وقد نشأت فكرة حرية البحار حوالي ذلك الحين، وقد بدأت المدن: غايت وأمالفي وساليرم ونابل وبرنديزي وأترانت وباري في الجنوب، وبيزة وجنوة في الشمال، ثم البندقية التي لم تلبث أن فاقت الجميع، تأخذ مكان بزنطة بالتدريج حوالي عصر النورمان والصليبيين الأولين. وقد تحولت وسائل دفاع هذه المدن إلى قوة بحرية متزايدة سريعا، ومع ذلك لم تكن خلف هذه القوة أية خطة للسيطرة العالمية، ثم أخذت سفن المدن المتحالفة تطوف في دوائر أكثر اتساعا وتتاجر مع تونس وطرابلس والإسكندرية ومع النصارى والمسلمين من غير نظر إلى المزاعم الدينية.
ووضعت جامعة أمالفي قواعد قانون للبحرية حوالي ذلك الدور للمرة الأولى، وكانت كلية الطب في ساليرم تجتذب طلابا من كل أمة، وكانت كنيسة بيزة الرخامية تستند في وسطها إلى ثمانية وستين عمودا قديما يونانيا أو رومانيا اشتري أو حجز من قبل أهل هذه المدينة، وهكذا ترى التجارة والثقافة، في سواء القرون الوسطى التي نصفها بعدم التسامح، تشقان طريقا لهما بين الأمم والأديان بروح كبيرة من التسامح ، ولما نشب الصراع كان بين النصارى أو بين الطلاينة، فخربت أمالفي من قبل بيزة كما خربت بيزة من قبل جنوة، ولما تنازعت المدن حالفت إحداها العرب ضد أبناء وطنها من النصارى.
ولا أحد يستطيع أن يقول أي الأمور كان سائدا للبحر المتوسط: آلقانون أم الفوضى، آلأمن أم قطع السابلة، آلعقود الحرة أم العنف، والواقع أن جميع هذه العناصر كانت بادية في مختلف الشواطئ معا، وإذا ما بحثنا في تاريخ جنوة وجدنا الجرمان قد خربوا هذه المدينة في القرن السابع، ووجدنا كونتا من أصل جرماني كان يملكها في القرن الثامن فخر صريعا في معركة ضد قراصين العرب، ووجدنا عربا من أفريقية نهبوها بعد مائة سنة، ووجدنا هؤلاء قد استولوا، في الوقت نفسه، على مرافئ نهر التيبر وانتهبوا ضفته اليسرى وكنيسة القديس بطرس، وقد جرد قراصين دلماسية مدينة أبولي من خمرها وزيت زيتونها، ثم طرد النورمان العرب من صقلية، وتصبح التجارة حرة زاهرة على شاطئ البروفنس من فورها، وينظم أسقف فريجوس أسواقا في سان رفائيل على الطراز الحديث اجتذابا لتجار من الأجانب.
وتضطر البندقية في ذلك الدور إلى تسكين قراصين الساحل الصخري القريب منها بأن تعاهدهم على أن تعطيهم جزية عظيمة وعلى أن يجهزوا البندقيين بعبيد لتجارتهم، وتضطر جنوة ومنظمة الهيكليين في ذلك الدور إلى التحالف ضد قراصين البربر والعرب المتحدين، ولم ينشب كل أمير نصراني يريد محاربة رئيس مغربي أن صار يحالف أميرا مغربيا آخر ضده قبل كل شيء.
وهكذا صار يتدفق الأجانب على الشواطئ بلا انقطاع، وقد أخذت كل زمرة جديدة تحرم الزمرة السابقة حقوقها، وقد امتزجت الزمر امتزاجا عرقيا، وكما أن الفنيقيين، الذين بدوا تجارا أكثر منهم قراصين، كانوا يسافرون على زوارقهم الهزيلة إلى سورية وسرت وجبل طارق وصل العرب الآتون من الجنوب والنورمان الآتون من الشمال إلى الموانئ الفنيقية والإغريقية القديمة على سفنهم بعد ألف وخمسمائة سنة، ولم يكن قد تغير شيء غير مقاييس هؤلاء النصارى وهؤلاء المسلمين الخلقية، وذلك لما حدث من انحطاطهم بأن صاروا قراصين أكثر منهم تجارا.
21
من النادر أن جرب تحريك الجماهير نحو هدف مثالي في غضون التاريخ، ويعد الدفاع عن الوطن محركا طبيعيا غير مشتمل على مزية خاصة وإن كان ينعت بكلمة «البطولة» المصنوعة، وأما حرب الفتوح فقد صورت مثالية تصويرا خاطئا، فالواقع أن أحد العدوين في الحرب يريد أن يكسب أموالا وأملاكا وأن العدو الآخر يرغب في الانتقام من ظالمه أو في المحافظة على أمواله بمقاومته، وتجتمع غريزة القراع والطمع وحب نيل الإعجاب لإلهاب ما يسمى الحماسة نحو حرب فتوح.
ومن المحتمل أن كانت الحروب الصليبية وحيدة في التاريخ من حيث حفزها جمهورا إلى الدفاع عن ذخيرة مقدسة نتيجة لإلهام ديني، وفي هذه الحوافز الوجدية يشعر الرجل العادي بأنه ارتقى فوق قدره وبأنه ملئ قوة جديدة، وفيها يستطيع ابن الوطن البسيط أن يحمل سيفا لا يصلح لغير الفرسان، ومع أن هذا الرجل كان يبصر في الماضي ما يحمله الجنود من الأشعرة الزاهية تراه الآن مدعوا، عن مثالية، إلى عمل يكافأ صاحبه بالشرف وحده، وهنالك ترتقي حماسته إلى درجة الوجد. وفي الحروب الصليبية كان العمل كل العمل في التقتيل نهارا وفي الركوع ليلا شكرا للرب مع دعائه أن يوفق في الغد لمثل ما صنع بالأمس، وهكذا كان يتحول السكاف إلى بطل.
ولما اجتمع مجمع كليرمون الديني سنة 1095 صرخ البابا أوربان الثاني قائلا عند ختام خطبته النارية: «تلك هي إرادة الرب!» ويلتهب الجمهور حماسة ويعزم على الذهاب إلى القدس من فوره لحماية القبر المقدس، وتهز الجماهير رؤى خيالية في ذلك الحين عن آمال مسيحية، وكان معظم المشاغبين من الفرنسيين، وكذلك البابا الذي ذهب إلى فرنسة ليلقي تلك الخطبة، وكذلك الناسك الذي فوض إليه أمر الدعاية للحرب الصليبية، وكان وغي الحرب اللاتيني الجديد هو: «صوت جديد نحو السماء وغفران خطايانا»، ويضاف إلى هذه العوامل الدينية الصرفة ما كان من إيقاظ غرائز عالم فروسي كحب المغامرات وكالبسالة وبذل النفس، والواقع أن الرجال الأصحاء، الشبان في الغالب، هم الذين زحفوا في نهاية الأمر مسلحين لابسين خوذا خائطين صلبانا على أرديتهم.
وما الذي كان عليهم أن يدافعوا عنه؟ وهل كانت القدس والقبر المقدس بين النيران؟ وهل ذبح الكافرون المؤمنين؟
अज्ञात पृष्ठ