وكانت بديعة تسمع كلامه الشريف وتبكي فلما انتهى لم تقدر إلا على الوثوق به، وقالت: إن اللسان أحقر من الجنان بكل شيء؛ فهو لا يقدر على بث عواطف الشكر عنه. فالله وحده يقدرني على مكافأتك.
قال أديب بفرح: آمين، لأن بمكافأتك حياتي ...
وكان الوقت إذ ذاك أصيلا فلحظ أديب تلبك وقلق بديعة الظاهرين، وقال: إنك لا تحبين الرجوع برفقتي خوفا من لغط الألسنة، ولكنني لا أتركك تذهبين وحدك ولو مهما حدث.
فقالت بديعة: إنك تقدر على قراءة أفكاري بسهولة؛ لأن فينا عادة - نحن السوريين - هي أن نحمل كل ما نراه على محمل سيئ، وذلك لعدم الفرق بين الناس ومعرفة عقولهم لنعرف منها أعمالهم ونحكم عليها. وكما أخاف من الذهاب معك أخاف من الذهاب وحدي؛ لأنهم سيشكون على كل حال وهذا ما يؤلمني؛ إذ إني أكره أن أكون مسببة للناس الشكوك.
فأجاب: إنهم بدون ريب سيعرفون بأمرنا وأننا التقينا مع بعضنا بسبب خروجنا من البيت كل بمفرده. فدعينا نذهب سوية وذلك ينجينا من خطر الطريق وخطر المكر.
الفصل الثامن عشر
تأثير المحبة
وكانت بديعة باستعداد تام لازورار الأعين والتلميح بالكلام، فلم تبال بهما كثيرا عند وصولها، والذي زاد بعدم مبالاتها هو ابتسامات جميلة الحلوة لها وقبلاتها الحارة.
ومن العجائب كان حب الواحدة للأخرى من هاتين الفتاتين، فقد يحتار الإنسان بما يدعوه إلا «حب الأم»؛ لأن هذا هو الحب الوحيد الذي تضحى فيه المصلحة الذاتية بسرور تام، والذي ليس للغيرة من أثر فيه. وهذا الحب عمومي تقريبا في الأمهات ونادر جدا في الأزواج والزوجات، وغير موجود ما بين الإخوان والأخوات، فلهذا كان يحسب كل ما يرى هاتين الفتاتين ويعرف ما هو حبهما لبعضهما أن كل واحدة منهما بنت الأخرى ... لأن كل واحدة منهما كانت تحب السرور للأخرى وإن كانت هي حزينة، وقد يظن القارئ أن كلام هذه المؤلفة تصور وهمي إذا قالت بأن جميلة مع أنها كانت بسيطة الخلقة فإنها كانت تسر من النظر إلى جمال بديعة الفتان؛ لأنها كانت عاقلة فلا تبغض أختها لأمر لم تكن صنعته إحداهما، وبديعة كانت تعيسة جدا بذلك الوقت ولكن لو قدر لها أن ترى جميلة سعيدة لسرت وتسلت بسعادتها عن تعاستها هي؛ لأن الغيرة لم تخامر قلبي هاتين الفتاتين. وكانت إذا فقدت الواحدة منهن شيئا حلوا ولذيذا في الحياة تسر ولا تحزن إذا وجدته مع أختها، وتشعر معها بالتلذذ فلا تحسدها لأجله، كما هي الحالة حتى بين الشقيقات أحيانا.
وقد يسمى هذا الحب «حب الأمهات»؛ لأنه وإن يكن عظيما ومعجبا بين فتاتين صديقتين، فهو تافه وبسيط عند الأمهات اللواتي يحببن التنازل عن كل شيء حسن لهن لأولادهن، ويكن سعيدات، فكأنهن لا يكن سعيدات، ولا تتمثل صورة آمالهن جميلة بأعينهن إلا في الأولاد، فيا ما أعظم هذا الحب من الأمهات! ويا ما أحقر ما يقابله به الأولاد!
अज्ञात पृष्ठ