كتبت هذه السطور منذ سنوات عشر. وإذا بقي هذا الوصف منطبقا في يومنا على جمهور من الرجال، فإن هناك عددا كبيرا من الطبقتين العليا والوسطى قد تغيرت منهم العادات تحت تأثير المدنية، وفعل السفر إلى أوروبا ومشهد الوحدة العائلية (ولو في الظاهر فقط) عند الغربيين. فصاروا يركبون مع زوجاتهم وبناتهم ويرافقونهن في السفر والنزهة. فكثيرا ما يرى الآن الرجل المصري في مركبة أو سيارة وبقربه زوجته ونقابها الأبيض الشفاف يضاعف جمالها الشرقي. ولا يندر ذلك على طريق الجيزة والأهرام وفي الجزيرة حيث يكثر الازدحام أيام الجمع والآحاد خصوصا، وفي الأعياد والمواسم الكبرى.
ولئن حملت كاتبتنا على الرجل بلا مجاملة فهي لا توفر المرأة، على أنها تعطف عليها غالبا حتى في خطئها وعثرتها. وتلوم الرجل لأنه القوي، ومنه تنتظر المساعدة والقدوة الحسنى. وبدلا من أن يستبد بسطوته فيصير سيدا رهيبا هي تريد أن يستسلم لعوامل الحنان فيصبح صديقا مؤدبا. قالت:
وفي اعتقادي أن الرجل لو خفف قليلا من كبريائه وعلم أن امرأته مساوية له في جميع الحقوق المشتركة وعاملها معاملة الند للند، أو على الأقل معاملة الوصي لليتيم لا معاملة السيد للعبد، لما رأى منها هذا العناد الذي يشكوه، ولأطاعته حبا به لا خوفا منه. فبنات العصر الحالي - حتى الجاهلات منهن - يفهمن الحياة أكثر من أمثالهن الغابرات؛ فأصبحن لا ترضيهن الكسوة والطعام فقط كإحدى خدم المنزل، ولكنهن يقدرن اليوم السعادة الزوجية أكثر من ذي قبل، ويعلمن أنه إذا لم يكن الحب أساس المعاشرة بين الزوجين فلا معنى للجمع بينهما.
8
الحمد لله! لقد آن لهن أن يفهمن ذلك ولو تجرعن في سبيله من العلقم كئوسا! أليس أفضل للمرء أن يسير نحو إدراك المعاني واستكناه الحياة ولو مخطئا ضالا من أن يظل مستكنا في ليل الذل، راضيا بقيوده، قانعا بجهله وهو يحسبه عقلا وطول أناة؟ إنما المرأة في موقف الاستعباد دون الجوامد حسا؛ لأن هذه تستعمل أقصى ما عندها من قابلية الحس، أما المرأة فإن لم تجاهد في تهذيب ما عندها من الملكات كانت قاتلة قواها بيدها. والقوة التي تتبعثر مؤدية إلى الفوضى إن لم تعرف لنفسها قانونا هي ذاتها إذا دربت كانت عنصر الارتقاء الرفيع. ولئن عز السير بانتظام بعد ليل العبودية الدامس لأن العين التي اعتادت الظلام يبهرها الضياء في بادئ الأمر، لكنها لا تلبث أن تألفه فتتمتع به لاجمة فوضاها مصلحة أحوالها. ليس هذا رأي الباحثة.
وسننظر فيما تشير به يوم ندرسها مصلحة. غير أنها لا تنفك عن العودة إلى شعور المرأة؛ ليعتد به الرجل ويجعله مقياسا لأعماله وأقواله. فقد تختلف عندها ألفاظ الشكوى غير أن معنى الأنين ثابت لا يتغير. كل شيء في نظرها أفضل من «إيلام نفس المرأة وتنغيص حياتها. يا لله! أليس لها من قلب يتأثر وشعور يحس وعواطف تثور!» •••
هي امرأة بكل معنى الكلمة؛ ومن دلائل ذلك أنها تبدي يوما خلاصة ما يجول في نفسها وتضطرب له جوانحها، ثم يثب فكرها في يوم آخر فتثبت عكس ما جاءت به قبلا على خط مستقيم. فهل هي مناقضة ذاتها؟ كلا! بل هي مفصحة عن نفس كثيرة النزعات جمة الميول، كأنما هي جوهرة ذات سطوح شتى، تلمع في كل منهن ألوان جذابة وأشعة فتانة، بينما عنصر الجوهرة يظل واحدا. رأيت أنها كثيرا ما تستعطف الرجل بلهجة المتوسل المتعمد تنبيه الإشفاق في نفسه. والآن اقرأ واضحك:
ولا يغيظني أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا. إننا لسنا محلا لإشفاقهم، إنما نحن أهل لاحترامهم. فليستبدلوا هذا بذاك. والإشفاق لا يتأتى إلا من سليم لعليل أو من جليل لحقير، فأي الصنفين يعتبروننا؟ تالله إنا لنأنف أن نكون أحد هذين.
بل قد يتأتى الإشفاق من صديق لصديق ومن محب لمحبوب، وحذف الرحمة من القلب يعني حذف الوداد معها في آن واحد؛ لأن الإشفاق من العناصر الجوهرية المؤلفة عاطفة الحب. والقلب الذي لا يشعر مع من يحب ولا يشفق عليه إلا قليلا إنما هو محب حبا ملؤه الجفاف والأنانية والبرد الزئبقي.
لماذا يشفق الرجل على المرأة؟ لأنها تقضي حياتها تائهة في لجج هوة لا يعرف هو منها إلا الشاطئ، وهي هوة العواطف. للرجل كبرياء الجولات الفكرية والأطماع المتزايدة والقوة البدنية. أما المرأة فمهما ارتقت وتناهت نشاطا ورغبة في تنسم ذرى الفكر ليست بقادرة على أن تستخرج من نفسها آثار ذلك الإرث الذي أودعتها إياه يد العصفور. وهو قوة الشعور، قوة الحب التي تخلق من الكائن الترابي العادي آلهة سامية جليلة.
अज्ञात पृष्ठ