وهنالك تتصل يقظته الآمنة بنومه اللذيذ دون أن يشعر بهذا الاتصال.
الفصل السادس
ولكن صوتين غريبين يردانه فجأة إلى يقظة فزعة؛ أحدهما: صوت عصا غليظة تضرب الأرض ضربا عنيفا، والآخر: صوت إنساني متهدج مضطرب لا هو بالغليظ ولا هو بالنحيف، يذكر الله ويسبح بحمده، ويمد ذكره وتسبيحه مدا طويلا غريبا، وقد سكن كل شيء وشمل هدوء الليل كل شيء، وجعل هذا الصوت الإنساني ينبعث بين حين وحين متهدجا مرجعا، تقطعه ضربات العصا على الأرض، وهو يبدو قويا فيذيع في الليل الهادئ شيئا يشبه الاضطراب، ثم يدنو قليلا قليلا حتى يكاد يبلغ غرفة الصبي، ثم ينحرف ويضعف شيئا فشيئا حتى يكاد ينقطع، ثم يبدو مرة أخرى قويا متصلا بعد أن هبط صاحبه سلم «الربع» واستقامت له طريقه في الحارة، ثم يبعد شيئا فشيئا حتى ينقطع.
وقد ارتاع الصبي لهذا الصوت أو لهذين الصوتين حين سمعهما لأول مرة، وأتعب نفسه في التفكير فيهما والبحث عن مصدرهما، ولكنه لم يظفر من بحثه بطائل، إلا أنه فقد النوم وأتم ليله مؤرقا مروعا حتى رد الأمن والطمأنينة إلى قلبه صوت المؤذن وهو ينادي: «الصلاة خير من النوم.» فهب الصبي مترفقا، وهب أخوه عنيفا عجلا، وما هي إلا دقائق حتى كانا يهبطان السلم ويجدان في طريقهما إلى الأزهر؛ ليسمع أحدهما درس الأصول، وليسمع الآخر درس الحديث.
وجعل هذان الصوتان يوقظان الصبي كل يوم في أول الثلث الأخير من الليل، وجعل الصبي يراع لهذين الصوتين ولا يعرف لهما مصدرا، ولا يجرؤ على أن يسأل أخاه أو غير أخيه عنهما، حتى كانت ليلة الجمعة، فأيقظه الصوتان وروعاه كدأبهما في كل ليله، ورد المؤذن إليه الأمن والهدوء كدأبه في كل صباح، ولكن الصبي لم يهب مترفقا، ولكن أخاه لم يهب عجلا عنيفا؛ فليس في فجر الجمعة ولا في صباحه دروس، وليس الشيخ الفتى ولا الشيخ الصبي في حاجة إلى أن يقطعا نومهما.
فأما نوم الصبي فقد قطعه هذان الصوتان، وأما أخوه فلم يسمعهما هذه الليلة كما لم يسمعهما من قبل، ولبث الصبي في فراشه ضيقا بهذا السكون، عاجزا عن الحركة، مشفقا أن يوقظ أخاه. حتى صليت الفجر وانتشر ضوء الشمس ونفذت أشعتها إلى الغرفة فاترة، وإذا الصبي يسمع هذين الصوتين مرة أخرى، ولكنه يسمعهما هادئين رفيقين، فأما العصا فتداعب الأرض مداعبة يسيرة، وأما الصوت فيصافح الهواء مصافحة حلوة لا تخلو من فتور، والصبي يعجب لهذين الصوتين اللذين يعنفان حين يسكن الليل وينام الناس ويحسن الرفق، واللذين يرقان ويلطفان حين ينشط النهار ويستيقظ الناس ويتاح للأصوات أن ترتفع وأن تأخذ حظها من الحرية والنشاط، وهو مع ذلك مضطر إلى سكونه، مشفق إن تحرك أن ينبه أخاه، حتى تشتد حرارة الشمس على رأسه فيستوي جالسا في أناة، ويتزحزح من مكانه في رفق حتى يبلغ مكانا لا تلفحه حرارة الشمس فيستقر فيه دون أن يتحرك.
وهو بهذا ضيق، وله كاره، وعليه مكره، وأخوه مغرق في نومه لا يفيق، ولكن الباب يطرق طرقا عنيفا وصوت من ورائه ينادي مرتفعا ساخطا صاخبا: «هلم يا هؤلاء، هلم يا بهائم، أفيقوا إلى متى تنامون! أعوذ بالله من الكفر، أعوذ بالله من الضلال! طلاب علم ينامون حتى يرتفع الضحى لا يؤدون الصلاة لوقتها، هلم يا هؤلاء! هلم يا بهائم، أعوذ بالله من الكفر، أعوذ بالله من الضلال!»
ويد هذا الصوت تقرع الباب وعصاه تقرع الأرض، ومن حوله ضحكات ترافقه. وقد هب الشيخ الفتى لأول نبأة، ولكنه ظل في مكانه ساكنا ثابتا يغرق في ضحك مكتوم مكظوم، كأنه يستحب ما يسمع ويستزيد منه ويريد أن يتصل. فأما الصبي فقد عرف هذا الصوت وهذه العصا، إنه الصوت الذي كان يضطرب في الليل، وإنها العصا التي كانت تقرع الأرض لتوقظها من نومها، من عسى أن يكون هذا الرجل؟ وما عسى أن تكون عصاه؟ وما هذا الضحك الذي يتبعه؟ وقد نهض الفتى جاهرا بضحكه فسعى إلى الباب ففتحه، واندفع منه هذا الرجل صاخبا: «أعوذ بالله من الكفر! أعوذ بالله من الضلال! اللهم اصرف عنا الأذى، أعذنا من الشيطان الرجيم. أناس أنتم أم بهائم! أمسلمون أنتم أم كفار، أتتعلمون على شيوخكم هدي أم ضلالا!»
وقد اندفع معه الشباب من أصحاب الفتى وهم يجأرون بالضحك ويغرقون فيه. وهنالك عرف الصبي هذا الرجل، وهو عمي الحاج علي.
وكان عمي الحاج علي رجلا شيخا قد تقدمت به السن حتى جاوز السبعين، ولكنه احتفظ بقوته كلها: احتفظ بقوة عقله فهو ماكر ماهر ظريف لبق، واحتفظ بقوة جسمه فهو معتدل القامة، شديد النشاط، متين البنية، عنيف إذا تحرك، عنيف إذا تكلم، لا يعرف الهمس، ولا يحسن أن يخافت صوته، وإنما هو صائح دائما، وكان عمي الحاج علي فيما مضى من دهره - كما علم الصبي فيما بعد - رجلا تاجرا، قد ولد في الإسكندرية وشب فيها، واحتفظ بما لأهل الإسكندرية من قوة وعنف، ومن صراحة وظرف، وكان يتجر في الأرز؛ ومن أجل ذلك سمي: عمي الحاج علي الرزاز. فلما تقدمت به السن أعرض عن التجارة أو أعرضت التجارة عنه، وكان له بيت في القاهرة يغل عليه شيئا من مال، فاتخذ لنفسه غرفة في هذا الربع الذي لم يكن يسكنه من غير المجاورين إلا هذا الرجل، وهذان الفارسيان اللذان ذكرا في بعض هذا الحديث.
अज्ञात पृष्ठ