم وأن يحترز منهم.»
ثبت طبع فرديناند بأوضح من قبل بعد موت إيزابلا، وما كان من هوسه في نيل منافع بزواج أولاده وإخوته وأخواته أدى إلى غل هائل فيه لم يعتم أن أضمر ضد صهره ابن مكسميليان الهابسبرغي، والواقع أن ابنة «الملكين» الغريبة الأطوار، حنة، كانت، أو غدت، مجنونة، وأن فرديناند لم يرد أن يتنزل عن قشتالة لصهره، وأن ما يحمله من حقد ضد هذا الرجل حمله، وهو الملك المتزن، على السير خلافا لكل عقل، فقد عقد في الخمسين من عمره زواجا آخر مع فرنسية ليرزق منها ولدا ذكرا يحجب به ذلك الصهر البغيض عن العرش، وهكذا عقد نظام العرش الإسباني الوراثي، ومن حسن الحظ أن أدى موت الهابسبرغي المفاجئ وموت ولي العهد السريع إلى رجوع هذا النظام إلى نصابه.
अज्ञात पृष्ठ