جرت تلك العربة تقطع الوديان والسهول، وبديعة جالسة فيها تتنازعها الأفكار، حتى إنها لعظم همها نسيت ما هو ذلك الهم، ولم تعد تشعر إلا بثقل وطأته عليها. ولم تسمع - لشدة استغراقها في الهم - خرير دواليب عربة أخرى كانت تتبع عربتها وفيها نسيب الذي لم يكن نزوله إلى الضبية إلا مكرا؛ إذ لم يلبث أكثر من دقائق معدودة فيها. وركب عربة وتبع بديعة وبقصده مراقبتها واللحاق بها إلى أي جهة كانت من العالم؛ ليسرد على سماعها حديث حبه الممقوت منها، وليحول بينها وبين فؤاد.
كان ذلك الشاب يحب بديعة حبا مفرطا، حبا يجعل العاقل مجنونا، وهذا ما يغفر له تثقيله عليها. ولكن ما هو العذر عن خيانته لخالته التي ربته طفلا وعلمته ولم تفرقه بشيء عن ولدها. وتسبيبه العذابات لفؤاد الذي عرفه كأخ له؟ وأي شيء في العالم يغفر له إساءاته نحو ذلك البيت الذي كان مأوى صالحا عاش فيه بسعادة ورغد؟
وعرف الشاب أمر خيانته، لكنه قال: وأي بأس من هذا وعلى الإنسان واجب نحو نفسه وقلبه ويقوم به ولو أضر بكثيرين غيره، حتى ولو أضر بالعالم أجمع؟ ولا غرو، فالأنانية موجودة عند كل إنسان، وكل آدمي يحب نفسه قبل غيره.
ولكن الفرق هو في نوع المحبة وفي مطالبة تلك النفس ذاتها. فالشريف النفس يرى أنه بطلبه كل شرف وفضل، وبفعله كل خير يحب نفسه ويقوم بواجبه نحوها؛ لأن حياته هي الشرف. وهذا يفعل نحو غيره من الخير ويضحي لأجلهم من المصالح أكثر مما يفعل نحو نفسه ذاتها، ولكن النفس تسر بهذا؛ لأنه مطلبها. وذاك يحب نفسه وتكون هذه «وحشية» كل مطالبها سرورها الخاص ولو بالوقوف دون سرور الناس والإضرار بمصلحتهم. وهذا يحب نفسه ويطلب سرورها دائما ولو من وسط الشرور وهضم حقوق الغير المقدسة. كلا الحبين حب ذاتي أو ما ندعوه أنانية، ولكن الفرق هو أن أحدهما يحب نفسه، ولكن يحبها أن تكون شريفة. والآخر يحب نفسه ولا فرق عنده إن كانت شريرة أو صالحة، بشرط أن تكون مسرورة. وهذان النوعان من الحب يمثلان لنا بأعمال بديعة التي ضحت سعادتها لأجل غيرها، وبأعمال نسيب الذي ضحى شرفه لأجل سروره، والفرق بين الاثنين عظيم جدا.
لا يشعر الإنسان عادة بعاقبة عمله إلا بعد مضي مدة عليه. ويتضاعف هذا الشعور متى اختلى بنفسه وتجسمت له صورة ذلك العمل بمنظرها الهائل. وهذا ما كان للسيدة مريم في اليوم الثاني من طردها بديعة من بيتها.
فإنها بقيت في تلك الدار الكبيرة وحدها، وابتدأت الأفكار تقلبها على أحر من جمر الغضا، فلم تدر كيف تعمل؛ لأنها لم تحب أن تزور أحدا ولا أن تزار من أحد في وسط أحزانها، لئلا تكون معرضة للسؤال عن سبب همومها. ومجانبة الناس أحسن واسطة لاجتناب فضح سر الإنسان متى شاء كتمانه. وفي أصل ذلك النهار نزلت إلى الحديقة لتسلي أفكارها بين زهورها ورياضها. وفيما هي غارقة في أوقيانوس الافتكار بمصيبتها سمعت صوتا يناديها قائلا: مساء الخير يا خالتي.
فنظرت إليه بعينين خائرتين من الأرق وصاحت: نسيب! لماذا تأخرت؟ فقد انتظرت رجوعك الليلة البارحة.
أجاب الشاب: إنني كنت آيبا إلى البيت كما وعدت، فالتقيت ببديعة ذاهبة إلى القرية الفلانية ... فتبعتها إلى هناك ثم رجعت معها إلى هذه المدينة.
فنظرت إليه خالته وقالت مضطربة: إلى هذه المدينة؟ - نعم لأنها مزمعة على السفر مع رفيقة لها إلى أمريكا في الباخرة التي تترك الثغر غدا مساء. ولكن هل علمت يا سيدتي بأنني سأسافر في ذات الباخرة معها؟ اصبري اصبري. دعيني أتم الحديث، أجل إلى أمريكا حيث أقدر على مساعدتك هناك أكثر مما أقدر هنا.
فصرخت خالته فيه قائلة: كفى تعذيبا لخالتك المسكينة يا نسيب، فكلامك مهم ولا أفهم لذهابك سببا، وهب أن الأمر كان كذلك، فهل تراني قادرة على احتمال كل هذه المصائب؟ إنك عندي مثل ولدي فؤاد، وأنا لا أنسى وصية أمك المرحومة لي بك عند ساعة موتها. فهل تراني أسمح لك بالبعاد عني؟ أمريكا؟ كلا. كلا.
अज्ञात पृष्ठ