فأخذ الغلام يناقش الأستاذ في بعض ما كان يقول كدأبه مع أساتذته جميعا، ولكن الشيخ رد عليه فأفحمه وألجمه وملأ قلبه في وقت واحد غيظا وازدراء وخجلا. قال الشيخ للغلام: دع عنك هذا يا بني؛ فإنك لا تحسنه وإنما تحسن هذه القشور التي تقبل عليها في الضحى، فأما اللباب فلم تخلق له ولم يخلق لك. وضحك الشيخ وتضاحك الطلاب، واستحيا الغلام أن يقوم عن الدرس قبل تمامه، فأقام على مضض حتى انصرف مع غيره من الطلاب. وكانت القشور التي عرض بها الشيخ والتي كان الغلام يقبل عليها في الضحى دروس الأدب وكتاب «الكامل» للمبرد خاصة. ومنذ ذلك الوقت سقط الشيخ في نفس الغلام وبغض إليها، وقد كان الغلام يحبه ويكبره. وأصبح الشيخ موضوعا من موضوعات الفكاهة التي كان الغلام يلهو بها مع أترابه في الضحى قبل درس القشور، وعند الظهر بعد درس القشور. وجاءت القصة الأخرى من قصتي الشيخ، فلم تزد الغلام إلا عبثا به وتندرا عليه وتفكها مع أترابه بقول الشعر فيه. ومع ذلك فقد كانت قصة يسيرة لا غرابة فيها، ولكن أي شيء أيسر من ضحك الشباب!
كان للشيخ ابن لا يظهر عليه الذكاء ولا يدل شيء من أمره على أنه قد خلق لطلب العلم. ولكنه مع ذلك كان يطلب العلم، وكان يعيش مع أبيه في غرفته هادئا كأبيه، صامتا كأبيه، حسن الجوار كأبيه. وأقبل ذات يوم أو ذات ليلة على أبيه نفر من أصدقائه يزورونه، فطلب القهوة إلى ابنه وقدمت القهوة بعد لحظات، وأقبل الشيوخ على فناجينهم في شره إليها كعادتهم، فعبوا فيها، أو قل: مصوها مصا طويلا له صوت طويل، ولكنهم لم يكادوا يبلغون حلوقهم بما مصوا حتى ردته حلوقهم ردا عنيفا، وإذا هم جميعا يسعلون وينحنحون متحرفين لذلك يريدون أن يبرئوا حلوقهم مما أصابها، وقد جرت القهوة واللعاب على لحاهم وصدورهم وهم يسعلون ويضطربون اضطرابا شديدا؛ ذلك لأنهم لم يشربوا قهوة البن، وإنما شربوا قهوة النشوق، أخطأ الفتى علبة البن، وأخذ مكانها علبة النشوق.
وكانت لقصة الغلام مع الشيخ في درس البلاغة عواقبها؛ فقد انصرف عن الشيخ إلى شيخ آخر كان مجاورا له في الربع، وكانت غرفته تلي غرفة الشيخ الموسوس، وكان شافعيا مثله ولكنه لم يكن موسوسا. وكان أهدأ الناس وأرزن الناس وأطيبهم قلبا وأقلهم كلاما، لم يسمع الصبي صوته إلا حين كان يلقي السلام عليه أو على من يمر به من أصحابه. فلما انصرف الغلام عن درس الشيخ الأول ذهب من غده إلى درس الشيخ الثاني، وكان يلقي درسه في تلك القبة من جامع محمد بك أبي الذهب، وكان الغلام يعرف هذا الجامع حق المعرفة، سمع دروس النحو والمنطق في جميع أماكنه وزواياه، وكانت له قصص قد نلم بها في هذا الحديث.
فأقبل الغلام إذن مع الظهر منصرفه من درس القشور، فصعد هذه الدرجات التي كان يألفها، ثم خلع حذاءه ومشى في هذا الممر بين حلقتين من حلقات الدرس طالما عرفهما. وتخطى عتبة القبة وجلس في حلقة الشيخ. فلم ينتظر إلا قليلا، حتى أقبل الشيخ هادئا كعادته، فحمد الله وصلى على نبيه وأخذ يقرأ قول المؤلف في تنكير المبتدأ وفي نكته ومزاياه، ثم مضى حتى وصل إلى استشهاد المؤلف بالآية الكريمة
ورضوان من الله أكبر ، فجعل يعلل مع المؤلف والشارح والمحشي والمقرر تنكير الرضوان بكلام لم يعجب الغلام ولم يقع من نفسه، ولم يستطع الغلام أن يصبر على ما كان يسمع، فأخذ يجادل الشيخ، ولكنه لم يكد يفعل حتى قطع الشيخ عليه كلامه وقال في صوته الهادئ المطمئن: «اسكت يا بني، فتح الله عليك وغفر لك ووقانا شرك وشر أمثالك، اتق الله فينا ولا تشاركنا في هذا الدرس فتفسد علينا أمرنا، وانصرف إلى ما أنت فيه من هذه القشور الضالة المضلة التي تقبل عليها في الضحى!»
وتضاحك الطلاب، ووجم الغلام، واستأنف الشيخ قراءته وتفسيره في صوته الهادئ المطمئن الرزين. وأقام الغلام على مضض حتى انصرف الطلاب، فانصرف معهم ثائرا محزونا وقد أعرض عن دروس البلاغة وأنفق بقية عامه يخرج من درس القشور إذا كان الظهر، فيمضي إلى دار الكتب في باب الخلق فيمكث فيها إلى أن يحين إغلاقها قبيل الغروب.
أكان اتفاق الشيخين على رد الغلام عن علمهما مصادفة أم كان أمرا مدبرا؟ لم يعرف الغلام ذلك، ولكن ذكرى هاتين القصتين الآن تعجل للحوادث دعا إليه الاستطراد، فالخير أن نعود إلى الربع ومن كان فيه، وما كان فيه، حين أقبل عليه الصبي لأول عهده بطلب العلم.
الفصل العاشر
وفي زاوية الربع من يمين كانت تقوم غرفة سكنتها أسرة لم يعرف الصبي قط كيف صعدت إلى هذا الربع، ولا كيف استقرت فيه، يأخذها العلم وطلابه من جانبيها، وكان حقها أن تستقر في الطبقة السفلى بين سكان هذه الطبقة من الباعة والعمال. ولكنها صعدت إلى حيث العلم وطلابه وأساتذته، فأقامت بين هذا كله لم تؤذ أحدا ولم يؤذها أحد، ولم يتصل الود أو لم تتصل المعرفة بينها وبين أحد.
كانت غريبة في هذا الربع، كما كانت غريبة في القاهرة؛ فقد كانت لهجتها إذا تحدثت تدل على أنها قد هبطت من الصعيد، بل من أقصى الصعيد. ولعل غربتها هي التي صعدت بها إلى هذه الطبقة الثانية من الربع، ولم تقف بها عند الطبقة الأولى، فقد كان سكان الطبقة الثانية كلهم غرباء، شيخ من الإسكندرية وفارسيان وطلاب وأساتذة قد أقبلوا من أقطار مصر على اختلافها. فلا بأس على هذه الأسرة الغريبة أن تقيم بين هؤلاء الغرباء. فأما الطبقة الأولى من الربع فقد كان العمال والباعة الذين يسكنونها جميعا من أهل القاهرة، أو من الذين بعد عهدهم بها حتى أصبحوا من أهلها وورثوا لغتها وعاداتها.
अज्ञात पृष्ठ