لم يذكره الحكم، ولا أحد من رفقته. فصمت متأملا ثم قال: أنا تلميذ الحارث بني كلدة الثقفي الطبيب ألم ترني معه؟ قال إسحاق: أنا أعرف الحارث حق المعرفة فهو من أصدقائنا، ولكني لا أذكر أني رأيتك معه. قال: أو لا تذكر أنا تحادثنا في سوق صنعاء؟ قال: ما أكثر نسياني، قال ورقة: ويحي أيها السيد إسحاق! ألا تذكر مجيئك أنت وهذا الحبر الجليل عند نعيم الصيدلاني فبعتك شيئا من عقاقيره، وإن نعيما خبركم أني من مكة، وأن الحبر سألني عن رجل من بني إسماعيل اسمه محمد قام في مكة يدعو إلى الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم، فلما أجبته مصدقا قال الحبر: هذا مصداق ما ورد في التوراة!
هنا تذكر إسحاق والحبر هذه الحادثة فقالا على الفور: أجل. أجل. أهو أنت؟ قال: أنا هو بعيني! ثم التفت ورقة إلى أحد رفقة الحكم فقال له: وأنت أيها السيد سليمان: ألم تكن معهما في السوق يوم غنك بعير كان محملا قثاء! وكاد يوقعك على الأرض لولا أني تلقيتك بين ذراعي! فرد سليمان : بلى. بلى معذرة إليك يا فتى ، ولكن سورة الغضب قد أخفتك عني. خبرنا ما قصة الرجل؟ قال: إن قصته لقصة السفالة وأسوأ المكر والدناءة: ذلك أني كنت عند نعيم الصيدلاني وكان هو عنده أيضا يلقي حمولا أتى بها إليه من أرض سبأ.
3
هناك علم أني راحل إلى مكة بما جمعته لنفسي من بادية حضرموت
4
واليمن من نبات العقاقير ومعادن الأدوية. فعرض علي أن ينقلني إلى حيث أريد، وإذ لم يكن لدي ما أوثر به غيره عليه، وكانت ثقة نعيم به قد أعدتني رضيت بعرضه، وما زال الرجل من بعدها يتألفني حتى وثقت به، وإذ خطر لي أنه يحسن بي أن أشتري رواحل لمتاعي حتى لا يتحكم في الجمالة في الطريق، فقد أبديت له هذه الرغبة فأقرها مستحسنا، وعرض علي أن يصحبني إلى سوق الجمال ليهديني بخبرته إلى الأشد الأصبر. فشكرت له هذه المكرمة، واتفقت معه على يوم نذهب فيه إلى السوق. فلما جاء هذا اليوم حدث أن كنت مضطرا إلى انتظار كلاء من حضرموت يجيئني ببعض ما لم يتيسر لي الحصول عليه من العشب النافع للحمى ونهزة الشيطان. فاعتذرت إليه من قعودي، ولكني نقدته ما كان قدره من الثمن لثلاثة بعران، ورجوت منه أن يذهب ليشتريها بنفسه ثم يجيء بها إلى داري ليحمل عليها حمولي، وقد كنت علمت من المضرب أنكم راحلون في بكرة الغد إلى نجران مثلي فصح عزمي على الرحلة كذلك في بكرة الغد معكم، ولكني لما عدت إلى داري في العشية علمت أنه لم يجئ فقدرت أنه حاضر بها في السحر. فلم يحضر في السحر، ومع ذلك قدرت الخير والتمست له عذرا إثر عذر حتى مضى يوم كامل. فاضطررت أن أذهب للسؤال عنه فلم أهتد إلى شيء، وعلمت من بعض رجال الدرب أنكم خرجتم إلى صعدة في سبيلكم إلى نجران في نفس اليوم الذي كنت ضربته للرحيل عن صنعاء، وإذ كنت أكره أن أرجع عن العزم إذا اعتزمته فقد حسبت مسافة الطريق فأدركت أني مضيع فرصة المسير في قافلة مكة كما أضعت مالي إذا أنا انتظرت بعد ذلك يوما، ولذلك تركت الأمر بين يدي نعيم الصيدلاني، ومضيت في تنفيذ عزمي، وإذ كنت ضريا بطريق اليمن ومسالك الأعراب في البادية؛ لكثرة ما جبتها في طلب العقاقير من منابتها ومعادنها، حتى عرفني أهل البادية جميعا - اشتريت ببقية مالي بعرانا أخر، وأخذت أقرب طريق إلى نجران، طريق الجبل الذي لا يجرؤ على عبوره إلا اليائس مثلي أملا أن أبلغ نجران قبل القافلة، ولكن البعران كانت ضعيفة هزيلة فلم تسعفني، ولا أزال من نجران على مسيرة يومين، ولم يبق على قيام القافلة إلى مكة غير يوم واحد، ولذلك رأيت أن أنتظر بها حتى تخرج قافلة أخرى، أو عير كعيري وعيركم فأعاود السير إلى الحجاز أو ألتمس وسيلة أخرى للرحيل.
ولقد رأيت مخيمكم من فوق الجبل، وأنا لا أدري من أنتم، وكان قد أدركني التعب، وحنت نفسي إلى الراحة، فملت نحوكم لأستريح وأريح الجمال، ثم أرى لي رأيا فيما بقي من الطريق. فما كدت أنيخ حتى أبصرت بالرجل قادما نحونا، يتعرفنا وهو لا يدري من أنا، بل ما كان يخطر بباله أني يراني. حتى إذا قرب مني وعرفني أدرك ما وراء ذلك فصرخ من الذعر لما تبينه في وجهي من الغيظ لدن رؤيته وثوران رغبة الانتقام منه على الفور، وجرى إليكم وجريت وراءه لأقتله أولا إراحة لقلبي فما عاد يهمني المال، وكان الجمال في أثناء الحديث قد أخرج المال من جيبه مصرورا في قطعة من ثوب خلق، وأخذ يقاطع حديث ورقة لكي لا يتمه ويقول: خذ مالك. خذ مالك. إني لم أجد جمالا صالحة، ولم أملك أن أعود إليك. ثم رماه في صرته عند قدمي صاحبه، فلطمه إسحاق إذ ذاك على وجهه لطمة شديدة من شدة ما عراه من الغيظ، ثم تناول رقبته ودفع به حيث ألقى الصرة، وهو يقول لورقة: دونك رأسه فاعله بالسيف. لعمري لهو أهون جزاء. فانبطح الرجل على وجهه يستغيث ويسترحم، ولكن ورقة ركله برجله وشتمه، فنهض وجرى إلى حظيرة الجمال، وانحنى أحد اليهود فتناول المال من الأرض، وقدمه إلى صاحبه. فأخذه هذا وانصرف إلى بعرانه.
أما إسحاق فقد عاد إلى خيمته وتبعه إخوانه، وهم آسفون لما أصاب الفتى، وحانقون على الجمال لغدره وخيانته، وودوا أن يتركوه حيث هم لولا أنهم كانوا في قلة. بيد أنهم قرروا ألا يروا له وجها طول الطريق، وأن يجعلوا أحد جمالة ورقة سائق العير، ورئيس التحميل إذا هو آثر الرحيل معهم. ثم ذكروا الفتى وما بدا لهم من كمال رجولته، وعظيم شجاعته التي هونت عليه أن يسير في ثلاثة بعران في طريق محفوف بكل مكاره البادية، وتساءلوا فيما بينهم: ترى ألا يقبل هذا الفتى المكي أن يسير في مهمتنا ويعوق نهوض القافلة؟
نعم إنه لا يحمل رسالة إلى ملك الملوك مثلنا، ولا هدية ثمينة، فلا حاجة به إلى العجلة، وقد قال ذلك فعلا، ولكنه كان يود أن يدركهم حتى قطع المفازات مغامرا ليرحل معهم لولا ما أصابه من غدر ذلك الجمال، وقد لا يكره أن يدرك عيد آلهته الكبرى إذا نحن أيقظنا في نفسه الذكرى، وأريناه السبيل إلى ذلك، ولكن من لنا بمن يحمل القافلة على الانتظار حتى ولو بلغتها رسالتنا! إنها قافلة قرشية، وهؤلاء القرشيون لا يرون لنا عليهم حقا، بل لعلهم يؤثرون أن يحرجونا، ولو لم يكن لهم مصلحة في هذا الإحراج.
فأشار عليهم أحدهم أن يرسلوا في طلب ورقة للعشاء معهم، وأن يتلطفوا معه في الحديث، ثم يبلغوه حاجتهم، ويجعلوا له لإنجازها أجرا بمقدار كرامتهم وشدة حاجتهم - عشرة دنانير ذهبا - وخمسة ينقدها منادي القافلة في نجران؛ ليحمله على قبول التأخير. فوافق الوفد على هذا الرأي، وذهب أحدهم يدعو ورقة، فلما دخل عليهم نهضوا تجلة له من حيث لا يشعرون، وأجلسوه أكرم مجلس، ودعوا بالطعام فلم يأكل إذ كان قد تبلغ لليل وانتهى، وعرضوا عليه الرأي فقبل، وعرضوا عليه المال فرفض، وأبى أن يقدم رشوة للمنادي، بل اقترح أن يقصد إلى الأسقف وهو السيد المطاع في نجران، برسالة من إسحاق وتحية، ورجاء منه أن يؤجل سفر القافلة يوما ليلحقوا بها. فإذا بلغوها فيها، وأكرموا منادي القافلة وحداتها بما ودوا أن يكرموه به على يديه، ولكنه طلب إليهم أن يعدوا له خير رواحلهم وأصبرها، على أن يأتوا برواحله ورجاله في الغد معهم إلى نجران.
अज्ञात पृष्ठ