155

भूमध्य सागर

البحر المتوسط: مصاير بحر

शैलियों

يبرز من البحر ميناء آخر كبير وعر حجري داجن ناتئ من الجبل المتوعد قريب من المصر وفرضته، ومن المحتمل أن كانت جنوة أكثر مدن البحر المتوسط رجولة، وهي في ذلك على خلاف البندقية الأنثوية، وهي، كما يظهر، وليدة شعب راغب في القوة أكثر مما في الجمال متصف بالحذر أكثر مما بالقرى، ومع ذلك كان هذا الشعب البحري شديد الارتباط في الأرض حيث تمكن إقامة حصون وجمع ثروات، وكان دانتي قد عرف قوة جنوة فهاجمها في «مهزلته الإلهية».

وتقوم على طول الميناء مبان ثخينة عظيمة وبنوك وبيوت تجارية تشابه الحصون، ومع ذلك كانت الشوارع الرئيسة من الضيق ما يمكن الأشراف ونساءهم وخدمهم أن يتحادثوا معه من بيت إلى آخر بالانحناء من نوافذ قصورهم، ولا تجد لما يدعى اليوم فياغاريبالدي نظيرا حتى في إيطالية من حيث جمال مقدم المباني، ومع ذلك لا تمتد الشوارع والمنازل طولا، فهي تنتصب متعاظمة من أساسها كالجبال الواقعة وراءها.

وقد اجتذبت جنوة، التي يبدو اشتقاق اسمها من كلمة «جنو»

6

وفق شكل شاطئها المنحرف، شعب الإتروريين والأغارقة منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وقد اضطر القرطاجيون والرومان إلى الإبحار على طول هذا الساحل أيضا، وقد أبصر هذا المكان، الواقع بين مدة جبال الألب البحرية وجبال الأبنين والضيق عند سفوح هذه الجبال، نشوء شعب من التجار معد لتوحيد أمم فرنسة وإيطالية تارة وفصل بعضها عن بعض تارة أخرى، ممثلا دور حارس الحدود، ومن شأن موقع جنوة الجغرافي أن جعل من أبنائها أناسا مناضلين، ومع ذلك فإن أهل جنوة لم يبلغوا كمستعمرين ما بلغه أهل البندقية مرونة، ومع أنه كان للبندقية من المناقع والقنوات ما تحمي به نفسها تجاه جيرانها فإن جنوة كانت مضطرة في جميع الأدوار إلى الدفاع عن نفسها ضد ملوك فرنسة وأباطرة ألمانية، وهي قد بلغت من شدة كلف غيرها بها ما صارت لا تبالي معه بأن تقوم مرسيلية مقامها في أوروبة الغربية منافسة.

وقد سيطرت الجمهوريتان القويتان: جنوة والبندقية، على ملاحة البحر المتوسط، وكيف اتفق لبلد صغير أن يفتح مستعمرات عظيمة غير مسكونة بزنوج قليلي التمدن؛ أي إن يفتح سواحل البحر المتوسط القديمة وموانئه وجزائره التي كانت مستعمرات يونانية ثم غدت معاقل للحضارتين الفارسية والعربية؟ وما هو سبب توفيق الدويلتين، البندقية وجنوة، في الشرق حيث أخفقت دول الغرب العظمى؟

تجد لذلك عدة علل، والعلة الأولى هي أنه أمكن الدول الصغيرة المتحدة، والمتفاهمة على العموم، أن تعمل ثابتة وصولا إلى هدف معين وذلك على عكس الدول الكبيرة التي تمزقت بالمنازعات الأسرية قبل أن تلتحم دولا قومية، وذلك إلى أنه لم يكن لدى الدول البحرية غير جبهة واحدة، غير البحر المتوسط، مع أن فرنسة وإسبانية والإمبراطورية الجرمانية كانت محاطة بأبحر أخرى، وذلك إلى أن تينك الدويلتين لم تولعا بمظاهر السلطان ولعها بحق التجارة، فلم يكن في تينك ملوك أو أباطرة راغبون في إقامة بلاط في جزائر بحر إيجه، أو في زواج أبنائهم بأميرات وارثات، أو في الإنعام على تابعيهم من الأشراف بإقطاعات.

ولم يدفع هؤلاء التجار ، الذين لقبوا خطأ ب «التجار الملكيين»، إلى العمل قط عن طموح إلى رفع راياتهم فوق مشارف المدن الأجنبية، أو عن حرص على اضطهاد سكان السواحل البعيدة، أو عن ميل إلى اعتقال هؤلاء لعدم تحيتهم تمثال الفاتح، فهم قد وجدوا سعادتهم في الميزانية التي يضعونها آخر كل سنة عن ازدهار بنكهم ومدينتهم، وفي توريثهم أبناءهم ما كانوا قد ورثوه عن آبائهم؛ أي توريثهم احتكارات وسفنا تجارية وأكياسا مملوءة ذهبا، لا مدافع وأكاليل ملكية، وهم لم يحلموا بالسيادة العالمية وبقهر البابا، وهم لم يسيروا مع خيال فرض الدين القيم على الكافرين عند المغامرة فوق البحر المتوسط العاصف، وهم قد انقادوا لرغبتهم في تقديرهم بأعينهم وشمهم بأنوفهم ولمسهم بأيديهم سلع أسواق طنجة وطرابلس ورودس وساقز وسينوب وطربزون؛ أي النسائج الحريرية والموشيات والشفوف والقلائد والأغماد والبسط والأفاويه والعطور التي يشحن بها وكلاؤهم سفنا كبيرة لتقايض في الغرب بالذهب وبسلع أخرى.

ولم يود هؤلاء «التجار الأمراء» غير الحكم في بلدهم وغير تبجيل العالم إياهم وخوفه منهم، والواقع في بلدهم أن الأوضاع والألقاب والسلاسل الذهبية والثياب المخملية الثمينة التي يسخو بها الرؤساء والشيوخ على أنفسهم وعلى أصدقائهم، كالاحتكارات في الولايات، كانت تساوي ألوف الدوكات،

7

अज्ञात पृष्ठ