ولا بد لي قبل أن أنتهي من هذه الكلمة أن أدل - وإن لم أكن في حاجة كبيرة إلى الدلالة - على أن معتزى هذه القصة وهو ورقة بن صليح، أو ورقة بن العفيفة، شخص خيالي استولدته من ذاتية الزمان العربي في أوائل القرن السابع الميلادي، هو مثال مكة الفتاة في انتظار الهادي الأعظم، ولسان آرائها وآمالها وعلو نفسها، ثم تحمسها لإصلاح بلادها ولم شعث جنسها، وإصلاح الإنسانية، وإنقاذ الدنيا من أوزار العقول على أثر ما أصابت من الهدي ببعثة الإسلام. غلام استولدته في كنف زعيم الحنفاء قبل الرسول
صلى الله عليه وسلم - ورقة بن نوفل ابن عم سيدة المؤمنين رضي الله عنها - خديجة بنت خويلد زوج الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وربي على ما أراد له هذا الحنيفي الذي كان يدعو هو وزيد بن عمرو بن نفيل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش ... وغيرهم من حكماء العرب إلى الحنيفية؛ أي: دين إبراهيم
صلى الله عليه وسلم ، دين التوحيد الذي اقتضت رحمة الله بعباده أن يبعث به محمدا - صلوات الله عليه وتسليماته - هدى ونورا للعالمين كافة.
وسيرى القارئ لهذا أني بنيت روايتي على معالم التاريخ في بلاد العرب من صنعاء إلى نجران فالطائف، ومكة فيثرب، وبلاد ثمود والقدس والشام ومصر والإسكندرية، في أيام بعثة المصطفى
صلى الله عليه وسلم ، مصورا للقارئ حالتها الاجتماعية والسياسية والدينية، وذاكرا ما جرى من الأحداث فيها، وما فعلت قريش العاصية حين دعاها النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى ترك عبادة الأوثان؛ ليكون ما قصدنا من إيراد تاريخ الرسول
صلى الله عليه وسلم
في مكة أبين وأوضح بأسبابه ومقدماته وملابساته، متبعين في ذلك خطى كتب السيرة الصحيحة (ونبهنا إليه في الهوامش) ومستأنسين بما لدينا من مصنفات علماء الفرنجة الذين لا يسعني إلا الإقرار بفضلهم علينا، بما جهدوا وما بحثوا وبما أظهرونا على جلائل شئون وتفاصيل أمور ما كان في مقدورنا معرفتها أو تبينها إلا بجهد كبير ودرس طويل، وبتجرد منطقي ليس من الميسور تحقيقه إلا برياضة نفسية شاقة. هم أساتذتنا بما أخذنا عنهم، فلهم شكرنا الخالص فيما علمونا، وإليهم يرجع الحمد بما مكنتنا مؤلفاتهم من الاستعداد لأداء ما نشعر أنه أصبح مطلوبا منا، ألا وهو هداية الناشئة العصرية وتبصيرها بحقيقة دينها وأدب سلفها، ومحاضرتها فيما كان وما يجب أن يكون في الدنيا على نحو ما يفعل كتاب الفرنجة اليوم، وإذا استشعرنا هذا الواجب، ونرى من حقنا أن نؤديه قبل سوانا، فذلك لأن الناشئة العصرية لم تعد تأمن فيما يقدم لها من حكمة الدين وتاريخ من حملوا أمانته ورسالته، وشرح مقاصده وقواعده ومبادئه إلا لكاتب من أنفسهم، لا شكا في مقصد غيره، ولكن لأن وجهة الكاتب العصري في مهمته الدينية غير وجهة غير العصري؛ هو يلتمس الجانب الاجتماعي، ويعني بالقومية ومقوماتها، وهذا ما يعني مصر الفتاة أساسيا، وهو مثلها وليد الشك ينتهي إلى يقين، لا وليد التسليم لأول خاطر، وأساليبه أقرب إلى ذهنيتها وما اعتادت، ولأن للأدب العصري مطاليب كثيرة ليس في مقدور من لا يتيسر له الاطلاع على مناحي الفرنجة فيه أن يستكملها كمطاليب الفنون التي اختص بها الفرنجة ومن أخذ عنهم، ولهذه أصول وقواعد يبنى عليها علم النقد الحديث؛ أي: علم معرفة القيم في المؤلفات، وتبين وجوه الكمال والنقص فيها.
अज्ञात पृष्ठ