وما أكثر ما كان يردد في نفسه ذلك الحديث المر: «لو قد ظفرت بتلك الدرجة لكان لي عمل أغدو إليه، ومورد أعيش منه، ولما أثقلت بهذه الحياة البغيضة على قوم من حقهم أن توضع عنهم الأثقال، وتخف عليهم الأعباء.»
والغريب أنه كان يخترع لنفسه هذه الحياة المرة البغيضة اختراعا، فهو لم يشعر من أبيه ولا من أخيه ببعض ما كان يجد في نفسه من الحزن والضيق واليأس. ولم يلاحظ أن أحدهما ضاق من عنايته به أو رعايته له، وإنما جرت الصلة بينه وبين أسرته مطردة كما كانت تجري من قبل لم يتغير فيها شيء، ولم ينب به مكانه في بيته ذاك ولا مكانه في القاهرة بين صديقه، وإنما هو الذي كان يضيق باطراد الصلة وامتداد حياته على هذا النحو بدون أن يتغير قليلا أو كثيرا.
فيم إذن كد وشقي وتكلف من الدرس والامتحان، وظفر بما ظفر به من النجح؟ وفيم كثر الحديث عنه والاحتفاء به؟ وفيم كانت هذه الأحلام الحلوة والآمال العراض؟ أكان هذا وسيلة إلى هذه الحياة الفارغة التي يحياها، وإلى أن يصبح آخر الأمر كلا على أسرته أينما توجهه لا يأت بخير؟
بهذا كله كان يناجي نفسه إن أتيحت له الخلوة في النهار، وحين تفرض عليه الخلوة إليها في الليل، وهو على ذلك لا يظهر لأحد شيئا من ضيقه وتبرمه ويأسه، وإنما يلقى الناس كما تعود أن يلقاهم باسما لهم وللحياة، آخذا معهم في أطراف من الحديث مختلفة، كأنه لم يكن يائسا ولا شقيا ولا محزونا.
ثم يخطر له ذات يوم خاطر يخرجه من الملل واليأس، ويدفعه لا إلى الأمل بل إلى محاولة الأمل. فما الذي يمنعه أن يعلم في الجامعة بعد أن تعلم فيها؟ وأن يختلف إليها أستاذا بعد أن اختلف إليها طالبا؟ وأن يكون شأنه معها كشأنه مع الأزهر لو ظفر بدرجته، وهو لا يريد من الجامعة أجرا، فما ينبغي أن يكون عيالا عليها، وليست هي بالغنية ولا بالمحتاجة إليه. وإنما يريد أن يشغل نفسه عن نفسه، وأن يشعر الناس أنه يستطيع أن ينفع نفسه وينفعهم، وأن وجوده في هذه الدنيا ليس عبثا ولا لغوا، وهو يكتب إلى رئيس الجامعة هذا الكتاب:
صاحب العطوفة رئيس الجامعة المصرية
كانت هذه الحرب الحاضرة مؤخرا لي عن السفر إلى باريس والالتحاق بطلبة إرسالية الجامعة، كما قرر مجلس الإدارة، وإذ كنت خريج الجامعة، وقد استفدت منها وتخصصت لها، وأنا مضطر إلى أن أبقى بمصر ريثما تنتهي هذه الحرب، فقد أردت أن أمضي هذه السنة في تدريس تاريخ الآداب العربية في الجامعة بغير أجر. وأعتقد أني قادر بمعونة الله وقديم فضل الجامعة على أن أفيد الطلاب ونفسي بهذا الدرس فائدة حسنة، وأبعث في الآداب وتاريخها شيئا من الحياة غير قليل، فإذا راق هذا الاقتراح لمجلس الإدارة، فأنا أرجو أن يتفضل فيقررني «كذا» مدرسا لهذه المادة في الجامعة ريثما تنتهي الحرب، وله الشكر والجميل.
وعرض هذا الكتاب المغرور على مجلس الجامعة في السادس عشر من سبتمبر من ذلك العام، فقبل الطلب ورفض ما عرض صاحبه من المجانية، وكلف علوي باشا رحمه الله شيئين: أحدهما؛ أن يشكر للفتى تبرعه بهذا الدرس، والثاني: أن يقدر له مكافأة تلائم حاله، وتلائم طاقة الجامعة.
وأخذ علوي باشا يساوم الفتى في هذه المكافأة، فعرض عليه أول ما عرض أن تكون مكافأته بمقدار ما يكون من إقبال الطلاب على درسه، وأن تفرض الجامعة على الذين يختلفون إلى هذا الدرس رسما يسيرا، ثم يجمع ما يحصل من هذه الرسوم ويدفع إلى الأستاذ الفتى، وزعم علوي باشا لصاحبنا أن بعض الجامعات الألمانية تسير هذه السيرة مع الأساتذة المبتدئين، ولكن صاحبنا اعتذر من قبول هذا العرض؛ لأنه يجعله مدينا لطلابه دينا مباشرا بما يرزق من مرتب آخر الشهر.
قال علوي باشا: وإذن فستعطيك الجامعة مكافأة قدرها خمسة جنيهات في كل شهر، وهي أكثر مما كان الأزهر يعطيك لو جلست فيه مجلس الأستاذ.
अज्ञात पृष्ठ