لم يضطرب مجلس المشركين لهذا إلا بقدر ما رأوا من جزع الحارث، وقيامه ليدرك ولده، ويرده عن هذا المنكر، لولا أن النضر كان قد فر كالأفعوان، وأخفاه الظلام في الطرقات، ولكن الحارث لم تفتر همته، بل قصد إلى ثنية الحجون يجري في حلكة الليل متعثرا، يهديه سابق علمه بمكان الثنية عسى أن يلقى ولده هناك فيصرفه، أو يلقى رسول الله فيحميه، ويحول دون جريمة لا يعرف عاقبتها في قريش إلا علام الغيوب، ولكنه ما كاد يصل إلي الثنية حتى وجد ابنه عائدا يجري خائفا وهو يلهث؛ وإذ وقعت عينه على أبيه ألقى بنفسه عليه فزعا، وهو يقول من فرط ذعره: امسح بيدك على صدري يا أبي، إن بي ذعرا شديدا. قال الحارث وقد أخذه إلى صدره: إن كنت قتلت ابن خالتك فوالله لأسلمنك بيدي إلى أخوالك الآن في بني زهرة؛ ليمثلوا بك، قال: لم أقتله. لم أستطع يا أبتي. قال: أرني سيفك. فأعطاه إياه، فجرده الحارث من غمده، وتحسسه ليرى هل به من دماء؟ فلما وجده جافا أملس. قال: نبئني ماذا جرى؟ قال: دخلت الثنية، وسمعته يصلي ويتلو من قرآنه، وهو مختف في شق من الجبل، فقصدت إلى الشق ورأيته ساجدا، فما جردت سيفي ورفعته لأهوي على رقبته حتى رأيت على جانبي الشق أساود وأراقم ذات أذناب عقداء تضربني على وجهي وعنقي وعاتقي ضربا أشد وقعا من السياط على الأذن، ومع ذلك أقدمت فرأيت حياله شيطانا فاغرا فاه ليلتهمني، ولولا أن تراجعت لكان في الثنية حيني. أرأيت يا أبتي قدر سحره؟ حقا إنه لساحر. قال الرجل: خل عنك هذا الهذر يا بني واتعظ، واتق الله في نفسك وفي محمد، وإذا لم ترد أن تؤمن بدعوته وهي حق كما أرى ، ويكون لك ثواب مؤازرته - فدع الرجل يبلغ رسالته، ويهد العالمين. فوحق الله إنه لنبيه الذي ورد ذكره في التوراة والإنجيل. تعال. تعال. ارفق بابن خالتك وبنفسك، ولا تحسده على أن آثره الله بالرسالة. قال النضر: هذا الأمي يكون رسولا لله. لن أدعه وحقك حتى يدع باطله وكهانته وسحره. قال الحارث: إذن فوحق الله لا تبيتن بمكة بعد ليلتك ولا أبيت. إذا جاء الغد ففي العير إلى نجران.
عادا إلى الدار، ولم يكن النضر ليملك بعد هذا القسم من أبيه أن يخالفه وإلا لعنه عند البيت، وفضحه في قريش، ولذلك عادا إلى الدار صامتين لا يتكلمان، ولما جاء الغد كانا في عيرهما إلى أسفل هدى فالتقيا بهرميون ولمياء وورقة، وسارا في عير التجر إلى اليمن.
الفصل الحادي والعشرون
في كنف الأسقف
كان بين الحارث بن كلدة وبين أسقف نجران الشيخ البصير بالدنيا مودة قديمة، وثقها - فيما يقول الناس - العلم. فهذا عالم بدينه وذاك بطبه، ولكن طبيعتي العلمين مختلفتان كل الاختلاف فهما حريتان أن تفرقا بين صاحبيهما تفريقا جوهريا لا أن تسمحا بلقاء أو تحدثا مودة. علم الدين كان في ذلك الزمان رطازات وأساطير، وبعض حقائق هينة الأمر يتوارثها الخلف عن السلف ويذيعها، وأشكالا وصورا من العبادات يجرون عليها، ويجري غيرهم على غيرها. فما هو إذن بعلم، وإنما هو طقوس وحركات وأدعية وتراتيل وأوهام وأراجيف مادتها الجهل المطبق وإسقاط المنطق، وكلما أغرق الإنسان فيها وبالغ وأفتى في أمرها عن هوى وتشيع وتوفر على الجهل كان العالم العلامة والحبر الفهامة، ولا علم في ذاك ولا فهامة، وأما علم الطب فصناعة من الصناعات التي توارث الخلف فنونها عن السلف، وذاعت حقائقها بين الجمهور، وتنقلت في البيوت والمصانع وأعمال الناس كالزراعة والتجارة والحدادة، والناس لا يدرون أنها تنطوي على حقائق ثابتة اهتدت إليها القرون من غير سوء قصد ولا تعمل. حقائق لا تحتمل باطلا ولا وهما، وإلا لظهر عيبها فيما تنتج فماتت بدائها. صناعة أساسها المشاهدة والتجربة والمقارنة والقياس. كلما أوغلت فيه باحثا خلصت من إيغالك إلى حقيقة تلو حقيقة، ونفيت بما تصل إليه ما يكون قد تسرب إليه من خطأ المقارنة، لا سوء القصد ولا تعمد الإيهام. نعم كان أساسه السحر، ولكن هذا لم يكن إلا في عصور جهالة الإنسان العميقة. على أن هذا السحر كان أساسه العلم؛ أي: الحقائق الطبيعية التي اهتدى إليها الإنسان لنفسه، ولم يذعها إلا عرضا؛ فالبخور الذي كان يطلقه الساحر عندما كان يدعى ليطرد الشيطان عن مريض بالتشنج مثلا إنما كان دواء يهدئ العصب ويرد الإنسان إلى رخاوة، والرقى التي كان يشفى بها بعض المرضى إنما كانت نوعا من الإيعاز يتقوى به الموعز إليه على ضعفه، وليست التعاويذ التي كانوا يحملونها للدخول على الحاكم أو لخوض غمار الحروب إلا نوعا من الاستقواء الذاتي يوقظ في النفس شيئا من الطمأنينة والشجاعة ينفع إلى مدى. أما أنواع السحر الأخرى التي تواردت إلينا أنباؤها فيما بقي من تاريخ الأمم البائدة فكثير منها له تعليله اليوم فيما أعطانا العلم من أسراره. فإن بقي معظمها بلا تعليل، فما يعجز العلم عن تقديم سببه لأنه سحر، بل لأنه لم يحصل فعلا، وإنما هي أكاذيب رواها الناس وهما أو كذبا أو تدليسا ودعاية، وتناقلها الناس على التصديق حتى أصبحنا وفينا من يصدق مثلا أنهم فيما مضى كانوا يستطيعون نقل الجدار من مكان إلى مكان بالرقى والتعاويذ، وفينا من يستغل بقية جهالة الناس لنفسه حينا، ثم تتناوله المحاكم والسجون لتريح الدنيا منه أياما. على أن من أعمال السحر في الماضي ما هو سحر حقا؛ أي: أمر له علله وأسبابه، ولكنا لا نعرف له حتى الآن تعليلا علميا. كالسحر الذي كان يصنعه سحرة فرعون، فهذا صدق لا شك فيه له أساس علمي. بيد أن هذا الأساس غائب عنا لم نكشفه بعد، ولا يطعن في صدقه أننا نجهل تعليله مع كل ما لدينا من العلم؛ فالتحنيط مثلا كان صنعة عند سلفنا في وادي النيل، فهو حقيقة لا شك فيها لم يطعن فيها ولم يزيفها أننا نجهل طريقته العلمية، وكم من اختراعات اليوم ما كنا نسمع أكبر العلماء يقسم بكذب ما يروى عنها؛ لأنه كان يجهل أسبابها، فلما عرفها صدقها وعدها من بسائط الأمور، وكم بين أيدي تلاميذ المدارس اليوم فيما يدرسون من علمي الطبيعة والكيمياء وعلوم الحيل ما لا يزال يلعب به الأطفال في المجامع الأهلية وفي البيوت باسم سحر، تسمية له بما كان يسمى به في الماضي؛ إذ كان أساسا مبهما لبعض أعمال السحر التي وردت إلينا أخبارها.
فالخلاصة من هذا: أن القول بأن رابطة العلم بين الحارث والأسقف كانت هي الجامعة بينهما، قول كان يريح الناس لتعليل المودة التي بينهما، ولكن الواقع أن الحارث لم يكن يربطه بالأسقف هذا الرباط.
كان الأسقف، على خبرته بطقوس دينه، وعلى ما أعطي من بيان وطيب لسان وبصيرة بالطبائع، كأمثاله جاهلا تمام الجهل بكل علم، غفلا بعيدا عن كل صواب في العلم ولو أصاب، ولا يمكن أن يكون غير ذلك إلا إذا أراد أن يلحق بصفته الدينية الحقيقية صفة أخرى. أما الحارث فكان عالما بقدر ما وسعت صناعة الطب من الحقائق يومئذ.
ما الذي كان يربط عالما بجاهل إذن؟ الروابط كثيرة: كان الأسقف سيدا في نجران بفضل مركزه الديني، يعلو عن بني عبد المدان أمراء نجران بقدر صلته بالآب والابن والروح القدس ومريم العذراء أيضا واختصاصه نفسه بالعلم الأعلى بهذه الأسماء الرهيبة، والقدرة على حرمان الناس رضاها وجوارها. فالسيادة إذن هي إحدى الروابط التي وثقت بينهما؛ إذ هي الجاه والمنعة، وكان الأسقف على ما أكسبته الأيام من الحكمة وبعد النظر وإدراك العواقب - يمثل المبدأ العام الذي يحكم الدنيا، وبعبارة أخرى: المبدأ الذي يذل الدنيا ويخضعها لأصحابه؛ فالدنيا كانت في كل زمان نهبا لقويين: قوي بذراعيه، فهو يخضع الناس، وقوي بفكره يخيف الجهلاء ويستهوي العقلاء، وعاشت الدنيا تشهد حروبا بين القويين؛ يتباريان فيها ويتكاثران، ويتقاتلان بأتباعهما؛ فالأتباع إذن هم طعمة شجارهما، وكلما نشأ قوي جديد من هذا أو ذاك حاربه السابقون؛ لئلا يأخذ منهم الأتباع والأنصار وموارد الرزق والمنعة والنعيم، واستعدوا عليه الناس بكل وسيلة، ولذلك كان في الدنيا يومئذ حروب بين كسرى وهرقل كلاهما قوي بسيفه يريد أن يكون له متاع الدنيا، وكان بين بطريق الغرب في الروم وبين بطارقة الشرق في الشام ومصر وأرمينية - قتال بين قويين أيضا يريد كل فريق أن يقضي على الفريق الآخر؛ لتكون له المنعة والحياة الطيبة، وإنما يكرهها لغيره؛ لأنه معه في حقل واحد، وهو يخشى أن يتقوى خصمه ذات يوم فيحرمه ما هو فيه، ولذلك لم يكن أحد الفريقين ليقبل رأيا سديدا، ولا ينزل على حكم منطق، حتى يوم جمع بينهم الإمبراطور في خلقيدونية
1
وكسرى أبرويز في القدس بعدئذ،
अज्ञात पृष्ठ