الفصل الأول: البيان قبل ابن المعتز:
بسم الله الرحمن الرحيم
"١"
لابن المعتز منزلة كبيرة في البيان العربي؛ فقد ألف فيه كتابه "البديع" الذي عدَّد فيه شتى أساليب ومحاسن الشعر كما عرفها ابن المعتز وعصره. وهذا الكتاب ليس قاصرًا على البديع بالمعنى الضيق المحدود؛ لأن ابن المعتز يذكر فيه التشبيه والاستعارة وهما من صميم البيان العربي، ويذكر فيه الكناية؛ ولكنه يريد بها معناها اللغوي، وهو أهم من المعنى الاصطلاحي المعروف. فإذا قلنا: إن ابن المعتز ألَّف في البيان، فقد سرنا في الحق والتفكير السليم، وإذا قلنا: إنه ألف في البديع، فقد ضيقنا دائرة البحث بغير مبرِّر، وإن كان البديع في الاصطلاح المتأخر جزءًا من البيان، وإن كان البديع بالمعنى القديم المعروف عن بعض علماء البلاغة يرادف كلمة البيان أو البلاغة.
فابن المعتز -إذن- ذو أثر كبير في البديع، وعلى وجه الدقة له أثره في البيان العربي ودراساته، وذلك ما سنتناوله الآن بالبحث والتحليل.
"٢"
١- كان للعرب في حياتهم الأولى ذوق، وفيه طبع، كانوا بهما في غنًى عن الشرح والتحليل والتوجيه والتعليل لأحكام النقد ولأصول البيان العربي ومذاهبه، وكذلك كانت أصول البيان بعيده عن البحث والدراسة والتقرير.
وفي ظلال الحياة الإسلامية اختلطت العناصر، وتمازجت الثقافات، فلقحت العقول، وأصابت الألسنة آثار من اللكنة واللحن، وأخذ أئمة العربية يعملون في صبر وعزيمة في وضع أصول النحو العربي، وجمع مواد اللغة الغزيرة، وصحب ذلك وتلاه دراسات أخرى تتناول العربي وأصوله ومذاهبه بالبحث
1 / 7
والتحليل، وأخذت تتكون من تلك الدراسات النواة الأولى للبيان العربي، وظل التقدم الفكري والنضوج الأدبي والعلمي يسير بهذه البحوث والدراسات نحو الكمال المنشود بخطوات كبيرة، وكانت الثقافة البيانية تنمو حين ذاك بجهود ثلاث طبقات:
أ- الأولى طبقة رواة وعلماء الأدب من البصريين والكوفيين والبغداديين؛ من أمثال: خلف والأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة ويحيى بن نجيم وعمرو بن كركرة، وأستاذهم أبو عمرو بن العلاء أعلم الناس بالعرب والعربية١، ومن عامة الرواة الذين لا يقفون إلا على البليغ الساحر من الأساليب -كما يقول الجاحظ- دون النحويين واللغويين والإخباريين الذين لم يتجهوا هذا الاتجاه٢، وبجوار هؤلاء أئمة الشعراء٣ وغيرهم من الخطباء ورجال الأدب الذين تثقفوا بالثقافة العربية.
ب- والثانية طبقة الكُتَّاب الذين لم يرَ الجاحظ قومًا قط أمثل طريقة في البلاغة منهم، والذين التمسوا من الألفاظ ما لم يكن وحشيًّا ولا سوقيًّا٤، ورأى الجاحظ البصر بهذا الجوهر من الكلام فيهم أعم٥، وحكم مذهبهم في النقد٦، ومثلهم المعتزلة وفرق المتكلمين الذين رآهم الجاحظ فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء٧، وكان بعضهم من عناصر عربية وتثقفوا بثقافة أجنبية، والآخرون من عناصر أجنبية تثقفت بالثقافة العربية، مما كان له أثره في أصول البيان، وفي توجيه دراسته وبحوثه، وفي الدعوة إلى آراء في الأداب توائم ثقافتهم وعلقيتهم، وكان بعضهم يلقن مذاهبه الأدبية العامة للتلاميذ وشداة الأدب، كما نرى في محاضرة بشر بن المعتمر المعتزلي م٢١٠هـ في أصول البلاغة٨، والتي يقول الجاحظ عنها: إن بشرًا مر بإبراهيم من جبلة بن مخرمة٩،
_________
١ ٢٠٩/ ١ البيان.
٢ ٢٢٤/ ٣ البيان.
٣ ٥٤/ ١ البيان.
٤ ١٠٥/ ١ البيان.
٥ ٢٢٥/ ٣ البيان.
٦ ٢٤٠/ ١ البيان.
٧ ١٠٦/ ١ البيان.
٨ ١٠٤/ ١ وما بعدها البيان، ٢٢٨ وما بعدها صناعتين.
٩ يعده الجاحظ من الخطباء الشعراء ١٥٥/ ١ البيان.
1 / 8
وهو يعلم الفتيان الخطابة فوقف بشر فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد، فقال بشر: اضربوا عمَّا قال صفحًا، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه في أصول البلاغة وعناصر البيان١، ومن رجال هذه الطبقة: أبو العلاء سالم مولى هشام، وعبد لحميد الكاتب أو الأكبر -كما يقول الجاحظ٢- وابن المقفع، وسهل بن هارون٣، والحسن والفضل٤ ابنا سهل، ويحيى البرمكي، وأخوه جعفر٥، وأيوب بن جعفر، وأحمد بن يوسف، وعمرو بن مسعدة٦، وابن الزيات، وسواهم.
وكان لهذه الطبقة أثرها في بحث عناصر البيان وبلاغة الكلام، ونستطيع أن نعرف آثار هاتين الطبقتين في دراسات البيان بالرجوع إلى آرائهم المثبتة في شتى أصول الأدب، والتي يمكننا أن نذكر هنا طرفًا منها، وإن شئت فاقرأ جواب صحار لمعاوية حين سأله عن البلاغة٧، ويروى قبل هذا بكثير أن عامر بن الظرب سأل حممة بن رافع: مَن أبلغ الناس؟ فقال: من حلَّى المعنى المزيز باللفظ الوجيز، وطبق المفصل قبل التحزيز٨.
واقرأ: تحديد المفضل الضبي للإيجاز٩، وتفسير ابن المقفع للبلاغة١٠، وحوار الشمري لعمرو بن عبيد في البلاغة١١، وتعريف الأصمعي للبليغ١٢، ورأي إبراهيم بن محمد في
_________
١ ولبشر كتاب في نظم كليلة ودمنة.
٢ ١٥١/ ١ البيان.
٣ كان سهل يقول: سياسة البلاغة أشد من البلاغة "١٤٤/ ١ البيان، ٣٣/ ٣ العقد".
٤ ذكر الحصري كثيرًا من بلاغته "١٦-١٩ جـ٢ زهر".
٥ وصف الجاحظ بلاغته وأشاد به "٨٥ و٩١/ ٢ زهر"، وكان يؤثر الإيجاز "١٨/ ١ البيان، ١٧٧/ ١ الكامل"، ونوَّه به سهل بن هارون "١١/ ٢ زهر".
٦ نوَّه المأمن ببلاغته ٢٦٤/ ٣ زهر.
٧ ٨١/ ١ البيان، وراجع ١٨/ ٢ الكامل.
٨ ٢١٦ / ١ العمدة، ٢٨٠/ ٢ الأمالي للقالي.
٩ ٨١/ ١ البيان.
١٠ ٩١/ ١ البيان، ٢١٤/ ١ العمدة، ١٥-١٧ صناعتين.
١١ ٩٠/ ١ البيان، ١٤٢/ ١ زهر، و٤٧ الرسالة العذراء.
١٢ ٨٦/ ١ البيان، ٢٢٠/ ١ العمدة.
1 / 9
البلاغة١، وتعريض جعفر البرمكي للبيان٢، وتعريف العتابي للبلاغة٣، وتفضيل الجاحظ لرايه٤، ووصف الرشيد للبلاغة٥، ورأي شبيب بن شيبة في تفضيل بلاغة جودة القطع أو القافية على جودة الابتداء٦، ووصف ابن المقفع كلام الإعراب٧؛ الذين أعجب الجاحظ ببلاغتهم٨، ووصف الحسن بن وهب بلاغة أبي تمام٩، وتعريف المأمون للبليغ بأنه من كان كلامه في مقدار حاجته ولا يجيل الفكرة في اختلاس ما صعب عليه من الألفاظ، ولا يتعمَّد الغريب الوحشي ولا الساقط السوقي١٠، وقول خالد بن صفوان: أبلغ الكلام ما لا يحتاج إلى الكلام١١، وتعريفه للبلاغة بأنها التقرب من المعنى البعيد، والتباعد عن خسيس الكلام، والدلالة بالكبير على الكثير، وتعريف ابن عتبة لها بأنها: دنو المأخذ وقرع الحجة والاستغناء بالقليل عن الكثير، وعرفها الخليل بأنها: ما قرب طرفاه وبعد منتهاه، وعرفها إبراهيم الإمام بأنها: الجزالة والإصابة، وعرفها ابن المقفع بأنها: قلة الحصر والجراءة على البشر، إلى غير ذلك من شتى هذه التحديدات١٢، ويقول
_________
١ ٧٥/ ١ البيان.
٢ ٨٥/ ١ البيان، ٤٢-٤٧ صناعتين.
٣ ٩٠/ ١، و١٥٧/ ١ البيان.
٤ ١٢١/ ١ البيان.
٥ ٢٦٤/ ٣ زهر.
٦ ٨٩/ ١ البيان.
٧ ١١٨/ ٢ زهر.
٨ ١١٠/ ١ البيان.
٩ ٢٦٣/ ٣ زهر.
١٠ ٤٢٣ صناعتين.
١١ ٣٥، ٣٦ الرسالة العذراء.
١٢ راجع: ٤٤-٤٦ الرسالة العذراء، ٧٥/ ١ البيان، ٢، ٣، ٢٢، ٢٣/ ٣ العقد، ١٤٠-١٥٠/ ١ زهر، ٨٧-٩١/ ٢ ديوان المعاني، ١٠٩، ٢٠٢ إعجاز القرآن، ٢١٣-٢٢١/ ١ العمدة.
1 / 10
أبو دؤاد الإيادي: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب١.... إلخ، ويقول الخليل: كل ما أدى إلى قضاء الحاجة فهو بلاغة، فإن استطعت أن يكون لفظك لمعناك طبقًا ولتلك الحال وفقًا آخر كلامك لأوله مشابهًا وموراده لمصادره موازنة فافعل، واحرص أن تكون لكلامك متهمًا وإن ظرف٢، ووصية أبي تمام للبحتري تدخل في هذا الباب٣، ويقول عبد الملك بن صالح م١٩٩هـ: البلاغة معرفة رتق الكلام وفتقه٤، وقال ابن الرومي: البلاغة حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة عند الإطالة٥، ويقول البحتري: خير الكلام ما قلَّ وجلَّ ودلَّ ولم يمل٦، ويقول الثعالبي بعد: خير الكلام ما قل ودل وجل ولم يمل٧، ويقول ابن الأعرابي: البلاغة التقرب من البغية ودلالة قليل على كثير٨.
جـ- وأما الطبقة الثالثة فهي طبقة المفكرين والمثقفين الذين تثقفوا بثقافة أجنبية واسعة، وتأثروا كل التأثر بآداب الأمم الأخرى، وترجموا آراءهم في البيان ومناهجه إلى اللغة العربية، أو ألفوا كتبًا تبحث في هذه الاتجاهات، وهؤلاء قد عاشوا في البيئة الإسلامية، وأثروا في النقد والأدب والبيان ودراساته وتطوره تأثيرًا واضحًا كبيرًا، ويمكننا أن نذكر شيئًا عن مجهود هذه الطبقة في خدمة البيان:
_________
١ ١٤٧/ ١ زهر، ٥١/ ١ البيان.
٢ ٤٨ الرسالة العذراء.
٣ ١٥١/ ١ زهر.
٤ ٢٦٨/ ٣ البيان.
٥ ٤٥ صناعتين.
٦ ٣٦/ ١ المستطرف.
٧ ٢١٨/ ١ العمدة.
٨ ١٧/ ١ العمدة.
1 / 11
أهم عمل علمي قامت به هذه الطبقة: هو ترجمة كتابي الخطابة والشعر لأرسطو إلى العربية. فأما الخطابة فهو أصل كبير من أصول البلاغة ودراساتها، وقد "أصيب بنقل قديم، ونقله إسحاق بن حنين م ٢٩٨هـ، وكذلك نقله إبراهيم بن عبد الله، وفسَّره الفارابي م٣٣٩هـ"١.
وأما كتاب الشعر فقد اختصره الكندي م٢٥٣هـ، ونقله يحيى بن عدي ومتى في القرن الرابع من السريانية إلى العربية٢ ... وقد ألفوا في صناعة الشعر، وللكندي رسالة في صناعة الشعر٣، ولأبي زيد البلخي كتاب بعنوان "صناعة الشعر" أيضًا٤، وكذلك لأبي هفان٥، وهناك آراء كثيرة مأثورة عن هذه الطبقة في البلاغة وعناصرها، وهي متفرقة في شتى كتب الأدب ومصادره، وتجد في البيان والعمدة وسواهما أن صاحب اليونانيين عرَّف البلاغة بأنها: تصحيح الأقسام واختيار الكلام، وعرفها الرومي بأنها: وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة، وعرفها الفارسي بأنها: معرفة الوصل من الفصل، وعرفها الهندي بأنها: البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة ... إلخ، وعرفها أرسطو بأنها: حُسْنُ الاستعارة، ويعرفها جالينوس بأنها:
_________
١ ٣٤٩ فهرست.
٢ ٣٤٩، ٣٥٠ فهرست، ونجد تحليلًا كاملًا للكتاب في "٦٤-١٣٦ قواعد النقد الأدبي"، وهو لم يصل إلينا كاملًا، وليس من شك في أن للكتاب جزءًا ثانيًا قد فُقد "٦٨ المرجع"، ونكاد نجزم أن أرسطو أراد بكتابه هذا أن يكون ردًّا على أفلاطون في رأيه الذي ذهب إليه؛ وهو أن الشعر عمل غير جدير بمقام الذكاء البشري، وأنه من أشد بواعث الفساد "٧١ المرجع". ويقول: أرسطو في أوله: "سأتكلم هنا عن فن الشعر وأنواعه المختلفة ووظائف كل نوع، وفي البناء الصحيح للمنظومة وعدد أجزائها وخصائص كل منها" "٧٩ المرجع". وترجمه ابن سينا وابن رشد "٢٤ وما بعدها مقدمة نقد النثر".
٣ ٣٥٩ فهرست.
٤ ١٩٨ فهرست.
٥ ٢٠٧ فهرست.
1 / 12
إيضاح المفصل وفك المشكل، واقرأ البلاغة كما يراها حكيم الهند١، يقول حكيم: البلاغة معرفة السليم من المعتل وفرق ما بين المضمن والمطلق وفصل ما بين المشترك والمفرد٢، ويعرفها سقراط بأنها: استكشاف الحقائق٣، ويقسمها الكندي ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلَّم به، ونوع بالعكس، ونوع تعرفه ولا تتكلم به وهو أحمدها٤، ويقول: يجب للبليغ أن يكون قليل اللفظ كثير المعاني٥، وذكر بزرجمهر فضائل الكلام ورذائله، فقال: فضائله أن يكون صدقًا وأن يقع موقع الانتفاع وأن يُتكلم به في حينه وأن يحسن تأليفه وأن يستعمل منه مقدار الحاجة، ورذائله بالضد ... إلخ٦، وقال أبرويز لكاتبه: الكلام أربعة: سؤالك الشيء وسؤالك عن الشيء وأمرك بالشيء وخبرك عنه، فإذا طلبت فأسجح وإذا سألت فأوضح وإذا أمرت فاحكم وإذا أخبرت فحقَّق. وقال أيضًا: واجمع الكثير مما تريد في القليل٧، ولعل ثعلبًا حين ذكر في صدر كتابه "قواعد الشعر" أقسام الشعر وأنها أمر ونهي وخبر واستخبار٨، قد تأثر بذلك الرأي.
وبعد، فقد تعاونت هذه الطبقات في خدمة البيان، ولها جميعًا أثرها في نشأته وتطوره.
_________
١ ٨٧، ٧٩/ ١ البيان، ٢٠-٣٨ صناعتين، ١٤٤/ ١ زهر.
٢ ٨٨/ ٢ البيان والتبيين.
٣ أصول النقد الأدبي للشايب.
٤ ٢١٩/ ١ العمدة.
٥ ٣٥/ ١ المستطرف.
٦ ١٨٣ الموازنة.
٧ ١٠ أدب الكاتب.
٨ ص١١ قواعد الشعر.
1 / 13
الفصل الثاني: ابن المعتز وجهوده في دراسات البيان
مدخل
...
الفصل الثاني: ابن المعتز وجهوده في دراسات البيان
"١"
لابن المعتز منزلة كبيرة في البيان العربي؛ فقد ألَّف فيه كتابه "البديع"، الذي عدَّد فيه شتى أساليب البديع ومحاسن الشعر كما عرفها ابن المعتز وعصره، وهذا الكتاب ليس قاصرًا على البديع بالمعنى الضيق المحدود؛ لأن ابن المعتز يذكر فيه الكناية والاستعارة والتشبيه، وهي من صميم البيان العربي، يذكر فيه الكناية ولكنه يريد بها معناها اللغوي وهو أعم من المعنى الاصطلاحي المعروف، فإذا قلنا: إن ابن المعتز ألَّف في البيان؛ فقد سرنا مع الحق والتفكير السليم، وإذا قلنا: إنه ألف في البديع؛ فقد ضيقنا دائرة البحث بغير مبرِّر، وإن كان البديع في الاصطلاح المتأخر جزءًا من البيان، وإن كان البديع بالمعنى القديم المعروف عند بعض علماء البلاغة يرادف كلمة البيان أو البلاغة.
فابن المعتز -إذن- ذو أثر كبير في البديع، وعلى وجه الدقة له أثره في البيان العربي ودراساته، وذلك مما سنتناوله الآن بالبحث والتحليل.
"٢"
كان ابن المعتز من أئمة البيان في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وله في ذلك آراء عظيمة الأهمية ناضجة التفكير١، وقد اهتم بنوع خاص من ألوان البيان؛ هو أساليب البديع وألوان الترف في الأداء.
_________
١ راجع وصفه لبلاغة القرآن "٦٣ رسائل ابن المعتز"، وتعريفه للبلاغة بأنها: بلوغ المعنى ولم يطل سفر الكلام "٦٤ رسائل ابن المعتز، ١٥٧/ ١ زهر، ٤٦٢ / ١ وفيات، ٢١٧/ ١ العمدة، ٢٢٣/ ٢ شذرات، ٢٩٦ الأوراق، ١٢٨/ ١ حاشية السبكي على التلخيص"، وله كلمة في الحكمة والبلاغة "٦٣ رسائل ابن المعتز ١٢٣/ ١ زهر".
1 / 17
كان ابن المعتز يحتذي حذو أبي تمام في صنعة البديع، ويوشي شعره بشتى ألوانه يقصدها قصدًا ويتعمدها تعمدًا، ويصوغ شعره فنًّا تغلب روح الصناعة فيه ملكات الطبع والفطرة، وكان مع ذلك "يتحقق بعلم البديع تحققًا ينصر دعواه فيه لسان مذكراته"١، وألف فيه عام ٢٧٤هـ كتابه "البديع"٢ وسنه إذ ذاك سبعة وعشرون عامًا، مما يدلنا على أن ابن المعتز لم يتمش في العقد الثالث من عمره حتى كان قد قتل الشعر العربي حفظًا ورواية ودرسًا وفَهْمًا.
وكان لكتابه البديع دوي في المجامع الأدبية، ثم شاع وذاع وتلقفته الأيدي وعكف العلماء والأدباء عليه، وصار مصدرًا ممتازًا من مصادر الدراسات البيانية بعد عصر ابن المعتز، ثم فقدت نسخ الكتاب الخطية وقلَّ تداوله ولم يبقَ له أثر إلا ما نقرأ عنه في شتى كتب البيان والبديع؛ ولكن العناية شاءت أن يحفظ من الكتاب نسخة خطية واحدة هي الوحيدة في العالم وهي في الاسكوريال برقم ٣٨ أدب، وقد نشرها المستشرق الروسي المعاصر أغناطيوس كراتشقوفسكي عضو أكاديمية العلوم بليننغراد وعضو المجمع العلمي العربي بدمشق وذلك عام ١٩٣٥، وقد تسنَّى بعمل هذا المستشرق الاطلاع على هذا الكتاب الفذ النادر والإفادة بما فيه من بحوث تعتبر المصدر الأول للمؤلفين في البلاغة وفن البديع.
وقد قمت بشرح هذا الكتاب والتعليق عليه وتصحيحه ونشرته عام ١٩٤٥، فكان ذلك إحياء لكتاب ابن المعتز، ومساهمة كبيرة في خدمة الثقافة البلاغية، وسعيًا لتداول أهم وأول مصدر أُلِّفَ في البديع.
والكتاب أول مؤلَّف في البديع وصنعة الشعر كما أجمع على ذلك جميع الباحثين٣، وهو أهم كتب ابن المعتز بالنظر إلى اختصاصه في هذا الفن٤،
_________
١ ١٠ رسائل ابن المعتز، ١٢٣/ ٤ زهر.
٢ راجع ١٠٦ البديع.
٣ ٢٣٥/ ١ العمدة، ١٤٦/ ١ معاهد التنصيص، ٢٧٦ الزيات، ٤٥/ ٢ أدب اللغة لمحمد بك دياب ط ١٩٠٠، ١٤٨/ ١ كشف الظنون، ٦٩٣/ ١ البستاني، ١٩١ الإسكندري، ١٠٥ أدب اللغة للظواهري.
٤ ١٦٣/ ٢ زيدان.
1 / 18
ويعد فتحًا جديدًا١، ويقول ابن المعتز نفسه: وما جمع فنون البديع ولا سبقني إليه أحد٢.
"٣"
ولقب البديع ليس لقبًا مستحدثًا في عهد ابن المعتز؛ ولكنه اسم لهذه الألوان الساحرة في الأسلوب، ولهذا الترف البياني في الأداة، من تشبيه واستعارة وتجنيس وتطبيق وسوى ذلك، سماه به مسلم بن الوليد الشاعر م٢٠٨هـ، وكان يُعرف قبل ذلك باللطيف٣، ودرج على هذا اللقب من بعده من العلماء والأدباء، وفي الأغاني أن الأصمعي م٢١٦هـ كان يفضل بشارًا؛ لأنه أكثر تصرفًا وفنون شعر وأغزر وأوسع بديعًا٤، وذكر الجاحظ البديع وبعض المشهورين به من الشعراء وأنه مقصور على العرب ومن أجله فاقت لغتهم على كل لغة٥، وذكر كثيرًا من الشعراء الذين أكثروا منه في شعورهم، ورأى أنه لم يكن في المولَّدين أصوب بديعًا من بشار وابن هرمة٦، ويقول ابن المعتز: البديع اسم موضوع لفنون من الشعراء يذكرها الشعراء ونقاد المتأدبين منهم، فأما العلماء بالشعر القديم
_________
١ ٢٨٠ المجلد الأول من دائرة المعارف الإسلامية، وراجع في الإشادة به: ٩٢-١٠١ الصبغ البديعي في اللغة العربية للأستاذ أحمد موسى، ١٠٣-١٠٧ تاريخ البلاغة العربية للأستاذ الشعراوي، وهما مخطوطان بمكتبة كلية اللغة.
٢ ١٠٦ البديع.
٣ ١٠/ ٢ معاهد التنصيص.
٤ ٢٥/ ٣ الأغاني.
٥ ٢٤٢/ ٣ البيان.
٦ ٤٥، ٥٥/ ١ البيان.
1 / 19
فلا يعرفون هذا الاسم ولا يدرون ما هو١.
والبديع ونشأته في اللغة العربية موضوع عناية الباحيثن المحدثين، فرأى المسيو مرسيه أن الزخرف الفني وألوان البديع قد وصلت إلى العرب من اليونان٢، ورأى باحث أنه عنصر أصيل في اللغة العربية وإن شاركتها في ذلك بعض اللغات٣، وشاهد ذلك القرآن الكريم؛ فهو أثر عربي صرف وهو مع ذلك يشتمل على ألوان من البديع، والخواص الفنية الموجودة في القرآن توجد كذلك في الشعر الجاهلي كما أثبته صاحب جمهرة أشعار العرب في مقدمتها، وهي موجودة كذلك في الآثار الأدبية التي عاصرت القرآن كالحديث وخطب الخلفاء والولاة الذين شهدوا عصر النبوة٤.
والحق أن البديع أصباغ عربية خالصة كثرت ألوانه وتطورت زمنًا بعد زمن، وزادت قوة هذا التطور بتأثير الفرس واليونان، فالاستعارة والتشبيه وكثير من هذه الأساليب تشترك فيها سائر اللغات٥، ولقد عُرف البديع فنًّا منذ نشأ الأدب العربي، أما معرفته علميًّا فابتدأ في عصر بشار وأبي نواس ومسلم، ثم عُرف بصورة أوضح في عهد أبي تمام والبحتري وابن المعتز، وبما كتبه عنه الجاحظ مُؤلِّف البيان.
"٤"
وموضوع كتاب البديع ذكر لألوان البديع وشواهدها في الأدب العربي شعرًا ونثرًا، يذكر مؤلفه ما أثر للون البديعي من شاهد في كتاب الله ثم في حديث رسوله ثم في كلام الصحابة والأعراب وبلغاء الكتاب ثم في الشعر العربي الجاهلي فالإسلامي فشعر المحدثين، ويختم كل لون بذكر ما عيب من شواهده المتكلَّفة
_________
١ ١٠٦ البديع.
٢ ٤٤/ ١ النثر الفني.
٣ ٤٥/ ١ وما بعدها النثر الفني.
٤ ٤٧/ ١ النثر الفني.
٥ راجع: نقد النثر، مراجعات للعقاد.
1 / 20
السقيمة، والكتاب حافل بشتى النصوص التي جمعها ابن المعتز وساقها في عرض جميل ونظام محكم.
وكان الباعث لابن المعتز على تأليف هذا الكتاب أن يعلم كما يقول: "بشارًا ومسلمًا وأبا نواس ومن تقيّلهم وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن -البديع- ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمى بهذا الاسم فأعرب عنه ودلّ عليه، ثم إن حبيب بن أوس الطائي شغف به حتى غلب عليه وأكثر منه فأحسن في بعض وأساء في البعض الآخر، وإنما كان يقول الشاعر من ذلك الفنّ البيت والبيتين في القصيدة وربما قُرئت من شعر أحدهم قصائد من غير أن يوجد فيها بيت بديع"١، فالغرض الأول منه "تعريف الناس أنّ المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع"٢.
لقد نشأ ابن المعتز في عصر لم يخلُ من آثار التعصب للتراث الأدبي القديم، ومن المنكرين لمذاهب المحدثين في البيان والناعين عليهم ما افتنوا فيه من ألوان البديع التي أكثر منها بشار ومدرسته ثم مسلم وأبو تمام ومن جاء بعدهما، فكان لا بُدَّ لابن المعتز أن يدافع ويناضل هؤلاء المتعصبين.
نعم، لقد وقف ابن المعتز بين مذهبين في البيان متناقضين: مذهب المحدثين الذي يؤثره ويسير عليه في الشعر وفهمه ونظمه، ومذهب القدماء المتعصبين للقديم الذين كانوا يزدرون نهج المحدثين وقصدهم وتكلفهم للبديع؛ ولكنه انتصر بفطرته وذوقه للمذهب الأول الذي أحبه وشغف به، فأخذ يدافع عنه، وألف في ذلك كتابه البديع الذي أثبت فيه أن ألوان البديع كانت معروفة عند الشعراء القدامى والإسلاميين وألموا بها في شعرهم كما ألم بها المحدثون، فهي ليست غريبة على الشعر الجاهلي والإسلامي، وليست جديدة على أساليب البيان في شعر المحدثين، وليست بدعًا جديدًا في
_________
١ ١٥، ١٦ البديع، ٧، ٨ الموازنة.
٢ ١٨ البديع.
1 / 21
الأدب والشعر، كما ذهب إليه من تعصبوا للأدب القديم واعتزوا بفحولة الشعر الجاهلي وجزالته، وأنكروا مذاهب المحدثين في صناعة الشعر وسهولته وتكلف البديع فيه، وكان دفاع ابن المعتز رائعًا قويًّا موفقًا استحق عليه كل تقدير من المنصفين والمثقفين من النقاد.
ولون الثقافة الشائعة في الكتاب هي الثقافة العربية العميقة الخالصة من شوائب الثقافات الأخرى، فقد ألفه ابن المعتز وهو في سن الشباب قبل أن يتعمق في دراسة آثار الثقافات الأخرى، وإذا ما وازنا بين البديع لابن المعتز وفصول التماثيل أحد مؤلفاته في أواخر حياته وجدنا الأول عربيًّا خالصًا في ثقافته من حيث كان الثاني مظهرًا لثقافة منوعة مختلفة الأصباغ والألوان.
ألوان البديع عند ابن المعتز: "٥" وألوان البديع عند ابن المعتز خمسة: الاستعارة - التجنيس - المطابقة - رد للعجز على الصدر - المذهب الكلامي. ويجعل ما عدا ذلك من محاسن الكلام والشعر ويقول أنها كثيرة، ولا يرى حرجًا في إضافة هذه المحاسن أو غيرها إلى البديع١، وذكر من هذه المحاسن: الالتفات، الاعتراض، الرجوع، حسن الخروج، تأكيد المدح بما يشبه الذم، تجاهل العارف، الهزل الذي يراد به الجد، حسن التضمين، التعريض والكناية، الإفراط في الصفة، حسن التشبيه، لزوم ما لا يلزم، حسن الابتداء. ونحن الآن نتكلم على كل لون من هذه الألوان وتطور البحث البياني فيه بدقة وتفصيل. _________ ١ ١٠٦ البديع.
ألوان البديع عند ابن المعتز: "٥" وألوان البديع عند ابن المعتز خمسة: الاستعارة - التجنيس - المطابقة - رد للعجز على الصدر - المذهب الكلامي. ويجعل ما عدا ذلك من محاسن الكلام والشعر ويقول أنها كثيرة، ولا يرى حرجًا في إضافة هذه المحاسن أو غيرها إلى البديع١، وذكر من هذه المحاسن: الالتفات، الاعتراض، الرجوع، حسن الخروج، تأكيد المدح بما يشبه الذم، تجاهل العارف، الهزل الذي يراد به الجد، حسن التضمين، التعريض والكناية، الإفراط في الصفة، حسن التشبيه، لزوم ما لا يلزم، حسن الابتداء. ونحن الآن نتكلم على كل لون من هذه الألوان وتطور البحث البياني فيه بدقة وتفصيل. _________ ١ ١٠٦ البديع.
1 / 22
١- الاستعارة:
عرَّفها الجاحظ بأنها: تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقام مقامه١، ورجع بعض المثل إليها٢.
وذكرها أرسطو في خطابته فرأى أن "الاستعارة تجعل الشيء غيره والتشبيه٣ يحكم عليه بأنه كغيره"، وقسمها إلى استعارة من الضد واستعارة من التشبيه٣، واستعارة من الاسم وحده، وتكلَّم على بلاغة الاستعارة والمقام الذي تستعمل فيه، ورأى يجب أن تكون غير كثيرة التداخل بألا تدخل الاستعارة في استعارة٤، وأن تؤخذ من جنس مناسب لذلك الجنس محاك له غير بعيد منه ولا خارج عنه٥، وأن تكون المعاني التي يستعار من أجلها لطيفة معروفة ... وهذه الدراسة لا نظير لها عند الجاحظ، وهي دراسة فيلسوف عميق البحث.
وأشار المبرد إلى الاستعارة في كامله من غير أن يعرج عليها بالدراسة أو التحديد٦، وأشار ابن المدبر إليها إشارة عابرة٧، وذكر ثعلب الاستعارة وقال:
_________
١ ١١٦/ ١ البيان.
٢ ١٩٢/ ١ البيان.
٣ وسار على ذلك عبد القاهر في الأسرار ص٦٨، وفي نقد الشعر ص١٠٥ ذكر للاستعارة التي مخرجها مخرج التشبيه.
٤ أخذ ذلك قدامة في نقد الشعر، فجعل فاحش الاستعارة أن يدخل بعض الكلام فيما ليس من جنسه وما هو غير لائق به "١٠٤ نقد الشعر" مما لم يعرف له مجاز "١٠٦ نقد الشعر" وأفاض في شرح ذلك ابن سنان في سر الفصاحة.
٥ وذلك ما سار عليه علماء البيان ١٠٥، ١٠٦ نقد الشعر، ١١٧ الموازنة، ٣٧، ٣٢٤ الوساطة، ٢١٢ أسرار. ويقول ابن رشيق: إنما يستحسنون من الاستعارة القريبة، وعلى ذلك مضى جلة العلماء ٢٣٩، ٢٤٠/ ١ العمدة.
٦ ٣٧، ٥٧، ١٦٧ جـ١ الكامل.
٧ ٦، ٨ الرسالة العذراء.
1 / 23
"وهي أن يستعار للشيء اسم غيره أو معنى سواه"١، ويذكر مثلًا كثيرة لها٢.
والاستعارة هي الباب الأول في كتاب البديع، وعرَّفها ابن المعتز بأنها: استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء قد عرف بها٣، وذكر كثيرًا من شواهدها٤ ومثلًا لقبيحها٥، وبذلك تنتهي دراسته لهذا الباب الذي نهج فيه منهج أستاذه ثعلب في قواعد الشعر.
وقد عقد لها أبو هلال بابًا تأثر فيه خطا ابن المعتز في دراسة الاستعارة٦، وعلى ضوئه سار ابن رشيق٧، وقد ألم بها قدامة في نقد الشعر٨ وفي نقد النثر٩ مع بعد عن اتجاه ابن المعتز في دراستها، وقد قسمها إلى حسن الاستعارة وفاحشها، وفاحش الاستعارة هي الاستعارة غير المفيدة عند عبد القاهر١٠.
_________
١ ٢١ قواعد الشعر لثعلب.
٢ ٢١-٢٣ قواعد الشعر.
٣ ١٧ البديع، و٢٩ حسن التوسل.
٤ ١٩-٥٢ البديع.
٥ ٥٢-٥٤ البديع، ويأخذ ابن المعتز على أبي تمام قبح الاستعارة في كثير من أبيات شعره؛ ولكنه لا يذكر كلمة "استعارة" خلالها في رسالته في أبي تمام.
٦ ٢٥٨-٢٩٧ صناعتين.
٧ ٢٣٩/ ١ وما بعدها العمدة.
٨ ١٠٤-١٠٦ نقد الشعر.
٩ ٦٤-٦٦ نقد الشعر.
١٠ راجع ١٠٤ وما بعدها نقد الشعر، ٢٢-٢٨ أسرار.
1 / 24
٢- التجنيس:
يذكره أرسطو في خطابته ويحدده بأن يكون المكرر وإن كان لفظين في المسموع فهو مختلف في المفهوم، وذلك ما ذكره قدامة في تعريفه لهذا اللون الذي سماه المطابق والمجانس١، وسبقه إلى ذلك أستاذه ثعلب؛ حيث ذكر المطابق وعرفه بأنه تكرير اللفظ بمعنيين مختلفين٢، كما بين أرسطو بلاغته وآثاره في الكلام مما احتذاه فيه عبد القاهر في الأسرار٣.
والجاحظ لا يعرف ذلك اللون ولا يذكر شيئًا عنه ويمر بمثال بليغ للتجنيس٤، فلا يذكر عن هذا الاصطلاح شيئًا.
وكان العجاج يُسمِّي هذا الباب عطف الرجز٥، وألف الأصمعي كتاب الأجناس٦، وكان الأصمعي يدفع قول العامة: هذا مجانس لهذا، إذا كان من شكله، ويقول: ليس بعربي خالص. وابن المعتز هو أهم من درس التجنيس وجمعه، قال: التجنيس أن تجيء الكلمة تُجانس أُخرى في بيت شعر أو كلام، والمجانسة أن تشبه اللفظة اللفظة في تأليف حروفها على الوجه الذي ألف الأصمعي كتاب الأجناس عليه، ولم تكن القدماء تعرف هذا اللقب، وقد صنف الناس فيه كتبًا كثيرة وجعلوه أبوابًا متعددة؛ كابن المعتز والحاتمي والقاضي الجرجاني وقدامة وغيرهم٧.
_________
١ ٩٦ نقد الشعر، وهو أن تكون في الشعر معانٍ متغايرة قد اشتركت في لفظة واحدة وألفاظ متجانسة مشتقة.
٢ ٢٤ قواعد الشعر.
٣ ٥، ١٢، ١٤ الأسرار.
٤ ٢١٨/ ١ البيان.
٥ ٢٩٩/ ١ العمدة.
٦ ٥٥ البديع.
٧ ٩٨ المثل السائر.
1 / 25
ولابن الحرون كتاب المطابق والمجانس١. وحقيقة التجنيس أن يكون اللفظ واحدًا والمعنى مختلفًا كما يقول ابن الأثير٢، ويجعل ابن الأثير أيضًا رد العجز على الصدر ضربًا من التجنيس٣.
وابن المعتز هو الواضع لهذا اللقب، وهو أول من أفرد هذا الباب بالبحث والتأليف٤؛ فقد عرفه٥ وذكر أقسامه٦ وأفاض في ذكر شواهده٧ وذكر مثلًا لمعيبه٨. وبذلك ينتهي الباب وقد تأثر أبو هلال خطا ابن المعتز في هذا الباب٩.
_________
١ ٢١٢ الفهرست.
٢ ١٠٠ المثل السائر.
٣ ٢٩٩/ ١ العمدة، و٥٥ البديع.
٤ ٢٩٩/ ١ العمدة.
٥ ٥٥ البديع.
٦ ٥٥ وما بعدها البديع.
٧ ٥٦-٧١ البديع.
٨ ٧١-٧٣ البديع.
٩ ٣١٠-٣٢٨ الصناعتين.
1 / 26
٣- المطابقة:
ذكر الأصمعي المطابقة في الشعر فقال: أصلها وضع الرجل موضع اليد في مشي ذوات الأربع، ثم قال: وأحسن بيت قيل لزهير في ذلك:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه١ صدقا
وقال الأصمعي والخليل: يقال: طابقت بين الشيئين إذا جمعتهما على حرف واحد وألصقتهما٢، فذلك هو مساواة المقدار من غير زيادة ولا نقصان، كما قال الرماني: المطابقة مساواة المقدار من غير زيادة ولا نقصان. قال ابن رشيق: هذا أحسن قول سمعته في المطابقة، وهو مشتمل على قول القوم وغيرهم جميعًا٣.
وفي البيان للجاحظ وردت كلمة التطبيق بمعنى إصابة الكلام الغرض المسوق له٤، ويذكر تطبيق الحديث وأنه غير التطبيق الأول٥، وفي كامل المبرد كلمة المطابقة بمعنى الجمع بين الشيء وما يقابله في الكلام٦، وكذلك أراد ابن المعتز هذا المعنى من هذا الاصطلاح، ويسميه ثعلب مجاروة الأضداد٧، ويسميه قدامة التكافؤ٨.
فالمطابقة -إذن- لها معنيان: مساواة المقدارة، والجمع بين الشيء وضده. وأول مَن
_________
١ ٦/ ٢ العمدة.
٢ ٦/ ٢ العمدة، ٧٤ البديع.
٣ ٦/ ٢ العمدة.
٤ ٨٧، ٧٩/ ١، ١٣٣/ ٢ البيان.
٥ ١٨٢/ ١ البيان.
٦ ٢٤١/ ١ الكامل.
٧ قواعد الشعر لثعلب ٢٤.
٨ ٨٥ نقد الشعر.
1 / 27
سماها هذا الاسم هو الأصمعي مريدًا منه المعنى الثاني، وورد في اشتقاقه كلام عن الخليل والأصمعي رآه ابن رشيق ظاهرًا في المعنى الأول.
ويقول الباقلاني: وأكثر العلماء على أن المطابقة أن يذكر الشيء وضده كالليل والنهار، وإليه ذهب الخليل والأصمعي، ومن المتأخرين ابن المعتز. وقال آخرون: المطابقة أن يشترك معنيان بلفظة واحدة، وإليه ذهب قدامة١، ويذكر الآمدي أن قدامة لقب هذا الباب المتكافئ، وأنه سمى ضربًا من المجانس "المطابق" وينقده في مخالفته للعلماء ولابن المعتز في هذه الاصطلاحات٢، وردَّ الأخفش على قدامة٣، ونقل ابن سينا كلمة الآمدي في نقده وأشاد بها٤.
وقد ذكر ابن المعتز هذا الباب في كتابه البديع وفيه كثير من الشواهد٥، وذكر مثلًا لما عيب منه٦.
ومن الغريب أن يكون أرسطو قد تكلم على المطابقة والمقابلة؛ حيث ذكر التقابل وأن المتقابلات إذا توافقت أحدثت رونقًا لظهور بعضها ببعض، وأن المعتدل "الذي لا يفرط في الصفة حتى يدخل في حيز الكذب الظاهر" وخصوصًا إذا شحن بالمطابقات المأخوذة من المتقابلات لذيذ جدًّا، وأن المتقابلات بعضها أضداد وبعضها كأضداد.
_________
١ ٧٩ إعجاز القرآن.
٢ ١٢٤ الموازنة.
٣ ٢٩١/ ١ العمدة.
٤ ٥١/ ١ سر الفصاحة.
٥ ٧٤-٩٠ البديع.
٦ ٩٠-٩٢ البديع.
1 / 28
وابن المعتز فوق معرفته بالمطابقة فهو يعرف المقابلة ويذكرها باسمها١، ولم يذكرها في كتابه البديع. وقد ذكر قدامة المقابلة وعرَّفها في نقد الشعر٢ تعريفًا تأثر فيه بأرسطو، وأخذ السكاكي تعريف قدامة رأيًا له في تعريفه للمقابلة. وفي الصناعتين باب للمطابقة تأثير فيه أبو هلال بابن المعتز إلى حد كبير٣، وكذلك فعل ابن رشيق٤.
_________
١ رسائل ابن المعتز.
٢ ٧٩ نقد الشعر.
٣ ٢٩٧-٣١٠ صناعتين.
٤ ٥/ ٢ العمدة.
1 / 29