وكذلك رأى الفتى رجلا غريبا مستعدا للقيام ببعض نفقته في أوروبا، وأخا قريبا كارها لبعض ما يطلب إليه من ذلك. والغريب أنه لم ينبئ بأمر هذا التبرع من علوي باشا أباه ولا أخاه الشيخ، وإنما كتم القصة عن الأسرة كلها، وكان له رحمه الله عذره في هذا الكتمان؛ فقد كان أبوه يرسل إليه بين حين وحين جنيهات تبلغ العشرة مرة، وتزيد عليها مرة أخرى، ويكلفه أن يرسلها إلى أخويه في أوروبا معونة لهما على الحياة، فكان يتلقى هذه الجنيهات، فإذا استقرت في يده لم يسهل عليه إرسالها إلى أوروبا، وإنما أنفقها في بعض شأنه هو.
أما الكتاب الثالث: فكان من أكبر إخوته ذاك يودعه ويتمنى له النجح والتوفيق، ويسترد غطاء عينيه الذهبي؛ لأنه كان شديد الحاجة إليه.
وما أيسر ما رد الفتى ذلك الغطاء الذهبي، وعاد إلى غطائه ذاك الرخيص الحقير الذي لم يكن ثمنه يزيد على قرشين اثنين. ولكن كتاب أخيه في أمر ذلك الغطاء قد أضاف إلى حزنه حزنا، وإلى ألمه ألما. وعاد إلى فرنسا سعيدا محبورا، ولكنه مع ذلك كان مزودا بمقدار من الشقاء غير قليل.
ولم ينس صاحبنا قط أنه أجلس في مكانه من القطار حين بلغ روما وقد انتصف الليل، فلم يبرح مكانه ذاك إلى جانب النافذة إلا حين بلغ القطار باريس بعد ثلاثين ساعة كاملة لم يتحرك، وإنما كان أشبه بمتاع قد ألقي في ذلك الموضع، وانتظر حتى يبلغ القطار غايته لينقل إلى موضع آخر. لم يتحرك، وكان أشبه شيء بالمتاع، ولكنه كان متاعا مفكرا، يفكر مرة فيما حفظ من قول أبي العلاء: إن العمى عورة، وقد فهمه الآن على وجهه وهو يرفع يده بين حين وحين ليتحقق من أن ذلك الغطاء الرخيص الحقير ما زال يستر عينيه اللتين كان يجب أن تسترا.
ويفكر مرة أخرى في الفقر والغنى، وفي الذين لا يعرفون كيف ينفقون ما يتاح لهم من المال، فيكدسونه أكداسا أو ينثرونه نثرا فيما لا يجدي عليهم ولا على غيرهم شيئا. والذين لا يجدون ما ينفقون ليقيموا أودهم ويستروا جسمهم ويستروا عورة العمى حين تفرض عليهم آفته. وفي الذين تسمو هممهم إلى أكثر من إقامة الأود وستر الجسم وتغطية العينين المظلمتين إلى الاغتراب في طلب العلم، ثم لا يجدون أيسر ما يحتاجون إليه في ذلك؛ يبخل عليهم القادرون ويبخل عليهم الأقربون، ويهم بالإحسان إليهم بعض الأخيار فيردون عن ذلك ردا.
ويفكر مرة ثالثة في ذلك الصوت العذب الذي كان ربما ألم به بين حين وحين مواسيا له مترفقا به، قارئا عليه هذا الفصل أو ذاك من هذا الكتاب الفرنسي أو ذاك، منبئا له بين ذلك بأنه ينتظره في باريس ليقرأ عليه، وما أكثر ما سيقرأ عليه!
لبث في مكانه ذاك لم يبرحه ثلاثين ساعة كاملة، يعرض الرفاق عليه الطعام حين يأتي موعده فيرده في رفق ولكن في تصميم، ويعرض عليه الرفاق الشراب بين وقت ووقت فيرده في رفق وفي تصميم أيضا. ويريد الرفاق أن يراجعوه في ذلك فيجدون منه إعراضا وصمتا، حتى ظنوا به الظنون، وحتى يقول له رفيقه الدرعمي: ما رأيت كاليوم رجلا لا يخاف البحر على هوله وعلى ما كان يذكر من أمر الغواصات، فإذا ركب القطار امتلأ قلبه رعبا ورغب حتى عن الطعام والشراب. أشجاعة حين كان يستحب الجبن، وجبن حين يصبح الجبان مثيرا للهزء والسخرية؟ ما الذي تخاف من القطار؟ إن قطار أوروبا كقطار مصر لا فرق بينهما، ألم تأكل قط حين ركبت القطار في مصر؟
ثم ينصرف عن هذا الحديث إلى غنائه ذاك الذي كان يتغنى به أمام بعض الفتيات الفرنسيات، فيرضين عنه أشد الرضا، ويعجبن به أشد الإعجاب، ولا يلقينه إلا تمنين عليه أن يعيد عليهن غناءه ذاك، وكن يسمينه «أعرابي»، فيقلن له في إلحاح: غن لنا «أعرابي»!
يلغين العين ويلثغن بالراء ويقصرن الألف وبين الباء، ويرتاح صاحبنا إلى إلحاحهن فيندفع في غنائه على نحو ما يصنع بعض المنشدين في الأذكار:
يارب صل على الهادي
अज्ञात पृष्ठ