سنوات ثلاث، فيها مشت البشرية خطواتها المعدودات متعثرة بالعظام والجماجم، منشدة أهازيج النصر الكاذب وتهاليل الفخر الباطل، وقواها الغالية تسيل على شفار السيوف، ودماء حياتها تجري أنهارا في سهول قد أخفت نجمها الجميل وثمراتها الممتعة خوفا من وحشية الإنسان.
سنوات ثلاث فيها شعرنا بارتداد صدمات السياسة والاقتصاد والأطماع المتزايدة. فيها ارتفعت دويلات جادة مجتهدة وتهشمت أعضاء تركيا العظيمة بتاريخها، الضعيفة بإهمالها وتهاونها. وقد جاش لذلك كل ما في صدر الإسلام من النخوة القديمة وبكت له قلوب الغيورين على مصالح بني عثمان.
كل ذلك ومصر، مصر بكآبتها وانعطافها واندفاعها، كل ذلك ونحن هائمون على وجهنا في صحراء الفوضى. صخور التقاليد القديمة تدمي أقدامنا الجديدة، وأشواك الاصطلاحات تجرح أيدينا الممتدة للمس أشياء نظنها موصلة إلى حياة نريدها عظيمة. والسراب الجميل اللامع في حدود المستقبل غير المحدود يستدعينا آمرا كأنه نظرة عين فتانة، فنجري في الصحراء ولا ندري إلى أين المصير!
سنوات ثلاث مررن على يوم فيه ارتفع صوتك مرشدا. عائلتنا لا تزال على ما كانت عليه، وأفكارنا لم تتغير إلا قليلا، وعواطفنا ما برحت حائرة بين تيارات متعاكسة دائمة الاضطراب بين ما ندعي أننا نعلم وما نجهل أننا لا نعلم! غير أن الأصداء الخفية ما زالت ترجع همس ذلك الصوت الرخيم.
بالأمس لمست نفسك وقرأت أفكارك فعثرت على جراح بليغة وددت تقبيلها بشفتي روحي، وما أطبقت الكتاب إلا وأنا ألثم بناني على غير هدى. ولم يكن ذلك إلا إجلالا لصفحات قلبتها وحبا لنفس استجوبتها فعرفتها.
فيا من «ارتفع قلبها إلى فكرها وانحنى فكرها على قلبها»، أيتها الباحثة الحكيمة، لماذا تصمتين؟
تتوالى الأيام ونحن في ضلال مبين. الرجل يجاهد في حرب الاقتصاد الدائمة. الرجل تائه في مهام أشغاله، فإذا كتب بحث في العموميات، وإذا أجال قلمه في الخصوصيات فهو لا يستطيع البلوغ إلى نور الوجدان النسائي لأنه يكتب بفكره، بأنانيته، بقساوته، والمرأة تحيا بقلبها، بعواطفها، بحبها.
علاتنا مستعصية لا يشفيها إلا طبيب يعرفها. والمرأة بعلة جنسها أدرى فهي تستطيع معالجته. ولا تطلب هذه الخدمة الشريفة من فتيات لا يعرفن من الحياة إلا ما يصوره لهن الخيال المخيم بطلانه على منابت العواطف المخصبة. هذا اعتراف ساذج صادق: الفتيات لا يداعبن القلم إلا لينثرن الدموع أو ليصورن الابتسامات. وما تجاوز ذلك علامات استفهام متتالية وإن لم ير فيها من الاستفهام شيئا.
لكن الزوجة والأم التي أعطيت ذكاء وفطنة وعلما وشعورا قويا تدرك بواسطته كل ما في الحياة من حلاوة ومرارة، تلك تستطيع وضع المرأة في مركزها السامي، وتلك تقدر أن تعمل في مزج نصفي الشخصية المتألمة، شخصية المرأة وشخصية الرجل.
فيا سيدتي!
अज्ञात पृष्ठ