ولا عجب إذا ارتاح فؤاد إلى كلام والده؛ لأن الإنسان متى كان مرتابا في أمر أو بشخص ما يكون فرحه شديدا متى سمع تبرئته من سواه، وحزنه أشد متى سمع تذنيبه.
وأحدث كلام فؤاد في قلب أبيه تأثيرا عظيما، فقال له وهو يريد رتق ما فتقته امرأته بدون أن يشعر الغلام: سر يا عزيزي بحراسة الله، ولا تطل غيابك علينا؛ لأن والدتك المحبوبة تموت من بعادك هما، وإذ إن سفرتك بعيدة والمخاطر التي سوف تعترض طريقك كثيرة فأود منك أن تقبل مني وصية واحدة لها أكبر علاقة بأمرك، هي أن تتحذر من أربعة من الناس في سفرك هذا وأن لا تأخذ من أفواههم الشهادة ببديعة، بل اختبر أمرها أنت بنفسك؛ لأنه قد قيل:
ما حك جلدك مثل ظفرك
فتول أنت جميع أمرك
وهؤلاء الأربعة الذين ذكرت لك عنهم هم حجارة عثرة في سبيل السعادة والراحة، وهم أولا: الحسود؛ فإن هذا لا يحارب المحسود منه بغير الاختلاق والذم ظانا أنهما يسقطان من قدره ويذلانه أمام الناس، وإن يكن هذا الظن فاسدا؛ لأن البريء تظهر براءته بعد التهمة بأكثر جلاء ونورها يكون أشد ضياء، فالحساد يقفون في سبيل المحسودين لوقت أحيانا ثم يضمحلون. والثاني: هو الرجل الذي خلق ليفتئت الناس وربي على النم بهم والتكلم بحقهم بكلام رديء، فهذا لا يقدر على الاشتغال بغير الشغل الذي خلق له، وكأنه لا يقدر على الكلام الحسن بالناس فيعمد إلى الكلام القبيح بهم؛ فكأن لسانه يا ولدي لا يعرف الكلام الجيد، فاحذر من أن تجرئه على الثلب في حق أي كان. وأما الثالث: فإنه لتعاسته يكون ذا سيرة رديئة وأعمال قبيحة، فهذا وإن عرف أعمال الغير الحسنة واعتبرها في قلبه فإنه لا يقدر على إظهارها بهذا المنظر أمام الناس، بل إنه يفصل للناس من ذات النسيج الذي يصنع منه أثواب عمله ويلبسهم مثلها، وقد قيل: من كان بيته خرابا يدعو على بيوت الناس كلها بالخراب. والرابع: لا يعرف ما هو العدل ولا يسمع باسم الشرف الحقيقي والصدق الشريف، فهو إن صادق إنسانا وكانت عيوبه كثيرة نسيها أو تناساها، وهذا ما لا يهم كثيرا؛ لأن ستر عيوب الناس أحسن من إظهارها إذا لم يكن من هذا الإظهار فائدة لذوي العيوب وغيرهم. ولكنه إذا عادى إنسانا لأشياء خصوصية وكان هذا الإنسان من أشرف وأفضل خلق الله يتهمه بكل قباحة وشناعة وخيانة. فهؤلاء الأربعة يجب أن تتحذر منهم؛ لأنهم كالمعاول والعتلات الهادمة لبنيان الصداقة والسعادة والظن الحسن بالناس، وليس أسعد من الإنسان الذي يقدر أن يفتكر بكل أحد حسنا لا قبيحا.
وإياك إن جمعت بأحد الأربعة أن تصدق كلامه عن بديعة سواء كان قبيحا أم حسنا، والسبب أنه ربما كان صديق بديعة فيتكلم عنها بحسب هواه ومأربه، وربما كان عدوها فيتكلم عنها هكذا أيضا، وإياك أيضا أن تصدق كلام أحد عنها قبل أن تختبرها بنفسك؛ لأن الصديق ينظر بعين الصداقة إلى الحسنات فقط، والعدو مثله ينظر إلى السيئات، وقليلون هم الذين يعرفون العدل وينظرون إلى الحسنات والسيئات في حالتي الصداقة والعداوة فيشكرون ما يجب شكره ويذمون ما يجب ذمه.
وهناك يا عزيزي وصايا أخرى أدبية كثيرة هي للمسافر مثلك زاد النفس، كما أن الطعام زاد الجسد، وأنا أقدر على ذكر كل هذه الأمور لك بجملة واحدة هي «أنه يجب على الغريب أن يكون أديبا»، واللبيب من الإشارة يفهم. وكان فؤاد يسمع كلام والده وهو يبكي من حنوه ومن هم نفسه، ولما انتهى قال له بصوت حزين: أطلب من الله يا سيدي أن يحقق آمالك بي وآمالي ببديعة. وكأنه ذكر أمرا اصفر له وجهه؛ إذ قال لوالده: أتظن يا سيدي أن نسيبا ...
فقاطعه والده قائلا: لا تذكر اسم هذا الشاب أبدا؛ فإنني أؤكد لك بأن بديعة لا تحبه ولا تهتم به، ولكنه هو قد سعى بإبعادها وتبعها ووشى لوالدتك بها فصدقته والدتك، وإن فكري يدلني بأنك متى رأيت بديعة تنجل لك الحقيقة وتتحقق برؤيتها، فاقترن بها وتنزها بأمريكا وتفرجا على عظمتها قبل رجوعكما بالسلامة، ولا تهتم بأمر نسيب متى تحققت خيانته، أو تنتقم منه؛ لأنه إذا كان الانتقام أرضيا فالصفح سماوي.
فقال الشاب فرحا وهو معانق والده: إن كلامك أكبر منشط لي يا سيدي؛ لأن فكري ببراءة بديعة هو غيره بخيانتها فأنا مديون لك بهذا الحب العظيم لي، وبديعة مديونة لك بظنك الحسن بها الذي غير أفكاري فيها فأنت «أم» يا سيدي؛ لأن لك حنو الأمهات لأولادهن، ووالدتي «أب» لأنها عاملتني بقساوة كثيرا ما تصدر عن الآباء وليس عن الأمهات، فالله يحفظك لي أبا مرشدا وعضدا في الحياة، ويحفظني لك لكي أقوم بواجب الخدمة نحوك وأسر قلبك ولكن ألا تظن أن والدتي تمانع جدا بذهابي؟
أجاب الوالد: لا بد من إقناعها بذهابك؛ لأن الواجب نحو تلك الفتاة الطاهرة يضطرك إلى الذهاب.
अज्ञात पृष्ठ