وهكذا يا حبيبتي تركتك ورجعت، ولكن ظن والدي خاب في؛ لأنني لم أقبل معهما بالزواج، إذ إن ذكر والدك وذكرك كانا كافيين لأن يمنعاني عن هذا الأمر.
وكنت ظننت وأملت أن والدي يرقان لي ويسمحان باسترجاعك بعد زوال عاصفة غضبهما، فكان قلبهما صخريا، والذي كان يساعدني على الصبر هو زيارتك في المدرسة. وفي أوائل هذه السنة مات جدك وماتت بعده جدتك، فأرسلت صديقي ميخائيل ليفتش عنك، فأتى وأخبرني بأنك في أمريكا، وما بقي فأنت تعلمينه. فهل أنا مستحقة الصفح عندك ابنتي؟
قالت هذا وانطرحت على ركبتي ابنتها، فارتعدت فرائص بديعة، وحاولت أن ترفعها عن الأرض، فلم تقدر فانطرحت بجانبها وهي تبكي وتقول: أمن كانت مثلك تحملت كل هذه العذابات والمشقات لأجل والدي ولأجلي تعد مذنبة يا أمي؟ وهل والدة مثلك قد أعدت لابنتها هذا المستقبل العظيم مخطئة وتطلب الصفح؟! إنني أنا المذنبة يا أمي؛ لأنني لم أقدر أن أشاطرك همومك فيما مضى، ولكنني أعدك بكل ما عندي من الاعتبار لشرفك أنني أعوض عليك في المستقبل ما قد خسرته في الماضي، بأن أكون لك بنتا محبة ومطيعة وفاضلة، وهذا ما يفرح ويسر قلبك الشريف.
وخرجت جميلة وابنتها من تلك المعركة الفكرية منهوكتي قوى النفس والجسد.
الفصل الأربعون
إعجاب الأم بالبنت
وبعد اجتماع السيدة جميلة أعلنت قصتها. فتناقلتها ألسنة الناس والجرائد في كل أنحاء سوريا، وكانت تبتدئ وتنتهي دائما بذكر الوالدة وعذابها وحبها، وبأدب وتهذيب وفضل الابنة التي جاءت كجزاء عادل من الله لتلك السيدة التعيسة بعد صبرها على العذاب، والله يكافئ الصابرين.
ومعلوم بأنه لو كانت هذه السيدة فقيرة، لكان اكتفى أصحاب الجرائد بسرد قصتها «تفكهة للقراء»، ولكان اكتفى «قراء التفكهة» بقراءتها. أما والحالة تفرق كثيرا، فإن مقالات الجرائد كانت كسلسلة متصلة الحلقات لمدة شهور.
وكان إعجاب الوالدة بابنتها عظيما بعد أن اختبرتها؛ لأنها لم تكن تنتظر ما رأته من العلم والآداب والتهذب والفضائل في الفتاة التي «نزعتها عن صدرها»، وباتت في شك من اكتسابها شيئا حسنا وهي بعيدة عنها.
وآخر مرة نظرت الوالدة ابنتها في المدرسة لم تحلم قط بأنها ستصل إلى هذه الدرجة من جمال النفس والجسد، وأظهرت ذلك لبديعة مرة إذ قالت : إنك بأخلاقك وطباعك وجمالك كما أريد يا بديعة وفوق ما أريد، وكم تمنيت ذلك فلم يخيب الله آمالي، وأنا أراك بهذه الصورة الكمالية الآن أصدق قول القائل:
अज्ञात पृष्ठ