183

अय्याम

الأيام

शैलियों

وقد مرت الشهور والأعوام وجعل الفرنك ينحل ويتضاءل، وتنحل معه قيمة هذه الأسهم وتتضاءل، حتى بلغت قيمة السهم الذي اشتراه الفتى لزوجه سبعة جنيهات، ثم خمسة، ثم انتهى إلى ثلاثة، ثم انقطعت أنباؤه وذاب كما يذوب الملح في الماء. مهما يكن من شيء فقد نظر صاحبنا بعد أداء دينه وشراء سهمه إلى ما بقي له من المال، فإذا هو لا يبلغ العشرات الخمس، وإذا هو أقصر يدا وأضيق ذراعا من أن يبلغ ما يريده ويؤسس لزوجه ولنفسه دارا يرضيان عنها وعما فيها، ولا بد لهما مع ذلك من دار ومن أثاث في تلك الدار، فاستأجر لهما الأستاذ محمد رمضان دارا في حي السكاكيني، وعمدا ومعهما الأستاذ محمد رمضان إلى سقط المتاع، فاشتريا منه ما يقوم بأمر تلك الدار من الأثاث.

وما أشد ما شقيت نفس الفتى حين كان يرى زوجه تغالب دموعها وهي تختار بين ذلك السخف الذي لم يكن بد من الاكتفاء به حتى يجعل الله بعد عسر يسرا، وبعد ضيق سعة، وبعد حرج فرجا.

وقد أوى الزوجان آخر الأمر إلى دارهما، وخادعا نفسيهما عما فيها، واطمأنا إلى ما لم يكن بد من الاطمئنان إليه.

وكان صاحبنا قد صرف هذا الوقت الطويل عما كان ينبغي أن يفكر فيه منذ بلغ القاهرة . فستبدأ الدراسة في الجامعة بعد أيام، وليس له بد من أن يعد درسه الأول ويتهيأ لإلقائه في ذلك الحفل الذي سيقدمه فيه إلى المستمعين عضو من أعضاء مجلس الإدارة. وما أسرع ما عاد إلى الكتب، وعاد الصوت العذب إلى القراءة، وعاد اشتراك الزوجين في هذه الحياة الصافية النقية التي لا يكدرها المال ولا ينغصها الحرمان، والتي تسلي عن اليأس والبؤس والحرمان.

وجاء اليوم الموعود، وأقبل صاحبنا إلى قاعة الدرس، فتلقاه ثروت باشا رحمه الله، وقدمه إلى المستمعين أحسن تقديم، وألقى صاحبنا درسه، فرضي عنه الناس، ورضي عنه هو أيضا.

وعاد الزوجان من ليلتهما تلك موفورين محبورين، قد ملأ الأمل قلبيهما، وأزالا عنهما وضر ما احتملا من شقاء، وكان حظهما من السعادة والغبطة والرضا أعظم وأعمق بعد أن ألقى صاحبنا درسه الثاني.

وكان تاريخ اليونان هو الموضوع الذي اختاره صاحبنا لدروسه في هذا العام، ولا سبيل إلى الأخذ في درس التاريخ إلا إذا قدم بين يديه وصف جغرافي للبلاد التي يدرس تاريخها، فكان على صاحبنا أن يعرض الوصف الجغرافي لبلاد اليونان، وشهد الله لقد عرض هذا الوصف فملك قلوب الذين استمعوا له، وملأ نفوسهم رضا عنه وإعجابا به، وهو لم يصنع في إعداد هذا الدرس إلا أن سمع لزوجه وأطاع.

أرادت زوجه أن تفهمه الوصف الجغرافي لبلاد اليونان، فأخذت قطعة من الورق وصاغتها في شكلها على نحو ما صاغت الطبيعة تلك البلاد، ثم أرادت أن تصور ما في هذه البلاد من الجبل والسهل الذي يضيق حينا ويتسع حينا، ومن البحار التي تأخذها من أكثر جهاتها. فصورت ذلك بارزا في هذه القطعة من الورق ثم أخذت يد الفتى وجعلت تمرها على هذه الورقة، بعد أن افترضت معه أنها تبدأ من الجنوب وتمضي إلى الشمال، وتنحرف مرة إلى الشرق ومرة إلى الغرب، لتبين له مواقع البحر، ولتبين له الأماكن التي تضيق حينا وتتسع حينا، والتي كانت تقوم فيها المدن القديمة، وما زالت به حتى فهم ذلك حق الفهم وأعاده عليها فاطمأنت إليه.

وكان أول ما عجب له الموظفون في الجامعة أن صاحبنا طلب قبل الدرس أن تعرض الصورة الجغرافية لبلاد اليونان في قاعة الدروس. سمع الموظفون ذلك فأنكروه، ولكنهم أضمروا إنكارهم وأجابوه إلى ما أراد، وأقبل الفتى على مجلسه فأنبأ المستمعين بأنه سيصف لهم بلاد اليونان من جنوبها إلى شمالها، وليس عليهم إلا أن يتبعوه بأبصارهم على هذه اللوحة المصورة. ثم أخذ في الحديث فلم يلجلج ولم يتردد، والطلاب يسمعون بآذانهم ويتبعون بأبصارهم حتى انقضت ساعة الدرس وقد أتم الفتى ما أراد من الوصف الجغرافي لبلاد اليونان.

وكان ثروت باشا حاضرا هذا الدرس، فلما تفرق الطلاب دعا الفتى إليه فأشبعه ثناء وتقريظا وتشجيعا.

अज्ञात पृष्ठ