बदाइक खयाल
بدائع الخيال
शैलियों
ما خطا سيمون بضع خطوات حتى شعر بتقريع الضمير، وأخذ يسائل نفسه: «ماذا أنت فاعل يا سيمون؟! أتهرب من إغاثة ملهوف ربما كان على شفا الموت؟! أتعدو خوفا من أن تساعد نفسا ربما كانت تلفظ آخر أنفاسها؟! إنه من العار أن يقال عن سيمون إنه مر في طريقه ببائس فلم ينجده، وملهوف فلم يغثه.» ثم قفل راجعا نحو ذلك الغريب المسكين واقترب منه فلم ينتبه إليه كأنما بلغ به الضعف إلى درجة لم يمكنه معها أن يرفع جفنيه أو يدير عينيه، وتأمله فرآه فتى في مقتبل العمر صحيح الجسم لا تشوبه الكلوم ولا تشوهه القروح، ثم اقترب منه ثانية فتحرك الغريب وأدار رأسه الأبيض وفتح عينيه الفاترتين وألقى نظرة على وجه سيمون فكانت كافية لأن تبعث في قلبه الرحمة على ذلك الغريب، وتملأ فؤاده رفقا وحنانا على هذا البائس المسكين.
ثم ألبسه بعض ثيابه وأمره بالحركة حتى يتمشى الدم بين أعضائه، وبدأ في المسير فأخذ سيمون يسأله: «من أين أنت؟ وما الذي حدا بك إلى هذا المكان؟ أطرقتك بوائق الأحداث، أم هل وصلت إليك أيدي المسيئين حتى دفنت حيا بين طبقات الجليد المتجمدة؟» فأجابه قائلا: «إني غريب عن هذه الديار، ولم يسئ إلي أحد ما، ولكنه عقاب الله حق علي.» فأجاب سيمون: «يجب أيها الصديق أن تقابل ذلك بالرضاء والتسليم؛ فالله رب الكل، بيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير، والآن أي جهة تقصد؟» - «كل الجهات عندي سواء.»
فبدرت على سيمون علامات الاندهاش؛ لأن الرجل لم تكن هيئته تشف عن خبث، ولم يدل مظهره على أنه من السفلة. واستمر سيمون في حديثه قائلا: «هلم معي إذا إلى المنزل؛ ريثما تدفئ نفسك قليلا.» ثم سارا سويا وأخذ سيمون يهينم قائلا: «إني ذهبت لشراء الغطاء فعدت إلى منزلي بدونه؛ وزيادة على ذلك أحضرت معي رجلا عاري الجسد؛ إن ماتروينا
3
ليغلي مرجل حقدها عندما تعلم ذلك.» وكان كلما عاودته ذكرى زوجته يطرق برأسه عابسا، ولكنه كلما تذكر حالة ذلك المسكين ونظراته المؤلمة عاودته بشاشته، وطفح ثغره فرحا وسرورا.
أما (ماتروينا) فقد أنهت كل واجباتها المنزلية في ذلك الصباح، وجلست تفكر في زوجها، وما عسى أن يكون قد فعل، وإذا بها ترى رجلين مقبلين: أحدهما سيمون، والآخر غريب لم تعرفه، فدار بخلدها لأول وهلة أن زوجها احتسى بعض كئوس من الخمر، وما الآخر إلا من أعوانه السكيرين، ثم بدأت تصخب، ولكنها انتظرت ريثما ترى ماذا يصنعان. دخل سيمون منكس الرأس خجلا، ثم تبعه صديقه الذي ظل واقفا صامتا لا يبدي حراكا، فلم تتردد ماتروينا في أنه من السفلة الأشرار، أما سيمون فقد خلع قبعته واستوى جالسا على أحد المقاعد كأن المياه ما زالت جارية في مجاريها ولم يحدث شيء يثير غضب زوجه، ثم دعا صديقه ليجلس بقربه ففعل، ثم خاطبها قائلا: «الآن يا ماتروينا قدمي لنا ما عندك من العشاء.» فنظرت إليه شررا، وازداد حنقها وأجابته: «إني أعددت كل شيء، ولكن ليس للسكارى الذين تلعب برءوسهم الخمر فتخرجهم عن المألوف.» - «ماتروينا! لا تكثري من تهدجك، وضعي حدا لثرثرتك، يجب أن تعرفي أولا من هو هذا الرجل.»
فأجابته: «إني لا أشك في أنه من أبناء الشريرين.» فقال: «كلا، فأنت مخطئة.» فقاطعته قائلة: «وأين النقود؟» فصمت سيمون فكان ذلك برهانا زاد اعتقادها فيهما، وداعيا قويا حرك فيها عوامل السخط، فأخذت تقدح من عينيها شررا، وتلفظ من فيها كلمات كلها مقت وغضب، وحاولت الخروج، إلا أنها كانت تود أن تقف على حقيقة أمر الغريب، فخففت من حدتها قليلا وانتظرت ... ثم ابتدرته قائلة: «إذا لم يكن هذا الرجل كما أعتقد، فمن يكون؟!» - «هذا ما أردت أن أوقفك على حقيقته من بادئ الأمر، فاعلمي أنني عندما وصلت إلى المعبد في رجوعي من القرية رأيت هذا الرجل جالسا بين طبقات الجليد المتجمدة؛ لا ثوب يكسيه، ولا دثار يدفع عنه غائلة البرد، فأشفقت عليه ودثرته كما ترين ثم آويته إلى هنا، ولو لم يرسلني الله في تلك الآونة لكان قضى نحبه لوقته؛ فخففي من وطأة حدتك، واعلمي أنها خطيئة كبرى يا ماتروينا، وتذكري أننا سنموت جميعا يوما من الأيام.»
فتمتمت ماتروينا ببعض كلمات يشتم منها رائحة الغضب، وألقت نظرة على الغريب، وظلت صامتة. - «ماتروينا! ألا توجد في قلبك عاطفة المحبة - محبة الله؟!»
وما سمعت هذه الكلمات من زوجها حتى نظرت إلى ذلك الضيف الغريب ثانية فشعرت بعاطفة الرحمة نحوه، وقامت لوقتها وأحضرت البقية الباقية مما عندها من الطعام، وقدمته لذلك المسكين الذي دفع ثمنه نظرة فاترة وابتسامة لطيفة عبرت عما في نفسه من الشكر والثناء، وبعد الانتهاء من أكله أخذت ماتروينا تعيد إلى مسامعه نفس الأسئلة التي سأله إياها زوجها من قبل، فأجابها بمثل ما أجاب زوجها، وختم إجابته بقوله: «إن زوجك دثرني وآواني، وأنت أسقيتني وأطعمتني، فالله يؤتيكما خيرا.» ثم باتا وأصبحا فسأله سيمون: «ما الذي يمكنك أن تباشره من الأعمال؟» فأجابه: «ليس بيدي صنعة ما.» فاستمر سيمون في كلامه: «إن من يريد أن يعمل فليس من الصعب عليه ذلك.» فأجابه: «سأتعلم.» فبدأ سيمون يعلمه كل يوم درسا من صناعته، وكان ميكائيل
4
अज्ञात पृष्ठ