बदाइक खयाल
بدائع الخيال
शैलियों
الحكاية الثالثة
كم هو نصيب الإنسان من الأرض؟
نهبط بالقارئ الكريم إلى قرية صغيرة من قرى بلاد الروس، وندخل به إحدى أكواخها؛ حيث يرى سيدتين جالستين على مائدة واحدة تتناولان الشاي وتتسامران، إحدى هاتين السيدتين - وهي الكبرى - حضرية يشتغل زوجها بالتجارة، وقد جاءت لتقضي بضعة أيام مع شقيقتها القروية الجالسة أمامها، وبينما هما في مسامرات لطيفة وحديث شهي؛ أدى بهما الكلام إلى المقارنة بين معيشة أهل الريف، ومعيشة أهل المدن، فاندفعت الحضرية تبين لشقيقتها نضارة الحياة في المدن، وما فيها من الترف والنعيم: في المأكل والملبس والمسكن، ثم عددت لها صنوف الملاهي وضروب الرفاهة التي يتنعمون بها، وتدرجت إلى وصف أماكن اللهو ودور التمثيل والحدائق والمتنزهات العامة التي يغشونها؛ رياضة للنفس، وترويحا للخاطر. كل ذلك وشقيقتها القروية ساكتة لا تبدي ولا تعيد؛ لأن تلك كانت قد أفحمتها بذلاقة لسانها، إلا أنها تمكنت أخيرا من تغيير مجرى الحديث قائلة: «أنا قانعة بمعيشتي هذه البسيطة ولو خيرت بينها وبين معيشتكم لما فضلت سوى ما نحن فيه من بساطة ملؤها السعادة والهناء، لا مراء في أن دخلكم أوفر من دخلنا، إلا أن طراز معيشتكم يتطلب نفقات كثيرة قد تربو على الدخل، ولا يخفى ما في ذلك من سوء العاقبة، فكم من أسر غنية كانت بالأمس ترفل في حلل الرفاهة والنعيم أصبحت اليوم بلا مأوى تسأل الناس قوت يومها فلا تجده، أما نحن القرويين فقل أن يوجد بيننا من يعيش عيشة أهل الثراء، ولكننا لا نعدم قوت يومنا على أي حال.»
فأجابتها الكبرى وقد امتلأت غيظا: «كفى يا عزيزتي، يحق لك أن تقولي ذلك طالما تجدين لذة بمساكنة العجول والخنازير، ما أبعدكم عن محجة اللطف والكمال أيها القرويون! بل ما أبعدكم عن معرفة ما فيه صلاح معاشكم ومعادكم! إنكم تجهدون أنفسكم صغارا وكبارا دائبين في العمل ليلا ونهارا، صيفا وشتاء، ثم تموتون كما عشتم فقراء لا تورثون أولادكم سوى النصب والشقاء.»
فأجابتها الصغرى: «حقا إن ما نحن فيه من العيش جاف، والعمل عندنا شاق، إلا أنه لم يتسرب إلى ربوعنا مفاسد المدنية ورذائلها بعد، وأخلاقنا على سذاجتها خالية من شوائب الأهواء النفسانية؛ ولذا نعيش ما عشنا في هدوء وسلام، ولكن أنتم في مدنكم تعيشون في جو محاط بالمكر والرياء، لا تأمن الزوجة فيه على بعلها، ولا يطمئن الرجل لزوجته، إذا بتم ليلة على وفاق لا تلبثون أن تصبحوا على شقاق، قد يأتي يوم على زوجك فتستغويه إحدى الغانيات - وما أكثرهن في المدن! - فتفقدين إذ ذاك هناءك العائلي، ونعيمك المنزلي، أو يوسوس له الشيطان بمعاقرة بنت الحان؛ فيصبح من مدمنيها؛ فيضل سواء السبيل، أو يسوقه الطمع إلى موائد القمار، وهناك البلية والدمار.»
ثم غيرت المرأتان مجرى الحديث، وخاضتا في حديث آخر خاص بالأزياء، وكانتا قد أتمتا تناول الشاي فقامتا تستعدان للنوم؛ إذ كان النعاس قد أثقل أجفانهما.
أما رب المنزل (باهوم) فكان جالسا على الموقدة يسمع حوار المرأتين طوال تلك المدة، ثم ناجى نفسه قائلا: «حقا إن شقيقة زوجتي على حق في بعض ما تقول، فإنا القرويين نعيش ما عشنا في تعب ونصب، ثم يموت الواحد منا كما عاش دون أن يجني أقل ثمرة من عمله، آه لو كنت أملك قطعة صغيرة من الأرض لكنت الآن هنيء البال، قرير العين، لا أخاف حتى رئيس الأبالسة.»
فسمع حديث نفسه إبليس وكان على مقربة منه، فابتسم ضاحكا وقد عزم أن ينيله بغيته، ثم يورده موارد الهلكة من حيث أطمعه، وكان بينهما بعد ذلك من الحوادث ما سوف تقرأ خبره في الفصول التالية. •••
أصبح باهوم والطمع يقيمه ويقعده، ولا هم له إلا امتلاك أرض يصبح فيها صاحب الكلمة المطلقة؛ يأمر وينهى كما يريد، وكان بالقرب من الأرض التي يزرع فيها حبوبه قطعة فسيحة من الأرض لسيدة من ذوات الأملاك؛ طيبة القلب، لينة العريكة، اعتادت أن تعامل جيرانها باللطف والإنسانية، إلا أنه عرض لها أمر ذو بال ألهاها عن تعهد الأرض بنفسها، فوكلت أمر زرعها واستغلالها لوكيل أشغالها الذي كان على جانب عظيم من الخشونة وقساوة الطبع، فأخذ يذيق ضعاف القرويين جيرانه مر العذاب، ويثقل كاهلهم بالغرامات التي كان يفرضها عليهم من حين لآخر، وقد حرص باهوم كل الحرص على منع أسباب التحكك بجاره الغليظ الطبع، ولكن رغم ما كان يبذله من الاحتياط والتحرز، كانت بعض ماشيته تتسرب إلى المزرعة؛ فيقع بينه وبين الوكيل أخذ ورد ينتهي في الغالب بغرامة يتحملها المسكين طائعا صاغرا.
أقبل الشتاء ببرده القارس، وابيضت ذوائب الجبال، وانكمشت الماشية في زرائبها، فارتاح بال (باهوم) وعاش آمنا في سربه طول فترة الشتاء، ثم شاع في القرية أن السيدة صاحبة المزرعة عزمت على بيع أرضها صفقة واحدة، وتلا هذه الإشاعة خبر مؤداه أن صاحب الفندق القائم على الطريق العالية يساومها في شراء المزرعة، فذعر أهل القرية لهذا الخبر، وتوجسوا منه خيفة؛ لأن صاحب النزل كان أغلظ طبعا من وكيل السيدة، فجمعوا جموعهم وتشاوروا في الأمر، فقر رأيهم على تأليف لجنة تقوم بشراء الأرض، فتألفت اللجنة وأرسلت من قبلها وفدا إلى السيدة المالكة لشرائها، فقبلت السيدة ولم تمانع، إلا أن الشيطان أوغر صدور بعضهم على بعض؛ فتخاذلوا، وفشلوا في مهمتهم، وأخيرا عزموا على شراء المزرعة قطعا، بدل شرائها صفقة واحدة، وأن يساوم كل منهم سيدة الأرض في القطعة التي يروم ابتياعها.
अज्ञात पृष्ठ