وعندما قالت بديعة: «هذا ما أرجوه.» صبغت وجهها هذه المرة الحمرة الحقيقية التي فيها بعض دم القلب يصعد إلى الوجنتين والأذنين.
ورأى هو مجالا للكلام والتلميح، فقال: إذن أنت لا تغارين. وحيث الأمر كذلك - وهو غير ما ظننت - فدعيني أخبرك بأن فؤادا رجع من المدرسة ووجد والده بانتظاره مع العروس فعقد خطبته عليها وأنا تركتهم على أهبة العرس وأتيت لكي ...
فقاطعته بديعة قائلة، وقد ظهر على وجهها ما كذب قول نسيب من أنها لا تغار: لكي تخبرني بالأمر وتجهز على قلبي الذي طعنته مرة من قبل، فمن صميم فؤادي أرجو لهما السعادة الملازمة؛ لأن هذا الأمر هو سعادة ومشتهى قلبي.
فنظر إليها مستفهما وقال: أصحيح ما تقولين؟ تتمنين السعادة لمن خانك؟
فقالت بديعة بهدوء: إذا كان هو خانني كما قلت أنت فأنا لم أخنه، بل إنني أحبه اليوم كما أحببته من قبل، وهذا الحب يحملني على طلب السعادة له؛ لأن معنى الحب الحقيقي هو إرادة الخير للغير.
فكان كلامها حرابا على قلب ذلك الشاب الخائن، وقال في نفسه: إنها خدمت في بيتهم شهورا فضحت لأجلهم أعظم ثروة وأكبر سعادة، وأما أنا فإنني لاعبت فؤادا طفلا وعاشرته يافعا ولازمته شابا «وأكلت معه بالصحن»، وخالتي ربتني بعد موت والدي، وزوجها علمني وأحبني، وهذا صنيعي معهم مقابل صنيع هذه الفتاة، ولكن ما لي ولهذه الأفكار الآن فقد بدأت ويجب أن أتمم.
ثم تأمل بعين فكره في هذه الجملة فقال: إن هذه الجملة هي آفة الكثيرين؛ لأن الإنسان الذي يسلك طريق الشر يعرف بأنه سالكها حين يكون في أولها أو منتصفها، ولكنه يقول: «ما عدت قادرا على الرجوع.» أو أن رجوعي لا يجدي نفعا؛ لأنني قد لبست ثوب العار، وهذا خطأ فاضح وضرر كبير؛ لأن الرجوع من أول أو نصف الطريق خير من متابعة السير على البصير المرعوي.
وبينما كان فؤاد يفتكر كانت بديعة تفكر أيضا، وقد جلست مطرقة تتصوره سعيدا بمن يحبها، فانفطر قلبها من الغيرة التي متى كانت معتدلة ولسبب حقيقي تكون بنت الحب الصادق.
ولكنها لم تلبث أن قالت لنفسها كما قالت لها قبل وصول نسيب: إن هذا هو الضعف يا نفس، فيجب أن تكوني قوية وتعرفي بأن الإنسان العاقل لم يخلق لذاته أيضا، بل للإنسانية حق فيه لأنه عضو منها ويطالب بالقيام بواجباته نحوها بقدر إمكانه. وما هي هذه الواجبات؟
هي مساعدة الفقراء بقليل من المال، وإذا لم يكن المال موجودا فبالكلام المعزي اللطيف. وقد قال أحد الحكماء: إننا لا نشعر بالسعادة التي يشعر بها الغير من كلامنا اللطيف لهم. فهذه السعادة قد ترجع الضال إلى حظيرة الآداب والفضيلة. وقد تشبع جائعا فينسى احتياجه إلى الخبز. وتسلي حزينا فينسى حزنه ولو لوقت. هذه مساعدة الإنسانية يأتيها الإنسان مهما كان خاملا ولا سيما المرأة. ومن يظن أنه لا يخدم الإنسانية إذا لم يخدمها كأكابر محيي الإنسانية يكون إما جاهلا لا يعرف بأن كل جزء صغير هو من كل كبير، وإما بخيلا لا يقدر على إتيان العظائم في الخير - وإن قدر لا يفعلها - ولا يعمل ما هو دونها ادعاء بأنها لا تحسب شيئا، وفلس الأرملة أكبر برهان على خطئه لو اعتبر.
अज्ञात पृष्ठ