2
إن عدم حرية الفتاة في اختيار الثوب الذي تلبسه لا يرجع إلى ازدراء الأبوين بها، بل إلى نقص في تربيتهما الأصلية وعدم إدراكهما وجوب تربية الصغار على الاستقلال في الاختيار والاعتماد على النفس. الشرقيون - كبعض الشعوب اللاتينية - متأخرون جدا في هذه الطريق التي قطعت منها الشعوب الأنجلوسكسونية شوطا بعيدا. إن هذه تثقف الأولاد على التمييز والاختيار فيشبون أحرارا يعرفون ماذا يريدون ولأي سبب يريدونه. فكم من أم إنجليزية وأمريكية رأيتها مع طفل لها أو طفلة تبتاع لهما في المخازن أثوابا أو أدوات مدرسية أو لعبا يلتهيان بها، وتخيرهما في الانتخاب ضمن ما شاءت هي من حدود اقتصادية. وما أبهج مرأى الصغير ناظرا إلى تلك الحوائج يقابل بينها مناقشا نفسه، حتى إذا قر رأيه على أحدها سألته أمه سبب اختيارها وأبانت له منها العيوب والحسنات بألفاظ مختصرة وحجة مفحمة وتأدب تام كأنما هي لا تحادث طفلا هو ابنها، بل تحادث رجلا غريبا عنها.
وما أجمل دوائر التيقظ تتسع قليلا قليلا في عيني الصغير! وما أعظم الفرق بين هذه الأم الرشيدة والأم الشرقية الفظة التي رأيتها البارحة تشد بذراع صغيرها قائلة بصوت أجش وعبوسة قبيحة: «امش يا ابن الكلب»! سيكبر هذا الولد واثقا من أن أباه كلب، وأمه امرأة كلب، يعني كلبة، وأن وسطه جحيم أسود لا متسع فيه لغير الضنى والمحن! كيف تستلم تلك اليد الخشنة نفس الطفل الطريئة، وإذا عاملته على هذه الصورة حين لا ذنب له سوى أن ذكاءه المتنبه ونفسه الطلعة وقفت تستعرض بضائع نشرت في نوافذ الحانوت طالبة التفهم والمعرفة، فماذا تفعل به ساعة يجني إثما ساهيا أو متعمدا؟ وهل يستطيع هذا أن يحب أمه ويحترمها كما يحب ذلك الغربي الصغير أمه الصالحة ويحترمها؟ كثيرا ما ينسى الأبوان أن الاحترام يولد الاحترام والحب يستدعي الحب، وإن معاملة أبنائهم لهما نتيجة لازمة لتصرفهما معهم. فكما أن لهما شخصية مستقلة، وإرادة ترغب في الخبرة، وميولا تريد أن تنمو وتصلح، كذلك - بل أكثر من ذلك - للأبناء المتنبهين رويدا رويدا ليقظة الحياة المنبسطة أمامهم بهولها وجلالها. وأي يد تحسن قيادتهم بين أدغال الحوادث بحكمة وإنصاف وحنان أكثر من تلك التي عينتها الطبيعة لتضمهم وتداعبهم وتهذبهم وتؤاسيهم؟
وهكذا تتبع الباحثة الفتاة خطوة خطوة في دور التربية، فترى في الأم الجاهلة أكبر عثرة في سبيل النجاح، وأن البيت يفتأ مفسدا من البنت ما تصلحه المدرسة، حتى إذا وصلت إلى عمر معين «ذكرت الأم لزوجها، والفتاة تسمع، أن البنت قد كبرت وأنه يجب أن تترك الدرس والمدرسة لتتزوج، وأن فلانا وفلانا أرسل والدته وأخته تخطبها.»
3
فإذا كانت الفتاة ذات عقل وشعور صغرت نفسها واغتاظت لجرأة الرجل الذي يهاجم حياتها الهادئة بمجرد استنسابه الزواج منها. غير أن السواد الأعظم يلتفتن لأمر الزواج وما فيه من لامع جديد فيهملن المدرسة والتعليم وتنتهي إمكانية التهذيب والأخلاق وهو قوام العائلة!
غريب جدا إننا نتعلم جميع الفنون والأعمال قبل ممارستها إلا فن تهذيب النفوس الصغيرة! الفتاة التي ترعرعت على جهل وغرور في منزل هذه حاله، تحت مراقبة أم هذه درجة إدراكها، إذا صارت ربة بيت واستلمت نفوس الأطفال فكيف تتكفل بحل مشكلة إسعادهم وإعدادهم لحياة ينفعون فيها الغير وينتفعون؟ لا ريب في أن هذا هو الأساس الأول لشقاء العائلة، أساس يقوم عليه سوء التفاهم والمشاجرة المؤدية إلى النفور المحزن بين أعضاء الأسرة الواحدة. •••
هنا تلمس الباحثة القفل وتفتح باب العائلة على مصراعيه لتجيل بنظرها في كل ما يختفي وراءه. فتبصر الفتاة في ذلك الدور الذي يسبق الخطبة. الخاطب والأهل يبحثون ذاك عما يرغب فيه من ثروة وهؤلاء عما ينشدون من جاه، والفتاة بين هؤلاء الأنانيين المستبدين كألعوبة لا صوت لها في الجماعة. يجب ألا ننسى أن فريقا كبيرا من البنات لا يهم كلا منهن من الزواج إلا زخرف الفرح والطمع بالاستقلال في منزل تصبح سيدته وتتصرف في تنسيقه وإدارته كيفما شاءت، سعيدة بأن لها «مملكة صغيرة» تنفذ فيها إرادتها. ربما كانت فكرة هذه الحرية المتواضعة من أهم المرغبات في الزواج. وقد يكون في هذا الفريق زوجات مخلصات وأمهات صالحات. إلا أن شح السعادة وتزايد الانشقاق في العائلات ينبآن بأن غير المسرورات من زواجهن كثيرات ومعظمهن عائد شقائهن إلى عبث الأهل برغائبهن، وحملهن على قبول من رضين به زوجا بالترغيب، أو بالتوسل، أو بالإرغام الصريح. وليس هذا التحكم من خصائص الشرق وحده، بل سمعت من أجانب وأجنبيات مختلفي الجنسيات أن هذه حالهم في بلادهم، وقد يكون هنا كذلك العنصر الأنجلوسكسوني أكثر احتسابا برضى الأولاد من غيره.
لما كنت أدرس الإنجليزية أخذت يوما أتحادث وأستاذي بهذه المسألة الحيوية فأخبرني أنه لما خطب، كانت الفتاة التي انتقاها ضئيلة في عيني أمه؛ لأنها ليست «ذكية ولا جميلة ولا متعلمة ولا غنية» فقالت له «لك أن تبحث عن فتاة حائزة لصفات اجتماعية أكثر من هذه.» أجاب: «صفتها الوحيدة أنها فتاة محبة وهذا يكفيني. أستطيع أن أبحث عمن تفضلها في نظر الغير، ولكنها تحبني وأنا أحبها ولا أريد غير ذلك.» فبعد أن قامت تلك الأم بواجبها نحو ضميرها ومطالبها الشخصية قامت بواجبها نحو ولدها فاحترمت عواطفه وأذعنت.
إني بكلامي عن العائلة عندنا واستبداد الأهل لا أعني الجميع على الإطلاق، بل أعني الأكثرية؛ لأن النفوس النيرة الكبيرة موجودة في كل مكان لا تقيدها الحدود الجغرافية ولا يسطو عليها مناخ الإقليم. حدثني نابه من أعاظم المصريين أنه بعد أن اختطب ابنته أحد أبناء العائلات الوجيهة رأت الفتاة خطيبها وهو داخل فلم يعجبها مع أنه كان جميل الطلعة حسن الهندام، وحملت أباها على استرجاع وعده. وبعد مدة وجيزة جاء خاطب آخر يماثل ذلك مقاما ويقل عنه جمالا فأرادت أن تراه قبل البت في الأمر فأعجبها لأن «دمه خفيف» وتزوجت منه. وهو من أشهر رجال مصر في هذه الأيام.
अज्ञात पृष्ठ