बहर उलूम
بحر العلوم
ترى إلى هؤلاء، وذلك أن أصحاب رسول الله ﷺ حين كانوا بمكة استأذنوا في قتل كفار مكة سرًا، لما كانوا يلقون منهم من الأذى، فقال لهم النبيّ ﷺ: مهلًا كفوا أيديكم عن قتالهم وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فإني لم أؤمر بقتالهم، فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة أمره الله تعالى بالقتال، فكره بعضهم فنزلت هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عن القتل وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أتموها وَآتُوا الزَّكاةَ يعني: أقروا بها وأعطوها إذا وجبت عليكم فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أي فرض عليهم القتال بالمدينة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ أي يخشون عذاب الكفار كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كخشيتهم من عذاب الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أي بل أشد خشية، ويقال: معناه أو أشد خشية يعني أكثر خوفًا وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ أي لم فرضت علينا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنا أي يقولوا هلاّ أجلتنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهو الموت، فبيّن الله تعالى لهم أن الدنيا فانية فقال: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ أي منفعة الدنيا قليلة لأنها لا تدوم.
وقال ﵊: «مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» .
ثم قال تعالى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى يقول: ثواب الآخرة أفضل لمن اتقى الشرك والمعاصي وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا وقد ذكرناه. قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: (ولا تظلمون) بالتاء على معنى المخاطبة. وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر يعني المتقين. قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ أي في الأرض يأتيكم الموت وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي في القصور الطوال المشيدة المبنية إلى السماء، حتى لا يخلص إليه أحد من بني آدم. وقال القتبي: «البروج»: الحصون، و«المشيدة»: المطولة وذلك أنهم لما تثاقلوا عن الخروج إلى الجهاد مخافة الموت، فأخبرهم الله تعالى أنهم لا يموتون قبل الأجل، إذا جاء أجلهم لا ينجون من الموت، وإن كانوا في موضع حصين. وهذا قوله تعالى: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: ١٦٨] .
ثم أخبر عن المنافقين فقال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا أي الفتح والغنيمة والخصب يقولوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي نكبة وهزيمة يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي من شؤمك، يعني: أصابتنا بسببك، أنت الذي حملتنا على هذا. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يقال:
الرخاء والشدة، ويقال: القدر خيره وشره من الله تعالى. ثم قال تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكادُونَ يَفْقَهُونَ يعني المنافقين لا يكادون يفقهون حَدِيثًا أي لا يفهمون قولًا أن الشدة والرخاء من الله تعالى، أي لا يسمعون ولا يفهمون ما يحدثهم ربهم في القرآن.
قوله تعالى:
1 / 319