أجابت باحثة البادية: «ماتت والله! وكنت أحبها كثير قوي.»
ولكن لا يغرننا هذا الانقلاب السريع من جليل المعاني إلى تافهها، ولا تخدعننا هذه الضحكة الشبيهة بضحكة فتيات المدارس. إن لهذه المرأة كما لكل من الأفراد النوابغ شخصيات متعددات تظهر كل منها في حينها. وهاك وصف ضحكتها في المقال الفرنساوي السابق ذكره:
إنها تضحك بسرعة وسهولة وفي صوتها رنين كرنين أصوات الأطفال، تضحك بكل قواها كمن يضحك من قلب لم يخالطه بعد معنى الكآبة ولم تنزل بساحته وطأة الهموم. وما أشد ما يسر السامع بهذه الضحكة المملوءة طيبة وذكاء، ولولا أن خيالات الفكر والكآبة تتمايل على جبهتها السمراء الجميلة لتساءل المرء أهو في حضرة امرأة ذاقت طعوم اللوعة والألم؟ ...
نعم إنها التاعت وتألمت. أقول ذلك وإن لم أرها يوما إلا بين مظاهر السعادة والهناء، بل لم أقابلها مرة إلا وهي صبيحة الوجه، طليقة المحيا، براقة العينين، والبسمة تلعب على شفتيها. لكن هذه كلها ستائر تنسدل على حركات الحياة الحقيقية حاجبة عن النواظر معانيها العميقة. وهل في وسع من ذاق مرارة الفكر وحلاوته أن يكون سعيدا بالمعنى الذي يقصده البشر؟ وإذا فرضنا أنه حاز السعادة على ذلك القياس المألوف، أتكفي هذه السعادة الاصطلاحية لحمايته من لهيب الألم النفسي؟
ولكن لا تنقمن على الألم؛ فهو مغذي الذكاء ومهذب الشعور، ومنبه الإدراك إلى معان جمة وأساليب فكرية كثيرة. إنما صاحب العواطف القوية شقي إذا ما ذكرنا أن هذه العواطف تعذبه في كل حين وتظل هامسة له بالشكوى حتى في أعذب ما يناله من لحظات السعادة النادرة. لكن هذا العذاب بعينه هو ممزق غشاء الجهل والأنانية عن بصر فريسته، وهو مستنزل الوحي على فؤاد نهشته براثنه حتى أدمته. هو مفجر ينابيع النهى. هو يعطي القلم قوة تبدع من الكلام سيوفا وبروقا، ويحبو اللسان بلاغة تمتلك القلب لأنها تخابره مباشرة بلا وسيط. وماذا عسى ينفع الحديث إن لم يكن مصدره القلب؟! وما هي قيمة الإصلاح إن لم يكن ناشئا عن إدراك تكون ليس في العقل وحده بل في العواطف المسحوقة وما تنبه إليه من احتياج كثير؟! ونظرة الكاتب إن لم يطل فيها خيال القلب المتوجع ليست إلا بالنظرة الباردة القاصرة التي لا تنفذ إلى ما وراء قشرة الظواهر، ويظل باب النفس، باب الحقيقة، أمامها مغلقا مجهولا!
إن مزاج باحثة البادية العصبي الصفراوي وجنسها النسائي، وقوة عواطفها وحدة ذكائها، كل ذلك كان مشتركا في تكوين طبيعتها السريعة الانفعال وواضعا فيها قابلية شديدة للألم واستعدادا كبيرا لمشاهدة الأشياء والحوادث من وراء غشاء قاتم. اقرأ كل ما كتبته تجد أنينا متواصلا يخترقه من أوله إلى آخره. وذلك الأنين الذي يكاد يكون ركزا ينقلب ساعة الوجع الشديد زئيرا وعويلا.
هذا المزاج النسائي وهذه الذاتية الأدبية، وهذه الكاتبة التي لم تدون أفكارها (على ما يظهر لي من لهجة فصولها) إلا تحت التأثير وفي ساعة الانفعال، هي ما أقصد درسه في هذا البحث الذي قسمته إلى أجزاء ستة هي: المرأة، والمسلمة، والمصرية، والكاتبة، والناقدة، والمصلحة؛ لأن في هذا التقسيم تسهيلا كبيرا لتفصيل الصفات الأدبية والمميزات الكتابية. وسنرى في الفصول الآتية كيف تبرز «الباحثة» قيمة في كل جزء من هذه الأجزاء. ولنا من كتاباتها ما يسند إليه الرأي ويستخرج منه التعليل، بل لنا منها ما يبعث بالأشعة إلى تلك الصفحات التي كتبت عن البيئة المصرية ولها ، فيمكننا أن نقدر باحثة البادية قدرها ونحب من وراء حجب الموت تلك الذاتية النادرة التي مرت في الحياة كحلم جميل.
أعترف بأني في حاجة إلى بعض المجاهدة لأتغلب على نفسي مبعدة من أمام ناظري خيالها البسام، ومحاولة نسيان المرأة كما عرفتها؛ كيلا أتأثر إلا بفكر الكاتبة المنشور على الصفحات البيضاء خطوطا سوداء. غير أني أعود فأقول إن التأثر بمعرفة المرء الشخصية ليس بالأمر المذموم، بل هو غزير الفائدة؛ لأن الذين يعرفون كاتبا خارج فصوله يستعينون بتلك المعرفة على قدر تلك الفصول، ويستخرجون من أحاديثه الشفاهية ما يؤيد أقواله الكتابية ويعززها. وإني لشاكرة «للمقتطف» اقتراحه، فهو الذي أوحى إلي كتابة ما أراه الآن علي واجبا مقدسا.
فلتحضر الروح العزيزة جلسات أكون فيها وحدي منفردة للبحث في آرائها واستخلاص درر معانيها، ولتقد يدها الروحية القادرة يدي الجسدية الحائرة لأثبت ما تريد إثباته، ولتنر حكمتها المكتسبة من ديار الخلود فكري الراغب في إدراك ما تعمدته من المقاصد، والساعي في تحديد غاية قصوى رمت إليها وهي ترى فيها كل الخير لإصلاح الشئون.
الفصل الثاني
अज्ञात पृष्ठ