من هما الفتاتان؟
لندع الفتاتين الآن تجري بهما العربة إلى بيروت، يرافقهما والد لوسيا وأخوها من أبيها، ومنها إلى ظهر الباخرة مساجري ماريتيم، ولنعرف القارئ بهما.
لم تكن تعرف بديعة عن تاريخ حياتها شيئا سوى أنها أفاقت لحالها فوجدت نفسها في العازارية، وكانت لوسيا من أعز البنات إليها؛ لأنها كانت رفيقتها الخاصة، ومن مدة شهور قليلة ذهب والد لوسيا إلى المدرسة وأخرج الفتاتين وأتى بهما إلى بيته. وقال لبديعة وهي في الطريق معه بأنها بنت أخته وأن أبويها توفيا بالجدري حينما كانت بنت شهر فقط. أما أم لوسيا فقد توفيت إذ كانت هذه بنت سنة، فوضعهما في العازارية حيث تربتا. فاقتنعت الفتاتان بهذا القول ولم تستزيداه سؤالا.
ولما وصلتا إلى البيت كاد يغمى عليهما من مرآه واستنشاق الروائح الكريهة منه؛ لأنه كان كالمأوى للإنسان والحيوان معا، فيه البقر وغيرها من الدواب من الجهة الواحدة، والناس من الجهة الأخرى ينامون ويأكلون معا. فبكت الفتاتان وتذكرتا ذلك الدير الرحب النظيف الذي ربيتا وخدمتا وعاشتا داخل جدرانه محبوبتين من كل من فيه. وزاد في تألم الفتاتين أن والد لوسيا كان متزوجا بامرأة جاهلة ظالمة لا حنو ولا شفقة في قلبها عليهما؛ لظنها أنهما جاءتا لتسابقا أولادها وتسلباهم طعامهم ولباسهم.
وكانت تحسدهما بجمالهما وتهذيبهما وتغار منهما، وهذا شأن كل خالة مع أولاد زوجها، إلا إذا كانت عادلة فاضلة عاقلة.
فلم تطق بديعة هذا الضغط ولا هذه المعيشة، وفضلت أن تخدم عند أناس يفهمونها وتفهمهم، حتى تزيل أتعابها القلبية والجسدية بما تراه من نظافة وترتيب بيوتهم ، وما تسمعه من أفواههم من الكلام اللطيف، فرجعت بعد أسبوع إلى بيروت حيث توفقت لخدمة عائلة من أشهر عائلات تلك المدينة الزاهرة. وأما لوسيا فإنها تحملت كل هذا؛ لأن والدها لم يسمح لها بترك البيت ووعدها بإحسان معاملتها في المستقبل. وبالحقيقة إن معيشتها مع امرأة أبيها كانت خلاصة الحنظل؛ لأنها كانت ذات كبرياء زائدة، فرأت برعاية «البقر» والاستملاء وتربية دود الحرير مذلة وعارا. وكانت دائما تقول لأبيها: إننا يا أبي لا نفرق شيئا عن البهائم. نحن نكد ونتعب، ونفلح ونزرع، ونحمل على ظهورنا الأحمال الثقيلة، وكل ما نكسبه من ثمرة أتعابنا هذه هو «قوت يومنا»، كهذه الدواب التي تحمل الأحمال الثقيلة التي من ورائها غنى وسعادة أصحابها، وهي لا تستفيد منها إلا مقدارا من العليق والعلف، فكأن الحياة كلها كناية عن أكل ثلاث وجبات في النهار ونوم عشر ساعات في الليل. وكأننا قد خلقنا لنكون آلات يستعملنا الأغنياء لبناء بيت مستقبلهم وقلعة سعادتهم.
أما بديعة فقد وجدت بعد ذهابها راحتها عند أسيادها؛ لأن سيدتها وسيدها كانا مسرورين منها جدا؛ إذ إنها كانت تعلو منزلة وتسمو قدرا عن سائر الخدام والخادمات، وكأنها بأعمالها وآدابها وأخلاقها خلقت لتكون «سيدة لا خادمة»، كما قالت سيدتها مرة. وكان في بيت سيدها خدام كثيرون، أما هي فكانت أحسنهم. ولم تكن تعاشرهم ولا تخالطهم مطلقا؛ لما رأته من انحطاط آدابهم وميلهم إلى اللهو والقصف، وعدم أمانتهم على البيت الذي يعيشون فيه أو على من فيه.
ولكم من مرة مرت بديعة على غرفة الخدم، فوجدتهم بعد الانتهاء من أشغالهم جالسين يدخنون ويسكرون ويهزءون بأسيادهم وبمن دخل ذلك البيت في ذلك النهار، كأنهم الجواسيس على البيت وأصحابه وضيوفه. وفي ذات يوم سمعت بديعة صوت خادمة غريبة تنم بسيدتها لخادمة من خادمات بيت الخواجة منصور، فأجابت تلك الخادمة: «كلنا بهذه المصيبة» لأن سيدتنا كسيدتك وأمرها كيت وكيت. فزجرتها بديعة على عدم أمانتها وجحودها للجميل، وبطريق الصدفة كان كلامها على مسمع من سيدتها. فطردت تلك الخادمة من دارها وأعلت قدر ومنزلة بديعة، حتى أصبحت نديمتها وشريكتها وصديقتها في البيت أكثر مما هي خادمتها.
ولم يكن لبيت الخواجة منصور سوى ولد وحيد في الحادية والعشرين من عمره لم يزل في المدرسة، مع شاب آخر هو ابن خالته التي ماتت هي وأبوه بشهر واحد، فأتت السيدة مريم بابن أختها وربته، وإذ كان زوجها يحبها ويحترمها كثيرا أحب الغلام ورباه وعلمه العلوم التي علمها لابنه.
ولم يمض وقت طويل على خدمة بديعة لذلك البيت حتى كان الخامس عشر من شهر تموز، وهو يوم رجوع التلامذة من المدرسة لقضاء أيام العطلة في بيوتهم، وحسب العادة ذهبت والدة فؤاد السيدة مريم ووالده الخواجة منصور لملاقاته ومرافقته للبيت مع ابن خالته نسيب؛ ذلك بعد أن أكملت استعدادها لحفلة شائقة تقيمها في ذلك المساء إكراما لمجيء ولدها العزيز. وتركت بديعة في البيت الذي أوكلت إليها أمره.
अज्ञात पृष्ठ