9
الكلب وهم عنه غافلون، ولكنه لم يكن غافلا عما يسمع، بل لم يكن غافلا عما يتركه هذا القصص في نفوس السامعين من الأثر. فإذا غربت الشمس تفرق القوم إلى طعامهم، حتى إذا صلوا العشاء اجتمعوا فتحدثوا طرفا من الليل، وأقبل الشاعر فأخذ ينشدهم أخبار الهلاليين والزناتيين، وصاحبنا جالس يسمع في أول الليل كما كان يسمع في آخر النهار.
والنساء في قرى مصر لا يحببن الصمت ولا يملن إليه؛ فإذا خلت إحداهن إلى نفسها ولم تجد من تتحدث إليه، تحدثت إلى نفسها ألوانا من الحديث، فغنت إن كانت فرحة، وعددت
10
إن كانت محزونة، وكل امرأة في مصر محزونة حين تريد. وأحب شيء إلى نساء القرى إذا خلون إلى أنفسهن أن يذكرن آلامهن وموتاهن فيعددن، وكثيرا ما ينتهي هذا التعديد إلى البكاء حقا. وكان صاحبنا أسعد الناس بالاستماع إلى أخواته وهن يتغنين، وأمه وهي تعدد، وكان غناء أخواته يغيظه ولا يترك في نفسه أثرا؛ لأنه كان يجده سخيفا لا يدل على شيء، في حين كان تعديد أمه يهزه هزا عنيفا، وكثيرا ما كان يبكيه. وعلى هذا النحو حفظ صاحبنا كثيرا من الأغانى، وكثيرا من التعديد، وكثيرا من جد القصص وهزله، وحفظ شيئا آخر لم تكن بينه وبين هذا كله صلة؛ وهي الأوراد التي كان يتلوها جده الشيخ الضرير إذا أصبح أو أمسى.
كان جده هذا ثقيل الظل بغيضا إليه، وكان يقضي في البيت فصل الشتاء من كل سنة، وكان قد صلح ونسك حين اضطرته الحياة إلى الصلاح والنسك، فكان يصلي الخمس لأوقاتها، ولم يكن لسانه يفتر عن ذكر الله، وكان يستيقظ آخر الليل ليقرأ «ورد السحر»، وكان ينام في ساعة متأخرة بعد أن يصلي العشاء ويقرأ ألوانا من الأوراد والأدعية. وكان صاحبنا ينام في حجرة مجاورة لحجرة هذا الشيخ، فكان يسمعه وهو يتلو، حتى حفظ من هذه الأوراد والأدعية شيئا كثيرا. وكان أهل القرية يحبون التصوف ويقيمون الأذكار، وكان صاحبنا يحب منهم ذلك؛ لأنه كان يلهو بهذا الذكر، وبما ينشده المنشدون أثناءه. ولم يبلغ التاسعة من عمره حتى كان قد وعى من الأغاني والتعديد والقصص وشعر الهلاليين والزناتيين والأوراد والأدعية وأناشيد الصوفية جملة صالحة، وحفظ إلى ذلك كله القرآن.
الفصل الخامس
ولكنه لا يعرف كيف حفظ القرآن، ولا يذكر كيف بدأه ولا كيف أعاده، وإن كان يذكر من حياته في الكتاب مواقف كثيرة، منها ما يضحكه الآن، ومنها ما يحزنه؛ يذكر أوقاتا كان يذهب فيها إلى الكتاب محمولا على كتف أحد أخويه؛ لأن الكتاب كان بعيدا، ولأنه كان أضعف من أن يقطع ماشيا تلك المسافة، ثم لا يذكر متى بدأ يسعى إلى الكتاب. ويرى نفسه في ضحى يوم جالسا على الأرض بين يدي «سيدنا» ومن حوله طائفة من النعال كان يعبث ببعضها، وهو يذكر ما كان قد ألصق بها من الرقع، وكان «سيدنا» جالسا على دكة
1
من الخشب صغيرة ليست بالعالية ولا بالمنخفضة؛ قد وضعت على يمين الداخل من باب الكتاب بحيث يمر كل داخل «بسيدنا»، وكان «سيدنا» قد تعود متى دخل الكتاب أن يخلع عباءته، أو بعبارة أدق «دفيته» ويلفها لفا يجعلها في شكل المخدة، ويضعها عن يمينه، ثم يخلع نعله ويتربع على دكته، ويشعل سيجارته، ويبدأ في نداء الأسماء، وكان «سيدنا» لا يعفي نعليه إلا إذا لم يجد من ذلك بدا، كان يرقعهما من اليمين ومن الشمال ومن فوق ومن تحت. وكان إذا أخلت به إحدى نعليه دعا أحد صبيان الكتاب وأخذ النعل بيده، وقال له: تذهب إلى «الحزين» وهو هنا قريب، فتقول له: «يقول لك سيدنا: إن هذه النعل في حاجة إلى لوزة من الناحية اليمنى.» انظر أترى؟ هنا حيث أضع أصبعي، فيقول لك «الحزين»: «نعم سأضع هذه اللوزة.» فتقول له: «يقول لك سيدنا: يجب أن تتخير الجلد متينا غليظا جديدا، وأن تحسن الرقع بحيث لا يظهر، أو بحيث لا يكاد يظهر.» فيقول لك: «نعم سأفعل هذا.» فتقول له: «ويقول لك سيدنا: إنه عميلك منذ زمن طويل، فاستوص بالأجر خيرا!» ومهما يقل لك فلا تقبل منه أكثر من قرش، ثم عد إلي مسافة ما أغمض عيني ثم أفتحها، وينطلق الصبي ويلهو عنه سيدنا، ثم يعود وقد أغمض سيدنا عينه وفتحها مرة ومرة ومرات.
अज्ञात पृष्ठ